“حرية سلام وعدالة”- ملامح رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي اجتماعي للدولة السودانية الحديثة! (4 من 4)

 


 

 

اطروحات
ارتباطاً بالتطور الذي قطعته حالة العولمة، ورغم التناقضات التي تصاحبها، والمتمثلة في ما يسمي "بغانمين وخاسرين العولمة" (globalization winner and loser) علي مستوي الدول، وعلي المستوي القومي في الدول الغنية والفقيرة، تبدو العودة إلى الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي علي ما كان عليه في القرن السابق غير وارده.
السودان، ولفقده للاستقرار السياسي منذ نيل الاستقلال، ونسبة لضعف وتشويه هياكله الاقتصادية، ولضعف الصناعة التحولية للموارد الطبيعية وللمنتجات المحلية فيه، ولضعف تنميته البشرية، ولممارسة الانظمة التي حكمته للتمكين السياسي عبر السيطرة علي الاقتصاد، ولسيطرة شركات المؤسسات الأمنية والدفاعية علي الجزء الأكبر من اقتصاده القومي، ولسيادة الممارسات الاقتصادية الطفيلية، ولانتشار الفساد المالي في المؤسسات المالية والادارية، ولعزلته عن الاقتصاد العالمي لفترة ثلاثة عقود، ولدخوله بسبب العزلة العالمية ولتقوية التمكين السياسي في عهد النظام الساقط في علاقات اقتصادية غير مجزية ومتكافئة، يعتبر من "خاسرين العولمة". بسبب الضعف والتشويه الهيكلي للاقتصاد السوداني منذ الاستقلال السياسي، ليس كل فرداً في بلدنا من خاسرين العولمة.
في الجزء الأول من هذه الورقة، والمنشور في هذا الموقع بتاريخ 14.03.2023 تم الانطلاق من العلاقة المباشرة بين الأوضاع السياسية والاقتصادية والإجتماعية المتأزمة، ووقوف الدولة السودانية علي حافة الانزلاق الي حالة "الدولة الفاشلة" وبين فشل الصفوة السياسية بتوجهاتها السياسية المختلفة – الإسلاموي والمحافظ التقليدي والثوري التقدمي منها – علي التوافق علي رؤية ترتكز علي القيم والمبادئ الكونية للإنسان كجوهر لدستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية بعد نيلها للاستقلال السياسي.
وفي الجزء الثاني، والمنشور ايضاً في هذا الموقع بتاريخ 19.03.2023 تم باقتضاب شديد، توضيح للقناعات السياسية والإجتماعية، التي بنيت عليها قوي الثورة والتغيير الديموقراطي نضالها، من اجل تأسيس دولة سودانية مدنية ديموقراطية تعددية ونظام اقتصادي إجتماعي. وعلي هذا السياق تم مواصلة رصد لما جاء في الجزء الأول من مفاهيم وملامح لرؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية مدنية ديموقراطية تعددية حديثة.
وفي الجزء الثالث، والمنشور ايضاً في هذا الموقع بتاريخ 24.03.2023، تم، ارتباطاً بهدف الفعل السياسي لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي، عرض لبعض المبادئ الأساسية لسياسة الديموقراطية التعددية والاقتصادية الاجتماعية.
وفي هذا الجزء الرابع والاخير يتم التعرض لظاهرة "العولمة"، والاثار المترتبة عنها علي الانسان عامة، وعلي المجتمع السوداني خاصة، وبذلك علي عملية تحقيق مشروع النظام السياسي المدني الديموقراطي التعددي والاقتصادي الإجتماعي. ويتم الانطلاق من ارتباط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة في السودان بمستوي وشكل عولمة الاقتصاد السوداني، والتي تتجلي في المظاهر الآتية: اعتماده منذ سبعينيات القرن الماضي علي التمويل الخارجي من النظام المصرفي الخاص الاجنبي ومن المؤسسات المالية الدولية -صندوق النقد والبنك الدولي-، ووقوعه في ما يسمي "شرك المديونية العالمية"، وفقده بذلك للسيادة في سياسة مالية وطنية، وأيضاً، بجانب اعتماد اقتصاده علي تصدير المنتجات الزراعية والمعدنية من غير قيمة مضافة، وتصدير العمالة الي دول الجوار العربي، واستيراد الغذاء والطاقة والسلع الاستهلاكية، والانسياب العالي والمستمر للعوائد المالية الأجنبية الي خارج البلاد، اضافة الي الهجرة من المحيط الأفريقي وهجرة المواطنين الي دول الجوار. في ختام الموضوع يتم باقتضاب عرض بعض المقترحات لتوظيف العولمة في تحقيق رفاهية اقتصادية واجتماعية وثقافية في دولة سودانية حديثة موحدة.
الزمن الذي نعيش فيه بموجب الأوضاع والتطورات العالمية...
الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة في السودان تشير ايضاً الي تبعية السودان للدول "الخاسرة" للعولمة. هذا الواقع يحتم علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي وضع اعتبار لتناقضات العولمة في بلورة رؤية مشتركة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي. ويشمل هذا الفعل ايضاً وضع اعتبار للعوامل السياسية والاقتصادية العالمية والاقليمية، التي لها أثر علي تحقيق مشروع الدولة المدنية الديموقراطية التعددية والنظام الاقتصادي الإجتماعي. بموجب توافق علي سياسة خارجية، تهدف الي بناء علاقات اقتصادية متكافئة، تضع المصلحة القومية في اولوياتها، والي الابتعاد عن المحاور العالمية والاقليمية، يستلزم العمل مع شركاء في العالم من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية، والسلم داخل الوطن وبيننا وبين الدول المجاورة، ومن أجل نظام عالمي عادل، والعمل من أجل تفعيل المواثيق والقوانين الدولية، ومن أجل التصدي لسيادة "قانون القوي". وذلك لأن فقط تحت مفهوم وتحقيق الأمن والسلم الداخلي والأممي، والالتزام بالمسؤولية الجماعية، والتضامن والشراكة المتكافئة، تستطيع الشعوب والدول والثقافات ان تضمن وتأمن حياة كريمة للإنسان علي كوكب الأرض.
في ذلك، ومن أجل تطوير الدولة السودانية الحديثة لكي تقوم بدورها في تحقيق الحرية والسلام والعدالة والرفاهية الاقتصادية لمواطنيها، وفي الحفاظ علي شروط الحياة علي كوكب الأرض، يجب علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي التوافق علي رؤية دستورية وسياسية اقتصادية تهدف الي تحقيق تقدم يجمع بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمسؤولية تجاه الطبيعة. استناداً علي مبدأ الاستدامة في العملية الاقتصادية بكاملها: يمكن عبر النمو الاقتصادي النوعي التغلب على الفقر والاستغلال، وتوفير فرص عمل جيدة للجميع، ومواجهة تهديدات الانتقال المناخي، الذي تظهر اليوم آثاره بشدة في السودان. كذلك يمكن عبر النهج السياسي والاقتصادي الملتزم بمبدأ الاستدامة الاقتصادية الاجتماعية، توجيه "العولمة" لصالح تحقيق مشروع النظام الاقتصادي الإجتماعي الهادف الي تحسين جودة الحياة للأجيال العائشة، والهادف في نفس الوقت الي الحافظ على العوامل والشروط الطبيعية لحياة الأجيال القادمة.

ظاهرة العولمة
القرن الحادي والعشرين يعتبر قرن "العولمة" الأول، والحقيقي منذ بداية التاريخ الإنساني علي كوكب الأرض (وترتكز هذه الاطروحة علي عدم وجود معرفة علمية أو سرد ديني يشير الي عكس ذلك، - أي الي تواجد ما يشير الي اعتماد البشرية علي مستوي العالم من قبل علي بعضها بهذا الحد، الذي نعيشها اليوم). مع انهيار النظام الاشتراكي في دول شرق أوروبا، وانتفاء التنافس والاستقطاب السياسي بين المنظومة الاشتراكية والرأسمالية، وسيادة النظام الرأسمالي اللبرالي الحر، يعيش العالم تحولاً عميقاً مفعل بالعلم والتكنلوجية، والهجرة المقننة والغير مقننة الي دول الجوار والي دول ما وراء البحار. ويعتبر هذا التحول الأكثر عمقاً في تاريخ البشرية منذ الثورة الصناعية، التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر في بريطانيا.
كثيراً من المهتمين بالقضايا السياسية والاقتصادية العالمية، يرون في القرن الحادي والعشرين: أما إن يكون قرن التقدم الإجتماعي والبيئي والاقتصادي، والذي يرجع لكل البشرية بمزيد من الرفاهية والعدالة والديموقراطية، أو إما ان يكون قرن تنازع مرير علي الثروة والموارد الطبيعية والدخل، وانفراط للعنف داخل الدولة الواحدة وبين الدول المختلفة، خصوصاً بين الدول المتجاورة. في هذا السياق تمثل طريقة الحياة التي تعيشها المجتمعات الصناعية الكلاسيكية و"دول البيترو دولار" (Petro Dollar Countries) اليوم، تحدى لمقدرة البيئة علي تحمل آثاره. ويزداد هذا التحدي يومياً جراء تطلع سكان الكوكب، البالغ عددهم الآن 8 مليارات، الي الوصول إلى اقتصاد واستهلاك مماثلاً لما تعيشه المجتمعات الصناعية في أوربا والولايات المتحدة وكندا، ودول البيترو دولار في الخليج العربي.
في هذا السياق، يصبح ليس من الصعب، علي تخيل مدي نمو حجم هذا التحدي، عندما يصل التعداد السكاني في هذا الكوكب الي 9,6 مليارات بحلول عام 2050، كما تقدر معظم الاحصائيات المنشورة عن هذا الموضوع. ويصب التطور المرتقب لتعداد السكان في العالم في تزايد التهديدات علي تواجد حياة إنسانية في المناطق الأكثر تأثراً بالانتقال المناخي، وعلي السلم العالمي، وليس آخراً علي قابلية العيش علي كوكبنا بمجمله. حيث يعاني الآن جزءاً متزايداً من الأرض من ارتفاع درجات الحرارة في الغلاف الجوي للأرض، وآثارها المتمثلة في التصحر وقلة المياه والاعاصير والفيضانات. البشر، الذين يعيشون في المناطق التي تسود فيها شروط مناخية وطبيعية تقود الي الجوع، يزحفون بتزايد الي الأجزاء الأقل تعرضاً لهذه الشروط، ويعيشون إوضاع اقتصادية واجتماعية في غاية الصعوبة. لكل هذه الأسباب، يعتبر حصر وإيقاف الانتقال المناخي ومعاونة المجموعات البشرية والمناطق الأكثر تضرراً من آثاره، واحدة من التحديات المركزية في القرن ال 21، لكل سكان الكرة الأرضية.
ايضاً، ترتبط تحديات التغيير المناخي بتحديات العولمة المتمثلة في ارتفاع حجم التناقض الاجتماعي في الدول في القرن الحادي والعشرين . التحدي السياسي العالمي، والناتج عن الارتباط بين ظاهرة التغير المناخي والعولمة يتمثل في تواجد توازن بين ضرورة النمو الاقتصادي وبين ضرورة الحفاظ على البيئة والمناخ وكل ما يشكل أساساً للوجود الإنساني والحيواني والنباتي علي كوكب الأرض. انطلاقاً من ذلك الواقع المتأزم، الذي يتواجد فيه كوكب الأرض والتحدي المرتبط بالحفاظ علي شروط الحياة عليه، يأتي للالتزام بمبدأ التنمية المستدامة كقاعدة اساسية للعملية الانتاجية من أجل تحقيق الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتوازن البيئي، دوراً اساسياً في سياسات الاقتصاد لكل دول العالم، خصوصاً، وفي بادئ الأمر للدول الصناعية والغنية.

تناقضات العولمة – إيجابيات وسلبيات
كما طرحت اعلاه، العالم ينمو مع بعض بوتيرة سريعة: وسائل الإعلام والاتصالات والتواصل الإجتماعي الرقمية، والتطورات التكنولوجية الأخرى خلقت ثورة في معني المكان والوقت للإنسان. لأول مرة في تاريخ البشرية يتواجد تقاسم في العمل على مستوي العالم بهذا النوع والكم، ويشارك فيه جزءاً عظيماً من البشرية، تعيش في قارات وبلدان مختلفة. اليوم يمتلك العالم قدراً عظيماً من المعرفة، ووصلت فيه وتيرة التقدم التكنلوجي إلى سرعة فائقة. وصار الاستغناء عن العمل الجسدي الشاق والقضاء على الأمراض، التي كانت تعتبر مستعصية العلاج ممكناً. وادت تلك التطورات المتسارعة الي ارتفع متوسط العمر الافتراضي للإنسان في أنحاء كثيرة من العالم. واثبتت العولمة، وكما مراقب في بعض اجزاء العالم وفي كثيراً من الدول، انها ممكن أن تسهم في تجاوز ظواهر الجوع والفقر والاوبئة والجوائح، وفي تأمين الغذاء والدواء والطاقة، وفي نشوء فرص جديدة للعمل، وفي تحقيق رفاهية اقتصادية، وفي التقليل من آثار الكوارث الطبيعية، وفي رفع مستوي تبادل المعرفة العلمية، وفي تحقيق تبادل ثقافي بين الشعوب، وفي نشر السلام بين شعوب العالم.
رغم هذه الآثار والاحتمالات الإيجابية للعولمة، تفتقد -في نفس الوقت- العولمة "الرأسمالية" للديموقراطية والعدالة والفرص المتساوية، وتعمق وتخلق انواعاً جديدة من عدم العدالة داخل الدول وفي علاقة الدول مع بعضها، وتقف في طريق تحقيق عالماً حراً متضامناً. في هذا السياق تحمل العولمة الرأسمالية، أي المصطحبة بالمقاييس والشروط الرأسمالية الغير عادلة، في طياتها مخاطر عالية، خصوصاً للبلاد ذات الهياكل الاقتصادية والتنمية البشرية الضعيفة، والاكثر تأثراً بالانتقال المناخي، مثل السودان. حتي بعض الدول العظمة مهددة بالانزلاق لي "حرب تنافس" فيما بينها، لجذب استثمارات رأس المال العالمي والعمالة ذات التأهيل العالي وتأمين المواد الخام المستخدمة في التكنولجية الحديثة، وللحفاظ علي اسواقها التقليدية ولكسب أسواق جديدة. كذلك يؤدي التوجه (المراقب) الي خصخصة السلع العامة، أي تحويلها الي سلع تجارية، في كثيراً من الدول الي حرمان جزءاً من البشرية من الاستمتاع بها. وفي كثيراً من الدول -كذلك في الدول الصناعية والغنية- تزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، ويتسارع في كل أنحاء العالم تدمير للطبيعة.
في أجزاء العالم ذات الحدود المفتوحة أو المنتفية بين الدول المتجاورة أو المنضوية تحت اتحادات سياسية واقتصادية، تتوفر فرص العيش في سلام بين الشعوب والثقافات، مع بعضها، وجنب بعضها. ولكن وبنفس القدر الذي ينمو فيه العالم مع بعض كوحدة، يزداد تعرضه للهزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يحدث الآن من ارتفاع هائل لمعدلات التضخم علي مستوي العالم بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والمواد الغذائية بسبب إعلان روسيا الحرب علي إكراءنا، وبسبب ما ترتب علي ذلك من مقاطعة اقتصادية لروسيا من قبل الدول الغربية، ومن قبلها بسبب تداعيات جائحة كورونا. وفي بعض اجزاء من العالم نعيش حالات فشل وانهيار لدول، وتنمو فيهم اعشاش للهمجية والإرهاب، ويتفشى التطرف الديني، الذي يقسم العالم الي مؤمن وضال. في هذه الاجزاء من العالم، تؤدي خصخصة السلطات الأمنية في الدولة، مثل أنتشار قوات الامن الخاص والجيوش والمليشيات الخاصة والقبلية والجهوية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل الي نشوء مخاطر جديدة. التداعيات الإنسانية والسياسية والاقتصادية للحرب بين إكراءنا وروسيا، والمظاهر السالبة في الدول الفاشلة والمنهارة أو التي تقف علي حافة هذه الأوضاع – كالسودان - تمثل تهديداً للسلم القومي والاقليمي والعالمي.

تأثيرات العولمة في نظام وانماط العمل وفي المجتمع
بموجب العولمة ينشأ للأول مرة في تاريخ البشرية، بجانب سوق العمل والمال والسلع تنافس على مستوي العالم في تقديم الخدمات والعمل. تبعاً لهذا التطور، يتزايد -وأكثر من ذي قبل-، عدد الناس في العالم المتأثرين مباشرة بالعولمة والتنافس العالمي. روسيا والصين والهند والبرازيل..- القوي الاقتصادية الصاعدة والغانمة من العولمة -، يمثلون المنافسون الجدد للدول الصناعية الكلاسيكية، وفي نفس الوقت أسواق كبيرة لها. بتزايد قدر هذه "الاقتصاديات الجدد" في السوق العالمي، يتزايد بشكل كبير، أيضاً عدد القوي العاملة، التي تنشأ جراء تفعيل وتعميق عملية "تقسيم العمل" علي مستوي العالم. تلازماً مع تطور العولمة وصعود الاقتصاديات الجدد، ترتفع شدة التنافس بين الدول في تأمين الموارد الطبيعية والمواد الخام والعوامل المهمة للعملية الانتاجية والتنقلية، وبين الشركات المتعددة الجنسيات في كسب واحتكار الاسواق، وجذب العقول والعمالة ذات التأهيل العالي.
السودان، ولفقده للاستقرار السياسي منذ نيل الاستقلال، ونسبة لضعف وتشويه هياكله الاقتصادية، ولضعف الصناعة التحولية للموارد الطبيعية وللمنتجات المحلية فيه، ولضعف تنميته البشرية، ولممارسة الانظمة التي حكمته للتمكين السياسي عبر السيطرة علي الاقتصاد، ولسيطرة شركات المؤسسات الأمنية والدفاعية علي الجزء الأكبر من اقتصاده القومي، ولسيادة الممارسات الاقتصادية الطفيلية، ولانتشار الفساد المالي في المؤسسات المالية والادارية، ولعزلته عن الاقتصاد العالمي لفترة ثلاثة عقود، ولدخوله بسبب العزلة العالمية ولتقوية التمكين السياسي في عهد النظام الساقط في علاقات اقتصادية غير مجزية ومتكافئة، يعتبر من "خاسرين العولمة". بسبب الضعف والتشويه الهيكلي للاقتصاد السوداني منذ الاستقلال السياسي، ليس كل فرداً في بلدنا من خاسرين العولمة. العمال والعاملات والذين يمارسون الاعمال الحرة والهامشية يعيشون باستمرار تحت هاجس فقدان دخلهم المحدود، وذلك ايضاً بسبب توقف الإنتاج لشركاتهم أو تقلص القوة الشرائية عند المواطنين بسبب التضخم المالي ..الخ. كذلك تتأثر هذه الفئة بالسياسة المالية التقشفية المرتبطة بسداد أو بجدولة الديون الخارجية أو بالسعي للحصول علي تمويل مالي جديد من المنظمات المالية العالمية، أكثر من غيرها. بذلك يحرم رفع الدعم عن السلع العامة، مثل الطاقة والصحة والتعليم، كثيراً من المواطنين والمواطنات من الاستمتاع بها.
وكما معلوم، يواجه المجتمع الإنتاجي (العملي) السوداني اليوم ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية في غاية التأزم، ويتواجد بسببها في حالة تدهور عظيم ومتواصل. التدهور والكساد الاقتصادي من جانب، وتوسع الاقتصاد الهامشي والطفيلي من جانب آخر، يرفع ويزيد في تنوع علاقات وانماط العمل (الخدمة). في القطاعات الحديثة التي تعتمد علي التكنلوجيا الحديثة والرقمية -رغم قلتها وانحصارها في مجال الاتصالات الهاتفية -، تتزايد اهمية التأهيل والمعرفة، وتنشأ بسببها مهن جديدة ومبدعه. انماط الخدمة التقليدية - من غير محدودية زمنيه، ونظام ساعات العمل المحددة، وممارسة مهنة أو العمل في وظيفة واحدة - يفقد أهميته بتزايد. حياة العمل لكثير من الناس واقعة تحت تأثير التنقل ما بين التوظيف، والعطالة، وممارسة عدة أعمال ووظائف، والعمل الحر والهامشي، والواجبات الأسرية. ويسبب هذا التنقل في الحياة العملية، والذي ينشأ غالباً من غير خيار شخصي، عناء جسدياً ومادياً، وهواجس نفسية لكثيراً من الناس.
كثيراً من المتأثرين بهذه التغييرات في نمط وطبيعة الحياة العملية، يعانون من تردي كبير في أوضعهم الاقتصادية، ويحسون بإهمالهم وبنسيانهم من المجتمع، وخصوصاً من السياسة. الأشخاص ضعيفي المؤهلات، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة تقل فرصتهم في سوق العمل المنظم. النساء، ورغم حملهم لأجود واعلي الشهادات الاكاديمية والخبرية، لاتزال فرصهم في سوق العمل، وفرصة صعودهم الوظيفي، والحصول علي راتب وعمل يؤمن لهم احتياجاتهم الحياتية غير متساوية مع رصفائهم من الرجال. والذين لهم وظائف وأماكن عمل يرون أن جودة حياتهم مهددة جراء الضغط المتزايد عليهم بسبب قلة فرص العمل والتنافس المتصاعد عليها، وجراء تزايد متطلبات العمل، وعلوي التوقعات لتلبية شروط العمل، وتوقعات أصحاب العمل المتمثلة في "التواجد تحت الطلب".
اليوم لا تستطيع قوي الإنتاج، بل السواد الاعظم من الشعب السوداني أن يسد متطلبات الحياة من دخل العمل الذي يمارسه. هذا الوضع ينطبق علي كثيراً من الناس، خصوصاً في مناطق الهامش. كثيراً من المهاجرين والنازحين الي أطراف المدن الكبيرة، من مناطق الحرب والنزاع القبلي المسلح، ومن المناطق الأكثر تأثراً بالجفاف والتصحر، يجب عليهم أن يكافحوا أكثر، أذا أرادوا أن يتحصل أطفالهم علي لقمة العيش، أو علي فرصة في حياة أفضل. بعضهم يعيش الان في الجيل الثاني، الذي يعمل في أعمال هامشيه أو يعيش علي التسول. بجانب عامل التدهور والكساد الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم المالي، والحرب والنزاع القبلي المسلح، والجفاف والتصحر في مناطق النازحين يعتبر عدم التعليم وعدم اتاحة فرصة الصعود الإجتماعي بقدر متساوي للجميع، من العوامل الأساسية المسببة لحالة الفقر المنتشر في السودان.
في طريق تحقيق الوضع المتساوي بين النساء والرجال انتكس مجتمعنا جراء سياسة وترسيخ ثقافة التميز النوعي التي قننها ومارسها النظام الإسلاموي الدكتاتوري الشمولي طيلة ثلاثة عقود. ورغم الدور الاقتصادي المتميز والمتزايد للمرأة السودانية، وتصاعد أعداد الحاصلين علي الشهادات الاكاديمية والتأهيل العلمي والعملي من النساء، هدفت السياسة الاجتماعية للنظام الإسلاموي الي تثبيت الأدوار القديمة للرجل وللمرأة. وعمقت بذلك من الوضع الغير متساوي بين الجنسين المتجذر في تقاليد وعادات مجتمع البادية. وبالأخص في مجال التوظيف والعمل لازال التفاضل مستمر. كذلك لازالت معضلات التوفيق بين الأسرة وممارسة المهنة غالباً تمس حياة الأمهات، ولازال دخل النساء أقل من دخل الرجال، ويفقد النساء مكان عملهم بسهولة أكبر، ويكونون أكثر تهديداً بالفقر.
علي مستوي جودة الحياة لم تأتي العولمة بتحسين للمجتمع السوداني، مقارنة بالدول التي تعتبر من غانمين العولمة. علي سبيل المثال، يقل متوسط العمر المتوقع بكثير عن معظم الدول. حسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2022 يبلغ متوسط العمر المتوقع للنساء في السودان، 65٫6 وللرجال 63٫0 عاماً. تبعاً لذلك يحتل السودان في القائمة الترتيبية لمتوسط الأعمار في العالم، الموقع 192 من أصل 237 موقعاً. وذلك، وفي نفس الوقت، تعيش المرأة في موناكو، في المتوسط 21,3 والرجل 22٫1 عاماً أطول من رصفائهم السودانيون. العيش أطول يعني وقت أكثر لنشاطات وتعليم ورفاهية واستمتاع، وتحقيق رغبات كان يلزم تأجيلها في بداية مشوار الحياة.
وتمثل هجرة الشباب والطبقة الوسطة في السنين الأخيرة الي مصر، ظاهرة لم تعيشها الدولة السودانية من قبل في تاريخها الحديث. في الجانب الآخر يزداد عدد المسنين، الذين في حوجه إلى مساعدة المجتمع، خصوصاً أذا كانوا يعانون من امراض مزمنة أو يعيشون لوحدهم، بسبب النزوح، وهجرة أو نزوح الابناء أو الأقارب. وفي نفس الوقت لا يحقق كل من الشباب والشابات رغبتهم في الزواج لعدة أسباب، في مقدمتها أسباب مادية. هذا التطور يقود الي تغيرات في كثيراً من مجالات الحياة اليومية: من عالم العمل الي النظام الإجتماعي، والجو العام في المجتمع. كذلك يهاجر من مناطق بأكملها الشباب الي مناطق اخري داخل وخارج البلاد، ويبقى فيها كبار السن والنساء والاطفال.
العولمة لها أيضاً بعد ثقافي لا يستهان به. أديان وثقافات تلتقي ببعضها أكثر من ذي قبل، ايضاً في السودان. اليوم يلتقي الناس في كل منطقة في العالم بأناس من اصلهم وثقافتهم، ويجدون منتجات من موطنهم الأصلي ووسائل اتصالات، تبقي التواصل مع بلدان منشأهم حيه. في داخل أوطانهم يلتقي الناس ايضاً بثقافات أخرى. الغرباء يقتربون من السكان الاصليون أكثر، وتزداد بذلك فرص التفاهم بينهم. أينما يطغي الخوف من الغرباء - تنمو بسب الأحكام المسبقة خطورة نشوء الصراعات. وأينما تتفاقم الصراعات الثقافية بسبب التباين الإجتماعي - ينمو العنف. لكن ورغم التحديات الناتجة عن "الاحتكاكات الثقافية" - يمثل التنوع الثقافي اليوم إحدى صفات المجتمعات الناجحة.

تأثيرات العولمة علي الديموقراطية والسياسة
من المراقب ايضاً لآثار تناقضات العولمة، أنها تقلل من خيارات وحيز التشكيل الاقتصادي والاجتماعي للسلطات التشريعية والتنفيذية في الدولة القومية. حيث يحس كثيراً من الناس بفقد الدولة لسلطاتها في العصر العالمي، ويفقدون اليقين في إمكانية التغير السياسي للأشياء. لكن، ورغم ذلك، تنبع في نفس الوقت واجبات وجوانب جديدة للسياسة. ومن هذه الواجبات والجوانب الجديدة في دولة سودانية مدنية ديموقراطية حديثة: حماية المناخ والبيئة، والدمج والتأمين الإجتماعي لملايين من الناس النازحة من مناطق الحروب والنزاعات الاثنية المسلحة، ومن دول الجوار الأفريقي، والتفاعل مع تغير التركيبة السكانية (الديموغرافي) بسبب هجرة الشباب الي المدن والي خارج البلاد، وخلق آفاق مستقبلية في مواطن النازحين وفي البلاد عامة.
ومن الواجبات الجديدة والمهمة للسياسة تقوية واستدامة الديموقراطية عبر غرس فهم ضرورة الانتماء الحزبي في المجتمع. في زخم ثورة ديسمبر السلمية المجيدة، يتواجد تحفز واستعداد عالي للعمل السياسي والاجتماعي، مما يدل علي أننا نتواجد في عصر سياسي. الأحزاب تظل عنصر لا يمكن الاستغناء عنها في مجتمع ديموقراطي. الأحزاب تحزم (تجمع) قناعات واهتمامات المواطنين والمواطنات، وتنقل متطلباتهم وتوقعاتهم في أطار "عملية تكوين الارادة الشعبية" الي مواقع اتخاذ وتنفيذ القرار في الدولة. بذلك يرفع عمل الأحزاب وفعاليتها الثقة عند المواطنين في إمكانية تشكيل المجتمع، وتحفيز وتشجع الناس على أخذ مصائرهم بأيديهم. في ذلك يعتبر التضامن معهم من الواجبات الأكثر أهمية للديموقراطية. ومن أجل القيام بهذه الواجبات، تحتاج الأحزاب السياسية الي هياكل داخلية ديموقراطية، ومقدرة للتفاعل وللتغير وللتكيف، ومقدرة لبلورة رؤي مستقبلية، وتوجهات واضحة، ومصداقية، وموثقيه. في هذا السياق يستلزم علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي امتلاك القناعة: بأن البشر تملك في يدها إمكانية تشكيل مستقبلها سلمياً وبعدالة وبتضامن وتكافل.

توظيف العولمة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
رغم التناقضات الواضحة للعولمة، والمتمثلة في خلق ما يسمي ،"بغانمين وخاسرين العولمة" (globalization winner and loser) علي مستوي الدول، وعلي المستوي القومي في الدول الغنية والفقيرة، يبدو إحتمال العودة إلى الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي علي ما كان عليه في القرن السابق، غير وارد. وتجد هذه الاطروحة تعليلها في: التطور الذي قطعته حالة العولمة علي المستوي التأسيسي والتكامل والتعاون والتشابك الاقتصادي العالمي والتمازج الثقافي الأممي، وتعايش القوي المؤثرة في السياسية والاقتصاد والثقافة علي مستوي الدول وعلي مستوي العالم معها.
ارتباطاً بهذه الاطروحة: يجب علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي مع "القوي الديموقراطية التقدمية" في العالم الحر-والتي لها مؤسسات ومحافل معلومة- التصدي لآثار العولمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية السلبية، وذلك عبر التضامن من أجل تأسيس نظام عالمي اقتصادي عادل، وتفعيل المواثيق والقوانين الدولية، ومن أجل التصدي لسيادة "قانون القوي"، وحشد وتوفير الدعم للتنمية البشرية والاقتصادية في الدول النامية والاكثر تأثراً بالانتقال المناخي، وتقوية التضامن والتعاون الاقليمي والعالمي. أوربا اتخذت هذا الطريق المرتكز علي التضامن والتعاون السياسي والاقتصادي والأمني، وتكون في ذلك قدوه لتعاون اقليمي افريقي، أو عربي افريقي عميق.
ارتباطاً بحقيقة أن العولمة تحمل تناقضات جمه، وارتباطاً بالأطروحة المقدمة اعلاه وبالتوجهات المطلوبة والمقترحة اعلاه للتصدي لتناقضاتها، وايضا ارتباطاً بأن فتح الحدود والأسواق ليست فقط نتيجة للتطور التكنولوجي، بل أيضاً لقرارات وإجراءات سياسية: تمثل استدامة الدولة المدنية الديمقراطية والنظام الاقتصادي الإجتماعي الشرط الأساسي لسياسة مستدامة وفعالة لتشكيل وتوجيه العولمة لخلق رفاهية اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبذلك لبناء الدولة السودانية الحديثة الموحدة. الهدف الذي يحتم وضع تنظيم وتوجيه العملية الاقتصادية في البلاد تحت تخطيط وإدارة نظام سياسي ديموقراطي تعددي واقتصادي إجتماعي. ويتم ذلك تحت فهم عريض للسياسة وبذلك للنظام السياسي الديموقراطي التعددي والاقتصادي الإجتماعي. والمعني هنا بالفهم العريض للسياسية: هو عدم حصرها في الفعل السياسي علي الدولة، بل ايضاً ضم الافعال والمخرجات السياسية لمنظمات ولتحالفات المجتمع المدني، وشبكات العمل المشترك، وأيضاً الفعل السياسي الحر للناس.
مجملاً، تتمثل واجبات النظام المدني الديمقراطي التعددي والاقتصادي الإجتماعي المستدام بهدف التصدي لتناقضات العولمة في: تحقيق أمن واستقرار سياسي واجتماعي مستدام؛ منع تحويل القانون والأمن والتعليم والثقافة والبيئة الطبيعية الي سلعة تتداول في السوق؛ جعل التمتع بالسلع العامة ممكناً للجميع؛ تحقيق تنمية بشرية واقتصادية تؤدي الي جعل البلاد من غانمين العولمة.
للقيام بكل هذه الواجبات وتحقيق هدف الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في سودان حديث موحد، علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي أن تبني رؤياها لدستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي وتصوراتها للمستقبل بموجب تحليل واقعي للحاضر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي السوداني، أولاً واخيراً. وبما يخص العولمة، يجب التفهم علي انه ليس هناك طريق للرجعة الي حقبة المجتمع الصناعي القديم والي الدولة القومية التي كانت سأئده في القرن العشرين. أكبر واجبات القرن الحادي والعشرين علي مستوي العلاقات بين الدول، يتمثل في تشكيل العولمة عبر سياسة ديموقراطية واقتصادية إجتماعية. من أجل القيام بهذه الواجبات والاهداف، يجب علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي أن توجه انظرها الي الإمام.

 

shamis.khayal@gmail.com

 

آراء