حوار مع مواطن من دولة الجنوب … السودان يستقل مرتين

 


 

 

تَكَثّفً الحديثُ فى الأسابيع القليلة الماضية وما زال عن حتمية إنفصال الجنوب عن باقى القطر ولا أقول عن الشمال ، لأنه من المؤكد أن هذا لا يُرضى أقاليم تقع داخل حدود الشمال التاريخى وتود أن لا تكون، لأنها ربما فكرت فى أن تنفصل أيضا عن الشمال بعد أن يقدم الجنوب النموذج المرتقب. ولما كان الحديث عن إحتمال إنفضال الجنوب فى يناير 2010 ليس مقتصرا على النخب فى المجتمع السودانى كما بدأ قبل أربع سنوات أو يزيد ، أصبح الجميع داخل وخارج الوطن منشغلاً بما ستؤول اليه الأوضاع فى كلا الدولتين. وربما كان كلام السيد أزيكل جاتكوث مسئول الحركة فى أمريكا من أن أمريكا تساعد الجنوب لبناء دولته المستقله يمثل ذلك البعد. فقد ترك الحديث والنقاش حول ذلك اليوم المرتقب وتداعياته وعن شكل العلاقه التى ستنشأ بين من كانوا بالأمس يحملون جنسية وطن واحد- ترك أثرا بالغاً فى بعض المجتمعات السودانيه فى الخارج خاصة تلك التى تضم شماليين وجنوبيين لم يكن بينهم حتى وقت قريب غير التلاقى فى ود وأريحية سودانيه خالصة تتعكر أحيانا بسبب بعض المواقف المتطرفه من هنا أوهناك ولكن سرعان ما تلقى الأدانة الكافيه من الجميع.

  أجتمعنا نحن نفر يصح أن نُنُسَب للشمال وأتفقنا أن نقيم أحتفالاً بمناسبة أعياد الأستقلال هذا العام. لم يخطر ببال أحدنا أن النقاش الدائر عى فرضية قيام دولة مستقلة فى جنوب السودان قد نحى منحاً بعيدا فى نفوس وعقول بعض أخوتنا من الجنوب لدرجة قد تؤثر على المناسبة التى نسعى لنجاحها. وكان من الأدوار التى أُوِكِلَ لى القيام بها وبعض الأخوه من المنظمين فى أطار الأعداد ؛ هى الأتصال بكل السودانيين الموجودين بالمدينه. وكانت قائمة الأسماء لدى تضم عددا يقل عن العشرين كان أغلبهم من جنوب السودان لإطلاعِهِم وتقييم وتحفيز مشاركتهم. ونسبة لعلاقتى المتميزة بالأخوة والأخوات الجنوبيات والتى رسّخَتْها تجاربُ سابقة وجيرة كريمة ومعاشرة طيبه تمتد لسنينَ عددا أعتبرتُ أن الأمر عاديا ولن يخرج عن اطاره المألوف. وللحقيقه ، معظم الشماليين هنا فى مدينتنا القابعة فى الشمال الأوسط الأمريكى يحتفظون بعلاقات طيبة مع السودانيين من الجنوب والذين يشكلون أغلبيه ويربو عددهم عن الألف شخص؛ ودائما نجتمع فى كل المناسبات بلا محاذير أو أعتبارات سياسيه ، حتى عندما يكون مكتب الحركه هو الراعى لأى مناسبه كتلك التى أقيمت فى صيف 2005 إحتفالا بالسلام وشارك فيها الجميع يفعاليه دون أن ندرى أن إتفاقية السلام ربما تصبح مُهدِداً للسلام ولوحدة الوطن فى 2010 فى حالة عدم إحسان تنفيذها.  على كل حال ،وأثناء تأدية مهامى بخصوص إحتفالية الأستقلال كان لى هذا الحوار مع مواطن من دولة الجنوب أثناء زيارة لأحد الأخوة من الجنوب فى منزله العامر. فبعد التحايا والسلامات حدثتُ مضيفى وزوجته عن الأحتفال حاثاً لهما على المشاركه بما يجودون. وحدث أن كان فى زيارتهم أحد أقاربهم والذى قدِمَ من ولايةٍ أخرى ليشاركهم إحتفالات أعياد الكريسماس ورأس السنة الميلادية. تعارفنا وتجاذبنا أطراف الحديث عن بعض القضايا الحياتيه والسياسيه وكان من جملتها موضوع الساعة بالنسبة لجميع السودانيين ألا وهو إستفتاء الجنوب ومآلاته. فكان التالى جزأ مما دار بيننا فى ما يتعلق بالمناسبة التى بسببها كان اللقاء وعلى أساسها قادنا الحوار الى مشروع الدولة المستفتى حولها وعلاقة ذلك بالمستقبل.

قال: بلدكم انتو ناس الشمال اللى إستقلتْ ما بلدنا نحن. وأردف: انتو إستقليتو لكن نحن لسه إستقلالنا ما جاء.

 فى كل هدوء أستمعت اليه وأنا أستجمع الكلمات المناسبه لأرد عليه فى حدود المهمه والهدف ، وعلى أن لا أبدؤ سلبيا ودون أن أدخل فى تعقيدات تاريخيه لم يكن مناسبا الحديث والأسترسال فيها.

قلت: أستقلال السودان كان قبل 54 سنه وقد شارك فى صنعه السودانيين كلهم بلا أستثناء فقد كان الجنوب ايضاً محتلا من الأنجليز كما الشمال والغرب والشرق.

قال: نحن ناس الجنوب لم نستقل بعد. إستقلينا من المستعمر لنستغل من الشماليين. ما حصل فى الجنوب هو بعد أن خرج الأنجليز إستعمرونا ناس الشمال. علشان كده أنا شايف استقلالنا الحقيقى ح يكون يوم 9 يناير 2011.

من نقاشنا قبل ذلك أدركتُ أن محاورى يعرف جيدا حقائق التاريخ لكنه يرمى لشئ أخر متأثرا بما يدور حول ميلاد سودان جديد فى جنوب الوطن يمثل للبعض حلما إقترب تحقيقه دون إكتراث لنتائجه وأبعاده.

ورغم يقينى بما يرمى اليه تظاهرتُ بعدم الفهم عندما حدد 9 يناير كيوم لأستقلال الجنوب فرددت عليه قائلا:

 الى انت ذكرتة ده تاريخ إستفتاء الجنوبيين علشان يختاروا الوحده أو الأنفصال.

قال: الأنفصال هو خيارنا وح نكّوِنْ دولتنا المستقلة ونحتفل بعد داك باستقلالنا.

قلت: ماذا إذا أختار الجنوبيون الوحدة؟

لا ، لن يختاروا الوحدة. نحن أدينا الشماليين الفرصه كافيه للوحده الجاذبه ولكن شوف اللى حصل مع الحركه فى الشمال من موت قرنق ولحد اليوم. لابديل للجنوب عن الأنفصال عن الشمال وإذا ما حصل فى 9 يناير 2010 ح نستقل وننفصل بالحرب. اقول ليك حاجه ؛ مستحيل انو الشماليين بعد يوم الأستفتاء لو ما أنفصل الجنوب إجو ويحكموا الجنوب تانى زى زمان. حاليا فى وعى كبير فى الجنوب وكتير من الجنوبيين الى إتعلموا بره رجعوا أشان يشاركوا فى البناء. الجنوبيون مستعدين يحاربوا تانى لعشرين سنه بس يستقلوا من الشمال حتى لو أعلن الشمال الجهاد زى ما حصل قبل كده. الواقع إنو الجنوب اليوم مستقل ، نحن منتظرين 2011 أشان نعلنوا رسمى.

هنا أدركت أن النقاش قد نحى بعيدا ولن أستطيع الأستمرار لنهايته لأنى أحتاج الوقت لزيارة أخرين ربما رغبوا فى التعبير عن دواخلهم بنفس الطريقة أو بطريقة أخرى. فما كان منى الا أن وجهتُ النقاش لنهاية من أختيارى.

قلت: خلاص السودان ما زال دوله واحده وأنت ما زلت شايل نفس الجنسيه الى أنا شايلها. المهم خلينا نحتفل السنه دى كمواطنين ينتموا لبلد واحد إستقل فى يناير 1956. واذا وافقتنى الرأى نحتفل فى السنة الجايه مع بعض لنؤرخ للمره الأخيرة التى نحتفل فيها بإستقلال السودان البنعرفه و بعد داك بداية من 2012 نحتفل مرتين مره يوم واحد يناير ومره فى يوم تسعه.

إنتهى الحوار بموافقة محاورى على أن يشارك فى الأحتفال بعيد الأستقلال كضيف بعد أن صارحنى أنه لم يعد يحس بعمق وحرارة هذا اليوم كما كان عندما كان طالبا فى المدرسه الثانويه فى الخرطوم ويسكن مع أحد الأسر الشماليه فى امدرمان. قبلت مذهبه فى المشاركه وأحترمت موقفه من الحدث ؛ وربما كان هذا بمثابة تشجيع له ليدعونى الى مزيد من الحوار البناء فى المستقبل حتى فى حال الأنفصال فمازلنا فى حاجة ماسه لمواصلة الحوار إذا كان لدولتينا التعايش سلميا من أجل راحة الشعبين فى دَوْلتىْ الشمال والجنوب. تبادلنا الأيميلات وأرقام الهواتف وغادرت الى محطة أخرى عازماً ان أبذل قصارى جهدى فى أن يشارك الأخوة والأخوات الجنوبيات معنا فرحة الأستقلال ؛ فلربما لن يكون ذلك متاحا بعد عام الأستفتاء 2010 ، ولربما كان حافزاَ أن نمارس حياتنا بأفراحها وأحزانها كشعب واحد ينتمى لدولتين ما دمنا نعيش فى الغربه بعيدا عن الأوطان.

ومما ينبغى تسجيله فى الختام أن ليس كل أبناء الجنوب الذين إلتقيتُ وعرفتُ وحاورتُ قد ذهبوا مذهب محاورى الذى عبر عن مكنون نفسه تواقفاً مع معطياتٍ تاريخية وسياسية ماثلة.  بل أجد أغلبهم مازالوا مترقبين لما ستحمله الأيام. فهم مع الوحده إذا كانت هى خيار مواطنى الجنوب ولكن بشروط أن تضمن لهم المساواة وكامل حقوق المواطنه ، وهم مع الأنفصال إذا جاءت النتيجه لصالحه. ففى الأخير ربما كانت فرصهم أكبر للأسهام فى بناء الوطن الجديد الذى أنهكته الحروب والأهمال عبر عشرات السنين. فالجميع متفقون على أن الجنوب قد ظُلم وحان وقت رد المظالم وحدةً أو إنفصالاً.

mekkimusa@aol.com

 

آراء