دارفور… بين تصريحات وزير الخارجية وإنتهاكات المليشيات الجنجويدية!
د. حسين أدم الحاج
8 January, 2009
8 January, 2009
(2/2)
helhag@juno.com <mailto:helhag@juno.com>
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
الجنجويد فى قلب إستراتيجية الحكومة للتعامل مع أزمة دارفور:
تصريحات وزير خارجيتنا الهمام فى الحلقة الماضية من هذا المقال, وفيما يختص بمليشيات الجنجويد, يهدم عدة إتفاقيات وقعتها حكومته مع من تسميهم باللصوص وقطاع الطرق من متمردى دارفور, وهنا يحق لنا أن نتسائل إن كانت هذه الحكومة لها "سيد"؟ فالقرارات العشوائية صارت هى السمة الرئيسية فى سلوك مسؤوليها يندرج تحت ذلك كل قرار بدءاً بزيادة أسعار الوقود دون إعلانها فى أجهزة الإعلام, متجاهلة مشاعرهذا الشعب المنهك, إلى قانون الصحافة, والذى تبرأ منه حتى المسؤول عنها نفسه, إلى إتفاقية الحصرية التى أدت إلى خسارة السودان لأكثر من عشرة ملايين دولار كانت ستكفى عربوناً لرصف "طيب الذكر" طريق الغرب الكبير (طريق الإنقاذ الغربى), والغريب أن كل وزير يفعل ما يريد ويحلو له دون خجل أو وجل من أى محاسبة, بل ويتنادى بعضُهم من محسوبى الرئيس نفسه بفصل شمال السودان عن جنوبه وما دروا أن ثلاثة أرباع الشمال الذى يعنونه قد صارت جنوباً, والحمد لله جاءت منهم, فلن يقوى بعد اليوم أحد بإتهام أهل دارفور بأنَّهم إنفصاليون, أو حتى عنصريون, تلك الدمغة الجاهزة والقريبة من الشفاه, واليوم يأتى وزير الخارجية ليدق إسفيناً فى إتفاقية أبَّشى الأولى وإتفاقية إنجمينا الأخيرة, والتى لم يجف حبر مدادهما بعد, فكلا الإتفاقيتين تدعوان صراحة وبعبارات لا لبس فيها لحل قوات الجنجويد ووافقت عليها الحكومة ووقعها نيابة عنها الجنرال الطيب إبراهيم محمد خير فى إتفاقية أبَّشى الأولى والشريف أحمد بدر فى إتفاقية إنجمينا الأخيرة, فكيف جاز لهذا الوزير أن يهذى بما لا يعرف, إن كان يعرف ما تمَّ حول ذلك بالفعل؟ دعونا نراجع ما ورد بتلك الإتفاقيات فيما يختص بالجنجويد:
* جاء فى البند (2) من إتفاقية أبَّشى الأولى, التى تمَّ التوصل إليها بتاريخ 3/9/2003م, ما يلى " التحكم والسيطرة على المجموعات المسلحة غير النظامية (أى الجنجويد) في مسارح العمليات" (الرأى العام 4/9/2003م).
* ورد فى المادة (6) من إتفاقية إنجمينا, التى تمَّ التوصل إليها بتاريخ 10/4/2004م, ما يلى " تتأكد الأطراف الموقعة بأن كل العناصر المسلحة الموجودة تحت رعايتها تحترم هذا الإتفاق، وتجمع قوات المعارضة في مواقع يتم تحديدها, وتلتزم حكومة السودان بالسيطرة على المليشيات المسلحة (أى الجنجويد)" (الأضواء 11/4/2004م).
لقد ظلَّت معظم دول العالم النافذة والمنظمات الدولية ووكالات الإغاثة والجارة دولة تشاد تصرخ وتتنادى وتناشد الحكومة بالسيطرة على هذه الجماعات دون أن تبادر الحكومة القيام بأى خطوات ملموسة نحو ذلك, وظلَّت تنفى من الناحية الرسمية وجود أى علاقة لها بتلك الجماعات بالرغم من التكشف البطئ لتلك الحقيقة, ودعونا نتابع مسلسل الإنكار والتناقضات فيما يختص بسياسة الحكومة مع هذه الجماعات فى النقاط التالية:
(1) 24 سبتمبر 2003م: نفى والى حكومة ولاية شمال درافور وجود هجمات على بعض القرى من مليشيات الجنجويد وأشار إلى أن الحكومة لا تسلح هذه الميليشيات (صحيفة الخرطوم 25/9/2003م).
(2) 7 أكتوبر 2003م: أعلن والي شمال دارفور رداً على سؤال حول ما تردد من هجمات تقوم بها مليشيات الجنجويد في دارفور قائلاً "الجنجويد إستنفرتهم الحكومة ضمن الإستنفار الذي شمل كل القبائل لمعالجة الوضع في دارفور لكن المشكلة الآن ظهور أشخاص يدعون أنهم مع الحكومة ويقومون بشن الهجمات" (الأيام 9/10/2003).
(3) 12 أكتوبر 2003م: صرَّح على عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية فى لقائه بنواب دارفور بالمجلس الوطنى بأن الحكومة الإتحادية ليست مسئولة عن الأمن فى دارفور (الرأى العام 13/10/2003).
(4) 29 ديسمبر 2003م: نفت الحكومة على لسان وزير الدفاع اللواء بكرى حسن صالح أي علاقة لها بما يسمى الجنجويد ووصفتهم بأنهم عصابات نهب مسلحة لا علاقة للحكومة بها (سودانايل 29/12/2003م).
(5) 10 مارس 2004م: أبلغ الشيخ عباس الخضر رئيس الهيئة البرلمانية رئيس اللجنة البرلمانية المكلفة بقضية دارفور الصحفيين أنَّ سبب النزاع في دارفور ان منشأه قبلي وأوضح إنَّ هذه المحاور أفرزت بدورها بعض المحاور الأخري التي وسعت الشقة مشيرا إلي أنَّ من يسمون (بالجنجويد) لاينتمون لقبيلة بعينها وهم من عدد من القبائل (أخبار اليوم 10/3/2004م).
(6) 22 مارس 2004م: صرَّح والي شمال دارفور أنَّ الجنجويد يمثلون أجنحة عسكرية لحماية مصالح القبائل الرعوية بدارفور (الأضواء 24/3/2004م).
(7) 5 أبريل 2004م: قال الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم مجذوب الخليفة إنَّ مفاوضو الحكومة بإنجمينا طالبوا المتمردين عبر الوسيط التشادي إيقاف قطع الطرق وجمع السلاح منهم بالتزامن مع جمعه من أي جهة اخرى «ايا كانت» كبادرة للدخول في العفو العام والمشاركة في المؤتمر والحوار لاجل قضايا التنمية بدارفور، واكد الخليفة إنَّ أي خروج عن الطرح المقدم من الحكومة يعتبر مرفوضاً (الأضواء 6/4/2004م).
(8) 7 أبريل 2004م: أعلن وزيرالخارجية مصطفى إسماعيل أنَّ بلاده ليست في حاجة إلى قوات دولية في دارفور، مؤكدا أنَّها ستسيطرعلى الميليشيات الموالية للحكومة (الجنجويد) المتهمة بالقيام بأعمال عنف في المنطقة وستؤمن مرور المساعدات الانسانية للسكان. وتفيد منظمات غير حكومية وموظفون في الأمم المتحدة أنَّ ميليشيات تدعمها حكومة الخرطوم تنفذ مجازر وأعمال سرقة ونهب وإغتصاب في دارفور وتجبرالسكان المحليين على النزوح من غرب السودان (المشاهير 8/4/2004م).
(9) 8 مايو 2004م: وصف البروفيسور إبراهيم أحمد عمر الأمين العام للمؤتمر الوطني تقرير الأمم المتحدة الذي يتهم الحكومة بالتواطؤ مع بعض المليشيات في دارفور لتجويع اللاجئين بانه حديث فيه مبالغة (الأنباء 9/5/2004م).
(10) 11 مايو 2004م: تعهد وزير الداخلية السوداني عبد الرحيم محمد حسين بتقديم المساعدة في مقاتلة ميليشيا عربية سودانية تقول تشاد انها نفذت هجمات على الأراضي التشادية في الأيام الاخيرة, وقال إنَّ الخرطوم تقر بأنَّ الميليشيا العربية تقوم بأعمال غير قانونية وإنَّه يجب السيطرة عليها (سودانيز أون لاين 12/5/2004م).
(11) 12 مايو 2004م: قال وزير الخارجية مصطفى عثمان إسماعيل "إنَّ الخرطوم لن تنزع أسلحة الميليشيات الموالية للحكومة في دارفور طالما إنَّ المتمردين يحتفظون باسلحتهم, وأضاف "من يريدون منا الآن وقف عمل الميليشيات يجب أن يعلموا إنَّ ذلك غير ممكن لأنهم ينسون إنَّ هناك تمرداً لا يزال يحمل السلاح ويهدد القبائل ومن الممكن أن تكون هناك عمليات انتقام", وأوضح الوزير إنَّ الحكومة لم تشكل هذه الميليشيات بل إنَّ القبائل "أنشأت الميليشيات لتحميها من غارات التمرد" (الحياة 13/5/2004م).
(12) 13 مايو 2004م: حمَّل مساعد رئيس الجمهورية مبارك الفاضل في حوار مع صحيفة "البيان" الاماراتية قبائل عربية نازحة من تشاد ومالى وبوركينافاسو مسؤولية مايحدث من هجمات على القبائل الافريقية في دارفور، مؤكداً ان القبائل العربية السودانية بريئة من أي عمل عدائي ضد سكان المنطقة (الصحافة 14/5/2004م)..
من النقاط أعلاه, نلمس الآتى:
(1) تضارب فى الإعتراف والنفى بعلاقة الحكومة بالجنجويد, ويتمثل ذلك فى النقاط (1), (2) و(4).
(2) تنصل الحكومة من أى علاقة بالجنجويد ورميها على عاتق القبائل العربية بدارفور من جانب وتبرئة هذه القبائل من الإتهام ذاته من جانب آخر, ويتمثل ذلك فى النقاط (5), (6), (11) و(12).
(3) اللا مبالاة وعدم الإكتراث بما ترتكبه جماعات الجنجويد, ويتمثل ذلك فى النقاط (3) و(9).
(4) الرضوخ للتهديد الدولى والتعهد بالسيطرة على الجنجويد, ويتمثل ذلك فى النقاط (8) و(10).
(5) محاولة الإلتفاف على تعهد الحكومة بحسم قوات الجنجويد كما وقعتها فى إتفاقيتى أبَّشى و إنجمينا الأخيرة ومحاولة ربط ذلك بتجريد قوات الحركات المسلَّحة فى الوقت ذاته وهو تفسير مخالف لما تمَّ الإتفاق عليه, ويتمثل ذلك فى النقاط (7) و(11).
لقد تنازل وفدا الحركة المسلَّحة بمفاوضات إنجمينا الأخيرة, وبضغط من الرئيس التشادى, عن عدم الإشارة إلى كلمة "الجنجويد" فى بنود الإتفاقية والإستعاضة عنها بكلمة "المليشيات", وقلنا يومها أنَّ الحكومة ستمارس هوايتها فى إختزال المعانى والتلاعب بالعبارات بما يخدم أهدافها وإستراتيجيتها, وأنَّها سوف تدورعلى نفسها وتطلق كلمة "المليشيات" على قوات الحركات المسلَّحة نفسها, أو تشملهم ضمن دائرة نزع السلاح, وبالفعل لم تحتاج الحكومة لكثير وقت لتعود إلى قديمها وها هى تثبت صدق حدسنا فى ذلك مما يعنى الإنهيار الفعلى لإتفاقية إنجمينا وبيدها فقط, مثل إجهاضها لإجتماع أبَّشى الثانية فى شهر ديسمبر من العام الماضى.
إستراتيجية الحكومة فى التمسك بالجنجويد:
دعونا نقرر هنا إبتداءاً بأنَّ الحكومة سوف لن تحل أو تنزع سلاح الجنجويد, فقد أخذت هذه المجموعات مكاناً أساسياً فى سياساتها بشأن دارفور, فما السر؟ دعونا نحلل ذلك فى النقاط التالية:
(1) سياسة الحكومة فى حروبها ضد شعوب الهامش تقوم على مبدأ ضرب هذه الشعوب بعضها البعض وتعميق الفتنة بينهم حتى ترتاح هى وتستأثر بكل أوعية السلطة والثروة, والتى تنهبها أساساً من ثروات هذه الشعوب نفسها, وفى ذلك فإنَّ هذه الحكومة تحديداً لا يهمها كم سيفنى من الشعب السودانى طالما ظلَّت هى فى السلطة تفعل بمصير البلاد كما تشاء, ولذلك فإنَّ مليشيات الجنجويد موكول لها القيام القيام بزعزعة إقليم دارفور وتدمير شعبها حتى ينشغلوا بأمرهم.
(2) المتنفذين من قادة الحكومة يعتقدون فى خيالهم الباطنى أنَّه بعد فصل جنوب السودان سوف لن يبق هناك قوة تنازعهم السلطة والثروة غير أهل دارفور, مجترين فى مخيلتهم صراع أولاد البحر وأولاد الغرب, ولذلك ظلَّت تستخدم تلك اللغة الجارحة بحق أهل دارفور بقصد الإختزال وإغتيال الشخصية والتدمير المعنوى, بجانب التدمير الفعلى للإنسان والحيوان والمزارع والمنشآت الخدمية وتعطيل مشاريع التنمية, حتى ولو بادر أهل دارفور بدفع تكاليفها من دم قلوبهم, وقد أوكلت لمليشيات الجنجويد تنفيذ ذلك, فحرق القرى وتشريد الأهالى وطردهم من أراضيهم ليس القصد منها فقط محاربة التمرد بل تمثل جزءاً أساسياً من تلك السياسة, بجانب توفير الحماية الجوية والبرية للجنجويد مخافة عليهم من قوات الحركات المسلَّحة. إنَّ حادثة هجوم الجنجويد الأخير ضد الأهالى بتشاد فيها دلالة واضحة لذلك, فالجنجويد أغاروا على بلدة كولبس التشادية عبر الحدود السودانية وقتلوا شخصاً واحداً ونهبوا حيوانات فرَّوا بها عبر الحدود, وعندما طاردهم الأهالى لإسترداد حيواناتهم تصدَّت لهم "قوات الجيش السودانى" ومنعتهم من مواصلة المطاردة لإسترداد تلك الحيوانات المنهوبة, وعندما جاءت القوات التشادية لتساعد الأهالى فى ذلك تصدَّت لهم "قوات الجيش السودانى" إلى درجة إطلاق نار بين الجانبين, فلماذا تفعل الحكومة ذلك, هل من أجل عيون الجنجويد؟ أم إنَّ الجنجويد باتوا يمثلون شيئاً غالياً للحكومة يجب حمايتهم حتى ولو أدَّى ذلك إلى الصدام العسكرى؟ بالرغم من الذعر الذى أصاب الحكومة نتيجة لتلك الحادثة وتحركها المحموم للسيطرة على تداعياتها إلاَّ أنَّها لم تفصح أبداً عن كيفية تعاملها مع الجنجويد فى تلك الحادثة تحديداً أو ما إذا قررت تعويض الأهالى التشاديين عن حيواناتهم المفقودة ودفع ديات لقتلاهم. المشكلة هى أنَّ من "يسمع كلام الحكومة يكاد يصدقها... لكن عندما يرى أفعالها يتعجب"!
(3) المُحَصِّلة النهائية لحرب الحكومة فى دارفور هى الفشل والهزيمة المنكرة, والأفراد الذين قتلوا فى الحرب من جانبها عددهم بالآلاف, وليس أقلَّ من ألف كما يدعى السيد وزير الخارجية الذى يهذى بما لا يعرف, والسبب بسيط هو أنَّ أكثر من نصف القوات التحتية الضاربة للجيش السودانى هم من أبناء دارفور, وقد خشيت الحكومة الدفع بهم لمقاتلة إخوانهم هناك مخافة التمرد عليها والإنضمام لهم, وحينذاك سوف لن يقفوا إلاَّ فى حدائق القصر الجمهورى, ولذلك فقد إجتهدت الحكومة كثيراً فى تجييش أفراد من جنوب كردفان ومناطق أخرى لكنها فشلَّت, وقد حاولت أيضاً إغواء قبائل كبرى من الإقليم وحاولت رشوتهم بالمليارات وفشلت أيضاً, ولذلك ففى هجومها الأخير على قرى شمال ووسط وغرب دارفور فقد إعتمدت فيه إعتماداً أساسياً على سلاح الجو, ويقال أنَّ طيارين أجانب شاركوا فى ذلك الهجوم, أمَّا القوات البرية فقد إعتمدت أساساً على مليشيات الجنجويد حيث شارك فيها حوالى عشرين ألف فرد منهم كانوا يغيرون على البلدات والقرى مباشرة بعد دكِّها بواسطة سلاح الطيران ويبيدوا من نجا من الأهالى من القصف المركز.
(4) هدف إستراتيجى آخر تدفع الحكومة للحفاظ على مليشيات الجنجويد, وهو تهديد النظام التشادى والتلويح بإستخدام هذه المليشيات لإسقاطها إذا ما حاول الرئيس ديبى مداراة ظهره للحكومة, وهو أمر وارد, فالمحاولة الإنقلابية الأخيرة بدولة تشاد حملت رائحة خلاف كبير بين أركان القيادة التشادية وتساؤلات عن المدى الذى يمكن أن يسير فيه الرئيس التشادى فى دعم الحكومة السودانية ضد أهله من قبيلة الزغاوة, ومن الواضح لنا, وللحكومة ذاتها, هو أن إدريس ديبى يقف منفرداً فى دعمه للحكومة السودانية بينما القوى المتنفذة فى حكمه, خصوصاً الجيش وجهاز الأمن, تدعو إلى إلتزام الحياد التام والإبتعاد عن مجاراة الحكومة السودانية فى حربها التدميرى بدارفور, وقد جاء فى الأخبار أنَّ من أسباب المحاولة الأنقلابية هى الإنشقاقات التى نشبت في إطار إثنية الزاغاوة, التي ينتمي إليها الرئيس ديبي, بسبب طريقته في التعامل مع الأزمة في دارفورحيث يعيش عناصر من هذه الإثنية, وهم كثر, في صفوف الطرفين المتمردين اللذين يحاربان الخرطوم (الجزيرة نت 19/5/2004م), ويبدو أن الرئيس التشادى قد رضخ للأمر الواقع من خلال موافقته على عدم محاسبة الإنقلابيين بل وإجراء إصلاحات عاجلة فيما يتعلق بمتطلبات الجيش والسياسة الخارجية والإبتعاد ما أمكن من توريط تشاد فى مستنقع دارفور, ونتيجة لذلك فقد ألمحت تشاد إلى نقل مفاوضات دارفور إلى إثيوبيا
(الصحافة 20/5/2004م) كخطوة لغسل يديها تماماً من مسألة صراع الحكومة فى دارفور. من جانب الحكومة السودانية فإنَّ هناك قلقاً متزايداً من هذه التطورات المفاجئة الأمر الذى دفع الرئيس البشير شخصياً للتفرغ تقريباً للملمة أطراف هذه التطورات بالسرعة المطلوبة والتأكد من ثبات ولاء الرءيس التشادى, وهو الشيئ الذى بات تحوم حوله شكوك متزايدة, وهنا يتبدى خوف الحكومة وقلقها الآن, وربما التفكير لاحقاً, إذا ما تدهورت الأمور أكثر وإقتربت من خطوطها الحمر, إلى إتباع سياسة لىِّ الذراع وتحريك مليشيات الجنجويد, ولذلك فإنَّ الهجمات التى قامت بها هذه المليشيات مؤخراً عبر الحدود السودانية التشادية, وردود الفعل التشادى العنيف حيالها, بجانب السكوت والخجل الذى أصاب الحكومة, ليست إعتباطية وإنَّما يجب قراءتها على ضؤ سياسة الحكومة الخاصة بالجنجويد, لقد حاول الأعلام المحلى السودانى توريط مسلَّحى دارفور وضلوعهم فى تلك المحاولة الإنقلابية, فقد أوردت صحيفة أخبار اليوم, القريبة من الحكومة السودانية, خبراً جاء فيه: " أحبطت السلطات التشادية محاولة إنقلابية قام بها أمس الأول مجموعة من قادة المعارضة التشادية مع مجموعة من الضباط العاملين بالقوات المسلحة والفصائل الموالية لها، بالإضافة لمجموعة من القادة الميدانيين لحركة متمردي دارفور أبرزهم القائد خاطر تور الخلا، وقالت مصادر مطلعة إنَّ المحاولة هدفت لتغيير نظام الحكم بتشاد ونسف جهود الرئيسإادريس ديبي في إحلال السلام بدارفور وأنَّ معظم الذين شاركوا في المحاولة الفاشلة لقوا حتفهم علي أيدي القوات الحكومية فيما تم إعتقال الكثيرين منهم" (أخبار اليوم 18/5/2004م), والجزء الأخير من هذا الخبر مدسوس كما يبدو واضحاً مقارنة بالمعلومات المتوفرة اليوم عن مآلات تلك المحاولة.
(5) يبدو واضحاً أنَّ النخبة الحاكمة فى الخرطوم على إستعداد لأن يتحالفوا مع الشيطان فى سبيل الحفاظ على السلطة والإستمرار فى نهب الثروة, وهى ثروات المناطق المهمَّشة, فإذا صحَّت تصريحات مبارك الفاضل لجريدة البيان الأماراتية بأنَّ الجنجويد لا ينتمون للقبائل العربية بدارفور بل إنَّها من قبائل ذات أصول عربية قادمة من تشاد ومالى وبوركينافاسو (البيان 13/5/2004م) فإنَّ الأمر يكون أكبر كارثة فى تاريخ السودان الحديث وهى أن تستعين الدولة السودانية "بمرتزقة" وتسلحهم وتدعمهم بالمال والحماية لإبادة جزء من شعبها, وهى خيانة يستوجب معها التحقيق والمحاسبة, وبإفتراض صحة تصريحات مساعد رئيس الجمهورية تلك تكون حكومة الإنقاذ قد فقدت شرعية الحكم, إن كانت تملك ذلك بالأساس, ويجب إقالتها قانونياً إذا ثبت ذلك. لقد أشار الكاتب الرصين الدكتور جعفر زين العابدين إلى الجنجويد كمرتزقة فى مقال له بعنوان "مرتزقة الجنجويد فى دارفور" نشرتها موقع سودانايل المميز, جاء فيه: "لقد كان سلوك الجنجويد فى دارفور أشبه بأفعال المرتزقة فقد كانوا يستهدفون كل منطقة من قبائل الزرقة يدخلها المتمردون بحجة أنها متعاطفة معهم, فتعوث فيها فساداً بحرق المنازل ونهب الممتلكات والإعتداء على النساء والرجال ومنع المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المتضررين من جراء العمليات العسكرية, كما حدث مؤخراً فى منطقة كيلك، لا يفرقون بين المواطنين والمتمردين بل إنصبت معظم إعتداءتهم الهوجاء على الأبرياء العزل من المواطنين مما أدى إلى الغبن وإلى الإحتقانات والإاحساس بالظلم مما ساعد فى تغذية التمرد المسلح بمزيد من العنصر البشرى كما ورد فى مسودة بيان أبناء دارفور السابق" (سودانايل 13/5/2004م), فهل قرأ السيد وزير الخارجية ذلك المقال, وهل يحس هو ونظامه بآلام أهل دارفور من جراء سياساتهم التدميرية؟
الوعى العربى بمأساء دارفور:
وأخيراً إكتشف الوعى العربى ذاته فى مرآة دارفور, وهو شيء لا تريده الحكومة البتة, وعندما تصل فرق المراقبة الأفريقية فإنها ستكون فرصة لكى يكتشف الأفارقة ذواتهم أيضاً, وعندها ستكون الحكومة عارية فى "الحاحاى" بدون أى سند أو غطاء يستر عورتها المكشوفة فى دارفور. ويتمثل الوعى العربى فى التغطية الإعلامية التى تغوص فى لبِّ الموضوع مخالفة الإعلام السودانى الكسيح والمأجور, ولذلك فقد جاء التحقيق المصوَّر الذى قامت به قناة الجزيرة القطرية فى شهر أكتوبر من العام الماضى, والذى ضمنته فى برنامج من أربعة حلقات بعنوان "الحريق" عن مآسى دارفور ليكشف المستور للعالم العربى, بالرغم من أن القناة ومسؤوليها دفعوا ثمناً غالياً جراء الغضبة الحكومية, لكن يبقى ذلك ثمن الكلمة الشريفة, فالصحفيين الشرفاء يبذلون أرواحهم فى سبيل الحصول على الخبر الصادق والتحقيق المميز, ويبقى لأجهزة الإعلام السودانية المنتفخة بصورتها القبيحة أن تتعلم الدرس, وربما تحتاج لدروس عصر فى ذلك, ومع ذلك فقد واصلت قناة الجزيرة, وما تزال, أخبارها وتحليلاتها عن مأساة دارفور إلى الدرجة التى أضطر معها مسؤولوا الحكومة السودانية الهروب من مقابلاتها, أو محاولة الكذب مثلما أشار عبدالباسط سبدرات (مسؤول أمانة الإعلام! فى المؤتمر القومى لحل قضية دارفور) فى مقابلة مع القناة نفسها إلى أنَّ صور معسكرات اللاجئين فى الداخل وفى تشاد والتى تعكسها وكالات الإعلام العالمية ربما تكون من رواندا!!!
ثمَّ جاء مقال السيدة هدى الحسينى الصحفية بجريدة الشرق الأوسط اللندنية بعنوان "سياسة التطهير العرقي تهدد وحدة السودان" ليؤكد ما ورد من أخبار وتحليلات قناة الجزيرة ويتهم الحكومة مباشرة بممارسة سياسة التطهير العرقى, إذ كتبت الصحفية: "الغريب إنَّ الرئيس السوداني منذ عدة سنوات يعتمد «الإستراتيجية» العسكرية التالية: يسلح ميليشيات عربية من المنطقة، التي تتعرض للقصف، ويعطيها الضوء الأخضر لتعبث قتلا ونهبا وحرائق, وبالطبع اغتصاب وسبي النساء. وكما فعل في الجنوب، يفعل في الغرب" (الشرق الأوسط 19/2/2004م).
وعلى هدى مقال هدى الحسنى كتب الكاتب اللبنانى المخضرم سمير عطا الله قريباً فى جريدة الشرق الأوسط مقالاً بعنوان "دارفور" صبَّ فيه جام سخريته على أسلوب وزير خارجيتنا الهمام فى وصفه لمأساة دارفور فى قناة البى بى سى, وقال: "وأقسى ما في كلام السيد الوزير كان الطلاقة التي يغبط عليها. وقال له المذيع إنَّ هناك تسجيلات تثبت تعاون «الجنجاويد» والسلاح الجوي السوداني في قصف قرى دارفور وفلاحيها ومساكينها, الذين لا فرق في مستوى حياتهم فوق الأرض أو تحتها. ولم يهتز في حنجرة الوزير وتر! قال إنَّ الحكومة أيضاً لديها تسجيلاتها. لكم تسجيلكم ولي تسجيلي. تلك هي المسألة. وقال إنَّ الامم المتحدة ترفع تقريراً في الموضوع. وقد قررت أنَّ اكتب فقط لكي أنقل شيئاً من كلام السيد الوزير. وأنا مع أهل دارفور وقراهم وبيوت القش التي تحرق. ومع بشرتهم المحروقة. وضد جميع الميليشيات على الارض وفي كل الحروب. لا نزال في لبنان ندفع ثمن جرائمها ووحشيتها" (الشرق الأوسط 17/5/2004م). شكراً لك يا سمير فى مسيرتك الصحفية الناضجة من مجلة الحوادث البيروتية فى عهدها الزاهى زمن الراحل سليم اللوزى إلى مشاركاتك الحالية الثاقبة فى جريدة الشرق الأوسط.
ثمَّ تحركت جامعة الدول العربية لتتحمل مسؤولياتها, على الأقل بعد أن تحركت كل الجهات والمنظمات العالمية, وأرسلت وفداً إلى دارفور مطلع الشهر الحالى للتحقيق فى جرائم الإنتهاكات, وخلص الوفد الذى رفع تقريره إلى الامين العام للجامعة العربية الدكتورعمرو موسى إلى وقوع "إنتهاكات جسيمة" لحقوق الإنسان في ولاية دارفور في ضوء الزيارات التي قام بها إلى معسكرات النازحين في ولايات دارفور الثلاث, الفاشر ونيالا والجنينة, إضافة إلى معسكرات اللاجئين السودانيين في شرق تشاد على طول الحدود السودانية التشادية". وقد أشار التقرير إلى جرائم القتل والنهب والإغتصاب التي أُرتكبت في حقهم من قبل الميليشيات المسلحة لقبائل الجنجاويد, وإفتقادهم لضمانات الأمن التي تساعدهم على العودة إلى قراهم, وأرجع التقرير تفاقم الأزمة في دارفور إلى عدد من العوامل السياسية والقبلية والبيئية المتداخلة حيث أشار إلى
"إنضمام القبائل العربية, دون غيرها, إلى الجيش الشعبي السوداني فى أعقاب الإستنفار الذى دعت إليه الحكومة السودانية لمواجهة عمليات عسكرية قامت بها حركتا التمرد, حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة, العام الماضي وهو الأمر الذى أدى لإلى إستفادة هذه القبائل من تشليحها فى القيام بإرتكاب إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان فى إاطار الصراع القبلي المحتدم في هذ المنطقة من السودان على موارد المياه والمراعي". وأكد التقرير "على ضرورة الإسراع فى إنشاء لجنة مستقلة تتولى التحقيق في الممارسات غير الإنسانية المرتكبة في المنطقة والعمل على توفير البيئة الآمنة ووضع الضمانات الأمنية التي تسمح بعودة النازحين واللاجئين إلى قراهم المهجورة ورد الممتلكات المنهوبة والعمل على نزع أسلحة الميليشيات" (المشاهير 19/5/2004م). وصف وزير الخارجية هذا التقرير بأنَّه جاء متوازناً فهل سيقبل بتكوين لجنة تحقيق عالمية مستقلة كما إقترح التقرير؟
يبدو أن كل العالم يرى ويعرف الحقيقة إلاَّ الحكومة السودانية التى أصرَّت أن تغمض عينيها. إنَّ تقرير الجامعة العربية أعلاه كاد أن يؤكد حدوث حملات إبادة وتصفية عرقية بدارفور لكنَّه أمسك نفسه قيد أنملة من ذلك, وأوصى بتكليف لجنة تحقيق مستقلة تتولى التحقيق فى تلك الممارسات الغير إنسانية, ونرجو من الحكومة ألاَّ تقفز فتقول لنا لقد كوَّنَا لجنة برئاسة دفع الله الحاج يوسف, فأهل الجامعة العربية بالرغم من أنَّهم يعرفون ذلك إلاَّ أنَّهم أصرُّوا فى تقريرهم إلى ضرورة "الإسراع فى إنشاء لجنة مستقلة تتولى التحقيق", ولو كانت الحكومة لديها ذرة من المصداقية لما أصرَّت كل الجهات العالمية على ذلك.
ختام:
السيد وزير الخارجية بسلوكه هذا تجاه قضية دارفور يعكس فى مخيلة أهلها صورة طبق الأصل لما ظلَّوا يعتقدونه منذ زمن بعيد, وهم على حق, عن الخلفيات السيكلوجية النابعة من المركز تجاه إقليمهم, وليس لنا أن نورد أمثلة لذلك فالتصريحات المتكررة للرئيس البشير نفسه, والتى إستلفها من نائبه الأول, الذى لا يتردد فى إطلاق منكر القول يرمى بها أهل دارفور, تمثل شواهداً محسوسة, وسوف لن تنمحى من ذاكرة هذه الأجيال من أبناء الإقليم, وما يتفوه به وزير الخارجية اليوم لا يعدو أن يكون إلاَّ إمتداداً لذلك, وجزء من إرث طويل من الإستفزازات والإزدراء لهؤلاء الناس, وِلمَ لا طالما كان رب البيت بالدف ضارباً, ويبدو أنَّهم مدبرين شيئاً غير كريم لدارفور وإلاَّ لما كانت هذه الصراعات والمناكفات مع المجتمع الدولى فى أمور أصبحت شواهدها أوضح من الشمس فى عز الظهيرة, وقد صدق أحد المشاركين فى ركن للنقاش بمنبر سودانيز أون لاين حينما كتب: "أزمة دارفور وفظائعها, التي هزت ضمير العالم وحركت الأمم المتحدة ومنظمات الشرق والغرب, لم تحرك ساكناً إلى الآن لدى ساستنا الذين ما زالوا في مرحلة تكوين لجان, ستنبثق عنها لجان ثم لجان أخرى لـ (تقييم الوضع). وإذا كان وزير خارجية السودان جاداً في قوله بأن لجنة لتقصي الحقائق شكلها عمر البشير ستبدأ أعمالها، فلتسمح حكومة السودان بلجنة (ليست سودانية) محايدة ومن قبل الأمم المتحدة وقانونييها لتقصي الحقائق الكاملة حول دارفور", تلك هى لب القصيد وذلك هو هدف المجتمع الدولى فى المرحلة القادمة.