حقوق الانسان وفيدرالية العاصمة .. هل من نصير؟
أخذتني سنة من غفوة الكتابة، اذ ما ودعني حرفي ولا قلاني كتابي، ولكن تخطفتني صوارف أخذت مني لبان العقل وحس الجوارح وتفلتني مضغة بين طحن الرحي وتأملات الفكر.
والشكر لمن سأتصل آملا او مشفقا لهذا الغياب القسري.
انفض سامر مجلس حقوق الانسان بجنيف نهاية شهر سبتمبر الماضي وذلك بتجديد ولاية الخبير المستقل لمدة عام مع النص صراحة ولأول مرة علي إنهاء مهتمه ونقل تفويضه مع التطور الايجابي لاوضاع حقوق الانسان علي الارض الي آلية اممية اخري مناسبة وهي تعني المفوض السامي لحقوق الانسان. تضمن قرار السودان كذلك التعبير عن الانشغالات الخاصة بالحريات مثل حرية التعبير والحريات الدينية والإشادة بجهود السودان في موائمة تشريعاته الوطنية مع التزاماته الدولية وكذلك قبوله بتوصيات الاستعراض الدوري الشامل التي نصت علي الانضمام علي عدد من الاتفاقيات منها مناهضة التمييز ضد المرأة ( سيداو) ومناهضة التعذيب والاختفاء القسري. وكذلك إطلاق سراح منسوبي الحركات المسلحة في دارفور وعدد من الناشطين وكذلك القس التشيكي الذين أدينوا قضائيا بعدد من الأحكام. كما اشاد ايضا بقرار فصل النائب العام عن وزارة العدل.
استضافت الخرطوم بسرية تامة ولمدة اربعة أسابيع المفاوضات حول مشروع القرار بين السودان والولايات المتحدة، وقد بدأت المواقف متباعدة ولكن حرص الطرفان علي التوصل الي صيغة مرضية لكل من الخرطوم وواشنطون في ظل روح من التعاون المشترك لترقية اوضاع حقوق الانسان في السودان. وهذا ينسف الادعاء والمزاعم التي ساقتها بعض الجهات بان الولايات المتحدة فرضت مشروع القرار علي السودان في مجلس حقوق الانسان. وذلك يخالف الوقائع لان القرار قدمته المجموعة الافريقية امام المجلس وليس الولايات المتحدة وذلك بعد التفاوض والاتفاق حوله بين الدولتين وفي الخرطوم. وان ما تم التوصل اليه هو الصيغة المرضية لثلاثة أطراف هي السودان في المقام الأول باعتباره الدولة المعنية و ثانيا لواشنطون لانها تمثل انشغالات المجموعة الغربية و ثالثا المجموعة الافريقية في جنيف التي قدمت مشروع القرار حتي تكون متسقة مع سياساتها تجاه جميع الدول الافريقية الاخري. و بعبارة اخري يمكن وصف مخرجات القرار بأنها win win situation اي صيغة رابحة للجميع ، ولا يخفي علي اي مراقب حصيف ان تطورات العلاقات بين الخرطوم وواشنطون بما في ذلك القرار المرتقب في ١٢ أكتوبر القادم كان ضمن اعتبارات صدور هذا القرار لحرص السودان علي عدم الدخول في مواجهات غير ضرورية مع بعض دول المجلس طالما ان انشغالاته تمت الاستجابة لها بصورة مرضية حسب السياق الراهن.
فجرت قضايا حقوق الانسان مجددا الجدل حول وضع العاصمة ( الخرطوم ) في ظل تقسيمات الحكم الفيدرالي الراهنة. وفي السياق التاريخي رفض المفاوض السوداني طرح الحركة الشعبية اثناء المفاوضات علي احكام اتفاقية السلام الشامل إعطاء وضع فيدرالي للعاصمة الخرطوم لتكون عاصمة علمانية ومنطقة محايدة تجاه الشريعة Sharia free zone اي لا تطبق فيها احكام السريعة بأعتبارها عاصمة فيدرالية لا تتبع للشمال او الجنوب بل تعبر عن هويات واديان اهل السودان المختلفة.
بعد انفصال جنوب السودان لم يعد وضع العاصمة محل جدل في اطار تطبيق الشريعة او علمانية العاصمة، لكن يثور الجدل مجددا مرة عن وضع العاصمة في اطار تطورات اوضاع حقوق الانسان. اذ تتخذ السلطات التشريعية والتنفيذية في ولاية الخرطوم قرارات كبيرة قد تتعارض مع التزامات الدولة تجاه صكوك حقوق الانسان العالمية. وبما ان العاصمة الخرطوم تستضيف الحكومة الفيدرالية فقد تترتب علي مثل هذه القرارات اضرارا بالغة في تشويه صورة السودان الخارجية دون وعي او قصد. فقرارات ادارية ومحلية بسيطة او قرارات حول عطلات وإجازات المدارس، او قضايا النظام العام قد تترتب عليها اضرارا معنوية ومادية تمس صورة الدولة الكلية في الخارج. وبرزت إشكالات حقوقية اخري مع اعلان سلطات الصحة في الولاية بعدم قدرتها تحمل علاج مواطنين آخرين من خارج الولاية. مما يشكل خرقا واضحا لمبدأ حقوقي هام وهو الحق في الصحة والعلاج دون تمييز بالإقامة او العرق او اللون.
ولا شك ان مُتَّخِذ القرار في ولاية الخرطوم لا ينظر لابعاد والتزامات الحكومة الفيدرالية التي تستضيفها العاصمة مما يشكل تعارضا بينا وخللا كبيرا في العلاقة بين التزامات الحكومة الفيدرالية وقرارات حكومة ولاية الخرطوم.
منعا للالتباس والحفاظ علي الهوية الجامعة والكلية للعاصمة لجأت كثير من الدول ذات التعدد الاثني والعرقي والديني الي تخصيص حدود فيدرالية للعاصمة، وذلك مثل ماليزيا وعاصمتها كوالالمبور وكذلك واشنطون عاصمة الولايات المتحدة والتي رفعا ساكنوها شعار ( لا ضرائب دون تمثيل ) no taxation without representation و ذلك لانها لا تحظي بالتمثيل في الكونقرس . ولعل النموذج الأقرب لواقعنا هي اديس ابابا عاصمة اثيوبيا التي تعتبر حدود فيدرالية تتبع للحكومة الفيدرالية وليس للولاية المحلية وكذلك العاصمة النيجرية أبوجا.
يفرق اهل الاختصاص القانوني بين نوعين من فيدرالية العاصمة بين ان تكون كيان سياسي مستقل او مقاطعة ادارية فقط. فالعاصمة الكندية اوتوا تعتبر اقليميا فيدراليا. تحظي برلين عاصمة ألمانيا و بروكسل عاصمة بلجيكا بوضع فيدرالي متساوي مع الولايات الاخري في البلدين. كما تقع عواصم بعض البلدان في عواصم الولايات الفيدرالية مثل بيرن عاصمة كانتون بيرن بسويسرا وسراييفو.
توضح النماذج العالمية ان الدول التي تذخر بتنوع عرقي وتعدد ديني ولغوي تفضل ان تخصص لعاصمتها وضع فيدرالي خاص بها منعا من ان تتغول عليها سلطات محلية لا تحسن تمثيل وحماية هذا التنوع .
لعل الصيغة الانسب لوضع العاصمة الخرطوم في ظل التقاطعات الدائمة بين حكومة ولاية الخرطوم والتزامات الحكومة الفيدرالية و حقوق مواطني الولايات الاخري و صورة السودان في المخيلة والإعلام الدولي ان يتم اقتطاع حدود فيدرالية من ولاية الخرطوم تتبع للحكومة الاتحادية، ويمكن ان تشمل وسط الخرطوم وكل مناطق الحكومة الفيدرالية وسلطاتها ، وان تكون فيدرالية العاصمة وفق هذه الحدود فيدرالية ادارية وليست سياسية وستشمل بالطبع فقط اجزاء من حدود محلية الخرطوم ، علي ان تُمارس ولاية الخرطوم سلطاتها علي بقية اجزاء حدود ومحليات الولاية.
هذا الوضع يحقق عدة أهداف منها الحفاظ علي ورمزية الهوية الجامعة للعاصمة وفق حدود ادارية معلومة تتبع للحكومة الفيدرالية، كما تمنع التقاطعات الحادثة بين قرارات حكومة الولاية والتزامات الحكومة الفيدرالية في قضايا تمس جوهر صورة السودان في الخارج وتعهداته الدولية. شريطة ان تكون فيدرالية ادارية وليست سياسية . ولنا في العالم أمثلة ساطعة وناجحة دون جهويات وإثنيات او اتهامات بالتخوين والنزعة والأممية.
khaliddafalla@gmail.com