حملات الدفتردار الانتقامية – غارات البرهان الجوية !!

 


 

 

محمد بك الدفتردار هو صهر محمد علي باشا حاكم مصر، الذي غزا السودان في القرن التاسع عشر، وقد ارتكب هذا الصهر جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق السودانيين، بسبب الحماقة التي ارتكبها المك نمر الذي أشعل النار في جسد إسماعيل باشا بن محمد علي، فأحرقه ومن معه بعد أن دعاه لوليمة عشاء فاخر، فتحرك محمد بك على إثر ذلك في حملات انتقامية واسعة النطاق، شملت شندي والأبيض وسنار وصولاً إلى حدود الحبشة، سعياً وراء القبض على المك نمر الهارب من عواقب جريرة تلك الحادثة، التي خلّفت ما يفوق الثلاثين ألفاً من الأرواح البريئة، وسبي واسترقاق المئات من النساء والرجال، جراء الانتقام الثأري الذي قام به الدفتردار، بعدها تم اخضاع كامل التراب السوداني للحكم التركي المصري ما عدا إقليم دارفور، ومن ثم تم تدجين السودانيين من قبل الامبراطورية الثنائية الحكم لستين عاماً، تمت خلال هذه العقود الستة صياغة الوجدان السوداني المركزي، والذي انعكست تمظهراته في السلوك العام لرجل الدولة، الذي لا يرى في آلية الحكم سوى أنها مجرد وسيلة لإذلال الأنفس وإخضاع الرقاب، وعلى الرغم من أن المستعمر البريطاني قد قضى ذات المدة تقريباً، التي جثمت فيها الإمبراطورية العثمانية على جسد الدولة السودانية، إلّا أن التأثير التركي العثماني كان بالغ الأثر على سيرورة التفاعل الثقافي والاجتماعي، ومن فرط عسف جند الترك أن الثورة المهدية التي اقتلعتهم لم تقدر على محو تلك الغلبة الوجدانية، وذلك ربما لقصر زمان الثورة والدولة الوطنية اليتيمة التي جاءت بين حقبتين استعماريتين.
فوبيا الدفتردار ما انفكت تزيد من خفقات قلوب حكام السودان المركزيين، وتحرّض المؤسسة العسكرية على شن الحروب على الشعوب السودانية في الجنوب والشرق والغرب، هذه المؤسسة التي ينحدر جُل جنرالاتها من الجغرافيا التي تعرضت للمسح الدموي الذي أقدم عليه الدفتردار، قد مارست الحكم بذات القبضة الحديدية للترك والبريطانيين، وبنفس القهر الذي لا يقيم للإنسان وزناً، فمشكلة الحاكم السوداني بعد الاستقلال الصوري الذي تم، تكمن في أنه ظل حبيساً لقفص الاستلاب النفسي والمعنوي الذي أدخله فيه المستعمر، وهذا الأمر لم ينسحب على السودان وحده، وإنّما شمل جميع بقاع القارة الإفريقية، إذ يمكنك أن تلاحظ ذلك في الغلاف الفرانكفوني الذي يغلّف الرؤساء الأفارقة، الذين يحملون في دواخلهم بصمة الرجل الأبيض، فيقلدونه في مشيته وطريقة استعماله للغليون، والسودان ليس بمعزل عن المحيط الافريقي الذي اجتاحته حمى دجاجة ستالين، التي بعد أن جز ستالين ريشها لم تتخلى عن الركض وراءه، والسعي من أجل الحصول على عطفه – (متلازمة استوكهولم)، لذلك نرى جنرالات الجيش المستلبين لا يتورعون وهم يقصفون السكان والبنى التحتية، بالطائرات الدفتردارية والمسيرات البرقدارية العابرة للحدود، فهم يقومون بفعل ذلك ولا وعيهم يسوقهم نحو تحقيق أهداف عقيدة قتالية فاسدة، انعكس فسادها على تحويل كل المنافع الاقتصادية للدولة إلى الجنرالات المرتدين لبزّة الغزاة، فأمثال الداروتي وزمقان والعطا والبرهان، لا يمكن أن يكونوا في غير الحال الذي هم فيه اليوم، أوفياء لمخرجات الكلية العسكرية التي كانت سنداً للجارة الشمالية في حربها على إسرائيل.
السودان كان وما يزال يحمل في جوفه كل الاغراءات التي دفعت محمد علي باشا حاكم مصر لغزوه، قبل قرنين من الزمان، ألا وهي المال والذهب والرجال، وما تزال هويته متنازعة بين الأفارقة والأعراب – منبر جدة ومنظمة الإيقاد، وكل طرف يحاول تجيير المستقبل الاقتصادي لرجل افريقيا المريض لصالحه، فالوجود العميق للاستعمار الأجنبي لا تخطئه العين، حينما نرقب تحركات جنرالات الجيش ومعهم فلول وبقايا النظام البائد، يلوذون بالفرار إلى البلدين الثنائيين اللذين اجتاحا بلادنا الحبيبة في الماضي، وسوف يظل السودان رهيناً للأجندة الاستعمارية مالم تتم هزيمة الدولة القديمة، والتي هي بمثابة الضامن الحقيقي لحصص وأسهم الشركاء الاستعماريين، فتدمير البنى التحتية وحرق الأرض لتهجير السكان بأوامر مباشرة من الدفتردار الجديد (البرهان)، كلها أدلة دامغة تثبت أن جنرالات الجيش قد حزموا أمرهم، ورهنوا البلاد ومقدراتها للمستعمر الثنائي القديم الجديد، الذي لن يترك هذه الحديقة المثمرة والروضة الغناء لأهلها، وسيعيد التاريخ نفسه اذا لم يلتف السودانيون حول هويتهم، لقد هُزمت الثورة والدولة الأولى بالعمالة والارتزاق والارتهان للأجنبي، ولن يمحو وكلاء المستعمر ذاكرتنا الوطنية، المطبوع عليها صور إخواننا الذين جاؤوا محمولين على بواخر الغزاة، فبلادنا وشعوبها صمدت لقرون من الزمان ولم تلن أو تنكسر، والضوء ما زال لامعاً هناك بآخر النفق.

إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء