خواطر فى زمن ( الطير الخدارى ) !

 


 

 

1
قال صديقى ( حر هذا العام يلحم الحديد ) !.....و قال الآخر ( بل يرمى الصقر من الجو ) ! أما الثالث فذكر..... (أهلنا العجايز قالوا الحر ده يشبه الحر الجه يوم " كتلة أمدرمان " ) ! هكذا وصف لهم اباءهم حر ذلك اليوم ،الذى حصد فيه رصاص المستعمر يوم 2 سبتمبر 1898 و فى ظرف خمس ساعات، عشر ألف مقاتل سودانى كما جرح مائة و سيتين ألف ...كان ذلك فى واقعة كررى ............كان أصدقائى الثلاثة على حق.
عندما حطت الطائرة فى مارس الماضى مطار الخرطوم فى منتصف النهار، كانت الشمس تسلخ الجلد و تدمى فروة الرأس.لم أرى و أعيش طيلة حياتى مثل تلك الحرارة،كان كل شئ يبدو باهتا، شاحبا و بائسا، و كأن حرارة الشمس قررت اكمال تلك الدائرة الجهنمية فى المشهد السياسى المأساوى بانقلاب البرهان، الذى جعل الحياة أكثر قسوة و جحيما لا يطاق، كما أعطى تلك الصورة الرمادية بعدا سرياليا، نداءات طيور " الخدارى " المتكررة التى تسيدت فضاء الخرطوم هذا الصيف !
بلابل الدوح
الحى الذى أسكنه يقع بقرب النهر،يجاور ذلك النهر غابة عامرة بخضرتها، كما أن أشجار " اللبخ " كانت تظلل شارع النيل حتى مرسى أبوروف.فجأة و دون سببا وجيه قامت حكومة " الأنقاذ " المتأسلمة بأستئصال تلك الأشجار كما فعلت بكثير من قيم السودان السمحة الراسخة.
بحكم ذلك الموقع أصبحت علاقتى وثيقة مع الطبيعة،تعرفت على الأشجار،الطيور و الأسماك.المنطقة كانت تعج بأنواع مختلفة و متعددة من الطيور....القمارى بمختلف فصائلها،البلابل،طيور النيل المرحة،الصقور بهيبتها و سطوتها حتى الطيور المهاجرة شتاءا و صيفا كانت تزور المكان.صرنا مع مجموعة الصبا الباكر على معرفة بعادات الطيور،مواسم تلاقحها وولادتها،طعامها و علاقتها مع الناس و مدى الأطمئنان لهم.
من ضمن تلك الطيور المتنوعة أحببنا بشكل خاص طائر " البلبل "، و هو طائر جميل و عذب الصوت . يقال أن هنالك مئة من فصائله تعيش فى قارة افريقيا و اسيا.يمتاز البلبل السودانى بلونه الرمادى المتدرج من الغامق للفاتح مع تناسق و تناغم جسدى مدهش و يتغذى على فواكه الأشجار (الجوافة،التمر هندى و التوت ) اضافة للحشرات الصغيرة....أهلنا فى الغرب ينادوه ب " أم بلبلى ".
عند الأستماع لهذ الطائر صباحا و هو يصدح يفتح للسامع كوة من الأمل و آفاق غير محدودة من الجمال ، لذلك ليس بصدفة أن يعجب به الشعراء السودانيين ،امتزج بوجدانهم كما تخللت أشعارهم الحنينه وصف عذوبة صوته و جماله الفتان و من ذلك الأغنية القديمة مجهولة الشاعر (بلابل الدوح ناحت على الأغصان طرب و سرورماحت فروع البان )، بل يكفى أن أشهر المجموعات الغنائية النسائية فى السودان تحمل أسم " البلابل " !
عند عودتى للسودان كنت متشوقا لسماع صوته فى الصباح الباكر....كيفية أحواله و معيشته. لكم تحسرت عندما صحوت مبكرا ذلك الصباح ووجدت أعدادا كبيرة منه تأكل من القمامة المهملة فى ركن من حوش المنزل، بل كانت تتقاتل للفوز بأى شئ من تلك القمامة الفقيرة.
أصابنى قدر من الأحباط و الألم، و كان ذلك مؤشرا لسلسلة من المشاهد المحبطة و سببا لكتابة هذا المقال.
صقور الجو !
جلست ذلك الصباح فى الحوش لتناول افطارى،كان مكونا من فول و سمكة من البلطى لزوم الأحتفاء بى. احتجت الى شئ من المطبخ فذهبت لاحضاره، عندما عدت وجدت شقيقتى الكبري تقوم بحراسة الأفطار.اندهشت و قمت بسؤالها لماذا تفعل ذلك... ردت ( خوفا من يقوم الصقر ب " ختف " الفطور )!
نظرت الى أعلى، فعلا كانت بعض الصقور تحوم باصرار فوق المنزل فى وضع هجومى كالطائرات المقاتلة فأندلقت دهشتى فى الحوش حتى غمرته.كنت أعرف وفقا لتجاربى و معارفى أن الصقور فى المدن تقوم ب " ختف " ( سواسيو ) الدجاج و لكنى لم أعرف عنها " ختف " الأفطار !....كان ذلك هو الأحباط الثانى.
النمل الأسود الصغير و نمل السكر!
لاحظت تكاثر النمل بشتى أنواعه فى المنزل و الحوش، و لكن ما لفت انتباهى تحديدا هو نمل السكر كبير الحجم الذى يظهر فى الخريف فقط وكذلك النمل صغير الحجم بكثرة ملفته.كان لا ينجو طعاما ترك دون غطاء من مهاجمة النمل السرطانى.سألت أفراد الأسرة فذكروا لى أنهم لاحظوا كثرته فى الأشهر الأخيرة و انه يجمع الطعام بكل الوسائل حتى مهاجمته الحشرات الصغيرة.
معرفتى أن النمل يجمع مؤنته فى موسم محدد تحسبا للشتاء و لكن أن يخرج باحثا و مهاجما كل شئ بحثا عن الطعام....كان ذلك هو الاحباط الثالث.
كلاب الشوارع و الأزقة !
كنت أعلم أن كثير من المواطنين يربون الكلاب لحراستهم من زوار الليل،لكنى لاحظت هذه المره أن كثير من الكلاب تتجول فى الطرقات بلا هدف بحثا عن الطعام، و هى تأكل كل ما يقع امام ناظرها حتى الخضروات !
سألت عن هذه الظاهرة و لماذا تخلى الناس عن تربية الكلاب و هم فى أشد الحاجة اليها فى زمن " تسعة طويلة " الرسمى و الشعبى !.....ذكروا لى أن الناس لا تستطيع أطعام أبنائها فكيف باطعام الكلاب !!!
عند تجوالى فى شارع النيل قبالة سوق السمك " الملجة " وجدت عصابة من الكلاب الضالة تهاجم كل من يقترب من المكان و بشراسة .....عرفت ان تلك الكلاب لجأت بغريزتها لذلك المكان لتناول نفايات ما يتبقى من أسماك اذا وجدت !!!!.....كان ذلك هو الاحباط الرابع.
مجاعة " سنة سته " و المجاعات السودانية الأخرى !
هنالك مجاعات متعددة حدثت فى تاريخ السودان فى الماضى، و لكن منها ما وقع فى العصر الحديث ،أشهرها تلك المجاعة التى حدثت فى بداية ثمنينات القرن الماضى و تحديدا فى العام 83 فى غرب السودان زمن الديكتاتور نميرى نتيجة لاهمال الهوامش التنموية، اللامبالاة و السياسات الأقتصادية الفاشلة، مما أدى الى موت المئات و نزوح الآلاف الى أطراف المدن الكبيرة خوف الموت جوعا !!!
لكن أشهر المجاعات فى تاريخ السودان على الأطلاق هى مجاعة " سنة سته " و قد روى عنها الكثير، و قد أطلق عليها ذلك الأسم لأنها حدثت فى العام 1306 هجرية الموافق 1888 – 1889 ميلادى.
فى ذلك العام قلة الأمطار و أنحسار مياه النيل مع هجوم مكثف للجراد، و تهجيرقبائل الغرب ل " البقعة " بالقوة لحماية نظام الخليفة من الأشراف المتمردين عليه مما فاقم من أمر المجاعة.هنالك روايات حزينة و مفجعة عن تلك المجاعة التى جعلت الناس يأكلون الجيف و أحيانا الموت جوعا داخل منازلهم لكى لا يضطروا لمذلة التسول فيعيرون بذلك .
هنالك ملاحظة جديرة بالانتباه لها ، و هى أن كل تلك المجاعات حدثت فى ظل الأنظمة الديدكتاتورية التى عملت على فرض رؤيتها الأحادية الضيقة و مصادرة الرأى الآخر فى بلد متنوع الأعراق،الثقافات و الأديان.
يواجه السودان اليوم فى ظل الانقلاب العسكرى بقيادة البرهان كثيرا من تلك الظروف المشابهة التى تسببت و قادت الى المجاعات فى السابق.....
فشل فى كل السياسات الأقتصادية.....فساد يزكم.....انفلات أمنى و اجتماعى....غلاء فلكى و فاحش للأسعار....تعطيل لمناطق الأنتاج....هجرات مكثفة من الريف للمدن خوف الموت جوعا أو نتيجة لأنعدام الأمن.....عدد من الجيوش " تحوم " فى العاصمة و هى مدججة بالسلاح بلا هدف...... .....انهيار كامل لقيمة الجنيه السودانى امام العملات الأجنبية....الخ
يقول العلماء فى دراسات نشرة مؤخرا عن قدرة الحيونات على التنبؤ بحدوث الزلازل قبل وقوعها بأسابيع !
سؤال يجول بالخاطر هل تتكرر مجاعة تشابه " سنة سته " ونحن نشاهد نذرها و أرهاصاتها ؟!!

نواصل فى الخواطر

elsadati2008@gmail.com
////////////////////////

 

آراء