دارفور… بين تصريحات وزير الخارجية وإنتهاكات المليشيات الجنجويدية!
د. حسين أدم الحاج
7 January, 2009
7 January, 2009
دارفور... بين تصريحات وزير الخارجية وإنتهاكات المليشيات الجنجويدية!
(1/2)
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
دعا الدكتور مواكيش كابيلا, المنسق السابق للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالسودان إلى تشكيل محاكم لنظر جرائم الحرب لمحاكمة مسؤولين فى الحكومة السودانية عن حالات الإغتصاب والنهب والقتل في القرى الإفريقية في منطقة دارفور، متهما الدولة بالتواطؤ في تلك الجرائم ومشبهاً الصراع في دارفور بحملة الابادة الجماعية في رواندا عام 1994م, وقال «لا توجد أسرار.. الأفراد الذين يفعلون هذا معروفون, لدينا أسماؤهم». وأضاف في مقابلة مع وكالة رويترز «الأفراد الضالعون في هذه الجرائم يشغلون مناصب رفيعة» (رويترز 25/3/2004م), ووصف أعمال العنف بأنها «تطهير عرقي»، وقال إنَّ أغلبها ترتكبه الميليشيات المعروفة بإسم الجنجويد، وان هذه الميليشيات تحظى بدعم القوات الحكومية. وأضاف «ولا يسع المرء في ظل هذه الملابسات سوى أن يستنتج أن هذه الاعمال تتم بموافقة الدولة», وأضاف "إنَّ الوضع الأمثل هو أن تحاكم الخرطوم المسؤولين عن العنف بنفسها لكنها لم تفعل ذلك، ومن ثم فمن واجب المجتمع الدولي أن يقوم بهذه المهمة" (المشاهير 26/3/2004م), وقد كرر ذلك فى مقابلة أخرى بقوله "لا أرى ما يمنع المجتمع الدولي من النظر في إنشاء محكمة أو آلية دولية ما لتقديم الأفراد الذين يدبرون جرائم الحرب فى دارفور ويرتكبونها للمحاكمة" (الشرق الأوسط 28/3/2004م).
مباشرة, ودون هوادة, شنت الحكومة حملة شعواء على تصريحات الرجل ونعتته بكل ما تملكها من عبارات الكذب والنفاق والزور والبهتان, بل وأبلغت الأمم المتحدة بسحبه من البلاد بإعتباره شخصاً غير مرغوب فيه, ثمَّ إخرجت فريَّة للصحافة المحليَّة بأن كابيلا قد تراجع عن تصريحاته فى محاولة يائسة لقلب الحقائق, ولمَّا كان الرجل بالأساس قد إنتهت فترة إنتدابه بالبلاد فقد غادرها إلى نيويورك حيث واصل إداناته ضد الحكومة السودانية و أبلغ مجلس الأمن والسكرتير العام للأمم المتحدة بشهادته. أما فى الخرطوم فقد ظلت تصريحات مسؤولى الحكومة, خاصة وزير خارجيتنا الهمام, تتوالى وتنفى بطريقة هستيرية عدم وجود إبادة وتصفية عرقية أو أى علاقة إرتباط بين الحكومة ومليشيات الجنجويد بل ونعتتهم بأنَّهم خارجون عن القانون.
حسناً.
لم يمض سوى أسابيع قليلة إلاَّ ويفاجئنا وزير الخاجية معترفاً بعلاقة حكومته بتلك الجماعات, بل ومؤكداً إلتزام حكومته بحمايتهم والحفاظ على وجودهم ربما لهدف إستراتيجى, فقد قال فى مقابلة مع جريدة الحياة اللندنية "من يريدون منا الآن (وقف عمل) الميليشيات (أى الجنجويد) يجب أن يعلموا أنَّ ذلك غير ممكن لأنهم ينسون أنَّ هناك تمرداً لا يزال يحمل السلاح ويهدد القبائل ومن الممكن أن تكون هناك عمليات إنتقام" (الحياة 13/5/2004م) (أ.هـ.). عبارتان محوريتان ننتبه لهما هنا: (وقف عمل المليشيات, وعمليات إنتقام), عمليات إنتقام على ماذا؟ هل هذا إعتراف ضمنى بوجود تصفيات عرقية وإبادة؟
حديث المغالطات فى المقابلة الصحفية لجريدة الحياة مع وزير الخارجية:
سوفى نبنى هذا المقال على ضوء المقابلة الصحفية التى أجراها الصحفى نزار ضو النعيم من جريدة الحياة اللندنية مع الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير خارجية حكومة السودان ونشرتها الصحيفة بتاريخ 13/5/2004م, والتى تركت صدىً لدى أبناء دارفور والمهتمين بأمرها وكشفت عن مغالطات مقلقة يعيشها الوزير وحكومته حيال قضية دارفور بصورة شاملة. وسنركز فى جلِّ مقالنا هذا فى الرد على حديث الوزير ثمَّ نحاول تحليل الدور الإستراتيجى الذى بات يمثله مليشيات الجنجويد فى دائرة سياسة الحكومة حيال دارفور.
لقد مضى الوزير فى تلك المقابلة ليؤكد ما ظللنا نؤكده دوماً, ويعرفه كل أهل دارفور, من العلاقة الوثيقة بين الحكومة السودانية بالجنجويد, إذ قال إنَّ حكومته تستهدف المتمردين في ولاية دارفور وليس الميليشيات! "لذلك بدا الأمر وكأن الحكومة تدعم الميليشيات (أى الجنجويد)" (أ.هـ.), بعبارة أخرى أراد الوزير أن يقول إنَّ حكومته لا يهمها أمر الجنجويد ولا تهتم بما يقومون به من إبادة وتصفية عرقية ولكنها تحارب المتمردين, وإذا شارك الجنجويد إلى جانب القوات الحكومية فى قتال المتمردين وتدمير ديار قبائل الزرقة, وهم بالفعل مستأجرين ومأمورين لفعل ذلك, فلا بأس!
وإشترط الوزير في حديثه لزوم "نزع سلاح المتمردين لنزع سلاح الميليشيات (أى الجنجويد)"! هكذا, وعلى عينك يا تاجر! إذاً تحولت مسألة نزع سلاح الجنجويد إلى عملية مساومة وإبتزاز وهى صفات رضعت هذه الحكومة لبنها منذ لحظة مولدها, ثمَّ كيف ستنزع الحكومة سلاح الجنجويد إن لم تكن مسيطرة عليهم بالفعل بل ومتحالفة معهم؟ فإذا كان فاقد الشيئ لا يعطيه فإنَّ الحكومة تبدو وكأنَّ يديها مليانة بالجنجويد تتعاطى معهم وبهم ذات اليمين وذات الشمال وتحركهم كيفما شاءت ولأى غرض كان, ثمَّ من يضمن أن هذه الحكومة ستنزع سلاح الجنجويد بعد أن يسلم المتمردون أسلحتهم؟ بل من يضمن بالأساس أن تقوم الحكومة ذاتها بتوجيه تلك القوات المجرمة للقضاء على ما تبقى من أهل دارفور, من القبائل التى تحاربها مثلما ظلت تفعل منذ إستيلائها على السلطة؟ لقد تصدى بعض المواطنين الشجعان لموسى هلال قائد فرقة الجنجويد التى أغارت على مدينة كتم فى مطلع شهر أغسطس من العام الماضى وهددوه بأنَّهم سوف يُبلِّغون والى ولاية شمال دارفور بإنتهاكاته للمدينة فسخر منهم وقال لهم: "نحنا ما بنستلم الأوامر من واليكم, نحنا الأوامر بتجينا من فوق, من الخرتوم"!! وقد تأكد ذلك عقب هجوم آخر شنته فرقة مكونَّة من الجنجويد مدعومة بسلاح الجو السودانى على مدينة طويلة, غرب الفاشر, تلك الغارة التى تمَّ فيها إغتصاب مائة فتاة, بعضهنَّ أمام أسرهنَّ, وفرَّ أكثر من 150 ألفاً من المواطنين فى كل الإتجاهات حيث وصل بعضهم إلى مدينة الفاشر لكنَّ قوات الجيش منعتهم من دخول المدينة, ولما وجدوا فرصة لتبليغ ما حدث لنفس الوالى قال لهم بأنَّه ليس لديه أى سيطرة على الجنجويد وبالتالى لا يستطيع فعل شيئ لهم!! وهناك أمثلة كثيرة وروايات متعددة فى هذا المجال مما يكشف تورط الحكومة حتى رقبتها فى ما حدث من إبادة للسكان الأبرياء.
ويمضى وزير الخارجية فى مقابلته المطوَّلة مع جريدة الحياة اللندنية ليطلق الحديث على عواهنه, ويبدو سعيداً بذلك وهو يردد حديثة فى لذة ملموسة, فيقول رداً على سؤال بشأن توالى صدور نداءات عالمية تستنكر الحرب فى دارفور وتحمل الحكومة المسؤولية عنها؟ بأنَّهم فى الحكومة يتعاملون مع هذه النداءات بشفافية! وقد "إستقبلنا بعثتين واحدة من مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس وهي زارت ولاية دارفور وحققت وإنتهت إلى أنَّ هناك كارثة إنسانية تحتاج إلى تعامل سريع من المجتمع الدولي بتوفير الحاجات, ومن حكومة السودان بفتح الممرات وتأمين المواطنين والمساعدة في وصول الإغاثة. تعاملنا مع الأمر بشفافية" (أ.هـ.), لكنَّ البعثة التى أوفدتها مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمى لم تكن مهمتها التحقيق فى إتهامات الإبادة والتصفية العرقية وإنَّما إنحصرت فى تقييم الحاجات العاجلة من الإغاثة والمسائل الإنسانية, وقد توصلت اللجنة إلى حقيقة أنَّ الأوضاع في الإقليم تعتبر أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم, وصرَّح موريس أنَّ "هناك أكثر من مليون نازح في حال بائس وأوضاع إنسانية مزرية, ووصف ما يحدث في دافور بأنه أسوأ كارثة إنسانية في العالم, وطالب الحكومة بتوفير الحماية والأمن للمدنيين, وذكر أن النازحين "يمكنهم العودة إلى ديارهم لكنهم يشكون من إنعدام الأمن والغارات من ميليشيات غير نظامية (الجنجويد)" (الحياة 3/5/2004م), وقد أكد على ذلك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فرانسلن الذى شاركه الحديث في مؤتمر صحافي, وقد أثارت بعثة أخرى من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مع المسؤولين في الخرطوم نتائج زيارتها إلى دارفور, وخلصت فيها عن وجود "إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وتجاوزات", وذكرت أنَّ "شهوداً أبلغوها بوقوع حالات إغتصاب و(قتل جماعي) وجرائم رافقت الحرب" (الحياة 3/5/2004م).
كما نفى سيادة الوزير "صدور أى إدانة ضد الحكومة من مجلس الأمن بالرغم من عقدها إجتماعين في شأن دارفور". حسناً, كون أنَّ مجلس الأمن, كأعلى سلطة دولية, يخصص إجتماعين للبحث فى قضية دارفور ويتحقق من جرائم الحكومة فى ذلك تعتبر فى حدِّ ذاتها إدانة لها حتى وإن لم يصدر قرار بذلك, ولكن الشيئ الذى لم يرد الوزير الإشارة إليه هو أنَّ الموضوع ما زال طازجاً على طاولة مجلس الأمن فقد قال "لم تصدر إدانة واحدة, كل ما صدر هو مناشدة للمجتمع الدولي للمساهمة في هذه القضية الإنسانية وحدد مبالغ وطالب الحكومة بالتعاون معه, ونحن نتعامل معه بشفافية كاملة". لكنَّ دبلوماسياً بريطانياً وثيق الإطلاع رفض الكشف عن إسمه صرَّح قبل أيام قليلة أنَّ بلاده لم تصرف النظر بعد عن إحتمال طرح قضية دارفور على مجلس الأمن الدولي، مؤكدا أنَّ الأمر لا يزال قيد الدرس, وأشار إلى أنَّ وزيري الخارجية البريطانى جاك سترو والتنمية الدولية هيلاري بن أعربا مؤخراً لوزير الخارجية خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا عن قلق لندن البالغ لإنتهاكات حقوق الإنسان في دارفور وذلك «بعبارات قوية» (الشرق الأوسط 14/5/2004م), وأشارت مداخلات فى أركان نقاش السودانيين على الإنترنت إلى أنَّ تلك العبارات القوية قد صدرت فى شكل "توبيخ".
ودعماً لذلك فقد قالت منظمة «إنترناشونال كرايزس غروب» مؤخراً أنَّ الأمم المتحدة ستتخذ قرارا تهدد فيه السلطات السودانية بإستخدام القوة في دارفور إذا إستمر إستهداف المدنيين. وأوضح بيان للمنظمة أنَّ القرار الدولي الجديد «سيدين» الحكومة السودانية «لإنتهاكها القانون الدولي وإستهداف المدنيين من دون أي تمييز ومنع وصول المساعدات الإنسانية ومواصلة دعم الميليشيات شبه العسكرية المعروفة باسم جنجويد». وأشار البيان إلى أنَّ الأمم المتحدة «ستفرض حظرا على شحن السلاح وتدعو لعودة النازحين وتخويل فريق دولي عالي المستوى التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور». وذكر البيان أيضا أنَّ الأمين العام للأمم المتحدة سيقدم خلال ثلاثة أسابيع تقريرا إلى مجلس الأمن حول ما تم من تقدم بالنسبة لمسألة دارفور. وأوضحت المنظمة أنَّ القرار المنتظر «سيؤكد بوضوح في حال إستمرار الأزمة الإنسانية في دارفور ومواصلة التجاوزات ضد المدنيين وإعاقة وصول المساعدات الانسانية أنَّ المجلس سيسمح بإستخدام القوة المسلحة» في دارفور! (الشرق الأوسط 18/5/2004م). قولنا فى ذلك أنَّه حتى وإن إنصاعت الحكومة صاغرة لتهديدات مجلس الأمن ونفذت كل ما عليها فإنَّ ذلك لا يعفى من ضرورة تخويل فريق دولي عالي المستوى التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور, وعلى الحكومة ألاَّ تناكف حول ذلك, كعادتها دائماً, فإذا أرادت أن تبرئ ساحتها من إتهامات الإبادة والتصفية العرقية فلتسمح بوجود مثل ذلك التحقيق, وإلاَّ سينطبق عليها المثل العامى "الحرامى فى راسه ريشة".
ومن ناحية أخرى ذكر الوزير الهمام فى المقابلة أنَّ "أي جهة تريد توصيل مساعدات ليس بالضرورة ان تأتي عبر الخرطوم, وإذا أرادت سنفتح لها مطارات دارفور" (أ.هـ.), كلا ليس صحيحاً, فقد سعت الأمم المتحدة فى مطلع شهر مارس الماضى نقل المساعدات الإنسانية من تشاد إلى ولايات دارفور بصورة مشابهة لعمليات شريان الحياة في الجنوب, وبالفعل قام مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السفير توم إيريك فرالسن بزيارة للبلاد أجري خلالها محادثات مع رئيس الجمهورية ووزير الشؤون الإنسانية وبقية المسؤولين الحكوميين حول ذلك (الصحافة 10/3/2004م), إلاَّ أنَّ الحكومة رفضت وقالت إنَّ ممرات الإغاثة التي فتحتها الحكومة, إلي جانب إعلان الرئيس البشير إنتهاء العمليات العسكرية في دارفور، تؤكد دواعي رفض الحكومة لمقترح مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الانسانية (الصحافة 13/3/2004م), فكيف يدَّعى سيادة الوزير الهمام أنَّ يسمحون للجهات بتوصيل مواد الإغاثة حسب ما يطلبون؟
إنَّ رفض الحكومة إعطاء تصاريح المرور لمنظمات الإغاثة للعمل فى دارفور ظلَّت تمثل, ولوقت طويل, مصدر توتر دائم بينها من ناحية وبين تلك المنظمات وسفراء الدول المانحة بالخرطوم وأجهزة الأمم المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية ومنظمات حقوق الإنسان من ناحية أخرى, فقد أشار تقرير للجنة الأمم المتحدة التي زارات دارفور مؤخراً إنَّ الحكومة تستخدم تجويع النازحين في دارفور كسلاح ضدهم, وقال التقرير إنَّ نحو «1700» مواطن في قرية كولبس يعيشون ظروفاً مأساوية وان ما بين «8 إلى 9» أطفال يموتون يومياً (الشرق الأوسط 8/5/2004م), وتحدث نفس التقرير الذي حصلت وكالة فرانس برس على نسخة منه خصوصا عن "منع وصول المواد الغذائية في إطار إستراتيجية منهجية ومتعمدة فرضتها الحكومة السودانية وقواتها الأمنية على الأرض (أ.ف.ب. 7/5/2004م), وقد حذرت منظمة "أطباء بلا حدود" يوم الخميس الماضى فى بيان لها من أنَّ سكان منطقة دارفور المضطربة, وعددهم ستة ملايين نسمة, يتعرضون لخطر مجاعة كبرى, وإتهمت الحكومة والميليشيات الموالية لها (الجنجويد) بشن حملة تطهيرعرقي في دارفور تستهدف المدنيين رداً على تمرد بدأ في فبراير 2003م, كما إتهموها بإعاقة عمليات الإغاثة, وأضاف البيان إنَّ الاسوأ من ذلك أنَّ دراسة قاموا بها كشفت إنَّ خمسة بالمئة تقريباً من الأطفال دون سن الخامسة توفوا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة"! (المشاهير 20/5/2004م).
وكدليل آخر على تلكؤ الحكومة فى إستخراج تلك التصاريح بالسرعة المطلوبة لإنقاذ حياة الأبرياء فى دارفور هو إتهام واشنطن للحكومة بتعمد تأخير إصدار تصاريح المرور, وقد طالبت الولايات المتحدة الحكومة الحكومة فى منتصف شهر أبريل الماضى إلى منح تاشيرات فورية لفريقين تابعين للأمم المتحدة ليحققا في الفظائع المحتملة التي وقعت في دارفور (المشاهير 17/4/2004م), وكان إحدى الفريقين مكوناً من ثلاثة موظفين دوليين إبتعثتهم اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة إلى الأمم المتحدة إلى دارفور للتحقق من إتهامات بعمليات إنتهاكات لحقوق الانسان رافقت الحرب قد عاد إلى إلى جنيف من تشاد بعد تعذر دخولهم دارفور بعد أن قضوا عشرة أيام في تشاد بسبب رفض السلطات السودانية منحهم إذناًّ بالدخول, وذكر الموظفون في مؤتمر صحافي عقدوه في جنيف عقب عودتهم من إنجمينا أنَّهم إلتقوا آلاف اللاجئين السودانيين الذين فروا إلى تشاد وتطابقت إفاداتهم مع التقارير التي تلقوها عن خروقات وإنتهاكات لحقوق الإنسان شملت الإبعاد والتعذيب والإغتصاب والنهب، مشيرين إلى أنَّ مهمتهم في تشاد إستمرت من 5 إلى 14 أبريل الماضى، وكانوا يأملون في العبور إلى دارفور لإستقصاء المعلومات والتحقق من مزاعم التطهير العرقي لكنَّ الحكومة لم تسمح لهم (الصحافة 17/4/2004م).
وقد تكررت إحتجاجات الولايات المتحدة مؤخراً ضد هذا السلوك المشين والتلاعب بحياة الأبرياء فقد لامت الحكومة السودانية تسليم تصاريح مرور "غير صالحة" لموظفي المنظمات الإنسانية الأميركية الذين يريدون التوجه إلى منطقة دارفور، وتمنعهم في الواقع من مغادرة الخرطوم. وقال مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية آدم إيريلي أنَّ "أحد عشر شخصاً في الخرطوم تسلموا تصاريح مرور، لكن هذه التصاريح لم تكن صالحة إلاَّ لثلاثة أيام، فيما تطالب الحكومة بإبلاغها بالرحلة قبل 72 ساعة! بحيث تصبح التصاريح غير صالحة عندما يتسلمها العاملون في المجال الإنساني أو خلال قيامهم بمهمتهم". وأضاف "نحاول الآن الحصول على تصاريح لمدة أطول تمكن فعلياً من التوجه إلى دارفور" (المشاهير 18/5/2004م)
وفى منحى آخر تساءل الصحفى الذى أجرى اللقاء مع الوزير وقال "تقول إنَّه ليست هناك إدانات للحكومة, لكن ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والرئيس الأميركي جورج بوش كان أكثر من إدانة وتحذير للحكومة؟" فأجاب الوزير " أنان قال إنَّ معلومات وصلت إليه تشير إلى إمكان أن يكون هناك تطهير عرقي في دارفور ويخشى أن تتكرر تجربة رواندا. نحن الذين طلبنا منه إرسال وفد موريس, وبالفعل جاء ولم يجد تطهيراً عرقياً ولا إبادة جماعية, وإنما وجد حاجة إنسانية إتفقنا معه عليها. كل من يتهمنا نقول له تفضل وحقق. أليس هذا تعاملاً حضارياً. لا يوجد تطهير عرقي ولا إبادة جماعية. وما نسأله نحن للمنظمات هو: من الذي أبيد وأين؟ كل البعثات الدولية التي زارتنا توصلت إلى أربع قناعات هي أن التمرد هو الذي بدأ الحرب, ولا يوجد تطهير ولا إبادة, وإنما هناك حاجة ماسة إلى قضايا إنسانية يجب أن تعالج" (أ.هـ.). حسناً, هذا هو بيت القصيد من النفى المتكرر والقسم المغلَّظ لسيادة الوزير, وكما تزرع سوف تحصد, والحكومة بذرت بذرة خبيثة فى دارفور وتريد الآن أن ترمى جريرتها بغيرها, ولنعالج ذلك فى النقاط التالية:
(1) كما ذكرنا أعلاه, فإنَّ البعثة التى أوفدها مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمى لم تكن مهمتها التحقيق فى إتهامات الإبادة والتصفية العرقية, وإنَّما إنحصرت فقط فى تقييم الحاجات العاجلة من الإغاثة والمسائل الإنسانية, ولذلك فإنَّ حديث الوزير أعلاه من أنَّهم طلبوا إرسال تلك البعثة للتحقيق هو محض إختلاق عارى من الصحة.
(2) إعترف الوزير فى حديثه لمضيفه الصحفى, ولو بصورة ضمنية, عن مسؤولية الحكومة عن الجنجويد, وهى التى دربتهم وسلحتهم ومولتهم وأعطتهم الرتب العسكرية الإسمية والرواتب ومؤخراً العربات ذات الدفع الرباعى, وبالتالى فهى المسؤولة الأولى عن مجازر الجنجويد والتى يترتب عليها مسؤوليتها المباشرة عن حملات الإبادة والتصفية العرقية.
(3) إتَّهم وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جان إغلاند الحكومة السودانية بدعم مليشيات مسلحة تمارس التطهير العرقي في إقليم دارفور. وقد رفضت الحكومة السودانية تلك الإتهامات وإعتبرت ما ورد في تصريحات إغلاند "مبالغة"، وقالت إن مشكلة دارفور تم إفتعالها للتشويش على التقدم الذي تم إحرازه في مفاوضات السلام السودانية الجارية حاليا بمنتجع نيفاشا الكيني!! (الجزيرة نت 3/4/2004م).
(4) قال محققون معنيون بحقوق الإنسان تابعون للأمم المتحدة أنَّ القوات الحكومية السودانية وميليشيا عربية يطلق عليها إسم جنجاويد ترتكب إنتهاكات واسعة في منطقة دارفور قد تشكل جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية, وطلب برتران رامشاران القائم بأعمال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقرير "يدين" الحكومة السودانية بتشكيل لجنة تحقيق دولية لتحديد مرتكبي عمليات القتل والإغتصاب والنهب ضد ذوي الأصول الأفريقية في منطقة دارفور الواقعة بغرب السودان (سودانيز أون لاين 8/5/2004م).
(5) إنتقدت الحكومة بشدة التقارير التي أوردتها وكالة الأنباء الفرنسية عن الأمم المتحدة حول الأوضاع في دارفور والتي تتهم فيه الأمم المتحدة حكومة السودان بتعمد تجويع المدنيين في ولايات دارفور والقيام بحملة للتطهير العرقي وإنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في المنطقة (أخبار اليوم 9/5/2004م).
(6) تعلم الحكومة تمام العلم حرج المأزق التى وقعت فيه بسبب سياساتها القائمة على ضرب قبائل الهامش بعضها ببعض, وسياسة فرق تسد لتتسيد هى سنام السلطة ومجاميع الثروة دون مشاركة, وهى اليوم تستميت فى نكران كل ما إرتكبته وستظل تستميت فى ذلك إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولا.
ويمضى الصحفى نزار ضو النعيم ليضغط الوزيرعلى جراح حكومته النازفة فيسأله "ما هي علاقتكم بميليشات الجنجويد المتهمة بكل هذه الممارسات"؟ ولنقرأ مقتطفات من إجابات الوزير إن كان يشفى غليلاً:
"هذا التمرد بدأ في إطار إستراتيجية لإدارة الديموقراطيين في أميركا في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون وشاركتها فيها الحركة الشعبية (لتحرير السودان بقيادة جون قرنق) وتقوم على ضرورة إستمرار الحرب. هذا الأمر أكده لي مسؤولون أميركيون كبار! لأن توقف الحرب يعزز وضع الحكومة في الخرطوم. والهدف كان إما إسقاط الحكومة أو رضوخها وتلبيتها مطالبهم. التمرد فى دارفور إنطلق في بداية العام الماضي وبدأ بهجوم على مدينة كتم وذبحوا فيه قوات الشرطة ونهبوا الأسواق. بدأوا بطريقة عنصرية وإستهدفوا كل العناصر من خارج قبيلتهم. الحكومة حرصت على عدم الدخول في حرب وظلت لستة أشهر تتفاوض معهم وأرسلت إليهم وزراء من قبائلهم ومنهم التيجاني آدم الطاهر وزير البيئة وأحمد بابكر نهار وزير التعليم ومسار والي النيل وعدد من أبناء المنطقة. كان واضحاً ان خطتهم تقتضي إحتلال مدن وإحتلوا ثلاث مدن رئيسة هي الطينة وكرنوي وأمبرو. التمرد بدأ معتمداً على قبيلة الزغاوة فقط وأرادوا إدخال قبائل أخرى وبدأوا في إرهابها بالإغارة وفرض الأتاوات فوجدت القبائل نفسها أمام خيارين: إما أن تنضم إلى التمرد أو تنشئ ميليشيات تحميها من الغارات. وأنشأت هذه القبائل ميليشيات أصبحت قوية بسرعة مع إنتشار السلاح في دارفور إذ يأتيها من الدول المجاورة. وجاء هجوم المتمردين على مدينة الفاشر (كبرى مدن دارفور) وحاولوا ذبح كل من وجدوه من غير قبيلتهم. وباتت الحكومة في موقف صعب, فهي إما أن تترك التمرد والميليشيات يتمددان وتنتهي المنطقة إلى حرب أهلية, أو تتدخل وتحسم هذه القضية. وقرار تدخل الحكومة جاء في نهايات كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي, وكان هدفها التمرد وليس الميليشيات ولذلك أصبح أمام التمرد عدوان يحاربانه: الحكومة والميليشيات. الحكومة لا تحارب الميليشيات. لأنها لا تستهدفها, ولذلك بدا الأمر وكأن الحكومة تدعم الميليشيات وإذا أرادت الميليشيات مهاجمة التمرد, فإن الحكومة لا تتدخل!! الحكومة لم تدعم الميليشيات وصوبت باتجاه إنهاء التمرد. وإذا كانت الميليشيات تعمل في الاتجاه ذاته, فإننا لا ننكر ذلك! وعندما أخرجت الحكومة التمرد من كل المدن أعلنت وقف العمليات العسكرية وطلبت من أي جهة خارج القوات المسلحة إلتزام مكانها. وبدأت معالجة لسحب السلاح لكنها تتطلب وقتاً. ومن يريدون منا الآن وقف عمل الميليشيات يجب أن يعلموا ان ذلك غير ممكن لأنهم ينسون أن هناك تمرداً لا يزال يحمل السلاح ويهدد القبائل ومن الممكن أن تكون هناك عمليات انتقام.
جمع السلاح في دارفور يجب أن يكون من الجميع, وما لا يفهمه الغرب هو مطالبته الحكومة بجمع السلاح وترك المتمردين مع أسلحتهم وهذا أمر لن يحصل"! (أ.هـ.).
دعونا نعالج هذه الإدعاءات فى النقاط التالية:
(1) لم يبدأ الثوار ثورتهم بمهاجمة مدينة كتم كما أعلن سيادته, ويبدو أنَّه غير ملم البتة بمجريات النزاع فى دارفور ونراه يخلط الحقائق خلطاً وبصورة معيبة لشخص فى مكانته الوزارية, فالثوار أول ما بدأوا أعلنوا إنطلاق الثورة بعد إحتلالهم لبلدة "قولو" فى أعلى قمم جبل مرة فى 26 فبراير 2003م, ولم يتم الهجوم على مدينة كتم إلاَّ فى مطلع شهر سبتمبر, أى بعد حواى 5 أشهر من بدء الثورة.
(2) تجنب سيادته الإشارة إلى تواصل عمليات الدمار والقتل المستمر ضد قبيلة الفور وبقية القبائل الأفريقية منذ إنقلاب حكومته والذى أدى إلى هلاك أكثر من 7 ألف شخص وحرق ألاف القرى, وهو الأمر الذى دفع بالمهندس داؤود يحيى بولاد (وقد كان من قيادات الجبهة الإسلامية وأمينها العام فى محافظة جنوب دارفور) للإستعانة بالحركة الشعبية لإنقاذ أهله من إبادة محققة, فمن الذى بدأ هذا الحرب حقيقة؟
(3) ليس للإدارة الأمريكية السابقة دخل فى إشتعال الحرب, فمن المعروف أن حملة بولاد كانت قد إنطلقت من منطقة بحرالغزال فى شهر نوفمبر 1991م, أى فى عهد الرئيس الجمهورى الأسبق جورج بوش وتمَّ حسمها فى مطلع شهر يناير من العام التالى, أى قبل أن يستلم الرئيس بيل كلينتون والديمقراطيون الرئاسة فى العشرين من ذلك الشهر نفسه, أى أنَّ حملة بولاد سابق لمجئ الديمقراطيين, وبالتالى فإنَّ محاولة الوزير وصف ما يحدث اليوم فى دارفور بمؤامرة من الديمقراطيين, كما ورد فى المقابلة, هو وصف يجافى الحقيقة.
(4) قول الوزير أنَّ التمرد بدأ بقبيلة الزغاوة فقط مثال آخر يجافى الحقيقة أيضاً, فالثورة إنطلقت كما قلنا من جبل مرة أولاً على قاعدة عسكرية أساسها مقاتلين من شباب قبيلة الفور وعناصر من قبائل دارفورية مختلفة, ثمَّ تمَّ إعلانها بعد فترة فى منطقة كرنوى بدار الزغاوة, بل إنَّ العمليات العسكرية نفسها قد تصاعدت فى جبل مرة قبل أن تزحف رويداً رويداً إلى مناطق شمال وغرب دارفور, ولم يجبر الثوار أحداً للإنضمام إليهم بل كانوا يردون المئات من طلاب المدارس الذين يفدون للتطوع والقتال بجانبهم ويوصونهم بالتفرغ لدراستهم, ولم يمارسوا أى شكل من الأشكال فى إرهاب الأهالى بل كان الأهالى, وما زالوا, يتعاطفون معهم إينما إلتقوا بهم ويذبحون لهم ويمدونهم بالمعلومات وكل ما يعينهم لمواصلة النضال, بل إنَّ الكثير من سكان المدن والبلدات الكبيرة كانوا, وما زالوا, يمثلون عيوناً واعية للثوارعن تحركات القوات الحكومية, وقد إكتشفت الحكومة لاحقاً أنَّها لا تحارب الثوار فقط بل ومعظم أهل دارفور وذلك سبب هزائمها المستمرة.
(5) عند هجوم الثوار على مطار الفاشر فى 26 أبريل من العام الماضى لم يقتلوا إلاَّ العسكرين الذين قاوموهم, وبعد أن سيطروا على المدينة ذهبوا للسوق الكبير وإشتروا حاجياتهم من الأهالى بحرِّ مالهم, ولم ينهبوا أى متجر أو بنك, وعند خروجهم من المدينة توقفوا عند جامعة الفاشر فى الجانب الغربى منها وشربوا الشاى مع الطلاب وتحدثوا إليهم ووزعوا لهم مناشير تشرح قضيتهم ثمَّ إنصرفوا بأمان, أما المدنيين الذين ماتوا خلال تلك المعركة الخاطفة فقد ماتوا بطلقات الرصاص الطائشة منهم أثنان من جامعة الفاشر التى تقع إلى جوار مطار المدينة نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة.
(6) الحكومة جيَّشت الجنجويد منذ عام 1992م, بعد حسم حملة بولاد مباشرة, وأطلقتهم لإبادة قبيلة الفور تحديداً ولذلك كانت تلك المجازر التى تستمر إلى يومنا هذا.
(7) نلاحظ تناقض الوزير فى حديثه فهو يصف حملات الجنجويد كدفاع عن النفس بينما هم الذين يهاجمون القبائل أصحاب الأرض, ثمَّ يتبرأ منهم تارةً, ثمَّ يرجع ويصفهم وكأنهم يقاتلون إلى جانب قوات الحكومة ضد الثوار تارةً أخرى, والحقيقة المعروفة لكل أهل دارفور هى أنَّ الجنجويد لم يشتبكوا أبداً مع الثوار بل كانوا, وما زالوا, يتجنبونهم و يهربون بأسرع ما يملكون من دواب أو عربات عندما يحسون بوجودهم, ولم يحدث أبداً أنَّهم هزموا طوفاً من الثوار وإنَّما تخصصوا فى الإغارة على قرى الأهالى المسالمين وقتلهم وحرق قراهم وسلب حيواناتهم, وظلَّت الحكومة تغض الطرف عن كل ذلك إلى درجة أنَّه لم يحدث أبداً أنَّها أدانت تلك المجازر, أو أشارت إليها فى خطابها الرسمى, أو حتى حاولت السيطرة على مليشيات الجنجويد بل تركتهم يواصلون حملات الإبادة إلى هذه اللحظة.
ثمَّ تساءل الصحفى عمَّا إذا كان الظلم في دارفور وراء التمرد وليس الإستراتيجيات الدولية وخطط جون قرنق؟ فردَّ الوزير بأنَّه قال لوزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر إنَّ أكثر من جهة تتحمل مسؤولية التمرد, وأوروبا إحداها لأنها أوقفت أموال السودان بموجب اتفاقية لومي التي ربطت عودة التمويل بإحلال السلام في الجنوب فأفقرت مناطق السودان الأخرى. في الشرق أيضاً تمرد لأنها أيضاً تحس بأنها مهمشة, والكيانات التي بدأت تظهر في الشمال مثل كيان أبناء الشمال وكيان أبناء النوبة كلها تشكو من التهميش (أ.هـ.). هنا يحاول الوزير خلط الأوراق وتعميم القضية وجر العالم وإتفاقية لومى وربطها بقضية دارفور, إنَّها لمضحكة, فبدلاً عن الرد مباشرة عن الظلم والمظالم التى تعرض لها دارفور فى عهد حكومته نراه يحاول الهروب إلى الأمام ويلوي عنق الحقيقة, ثمَّ متى قام كيان الشمال هذا؟ وكما نتابع فى الصحف من أنَّها ما تزال فى أطوار البناء, وحتى إذا ما قام بالفعل فعلى ماذا سيحتج أعضاء ذلك الكيان وهم يعلمون جيداً أنَّ محاسيبهم فى الحكومة قد كوَّشوا على جل السلطة لصالح مناطقهم, وأنَّ موارد البترول التى تنتجه الجنوب والغرب تتدفق على الشمالية فى شكل طرق سريعة ومدن حديثة ومشاريع بليونية بينما تظل أراضى الجنوب والغرب تحمل مكامن البترول فى أحشائها ويقتلها الظمأ إلى مواردها؟ من هو المواطن فى هذه المناطق الذى سيقتنع بمغالطات الوزير هذا؟
أمَّا عن توزيع الثروة فقد قال الوزير "لا ننكر أن دارفور بحاجة الى تنمية وخدمات, والشرق كذلك. لذلك نحن نقول إن ذلك لا يستدعي حمل السلاح. أستطيع اعطاءك أمثلة كثيرة لما أنجز في دارفور في ظل هذه الحكومة. لم تكن هناك جامعة واحدة في دارفور. الآن هنالك 3 جامعات, وكذلك المدارس والطرق والجسور والخدمات هناك إنجازات كثيرة مقاربة بما كانت عليه الحال قبل الحكومة الحالية" (أ.هـ.). حسناً, هذه الجامعات التى أنشأتها الحكومة فى برنامجها "ثورة التعليم العالى" هى فى معظمها جامعات كرتونية, ولعلَّ الحكومة قد قصدت بها الكسب الإعلامى فقط ولا تريد أن تعترف بأنَّ معظمها فاشلة وأنَّ خريجوها سيحتاجون حتماً إلى إعادة تدريب مركَّز حتى يمكنهم المنافسة فى أسواق العمل أو مواصلة الدراسات العليا, أمَّا عن الطرق فعن أى طرق يتحدث عنها الوزير؟ لليوم دارفور مفصولة عن بقية مناطق السودان منذ أن خلق الله هذا الأرض, وعندما جمع المواطنون حر أموالهم وسلموها للحكومة لبناء الطريق "بهزقتها" لهم ومدت لهم لسانها, بل وطردت السيد أمين بنانى من الوزارة لأنَّه تطاول بالإحتجاج على ذلك, ولم يشفع له حتى نسابته لهم!
أمَّا في مجال المشاركة السياسية والسلطة فقد حاول الوزير التقليل مما جاء فى الكتاب الأسود, وليس له إلاَّ أن يفعل ذلك, وقال "تجد دارفور منذ الإستقلال وحتى قيام الحكومة الحالية كل نصيبها في الحكومة المركزية خمسة وزراء (الحمد لله), وفي الحكومة الحالية ستة من أبناء دارفور (اللَّهم زد وبارك), وقبيلة الزغاوة التي ينتمي اليها المتمردون وهي تمثل نحو 10 في المئة من سكان دارفور لها وزيران مركزيان".(أ.هـ.). هكذا يدار السودان, بينما عدد الوزراء بين شندى وحجر مشو يبلغ 27 وزيراً بالإضافة إلى الرئيس ونائبه وجُلِّ القيادات المتنفذة فى السلطات التشريعية والقضائية ومدراء البنوك ورؤساء تحرير الصحف وأجهزة الإعلام! وهناك 4 وزراء مركزيين متنفذين من قرية واحدة فقط! فى إقليم عدد سكانه لا يزيد عن نصف مليون! هذا حديث هراء. لكن هنا أيضاً توجد معضلة أساسية, فمعظم أبناء وسط شمال السودان النيلى يركزون فى حديثهم عن التهميش على التهميش التنموى بينما يوارون حقيقة أنَّهم ظلَّوا مسيطرين على السلطة منذ إستقلال البلاد, أى يحاولون إثارة غبار كثيف بهدف تعتيم الحديث عن هذه المسألة الشائكة, لكنَّهم يجب أن يدركوا اليوم أن الحساب سيكون ولد فى هذا الأمر وغيره من المطالب القومية, وربما كان هذا هو السر فى مطالبة المنادين بفصل "شمال السودان", لكن نعتقد بأنَّهم سيضيقون الخناق على أنفسهم فقط بهذه الفكرة السخيفة.
وعندما سأله الصحفى أنَّه طالما أنَّ الحركة الشعبية ستحصل على منصب نائب للرئيس, فما الذي يمنع منح منصب النائب الثاني لدارفور حتى يحس أهلها بالمشاركة في السلطة؟ فردَّ سيادته متسائلاً "لماذا نائب؟ لماذا لا نقول رئيس؟". " أنت تقول لماذا لا يكون لدارفور نائب للرئيس, أقول لك إنَّ من حقَّها أن تمثل بنائب رئيس ورئيس وزراء والرئيس لِمَ لا؟ "الكتاب الأسود" معلوماته خاطئة. لدينا إحصاء يقارن بين فترة الإنقاذ وكل العهود السابقة لها منذ الإستقلال. وسأعطيك أمثلة منها أن ولايات دارفور الثلاث أكثر الولايات حظاً في المشاركة في المناصب الدستورية ومن ذلك مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأفريقية و7 وزراء من أصل 30 وزيراً في الحكومة الاتحادية من دارفور, وكذلك هناك 4 ولاة وعضو في المحكمة الدستورية وآخر في المحكمة العليا ورؤساء لعدد من لجان البرلمان" (أ.هـ.). حسناً, لقد نسى الوزير حقائق كثيرة وإستمر يخلط الحقائق كما بدأ:
(1) نسى سيادته أن منصبه الوزارى نفسه والذى يتمتع به الآن ويتبجح من فوقه قد جاءته عن طريق المزايدة السياسية لا أكثر, وكان من المفترض أن يذهب إلى أحد أبناء الغرب, وسيادته يعرف ذلك جيداً وعايشها فى ظروف شغل حقيبتى نائب رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية بعد وفاة الزبير محمد صالح وسبب تلك المناكفات والمشاحنات التى حدثت بين الترابى والبشير حول ذلك, وقد سبق أن تعرضنا لها فى مقال مبكر.
(2) مسألة إبعاد أبناء الغرب من مراكز السلطة القوية والوزارات النافذة ظلَّت سياسة ثابتة فى نظام الإنقاذ, فحتى الفريق إبراهيم سليمان وزير الدفاع السابق لم يمكث فى منصبه الوزارى أكثر من شهور قليلة بالرغم من تفوق جدارته العسكرية حتى على البشير نفسه, والجدير بالذكر كان ذلك المنصب هو أعلى سقف وصله إبن من أبناء دارفور فى كل حكومات السودان منذ عهد "الخليفة عبدالله"! وربما الخليفة نفسه قد صار كبش فداء لذلك!!!
(3) ثمَّ جاءت مفاصلة رمضان بين الترابى والبشير ليتم قذف كل أبناء دارفور المنتمين للشعبى خارج نطاق السلطة, وحتى وزير الخارجية نفسه كان قد بادر بتقديم إستقالته خلال تلك المفاصلة أسوة بمحمد الأمين خليفة لكن الترابى طلب منه البقاء لشيئ فى نفسه, أما محمد الأمين خليفة فتمت الموافقة على إستقالته فوراً ثمَّ طُرد من منزله الحكومى بالبوليس ورموا له بعفشه إلى الشارع بطريقة ذليلة, بالرغم من أنَّه كان عضواً فى مجلس قيادة الثورة ورئيس المجلس الوطنى وقاد وفود التفاوض الأولى مع الحركة الشعبية فى أبوجا ولعب أدواراً مختلفة فى تثبيت نظام الإنقاذ, لكنَّه بالرغم من ذلك لقى جزاء سنمار.
(4) قوله أنَّ أهل دارفور يستحقون منصب نائب رئيس أو حتى رئيس الجمهورية يظلُّ "كلام جرايد" وليس أكثر من حديث عاهن, فقد نسى سيادته أنَّ رئيسه نفسه قد قال فى نفرة كلبس (أهل دارفور) إنَّ هؤلاء الناس عايزين السلطة ولا يشبهونها! (على عينك يا تاجر) إذاً كيف سيصعد شخص من أهل دارفور إلى منصب رئاسة الجمهورية فى ظلِّ هذا الفهم القاصر والذى لا يقتصر على الرئيس نفسه بل يشمل الكثير من نخبته ومحاسيبه.
(5) لأول مرة نسمع بشخص يشكك فى ما ورد من معلومات فى "الكتاب الأسود", هذا الكتاب الذى أصاب أهل وسط شمال السودان النيلى فى الصميم من حيث المشاركة فى السلطة, وظلُّ معلقاً فى حناجرهم وحلاقيمهم السمينة مثل شوكة الحوت, وهنا مرة أخرى نشاهد وزيرنا الهمام يحاول خلط الحقائق فنسى الإطار التاريخى أو الزمانى الذى حصر فيه الكتاب معلوماته, ثمَّ إنَّ هؤلاء الوزراء السبعة ومستشار رئيس الجمهورية الذى أشار إليهم لا يمثلون حقيقة أكثر من ركاب الدرجة الرابعة فى قطار حكومة الإنقاذ, وتمومة جرتق لا "يودون ولا يجيبون", بل ظلَّ بعضهم يمثل عالة على أهل دارفور وقضيتها أكثر من ولاءهم لها, وقد تمَّ تعيين غالبيتهم من باب إستدراج الولاء السياسى والرشوة السياسية أكثر من تعيين حقيقى, بينما تمَّ إختيار بعضهم كجزء من الفتات الوظيفى لحليف الحكومة الجديد حزب الأمة الإصلاح والتجديد, وإذا إستغنى النظام عن مبارك الفاضل, كما سيحدث حتماً, فسيتساقط هؤلاء الوزراء ومستشارهم الإفريقى مثل أوراق شجر الخريف.
(6) يقول وزير الخارجية أنَّ هناك 4 ولاة بينما دارفور فيها ثلاثة ولايات ولا ندرى من أين جاء بالوالى الرابع؟ وإذا إفترضنا أنَّه قد حسب الفريق إبراهيم سليمان معهم فلماذا تجاوز اللواء صلاح الغالى والى ولاية جنوب دارفور السابق, والعميد عبدالله صافى النور والى شمال دارفور الأسبق وغيرهم؟ هل يعى هذا الوزير بما يقول؟
(7) من سياسات الحكومة غير المكشوفة هى تفريغ أجهزة الأمن والجيش والمناصب الحسَّاسة من أبناء دارفور, وقد بدأ ذلك بطرد كل أبناء دارفور من الضباط من جهاز الأمن وكذلك فى الشرطة والقوات المسلَّحة, إنَّ هزيمة جيش النظام على أيدى الثوار فى ربوع دارفور سببه هو إرسال ضباط وجنود وموظفى أمن لا يعرفون شيئاً عن دارفور ولذلك مات منهم كثيرون بسبب ذلك, وربما يرجع سبب إقالة البشير للمدير العام لجهاز الإستخبارات اللواء عبدالكريم عبدالله فى نهاية شهر فبراير الماضى إلى ذلك, ومما يدعم قولنا أعلاه قول الوزير نفسه إنَّ عدد الذين ماتوا فى حرب دارفور لا يتجاوز الألف معظمهم من القوات المسلَّحة, وفى ذلك إعتراف ضمنى بهزيمة الجيش السودانى, والذى كما ذكرنا سابقاً قد تحول لأداة إخضاع لشعوب المناطق المهمشة لصالح قلة يتقلبون فى كراسى السلطة وينهشون فى لحم الثروة فى أبشع ممارسة وأنانية فى تاريخ السودان.
ثمَّ سأله الصحفى عن علاقة التمرد بالحركة الشعبية لتحرير السودان وماذا تقولون لهم عن دارفور أثناء مفاوضاتكم الحالية؟ وما معنى توقيع إتفاق سلام مع قرنق إذا كانت الحرب مستمرة في غرب البلاد؟ فأجاب سيادته: "نقول للحركة الشعبية ليس من المعقول أن نوقف الحرب في الجنوب ونشعلها في منطقة أخرى. ونقول لها إذا كنا نتفاوض الآن وسنكون في حكومة واحدة فالأولى أن نطفئ هذه الحرائق, ونقول لهم إنَّ لكم علاقة مع قيادات التمرد ويجب أن يكون دوركم إيجابياً في قضية دارفور وهي ليست بحاجة إلى حرب وإنَّما إلى خدمات وتنمية. ونقول إنَّ الحل المطروح في الجنوب لا ينطبق على دارفور, فهي لا تريد تقرير المصير" (أ.هـ.). على هذا نقول الآتى:
(1) يعلم الوزير تمام العلم إنَّ الحركة الشعبية مهتمة بقضية دارفور إلى الدرجة التى أنشأت لها مكتباً خاصاً تُعنى بقضية دارفور تابعة لرئيسها مباشرة, وأنَّ الحركة الشعبية قد أكدَّت مراراَ رغبتها فى إيجاد حل منصف لقضية دارفور, ففى شهر ديسمبر من العام الماضى عرضت الحركة الوساطة بين الحكومة وثوار دارفور وقال ياسرعرمان إن الجيش الشعبي على إتصال بالفعل بحركة تحرير السودان وسيظل خط الإتصال معها مفتوحاً (الجزيرة نت 8/12/2003م), وفى شهر يناير الماضى حضَّت الإدارة الأمريكية الحركة الشعبية والحكومة للمساهمة فى التوصل لحل سلمى لمشكلة دارفور وأبدى الدكتور جون قرنق عند لقائه مبعوث الرئيس الأميريكى السيناتور جون دانفورث فى نيفاشا إستعداده للمساهمة فى حل مشكلة دارفور(سودانايل 15/1/2004م), ثمَّ عرضت الحركة وساطتها مرة أخرى فى نهاية شهر أبريل الماضى وأعلن قرنق إستعداده للمساهمة في حل أزمة دارفور, وقال "نحن عنصر مهم في السياسة السودانية ولا يمكن تجاوزنا". كما أبلغ رئيس "حركة تحرير السودان" القائد عبدالواحد محمد أحمد النور خلال لقائهما الأخير في أسمرا إستعداده للمساهمة في حل مشكلة الإقليم, لكن مستشار الرئيس السوداني للشؤون السياسية الدكتور قطبي المهدي رفض ذلك العرض (الحياة 27/4/2004م), إلاَّ أنَّ الحزب الحاكم رحب به, وقال دكتور إبراهيم أحمد عمر الأمين العام للمؤتمر إن من حق أي سوداني المساعدة في حل مشكلة دارفور وإستتباب الأمن بالمنطقة (الرأى العام 29/4/2004م), هل كان سيادة الوزير متابع لكل ذلك؟
(2) أمَّا عن قوله إنَّ الحل المطروح في الجنوب لا ينطبق على دارفور وأنَّها لا تريد تقرير المصير فيجب أن ينتظر إلى أن يتم نقاش ذلك فى المفاوضات القادمة, لكنَّ حركة تحرير السودان سبقت أن طالبت بتطبيق نموذج إتفاق الجنوب على دارفور والشرق وذلك عبر رسالة مفتوحة موجَّهة إلى منظمة الإيغاد والوسطاء والحركة الشعبية قالت فيها: "وتثمن حركة/جيش تحرير السودان الرؤية الأميركية بتطبيق نموذج الحل فى جنوب السودان بين النظام والحركة الشعبية على كل المناطق المهمشة، وعلى وجه الخصوص فى دارفور وشرق السودان. وتدعو الحركة فى ذات الوقت إلى توزيع عائدات الموارد النفطية والموارد الأخرى بأسس عادلة تقوم على الكثافة السكانية لكل إقليم" (سودانايل 19/1/2004م).
وفى سؤال أخير سأله الصحفى عن كيف سيتم إستيعاب قضية دارفور؟ فأجاب الوزير "سيتم البحث في جسم يكون مسؤولاً عن تنفيذ الإتفاق ويجعله شأناً قومياً ويعطيه ضمانات الإستمرار وحسن التنفيذ وبناء الثقة. وقضية دارفور تعالج في إطارين: الأول إنساني وأمني وما سرنا فيه الآن (وقف النار وبدء الحوار) سيؤسس لوضع مستقر في إنتظار المعالجة السياسية وهي الإطار الثاني. فرق المراقبة الإفريقية وصلت الى البلاد, وبالتالي فإن الإتهامات بلا سبب ستكون صعبة وتجربتنا في جبال النوبة ناجحة جداً" (أ.هـ.). بدورنا نقول إنَّ المعالجات لا يمكن أن تتم بصورة فوقية, ونتيجة لما حدث فى دارفور, وما يزال, يجب على الحكومة أن تتعلم الدرس وهو عدم إمكانيتها فرض أى حل تراها على أهل دارفور, ولذلك من الأجدى لها أن تفكر فى النقاط التالية:
(1) السماح وفتح الأبواب لتحقيق دولى فى إتهامات المجازر والتصفية العرقية على غرار ما جرى فى البوسنة وكوسوفو, فالإنكار غير المسنود لن يجدى والإعتماد على فرق تحقيق محلية سوف لن تستجيب للشكوك العالمية المتزايدة, وشكوك أهل دارفور خاصة, وسلوك الحكومة نفسها فى مثل هذه المجالات تمثل مبعث ريبة وشكوك قوية, ولعلَّ موقف منظمة العفو الدولية من لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف كانت واضحة فقد طالبت المنظمة بالإستقلالية التامة لأى لجنة للتحقيق في مآسى دارفور, وأعربت عن أملها بأن تكون اللجنة ذات مصداقية وأن تحقق في كل التجاوزات المرتكبة "بما فيها التي إرتكبتها الحكومة", وجددت في بيان لها إتهامها للحكومة بأنها "أفسحت في المجال" أمام المليشيات المعروفة باسم الجنجويد لمهاجمة قرى القبائل من أصل أفريقي في دارفور (الجزيرة نت 15/5/2004م). وبالرغم من إحترامنا لشخصية مولانا دفع الله الحاج يوسف إلاَّ أنَّه يُعتبر من الكوادر القوية للجبهة الإسلامية القومية وقد عمل ممثلاً عنها كوزير للتربية والتوجيه فى أحد حكومات مايو, وكل ذلك قد يمثل مصدر شك قوى فى حيادية اللجنة التى يرأسها بالرغم من وجود شخصيات أخرى نزيهة فيها مثل المحامى غازى صلاح الدين, لكن الإيد الواحدة لا تصفق.
(2) تظلُّ مسألة الضمانات لأى إتفاق سياسى لها من الأهمية لما للإتفاق نفسه, وإلاَّ فسيظلُّ الإتفاق حبراً على ورق, ولا نعتقد أن يكون هناك ضامناً أوثق من الدول النافذة والأمم المتحدة, وسجل الحكومة معروف فى مجال العهود والمواثيق.
لقد ظلَّ هذا الوزير, ومنذ فترة ليست بالبعيدة, يطلق التصريحات العشوائية بحق قضية أهل دارفور ويلفق الحقائق بطريقة أشبه بالثرثرة أو الهذيان, مخالفاً أصول السلوك الدبلوماسى الرصين والركون إلى الحكمة واللباقة فى التعبير, خاصة فى المسائل الحسَّاسة التى تتعلق بأرواح البشر, وهم للأسف بشر من مواطنيه, إن كان يعترف بذلك, وقد كرر حديثه أعلاه وزاد عليه فى مقابلة صحفية مماثلة أجرتها معه جريدة "الزمان" اللندنية (15/5/2004م), وزَّع فيها النفى والتلفيقات يميناً ويسارا, ثمَّ إنَّ الإنكار المتكرر بشأن شواهد حيَّة ومعايشة لا تخدم قط قضية معقدة مثل قضية دارفور, وإذا إقتصرت زيارات الوفود الدولية على المدن الرئيسية الثلاثة بالإقليم, وهى ما تريده الحكومة, فإنَّ القرى والمناطق التى أخليت من سكانها ستمثل دليلاً بالغاً للإبادة والتصفية العرقية, فلماذا لا يترك الوزير تلك الفرق تجوب أرجاء دارفور الواسعة بحرية كاملة؟ وممَّاذ تخشى الحكومة وراء ذلك؟ لكن يظلُّ كل ذلك آفة من آفات حكومة الإنقاذ التى مكنت لأناس كثيرين من المتسلقين عديمى التجربة والدراية بالعمل الدبلوماسى القفز إلى أعلى المناصب الحسَّاسة دون أى تَرَقِى أو ممارسة فعلية للعمل الدبلوماسى الناضج فراحوا يعيثون فيها عوث الثور فى مستودع الخزف.
(1/2)
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
دعا الدكتور مواكيش كابيلا, المنسق السابق للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالسودان إلى تشكيل محاكم لنظر جرائم الحرب لمحاكمة مسؤولين فى الحكومة السودانية عن حالات الإغتصاب والنهب والقتل في القرى الإفريقية في منطقة دارفور، متهما الدولة بالتواطؤ في تلك الجرائم ومشبهاً الصراع في دارفور بحملة الابادة الجماعية في رواندا عام 1994م, وقال «لا توجد أسرار.. الأفراد الذين يفعلون هذا معروفون, لدينا أسماؤهم». وأضاف في مقابلة مع وكالة رويترز «الأفراد الضالعون في هذه الجرائم يشغلون مناصب رفيعة» (رويترز 25/3/2004م), ووصف أعمال العنف بأنها «تطهير عرقي»، وقال إنَّ أغلبها ترتكبه الميليشيات المعروفة بإسم الجنجويد، وان هذه الميليشيات تحظى بدعم القوات الحكومية. وأضاف «ولا يسع المرء في ظل هذه الملابسات سوى أن يستنتج أن هذه الاعمال تتم بموافقة الدولة», وأضاف "إنَّ الوضع الأمثل هو أن تحاكم الخرطوم المسؤولين عن العنف بنفسها لكنها لم تفعل ذلك، ومن ثم فمن واجب المجتمع الدولي أن يقوم بهذه المهمة" (المشاهير 26/3/2004م), وقد كرر ذلك فى مقابلة أخرى بقوله "لا أرى ما يمنع المجتمع الدولي من النظر في إنشاء محكمة أو آلية دولية ما لتقديم الأفراد الذين يدبرون جرائم الحرب فى دارفور ويرتكبونها للمحاكمة" (الشرق الأوسط 28/3/2004م).
مباشرة, ودون هوادة, شنت الحكومة حملة شعواء على تصريحات الرجل ونعتته بكل ما تملكها من عبارات الكذب والنفاق والزور والبهتان, بل وأبلغت الأمم المتحدة بسحبه من البلاد بإعتباره شخصاً غير مرغوب فيه, ثمَّ إخرجت فريَّة للصحافة المحليَّة بأن كابيلا قد تراجع عن تصريحاته فى محاولة يائسة لقلب الحقائق, ولمَّا كان الرجل بالأساس قد إنتهت فترة إنتدابه بالبلاد فقد غادرها إلى نيويورك حيث واصل إداناته ضد الحكومة السودانية و أبلغ مجلس الأمن والسكرتير العام للأمم المتحدة بشهادته. أما فى الخرطوم فقد ظلت تصريحات مسؤولى الحكومة, خاصة وزير خارجيتنا الهمام, تتوالى وتنفى بطريقة هستيرية عدم وجود إبادة وتصفية عرقية أو أى علاقة إرتباط بين الحكومة ومليشيات الجنجويد بل ونعتتهم بأنَّهم خارجون عن القانون.
حسناً.
لم يمض سوى أسابيع قليلة إلاَّ ويفاجئنا وزير الخاجية معترفاً بعلاقة حكومته بتلك الجماعات, بل ومؤكداً إلتزام حكومته بحمايتهم والحفاظ على وجودهم ربما لهدف إستراتيجى, فقد قال فى مقابلة مع جريدة الحياة اللندنية "من يريدون منا الآن (وقف عمل) الميليشيات (أى الجنجويد) يجب أن يعلموا أنَّ ذلك غير ممكن لأنهم ينسون أنَّ هناك تمرداً لا يزال يحمل السلاح ويهدد القبائل ومن الممكن أن تكون هناك عمليات إنتقام" (الحياة 13/5/2004م) (أ.هـ.). عبارتان محوريتان ننتبه لهما هنا: (وقف عمل المليشيات, وعمليات إنتقام), عمليات إنتقام على ماذا؟ هل هذا إعتراف ضمنى بوجود تصفيات عرقية وإبادة؟
حديث المغالطات فى المقابلة الصحفية لجريدة الحياة مع وزير الخارجية:
سوفى نبنى هذا المقال على ضوء المقابلة الصحفية التى أجراها الصحفى نزار ضو النعيم من جريدة الحياة اللندنية مع الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير خارجية حكومة السودان ونشرتها الصحيفة بتاريخ 13/5/2004م, والتى تركت صدىً لدى أبناء دارفور والمهتمين بأمرها وكشفت عن مغالطات مقلقة يعيشها الوزير وحكومته حيال قضية دارفور بصورة شاملة. وسنركز فى جلِّ مقالنا هذا فى الرد على حديث الوزير ثمَّ نحاول تحليل الدور الإستراتيجى الذى بات يمثله مليشيات الجنجويد فى دائرة سياسة الحكومة حيال دارفور.
لقد مضى الوزير فى تلك المقابلة ليؤكد ما ظللنا نؤكده دوماً, ويعرفه كل أهل دارفور, من العلاقة الوثيقة بين الحكومة السودانية بالجنجويد, إذ قال إنَّ حكومته تستهدف المتمردين في ولاية دارفور وليس الميليشيات! "لذلك بدا الأمر وكأن الحكومة تدعم الميليشيات (أى الجنجويد)" (أ.هـ.), بعبارة أخرى أراد الوزير أن يقول إنَّ حكومته لا يهمها أمر الجنجويد ولا تهتم بما يقومون به من إبادة وتصفية عرقية ولكنها تحارب المتمردين, وإذا شارك الجنجويد إلى جانب القوات الحكومية فى قتال المتمردين وتدمير ديار قبائل الزرقة, وهم بالفعل مستأجرين ومأمورين لفعل ذلك, فلا بأس!
وإشترط الوزير في حديثه لزوم "نزع سلاح المتمردين لنزع سلاح الميليشيات (أى الجنجويد)"! هكذا, وعلى عينك يا تاجر! إذاً تحولت مسألة نزع سلاح الجنجويد إلى عملية مساومة وإبتزاز وهى صفات رضعت هذه الحكومة لبنها منذ لحظة مولدها, ثمَّ كيف ستنزع الحكومة سلاح الجنجويد إن لم تكن مسيطرة عليهم بالفعل بل ومتحالفة معهم؟ فإذا كان فاقد الشيئ لا يعطيه فإنَّ الحكومة تبدو وكأنَّ يديها مليانة بالجنجويد تتعاطى معهم وبهم ذات اليمين وذات الشمال وتحركهم كيفما شاءت ولأى غرض كان, ثمَّ من يضمن أن هذه الحكومة ستنزع سلاح الجنجويد بعد أن يسلم المتمردون أسلحتهم؟ بل من يضمن بالأساس أن تقوم الحكومة ذاتها بتوجيه تلك القوات المجرمة للقضاء على ما تبقى من أهل دارفور, من القبائل التى تحاربها مثلما ظلت تفعل منذ إستيلائها على السلطة؟ لقد تصدى بعض المواطنين الشجعان لموسى هلال قائد فرقة الجنجويد التى أغارت على مدينة كتم فى مطلع شهر أغسطس من العام الماضى وهددوه بأنَّهم سوف يُبلِّغون والى ولاية شمال دارفور بإنتهاكاته للمدينة فسخر منهم وقال لهم: "نحنا ما بنستلم الأوامر من واليكم, نحنا الأوامر بتجينا من فوق, من الخرتوم"!! وقد تأكد ذلك عقب هجوم آخر شنته فرقة مكونَّة من الجنجويد مدعومة بسلاح الجو السودانى على مدينة طويلة, غرب الفاشر, تلك الغارة التى تمَّ فيها إغتصاب مائة فتاة, بعضهنَّ أمام أسرهنَّ, وفرَّ أكثر من 150 ألفاً من المواطنين فى كل الإتجاهات حيث وصل بعضهم إلى مدينة الفاشر لكنَّ قوات الجيش منعتهم من دخول المدينة, ولما وجدوا فرصة لتبليغ ما حدث لنفس الوالى قال لهم بأنَّه ليس لديه أى سيطرة على الجنجويد وبالتالى لا يستطيع فعل شيئ لهم!! وهناك أمثلة كثيرة وروايات متعددة فى هذا المجال مما يكشف تورط الحكومة حتى رقبتها فى ما حدث من إبادة للسكان الأبرياء.
ويمضى وزير الخارجية فى مقابلته المطوَّلة مع جريدة الحياة اللندنية ليطلق الحديث على عواهنه, ويبدو سعيداً بذلك وهو يردد حديثة فى لذة ملموسة, فيقول رداً على سؤال بشأن توالى صدور نداءات عالمية تستنكر الحرب فى دارفور وتحمل الحكومة المسؤولية عنها؟ بأنَّهم فى الحكومة يتعاملون مع هذه النداءات بشفافية! وقد "إستقبلنا بعثتين واحدة من مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس وهي زارت ولاية دارفور وحققت وإنتهت إلى أنَّ هناك كارثة إنسانية تحتاج إلى تعامل سريع من المجتمع الدولي بتوفير الحاجات, ومن حكومة السودان بفتح الممرات وتأمين المواطنين والمساعدة في وصول الإغاثة. تعاملنا مع الأمر بشفافية" (أ.هـ.), لكنَّ البعثة التى أوفدتها مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمى لم تكن مهمتها التحقيق فى إتهامات الإبادة والتصفية العرقية وإنَّما إنحصرت فى تقييم الحاجات العاجلة من الإغاثة والمسائل الإنسانية, وقد توصلت اللجنة إلى حقيقة أنَّ الأوضاع في الإقليم تعتبر أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم, وصرَّح موريس أنَّ "هناك أكثر من مليون نازح في حال بائس وأوضاع إنسانية مزرية, ووصف ما يحدث في دافور بأنه أسوأ كارثة إنسانية في العالم, وطالب الحكومة بتوفير الحماية والأمن للمدنيين, وذكر أن النازحين "يمكنهم العودة إلى ديارهم لكنهم يشكون من إنعدام الأمن والغارات من ميليشيات غير نظامية (الجنجويد)" (الحياة 3/5/2004م), وقد أكد على ذلك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فرانسلن الذى شاركه الحديث في مؤتمر صحافي, وقد أثارت بعثة أخرى من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مع المسؤولين في الخرطوم نتائج زيارتها إلى دارفور, وخلصت فيها عن وجود "إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وتجاوزات", وذكرت أنَّ "شهوداً أبلغوها بوقوع حالات إغتصاب و(قتل جماعي) وجرائم رافقت الحرب" (الحياة 3/5/2004م).
كما نفى سيادة الوزير "صدور أى إدانة ضد الحكومة من مجلس الأمن بالرغم من عقدها إجتماعين في شأن دارفور". حسناً, كون أنَّ مجلس الأمن, كأعلى سلطة دولية, يخصص إجتماعين للبحث فى قضية دارفور ويتحقق من جرائم الحكومة فى ذلك تعتبر فى حدِّ ذاتها إدانة لها حتى وإن لم يصدر قرار بذلك, ولكن الشيئ الذى لم يرد الوزير الإشارة إليه هو أنَّ الموضوع ما زال طازجاً على طاولة مجلس الأمن فقد قال "لم تصدر إدانة واحدة, كل ما صدر هو مناشدة للمجتمع الدولي للمساهمة في هذه القضية الإنسانية وحدد مبالغ وطالب الحكومة بالتعاون معه, ونحن نتعامل معه بشفافية كاملة". لكنَّ دبلوماسياً بريطانياً وثيق الإطلاع رفض الكشف عن إسمه صرَّح قبل أيام قليلة أنَّ بلاده لم تصرف النظر بعد عن إحتمال طرح قضية دارفور على مجلس الأمن الدولي، مؤكدا أنَّ الأمر لا يزال قيد الدرس, وأشار إلى أنَّ وزيري الخارجية البريطانى جاك سترو والتنمية الدولية هيلاري بن أعربا مؤخراً لوزير الخارجية خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا عن قلق لندن البالغ لإنتهاكات حقوق الإنسان في دارفور وذلك «بعبارات قوية» (الشرق الأوسط 14/5/2004م), وأشارت مداخلات فى أركان نقاش السودانيين على الإنترنت إلى أنَّ تلك العبارات القوية قد صدرت فى شكل "توبيخ".
ودعماً لذلك فقد قالت منظمة «إنترناشونال كرايزس غروب» مؤخراً أنَّ الأمم المتحدة ستتخذ قرارا تهدد فيه السلطات السودانية بإستخدام القوة في دارفور إذا إستمر إستهداف المدنيين. وأوضح بيان للمنظمة أنَّ القرار الدولي الجديد «سيدين» الحكومة السودانية «لإنتهاكها القانون الدولي وإستهداف المدنيين من دون أي تمييز ومنع وصول المساعدات الإنسانية ومواصلة دعم الميليشيات شبه العسكرية المعروفة باسم جنجويد». وأشار البيان إلى أنَّ الأمم المتحدة «ستفرض حظرا على شحن السلاح وتدعو لعودة النازحين وتخويل فريق دولي عالي المستوى التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور». وذكر البيان أيضا أنَّ الأمين العام للأمم المتحدة سيقدم خلال ثلاثة أسابيع تقريرا إلى مجلس الأمن حول ما تم من تقدم بالنسبة لمسألة دارفور. وأوضحت المنظمة أنَّ القرار المنتظر «سيؤكد بوضوح في حال إستمرار الأزمة الإنسانية في دارفور ومواصلة التجاوزات ضد المدنيين وإعاقة وصول المساعدات الانسانية أنَّ المجلس سيسمح بإستخدام القوة المسلحة» في دارفور! (الشرق الأوسط 18/5/2004م). قولنا فى ذلك أنَّه حتى وإن إنصاعت الحكومة صاغرة لتهديدات مجلس الأمن ونفذت كل ما عليها فإنَّ ذلك لا يعفى من ضرورة تخويل فريق دولي عالي المستوى التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور, وعلى الحكومة ألاَّ تناكف حول ذلك, كعادتها دائماً, فإذا أرادت أن تبرئ ساحتها من إتهامات الإبادة والتصفية العرقية فلتسمح بوجود مثل ذلك التحقيق, وإلاَّ سينطبق عليها المثل العامى "الحرامى فى راسه ريشة".
ومن ناحية أخرى ذكر الوزير الهمام فى المقابلة أنَّ "أي جهة تريد توصيل مساعدات ليس بالضرورة ان تأتي عبر الخرطوم, وإذا أرادت سنفتح لها مطارات دارفور" (أ.هـ.), كلا ليس صحيحاً, فقد سعت الأمم المتحدة فى مطلع شهر مارس الماضى نقل المساعدات الإنسانية من تشاد إلى ولايات دارفور بصورة مشابهة لعمليات شريان الحياة في الجنوب, وبالفعل قام مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السفير توم إيريك فرالسن بزيارة للبلاد أجري خلالها محادثات مع رئيس الجمهورية ووزير الشؤون الإنسانية وبقية المسؤولين الحكوميين حول ذلك (الصحافة 10/3/2004م), إلاَّ أنَّ الحكومة رفضت وقالت إنَّ ممرات الإغاثة التي فتحتها الحكومة, إلي جانب إعلان الرئيس البشير إنتهاء العمليات العسكرية في دارفور، تؤكد دواعي رفض الحكومة لمقترح مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الانسانية (الصحافة 13/3/2004م), فكيف يدَّعى سيادة الوزير الهمام أنَّ يسمحون للجهات بتوصيل مواد الإغاثة حسب ما يطلبون؟
إنَّ رفض الحكومة إعطاء تصاريح المرور لمنظمات الإغاثة للعمل فى دارفور ظلَّت تمثل, ولوقت طويل, مصدر توتر دائم بينها من ناحية وبين تلك المنظمات وسفراء الدول المانحة بالخرطوم وأجهزة الأمم المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية ومنظمات حقوق الإنسان من ناحية أخرى, فقد أشار تقرير للجنة الأمم المتحدة التي زارات دارفور مؤخراً إنَّ الحكومة تستخدم تجويع النازحين في دارفور كسلاح ضدهم, وقال التقرير إنَّ نحو «1700» مواطن في قرية كولبس يعيشون ظروفاً مأساوية وان ما بين «8 إلى 9» أطفال يموتون يومياً (الشرق الأوسط 8/5/2004م), وتحدث نفس التقرير الذي حصلت وكالة فرانس برس على نسخة منه خصوصا عن "منع وصول المواد الغذائية في إطار إستراتيجية منهجية ومتعمدة فرضتها الحكومة السودانية وقواتها الأمنية على الأرض (أ.ف.ب. 7/5/2004م), وقد حذرت منظمة "أطباء بلا حدود" يوم الخميس الماضى فى بيان لها من أنَّ سكان منطقة دارفور المضطربة, وعددهم ستة ملايين نسمة, يتعرضون لخطر مجاعة كبرى, وإتهمت الحكومة والميليشيات الموالية لها (الجنجويد) بشن حملة تطهيرعرقي في دارفور تستهدف المدنيين رداً على تمرد بدأ في فبراير 2003م, كما إتهموها بإعاقة عمليات الإغاثة, وأضاف البيان إنَّ الاسوأ من ذلك أنَّ دراسة قاموا بها كشفت إنَّ خمسة بالمئة تقريباً من الأطفال دون سن الخامسة توفوا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة"! (المشاهير 20/5/2004م).
وكدليل آخر على تلكؤ الحكومة فى إستخراج تلك التصاريح بالسرعة المطلوبة لإنقاذ حياة الأبرياء فى دارفور هو إتهام واشنطن للحكومة بتعمد تأخير إصدار تصاريح المرور, وقد طالبت الولايات المتحدة الحكومة الحكومة فى منتصف شهر أبريل الماضى إلى منح تاشيرات فورية لفريقين تابعين للأمم المتحدة ليحققا في الفظائع المحتملة التي وقعت في دارفور (المشاهير 17/4/2004م), وكان إحدى الفريقين مكوناً من ثلاثة موظفين دوليين إبتعثتهم اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة إلى الأمم المتحدة إلى دارفور للتحقق من إتهامات بعمليات إنتهاكات لحقوق الانسان رافقت الحرب قد عاد إلى إلى جنيف من تشاد بعد تعذر دخولهم دارفور بعد أن قضوا عشرة أيام في تشاد بسبب رفض السلطات السودانية منحهم إذناًّ بالدخول, وذكر الموظفون في مؤتمر صحافي عقدوه في جنيف عقب عودتهم من إنجمينا أنَّهم إلتقوا آلاف اللاجئين السودانيين الذين فروا إلى تشاد وتطابقت إفاداتهم مع التقارير التي تلقوها عن خروقات وإنتهاكات لحقوق الإنسان شملت الإبعاد والتعذيب والإغتصاب والنهب، مشيرين إلى أنَّ مهمتهم في تشاد إستمرت من 5 إلى 14 أبريل الماضى، وكانوا يأملون في العبور إلى دارفور لإستقصاء المعلومات والتحقق من مزاعم التطهير العرقي لكنَّ الحكومة لم تسمح لهم (الصحافة 17/4/2004م).
وقد تكررت إحتجاجات الولايات المتحدة مؤخراً ضد هذا السلوك المشين والتلاعب بحياة الأبرياء فقد لامت الحكومة السودانية تسليم تصاريح مرور "غير صالحة" لموظفي المنظمات الإنسانية الأميركية الذين يريدون التوجه إلى منطقة دارفور، وتمنعهم في الواقع من مغادرة الخرطوم. وقال مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية آدم إيريلي أنَّ "أحد عشر شخصاً في الخرطوم تسلموا تصاريح مرور، لكن هذه التصاريح لم تكن صالحة إلاَّ لثلاثة أيام، فيما تطالب الحكومة بإبلاغها بالرحلة قبل 72 ساعة! بحيث تصبح التصاريح غير صالحة عندما يتسلمها العاملون في المجال الإنساني أو خلال قيامهم بمهمتهم". وأضاف "نحاول الآن الحصول على تصاريح لمدة أطول تمكن فعلياً من التوجه إلى دارفور" (المشاهير 18/5/2004م)
وفى منحى آخر تساءل الصحفى الذى أجرى اللقاء مع الوزير وقال "تقول إنَّه ليست هناك إدانات للحكومة, لكن ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والرئيس الأميركي جورج بوش كان أكثر من إدانة وتحذير للحكومة؟" فأجاب الوزير " أنان قال إنَّ معلومات وصلت إليه تشير إلى إمكان أن يكون هناك تطهير عرقي في دارفور ويخشى أن تتكرر تجربة رواندا. نحن الذين طلبنا منه إرسال وفد موريس, وبالفعل جاء ولم يجد تطهيراً عرقياً ولا إبادة جماعية, وإنما وجد حاجة إنسانية إتفقنا معه عليها. كل من يتهمنا نقول له تفضل وحقق. أليس هذا تعاملاً حضارياً. لا يوجد تطهير عرقي ولا إبادة جماعية. وما نسأله نحن للمنظمات هو: من الذي أبيد وأين؟ كل البعثات الدولية التي زارتنا توصلت إلى أربع قناعات هي أن التمرد هو الذي بدأ الحرب, ولا يوجد تطهير ولا إبادة, وإنما هناك حاجة ماسة إلى قضايا إنسانية يجب أن تعالج" (أ.هـ.). حسناً, هذا هو بيت القصيد من النفى المتكرر والقسم المغلَّظ لسيادة الوزير, وكما تزرع سوف تحصد, والحكومة بذرت بذرة خبيثة فى دارفور وتريد الآن أن ترمى جريرتها بغيرها, ولنعالج ذلك فى النقاط التالية:
(1) كما ذكرنا أعلاه, فإنَّ البعثة التى أوفدها مجلس الأمن برئاسة جيمس موريس المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمى لم تكن مهمتها التحقيق فى إتهامات الإبادة والتصفية العرقية, وإنَّما إنحصرت فقط فى تقييم الحاجات العاجلة من الإغاثة والمسائل الإنسانية, ولذلك فإنَّ حديث الوزير أعلاه من أنَّهم طلبوا إرسال تلك البعثة للتحقيق هو محض إختلاق عارى من الصحة.
(2) إعترف الوزير فى حديثه لمضيفه الصحفى, ولو بصورة ضمنية, عن مسؤولية الحكومة عن الجنجويد, وهى التى دربتهم وسلحتهم ومولتهم وأعطتهم الرتب العسكرية الإسمية والرواتب ومؤخراً العربات ذات الدفع الرباعى, وبالتالى فهى المسؤولة الأولى عن مجازر الجنجويد والتى يترتب عليها مسؤوليتها المباشرة عن حملات الإبادة والتصفية العرقية.
(3) إتَّهم وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جان إغلاند الحكومة السودانية بدعم مليشيات مسلحة تمارس التطهير العرقي في إقليم دارفور. وقد رفضت الحكومة السودانية تلك الإتهامات وإعتبرت ما ورد في تصريحات إغلاند "مبالغة"، وقالت إن مشكلة دارفور تم إفتعالها للتشويش على التقدم الذي تم إحرازه في مفاوضات السلام السودانية الجارية حاليا بمنتجع نيفاشا الكيني!! (الجزيرة نت 3/4/2004م).
(4) قال محققون معنيون بحقوق الإنسان تابعون للأمم المتحدة أنَّ القوات الحكومية السودانية وميليشيا عربية يطلق عليها إسم جنجاويد ترتكب إنتهاكات واسعة في منطقة دارفور قد تشكل جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية, وطلب برتران رامشاران القائم بأعمال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقرير "يدين" الحكومة السودانية بتشكيل لجنة تحقيق دولية لتحديد مرتكبي عمليات القتل والإغتصاب والنهب ضد ذوي الأصول الأفريقية في منطقة دارفور الواقعة بغرب السودان (سودانيز أون لاين 8/5/2004م).
(5) إنتقدت الحكومة بشدة التقارير التي أوردتها وكالة الأنباء الفرنسية عن الأمم المتحدة حول الأوضاع في دارفور والتي تتهم فيه الأمم المتحدة حكومة السودان بتعمد تجويع المدنيين في ولايات دارفور والقيام بحملة للتطهير العرقي وإنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في المنطقة (أخبار اليوم 9/5/2004م).
(6) تعلم الحكومة تمام العلم حرج المأزق التى وقعت فيه بسبب سياساتها القائمة على ضرب قبائل الهامش بعضها ببعض, وسياسة فرق تسد لتتسيد هى سنام السلطة ومجاميع الثروة دون مشاركة, وهى اليوم تستميت فى نكران كل ما إرتكبته وستظل تستميت فى ذلك إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولا.
ويمضى الصحفى نزار ضو النعيم ليضغط الوزيرعلى جراح حكومته النازفة فيسأله "ما هي علاقتكم بميليشات الجنجويد المتهمة بكل هذه الممارسات"؟ ولنقرأ مقتطفات من إجابات الوزير إن كان يشفى غليلاً:
"هذا التمرد بدأ في إطار إستراتيجية لإدارة الديموقراطيين في أميركا في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون وشاركتها فيها الحركة الشعبية (لتحرير السودان بقيادة جون قرنق) وتقوم على ضرورة إستمرار الحرب. هذا الأمر أكده لي مسؤولون أميركيون كبار! لأن توقف الحرب يعزز وضع الحكومة في الخرطوم. والهدف كان إما إسقاط الحكومة أو رضوخها وتلبيتها مطالبهم. التمرد فى دارفور إنطلق في بداية العام الماضي وبدأ بهجوم على مدينة كتم وذبحوا فيه قوات الشرطة ونهبوا الأسواق. بدأوا بطريقة عنصرية وإستهدفوا كل العناصر من خارج قبيلتهم. الحكومة حرصت على عدم الدخول في حرب وظلت لستة أشهر تتفاوض معهم وأرسلت إليهم وزراء من قبائلهم ومنهم التيجاني آدم الطاهر وزير البيئة وأحمد بابكر نهار وزير التعليم ومسار والي النيل وعدد من أبناء المنطقة. كان واضحاً ان خطتهم تقتضي إحتلال مدن وإحتلوا ثلاث مدن رئيسة هي الطينة وكرنوي وأمبرو. التمرد بدأ معتمداً على قبيلة الزغاوة فقط وأرادوا إدخال قبائل أخرى وبدأوا في إرهابها بالإغارة وفرض الأتاوات فوجدت القبائل نفسها أمام خيارين: إما أن تنضم إلى التمرد أو تنشئ ميليشيات تحميها من الغارات. وأنشأت هذه القبائل ميليشيات أصبحت قوية بسرعة مع إنتشار السلاح في دارفور إذ يأتيها من الدول المجاورة. وجاء هجوم المتمردين على مدينة الفاشر (كبرى مدن دارفور) وحاولوا ذبح كل من وجدوه من غير قبيلتهم. وباتت الحكومة في موقف صعب, فهي إما أن تترك التمرد والميليشيات يتمددان وتنتهي المنطقة إلى حرب أهلية, أو تتدخل وتحسم هذه القضية. وقرار تدخل الحكومة جاء في نهايات كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي, وكان هدفها التمرد وليس الميليشيات ولذلك أصبح أمام التمرد عدوان يحاربانه: الحكومة والميليشيات. الحكومة لا تحارب الميليشيات. لأنها لا تستهدفها, ولذلك بدا الأمر وكأن الحكومة تدعم الميليشيات وإذا أرادت الميليشيات مهاجمة التمرد, فإن الحكومة لا تتدخل!! الحكومة لم تدعم الميليشيات وصوبت باتجاه إنهاء التمرد. وإذا كانت الميليشيات تعمل في الاتجاه ذاته, فإننا لا ننكر ذلك! وعندما أخرجت الحكومة التمرد من كل المدن أعلنت وقف العمليات العسكرية وطلبت من أي جهة خارج القوات المسلحة إلتزام مكانها. وبدأت معالجة لسحب السلاح لكنها تتطلب وقتاً. ومن يريدون منا الآن وقف عمل الميليشيات يجب أن يعلموا ان ذلك غير ممكن لأنهم ينسون أن هناك تمرداً لا يزال يحمل السلاح ويهدد القبائل ومن الممكن أن تكون هناك عمليات انتقام.
جمع السلاح في دارفور يجب أن يكون من الجميع, وما لا يفهمه الغرب هو مطالبته الحكومة بجمع السلاح وترك المتمردين مع أسلحتهم وهذا أمر لن يحصل"! (أ.هـ.).
دعونا نعالج هذه الإدعاءات فى النقاط التالية:
(1) لم يبدأ الثوار ثورتهم بمهاجمة مدينة كتم كما أعلن سيادته, ويبدو أنَّه غير ملم البتة بمجريات النزاع فى دارفور ونراه يخلط الحقائق خلطاً وبصورة معيبة لشخص فى مكانته الوزارية, فالثوار أول ما بدأوا أعلنوا إنطلاق الثورة بعد إحتلالهم لبلدة "قولو" فى أعلى قمم جبل مرة فى 26 فبراير 2003م, ولم يتم الهجوم على مدينة كتم إلاَّ فى مطلع شهر سبتمبر, أى بعد حواى 5 أشهر من بدء الثورة.
(2) تجنب سيادته الإشارة إلى تواصل عمليات الدمار والقتل المستمر ضد قبيلة الفور وبقية القبائل الأفريقية منذ إنقلاب حكومته والذى أدى إلى هلاك أكثر من 7 ألف شخص وحرق ألاف القرى, وهو الأمر الذى دفع بالمهندس داؤود يحيى بولاد (وقد كان من قيادات الجبهة الإسلامية وأمينها العام فى محافظة جنوب دارفور) للإستعانة بالحركة الشعبية لإنقاذ أهله من إبادة محققة, فمن الذى بدأ هذا الحرب حقيقة؟
(3) ليس للإدارة الأمريكية السابقة دخل فى إشتعال الحرب, فمن المعروف أن حملة بولاد كانت قد إنطلقت من منطقة بحرالغزال فى شهر نوفمبر 1991م, أى فى عهد الرئيس الجمهورى الأسبق جورج بوش وتمَّ حسمها فى مطلع شهر يناير من العام التالى, أى قبل أن يستلم الرئيس بيل كلينتون والديمقراطيون الرئاسة فى العشرين من ذلك الشهر نفسه, أى أنَّ حملة بولاد سابق لمجئ الديمقراطيين, وبالتالى فإنَّ محاولة الوزير وصف ما يحدث اليوم فى دارفور بمؤامرة من الديمقراطيين, كما ورد فى المقابلة, هو وصف يجافى الحقيقة.
(4) قول الوزير أنَّ التمرد بدأ بقبيلة الزغاوة فقط مثال آخر يجافى الحقيقة أيضاً, فالثورة إنطلقت كما قلنا من جبل مرة أولاً على قاعدة عسكرية أساسها مقاتلين من شباب قبيلة الفور وعناصر من قبائل دارفورية مختلفة, ثمَّ تمَّ إعلانها بعد فترة فى منطقة كرنوى بدار الزغاوة, بل إنَّ العمليات العسكرية نفسها قد تصاعدت فى جبل مرة قبل أن تزحف رويداً رويداً إلى مناطق شمال وغرب دارفور, ولم يجبر الثوار أحداً للإنضمام إليهم بل كانوا يردون المئات من طلاب المدارس الذين يفدون للتطوع والقتال بجانبهم ويوصونهم بالتفرغ لدراستهم, ولم يمارسوا أى شكل من الأشكال فى إرهاب الأهالى بل كان الأهالى, وما زالوا, يتعاطفون معهم إينما إلتقوا بهم ويذبحون لهم ويمدونهم بالمعلومات وكل ما يعينهم لمواصلة النضال, بل إنَّ الكثير من سكان المدن والبلدات الكبيرة كانوا, وما زالوا, يمثلون عيوناً واعية للثوارعن تحركات القوات الحكومية, وقد إكتشفت الحكومة لاحقاً أنَّها لا تحارب الثوار فقط بل ومعظم أهل دارفور وذلك سبب هزائمها المستمرة.
(5) عند هجوم الثوار على مطار الفاشر فى 26 أبريل من العام الماضى لم يقتلوا إلاَّ العسكرين الذين قاوموهم, وبعد أن سيطروا على المدينة ذهبوا للسوق الكبير وإشتروا حاجياتهم من الأهالى بحرِّ مالهم, ولم ينهبوا أى متجر أو بنك, وعند خروجهم من المدينة توقفوا عند جامعة الفاشر فى الجانب الغربى منها وشربوا الشاى مع الطلاب وتحدثوا إليهم ووزعوا لهم مناشير تشرح قضيتهم ثمَّ إنصرفوا بأمان, أما المدنيين الذين ماتوا خلال تلك المعركة الخاطفة فقد ماتوا بطلقات الرصاص الطائشة منهم أثنان من جامعة الفاشر التى تقع إلى جوار مطار المدينة نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة.
(6) الحكومة جيَّشت الجنجويد منذ عام 1992م, بعد حسم حملة بولاد مباشرة, وأطلقتهم لإبادة قبيلة الفور تحديداً ولذلك كانت تلك المجازر التى تستمر إلى يومنا هذا.
(7) نلاحظ تناقض الوزير فى حديثه فهو يصف حملات الجنجويد كدفاع عن النفس بينما هم الذين يهاجمون القبائل أصحاب الأرض, ثمَّ يتبرأ منهم تارةً, ثمَّ يرجع ويصفهم وكأنهم يقاتلون إلى جانب قوات الحكومة ضد الثوار تارةً أخرى, والحقيقة المعروفة لكل أهل دارفور هى أنَّ الجنجويد لم يشتبكوا أبداً مع الثوار بل كانوا, وما زالوا, يتجنبونهم و يهربون بأسرع ما يملكون من دواب أو عربات عندما يحسون بوجودهم, ولم يحدث أبداً أنَّهم هزموا طوفاً من الثوار وإنَّما تخصصوا فى الإغارة على قرى الأهالى المسالمين وقتلهم وحرق قراهم وسلب حيواناتهم, وظلَّت الحكومة تغض الطرف عن كل ذلك إلى درجة أنَّه لم يحدث أبداً أنَّها أدانت تلك المجازر, أو أشارت إليها فى خطابها الرسمى, أو حتى حاولت السيطرة على مليشيات الجنجويد بل تركتهم يواصلون حملات الإبادة إلى هذه اللحظة.
ثمَّ تساءل الصحفى عمَّا إذا كان الظلم في دارفور وراء التمرد وليس الإستراتيجيات الدولية وخطط جون قرنق؟ فردَّ الوزير بأنَّه قال لوزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر إنَّ أكثر من جهة تتحمل مسؤولية التمرد, وأوروبا إحداها لأنها أوقفت أموال السودان بموجب اتفاقية لومي التي ربطت عودة التمويل بإحلال السلام في الجنوب فأفقرت مناطق السودان الأخرى. في الشرق أيضاً تمرد لأنها أيضاً تحس بأنها مهمشة, والكيانات التي بدأت تظهر في الشمال مثل كيان أبناء الشمال وكيان أبناء النوبة كلها تشكو من التهميش (أ.هـ.). هنا يحاول الوزير خلط الأوراق وتعميم القضية وجر العالم وإتفاقية لومى وربطها بقضية دارفور, إنَّها لمضحكة, فبدلاً عن الرد مباشرة عن الظلم والمظالم التى تعرض لها دارفور فى عهد حكومته نراه يحاول الهروب إلى الأمام ويلوي عنق الحقيقة, ثمَّ متى قام كيان الشمال هذا؟ وكما نتابع فى الصحف من أنَّها ما تزال فى أطوار البناء, وحتى إذا ما قام بالفعل فعلى ماذا سيحتج أعضاء ذلك الكيان وهم يعلمون جيداً أنَّ محاسيبهم فى الحكومة قد كوَّشوا على جل السلطة لصالح مناطقهم, وأنَّ موارد البترول التى تنتجه الجنوب والغرب تتدفق على الشمالية فى شكل طرق سريعة ومدن حديثة ومشاريع بليونية بينما تظل أراضى الجنوب والغرب تحمل مكامن البترول فى أحشائها ويقتلها الظمأ إلى مواردها؟ من هو المواطن فى هذه المناطق الذى سيقتنع بمغالطات الوزير هذا؟
أمَّا عن توزيع الثروة فقد قال الوزير "لا ننكر أن دارفور بحاجة الى تنمية وخدمات, والشرق كذلك. لذلك نحن نقول إن ذلك لا يستدعي حمل السلاح. أستطيع اعطاءك أمثلة كثيرة لما أنجز في دارفور في ظل هذه الحكومة. لم تكن هناك جامعة واحدة في دارفور. الآن هنالك 3 جامعات, وكذلك المدارس والطرق والجسور والخدمات هناك إنجازات كثيرة مقاربة بما كانت عليه الحال قبل الحكومة الحالية" (أ.هـ.). حسناً, هذه الجامعات التى أنشأتها الحكومة فى برنامجها "ثورة التعليم العالى" هى فى معظمها جامعات كرتونية, ولعلَّ الحكومة قد قصدت بها الكسب الإعلامى فقط ولا تريد أن تعترف بأنَّ معظمها فاشلة وأنَّ خريجوها سيحتاجون حتماً إلى إعادة تدريب مركَّز حتى يمكنهم المنافسة فى أسواق العمل أو مواصلة الدراسات العليا, أمَّا عن الطرق فعن أى طرق يتحدث عنها الوزير؟ لليوم دارفور مفصولة عن بقية مناطق السودان منذ أن خلق الله هذا الأرض, وعندما جمع المواطنون حر أموالهم وسلموها للحكومة لبناء الطريق "بهزقتها" لهم ومدت لهم لسانها, بل وطردت السيد أمين بنانى من الوزارة لأنَّه تطاول بالإحتجاج على ذلك, ولم يشفع له حتى نسابته لهم!
أمَّا في مجال المشاركة السياسية والسلطة فقد حاول الوزير التقليل مما جاء فى الكتاب الأسود, وليس له إلاَّ أن يفعل ذلك, وقال "تجد دارفور منذ الإستقلال وحتى قيام الحكومة الحالية كل نصيبها في الحكومة المركزية خمسة وزراء (الحمد لله), وفي الحكومة الحالية ستة من أبناء دارفور (اللَّهم زد وبارك), وقبيلة الزغاوة التي ينتمي اليها المتمردون وهي تمثل نحو 10 في المئة من سكان دارفور لها وزيران مركزيان".(أ.هـ.). هكذا يدار السودان, بينما عدد الوزراء بين شندى وحجر مشو يبلغ 27 وزيراً بالإضافة إلى الرئيس ونائبه وجُلِّ القيادات المتنفذة فى السلطات التشريعية والقضائية ومدراء البنوك ورؤساء تحرير الصحف وأجهزة الإعلام! وهناك 4 وزراء مركزيين متنفذين من قرية واحدة فقط! فى إقليم عدد سكانه لا يزيد عن نصف مليون! هذا حديث هراء. لكن هنا أيضاً توجد معضلة أساسية, فمعظم أبناء وسط شمال السودان النيلى يركزون فى حديثهم عن التهميش على التهميش التنموى بينما يوارون حقيقة أنَّهم ظلَّوا مسيطرين على السلطة منذ إستقلال البلاد, أى يحاولون إثارة غبار كثيف بهدف تعتيم الحديث عن هذه المسألة الشائكة, لكنَّهم يجب أن يدركوا اليوم أن الحساب سيكون ولد فى هذا الأمر وغيره من المطالب القومية, وربما كان هذا هو السر فى مطالبة المنادين بفصل "شمال السودان", لكن نعتقد بأنَّهم سيضيقون الخناق على أنفسهم فقط بهذه الفكرة السخيفة.
وعندما سأله الصحفى أنَّه طالما أنَّ الحركة الشعبية ستحصل على منصب نائب للرئيس, فما الذي يمنع منح منصب النائب الثاني لدارفور حتى يحس أهلها بالمشاركة في السلطة؟ فردَّ سيادته متسائلاً "لماذا نائب؟ لماذا لا نقول رئيس؟". " أنت تقول لماذا لا يكون لدارفور نائب للرئيس, أقول لك إنَّ من حقَّها أن تمثل بنائب رئيس ورئيس وزراء والرئيس لِمَ لا؟ "الكتاب الأسود" معلوماته خاطئة. لدينا إحصاء يقارن بين فترة الإنقاذ وكل العهود السابقة لها منذ الإستقلال. وسأعطيك أمثلة منها أن ولايات دارفور الثلاث أكثر الولايات حظاً في المشاركة في المناصب الدستورية ومن ذلك مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأفريقية و7 وزراء من أصل 30 وزيراً في الحكومة الاتحادية من دارفور, وكذلك هناك 4 ولاة وعضو في المحكمة الدستورية وآخر في المحكمة العليا ورؤساء لعدد من لجان البرلمان" (أ.هـ.). حسناً, لقد نسى الوزير حقائق كثيرة وإستمر يخلط الحقائق كما بدأ:
(1) نسى سيادته أن منصبه الوزارى نفسه والذى يتمتع به الآن ويتبجح من فوقه قد جاءته عن طريق المزايدة السياسية لا أكثر, وكان من المفترض أن يذهب إلى أحد أبناء الغرب, وسيادته يعرف ذلك جيداً وعايشها فى ظروف شغل حقيبتى نائب رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية بعد وفاة الزبير محمد صالح وسبب تلك المناكفات والمشاحنات التى حدثت بين الترابى والبشير حول ذلك, وقد سبق أن تعرضنا لها فى مقال مبكر.
(2) مسألة إبعاد أبناء الغرب من مراكز السلطة القوية والوزارات النافذة ظلَّت سياسة ثابتة فى نظام الإنقاذ, فحتى الفريق إبراهيم سليمان وزير الدفاع السابق لم يمكث فى منصبه الوزارى أكثر من شهور قليلة بالرغم من تفوق جدارته العسكرية حتى على البشير نفسه, والجدير بالذكر كان ذلك المنصب هو أعلى سقف وصله إبن من أبناء دارفور فى كل حكومات السودان منذ عهد "الخليفة عبدالله"! وربما الخليفة نفسه قد صار كبش فداء لذلك!!!
(3) ثمَّ جاءت مفاصلة رمضان بين الترابى والبشير ليتم قذف كل أبناء دارفور المنتمين للشعبى خارج نطاق السلطة, وحتى وزير الخارجية نفسه كان قد بادر بتقديم إستقالته خلال تلك المفاصلة أسوة بمحمد الأمين خليفة لكن الترابى طلب منه البقاء لشيئ فى نفسه, أما محمد الأمين خليفة فتمت الموافقة على إستقالته فوراً ثمَّ طُرد من منزله الحكومى بالبوليس ورموا له بعفشه إلى الشارع بطريقة ذليلة, بالرغم من أنَّه كان عضواً فى مجلس قيادة الثورة ورئيس المجلس الوطنى وقاد وفود التفاوض الأولى مع الحركة الشعبية فى أبوجا ولعب أدواراً مختلفة فى تثبيت نظام الإنقاذ, لكنَّه بالرغم من ذلك لقى جزاء سنمار.
(4) قوله أنَّ أهل دارفور يستحقون منصب نائب رئيس أو حتى رئيس الجمهورية يظلُّ "كلام جرايد" وليس أكثر من حديث عاهن, فقد نسى سيادته أنَّ رئيسه نفسه قد قال فى نفرة كلبس (أهل دارفور) إنَّ هؤلاء الناس عايزين السلطة ولا يشبهونها! (على عينك يا تاجر) إذاً كيف سيصعد شخص من أهل دارفور إلى منصب رئاسة الجمهورية فى ظلِّ هذا الفهم القاصر والذى لا يقتصر على الرئيس نفسه بل يشمل الكثير من نخبته ومحاسيبه.
(5) لأول مرة نسمع بشخص يشكك فى ما ورد من معلومات فى "الكتاب الأسود", هذا الكتاب الذى أصاب أهل وسط شمال السودان النيلى فى الصميم من حيث المشاركة فى السلطة, وظلُّ معلقاً فى حناجرهم وحلاقيمهم السمينة مثل شوكة الحوت, وهنا مرة أخرى نشاهد وزيرنا الهمام يحاول خلط الحقائق فنسى الإطار التاريخى أو الزمانى الذى حصر فيه الكتاب معلوماته, ثمَّ إنَّ هؤلاء الوزراء السبعة ومستشار رئيس الجمهورية الذى أشار إليهم لا يمثلون حقيقة أكثر من ركاب الدرجة الرابعة فى قطار حكومة الإنقاذ, وتمومة جرتق لا "يودون ولا يجيبون", بل ظلَّ بعضهم يمثل عالة على أهل دارفور وقضيتها أكثر من ولاءهم لها, وقد تمَّ تعيين غالبيتهم من باب إستدراج الولاء السياسى والرشوة السياسية أكثر من تعيين حقيقى, بينما تمَّ إختيار بعضهم كجزء من الفتات الوظيفى لحليف الحكومة الجديد حزب الأمة الإصلاح والتجديد, وإذا إستغنى النظام عن مبارك الفاضل, كما سيحدث حتماً, فسيتساقط هؤلاء الوزراء ومستشارهم الإفريقى مثل أوراق شجر الخريف.
(6) يقول وزير الخارجية أنَّ هناك 4 ولاة بينما دارفور فيها ثلاثة ولايات ولا ندرى من أين جاء بالوالى الرابع؟ وإذا إفترضنا أنَّه قد حسب الفريق إبراهيم سليمان معهم فلماذا تجاوز اللواء صلاح الغالى والى ولاية جنوب دارفور السابق, والعميد عبدالله صافى النور والى شمال دارفور الأسبق وغيرهم؟ هل يعى هذا الوزير بما يقول؟
(7) من سياسات الحكومة غير المكشوفة هى تفريغ أجهزة الأمن والجيش والمناصب الحسَّاسة من أبناء دارفور, وقد بدأ ذلك بطرد كل أبناء دارفور من الضباط من جهاز الأمن وكذلك فى الشرطة والقوات المسلَّحة, إنَّ هزيمة جيش النظام على أيدى الثوار فى ربوع دارفور سببه هو إرسال ضباط وجنود وموظفى أمن لا يعرفون شيئاً عن دارفور ولذلك مات منهم كثيرون بسبب ذلك, وربما يرجع سبب إقالة البشير للمدير العام لجهاز الإستخبارات اللواء عبدالكريم عبدالله فى نهاية شهر فبراير الماضى إلى ذلك, ومما يدعم قولنا أعلاه قول الوزير نفسه إنَّ عدد الذين ماتوا فى حرب دارفور لا يتجاوز الألف معظمهم من القوات المسلَّحة, وفى ذلك إعتراف ضمنى بهزيمة الجيش السودانى, والذى كما ذكرنا سابقاً قد تحول لأداة إخضاع لشعوب المناطق المهمشة لصالح قلة يتقلبون فى كراسى السلطة وينهشون فى لحم الثروة فى أبشع ممارسة وأنانية فى تاريخ السودان.
ثمَّ سأله الصحفى عن علاقة التمرد بالحركة الشعبية لتحرير السودان وماذا تقولون لهم عن دارفور أثناء مفاوضاتكم الحالية؟ وما معنى توقيع إتفاق سلام مع قرنق إذا كانت الحرب مستمرة في غرب البلاد؟ فأجاب سيادته: "نقول للحركة الشعبية ليس من المعقول أن نوقف الحرب في الجنوب ونشعلها في منطقة أخرى. ونقول لها إذا كنا نتفاوض الآن وسنكون في حكومة واحدة فالأولى أن نطفئ هذه الحرائق, ونقول لهم إنَّ لكم علاقة مع قيادات التمرد ويجب أن يكون دوركم إيجابياً في قضية دارفور وهي ليست بحاجة إلى حرب وإنَّما إلى خدمات وتنمية. ونقول إنَّ الحل المطروح في الجنوب لا ينطبق على دارفور, فهي لا تريد تقرير المصير" (أ.هـ.). على هذا نقول الآتى:
(1) يعلم الوزير تمام العلم إنَّ الحركة الشعبية مهتمة بقضية دارفور إلى الدرجة التى أنشأت لها مكتباً خاصاً تُعنى بقضية دارفور تابعة لرئيسها مباشرة, وأنَّ الحركة الشعبية قد أكدَّت مراراَ رغبتها فى إيجاد حل منصف لقضية دارفور, ففى شهر ديسمبر من العام الماضى عرضت الحركة الوساطة بين الحكومة وثوار دارفور وقال ياسرعرمان إن الجيش الشعبي على إتصال بالفعل بحركة تحرير السودان وسيظل خط الإتصال معها مفتوحاً (الجزيرة نت 8/12/2003م), وفى شهر يناير الماضى حضَّت الإدارة الأمريكية الحركة الشعبية والحكومة للمساهمة فى التوصل لحل سلمى لمشكلة دارفور وأبدى الدكتور جون قرنق عند لقائه مبعوث الرئيس الأميريكى السيناتور جون دانفورث فى نيفاشا إستعداده للمساهمة فى حل مشكلة دارفور(سودانايل 15/1/2004م), ثمَّ عرضت الحركة وساطتها مرة أخرى فى نهاية شهر أبريل الماضى وأعلن قرنق إستعداده للمساهمة في حل أزمة دارفور, وقال "نحن عنصر مهم في السياسة السودانية ولا يمكن تجاوزنا". كما أبلغ رئيس "حركة تحرير السودان" القائد عبدالواحد محمد أحمد النور خلال لقائهما الأخير في أسمرا إستعداده للمساهمة في حل مشكلة الإقليم, لكن مستشار الرئيس السوداني للشؤون السياسية الدكتور قطبي المهدي رفض ذلك العرض (الحياة 27/4/2004م), إلاَّ أنَّ الحزب الحاكم رحب به, وقال دكتور إبراهيم أحمد عمر الأمين العام للمؤتمر إن من حق أي سوداني المساعدة في حل مشكلة دارفور وإستتباب الأمن بالمنطقة (الرأى العام 29/4/2004م), هل كان سيادة الوزير متابع لكل ذلك؟
(2) أمَّا عن قوله إنَّ الحل المطروح في الجنوب لا ينطبق على دارفور وأنَّها لا تريد تقرير المصير فيجب أن ينتظر إلى أن يتم نقاش ذلك فى المفاوضات القادمة, لكنَّ حركة تحرير السودان سبقت أن طالبت بتطبيق نموذج إتفاق الجنوب على دارفور والشرق وذلك عبر رسالة مفتوحة موجَّهة إلى منظمة الإيغاد والوسطاء والحركة الشعبية قالت فيها: "وتثمن حركة/جيش تحرير السودان الرؤية الأميركية بتطبيق نموذج الحل فى جنوب السودان بين النظام والحركة الشعبية على كل المناطق المهمشة، وعلى وجه الخصوص فى دارفور وشرق السودان. وتدعو الحركة فى ذات الوقت إلى توزيع عائدات الموارد النفطية والموارد الأخرى بأسس عادلة تقوم على الكثافة السكانية لكل إقليم" (سودانايل 19/1/2004م).
وفى سؤال أخير سأله الصحفى عن كيف سيتم إستيعاب قضية دارفور؟ فأجاب الوزير "سيتم البحث في جسم يكون مسؤولاً عن تنفيذ الإتفاق ويجعله شأناً قومياً ويعطيه ضمانات الإستمرار وحسن التنفيذ وبناء الثقة. وقضية دارفور تعالج في إطارين: الأول إنساني وأمني وما سرنا فيه الآن (وقف النار وبدء الحوار) سيؤسس لوضع مستقر في إنتظار المعالجة السياسية وهي الإطار الثاني. فرق المراقبة الإفريقية وصلت الى البلاد, وبالتالي فإن الإتهامات بلا سبب ستكون صعبة وتجربتنا في جبال النوبة ناجحة جداً" (أ.هـ.). بدورنا نقول إنَّ المعالجات لا يمكن أن تتم بصورة فوقية, ونتيجة لما حدث فى دارفور, وما يزال, يجب على الحكومة أن تتعلم الدرس وهو عدم إمكانيتها فرض أى حل تراها على أهل دارفور, ولذلك من الأجدى لها أن تفكر فى النقاط التالية:
(1) السماح وفتح الأبواب لتحقيق دولى فى إتهامات المجازر والتصفية العرقية على غرار ما جرى فى البوسنة وكوسوفو, فالإنكار غير المسنود لن يجدى والإعتماد على فرق تحقيق محلية سوف لن تستجيب للشكوك العالمية المتزايدة, وشكوك أهل دارفور خاصة, وسلوك الحكومة نفسها فى مثل هذه المجالات تمثل مبعث ريبة وشكوك قوية, ولعلَّ موقف منظمة العفو الدولية من لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف كانت واضحة فقد طالبت المنظمة بالإستقلالية التامة لأى لجنة للتحقيق في مآسى دارفور, وأعربت عن أملها بأن تكون اللجنة ذات مصداقية وأن تحقق في كل التجاوزات المرتكبة "بما فيها التي إرتكبتها الحكومة", وجددت في بيان لها إتهامها للحكومة بأنها "أفسحت في المجال" أمام المليشيات المعروفة باسم الجنجويد لمهاجمة قرى القبائل من أصل أفريقي في دارفور (الجزيرة نت 15/5/2004م). وبالرغم من إحترامنا لشخصية مولانا دفع الله الحاج يوسف إلاَّ أنَّه يُعتبر من الكوادر القوية للجبهة الإسلامية القومية وقد عمل ممثلاً عنها كوزير للتربية والتوجيه فى أحد حكومات مايو, وكل ذلك قد يمثل مصدر شك قوى فى حيادية اللجنة التى يرأسها بالرغم من وجود شخصيات أخرى نزيهة فيها مثل المحامى غازى صلاح الدين, لكن الإيد الواحدة لا تصفق.
(2) تظلُّ مسألة الضمانات لأى إتفاق سياسى لها من الأهمية لما للإتفاق نفسه, وإلاَّ فسيظلُّ الإتفاق حبراً على ورق, ولا نعتقد أن يكون هناك ضامناً أوثق من الدول النافذة والأمم المتحدة, وسجل الحكومة معروف فى مجال العهود والمواثيق.
لقد ظلَّ هذا الوزير, ومنذ فترة ليست بالبعيدة, يطلق التصريحات العشوائية بحق قضية أهل دارفور ويلفق الحقائق بطريقة أشبه بالثرثرة أو الهذيان, مخالفاً أصول السلوك الدبلوماسى الرصين والركون إلى الحكمة واللباقة فى التعبير, خاصة فى المسائل الحسَّاسة التى تتعلق بأرواح البشر, وهم للأسف بشر من مواطنيه, إن كان يعترف بذلك, وقد كرر حديثه أعلاه وزاد عليه فى مقابلة صحفية مماثلة أجرتها معه جريدة "الزمان" اللندنية (15/5/2004م), وزَّع فيها النفى والتلفيقات يميناً ويسارا, ثمَّ إنَّ الإنكار المتكرر بشأن شواهد حيَّة ومعايشة لا تخدم قط قضية معقدة مثل قضية دارفور, وإذا إقتصرت زيارات الوفود الدولية على المدن الرئيسية الثلاثة بالإقليم, وهى ما تريده الحكومة, فإنَّ القرى والمناطق التى أخليت من سكانها ستمثل دليلاً بالغاً للإبادة والتصفية العرقية, فلماذا لا يترك الوزير تلك الفرق تجوب أرجاء دارفور الواسعة بحرية كاملة؟ وممَّاذ تخشى الحكومة وراء ذلك؟ لكن يظلُّ كل ذلك آفة من آفات حكومة الإنقاذ التى مكنت لأناس كثيرين من المتسلقين عديمى التجربة والدراية بالعمل الدبلوماسى القفز إلى أعلى المناصب الحسَّاسة دون أى تَرَقِى أو ممارسة فعلية للعمل الدبلوماسى الناضج فراحوا يعيثون فيها عوث الثور فى مستودع الخزف.