دارفور… ثم ماذا بعد إنهيار المفاوضات؟

 


 

 


 mailto:helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية

حتى أشد المتفائلين لم يكن ليؤمن بنجاح المفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان والتى جرت الأسبوع الماضى فى العاصمة التشادية إنجمينا, والسبب جد بسيط وهو عدم مصداقية الحكومة السودانية, وسجلها موثَّق فى هذا المجال نحسب أن الجميع ملم بها, أقلَّها الإتفاقيات التى وقعتها مع كل القوى السودانية شمالية كانت أم جنوبية مما يعكس عدم أهليتها وإهتراء برامجها لبناء دولة صحية معافاة من الإحن والتوترات والمشاكل, ولو دارت عجلات الزمان لأربع عشرة سنة ونصف السنة إلى الوراء, بالرغم من سريان الحرب فى جنوب البلاد وقتذاك, إلاَّ أنَّ أى سودانى لم يكن قد يدور بخلده أن يشاهد بلاده يوماً ما تسير حثيثاً نحو حالة الإنفصال نتيجة الفوضى والإخفاق اللتان ظلت تعيشهما خلال هذه الفترة وفشل النظام فى معالجة أى من قضياها العاجلة والآجلة, إنَّ هذا النظام لا ينفك يتحفنا بالعجائب والغرائب مع مشرق كل صباح جديد, فحالياُ وبينما يستميت النائب الأول ونظامه فى إبقاء مناطق أبيى وجبال النوبة والأنقسنا فى حظيرة الوطن الأم, بعد إحتمال وارد لإنفصال جنوب البلاد, نشاهد أنَّ نظامه فى نفس الوقت يندفع بحماقة لتعقيد الأمور فى دارفور ودفعها نحو المزيد من الإنفجار وإذكاء نيران الفتنة المشتعلة أصلاً والتى بذرتها بنفسها بين أهل وقبائل الإقليم, وظلت تترصد بل وتحاول بشتى السبل جر الرئيس التشادى إدريس ديبى للتحالف معه فى شن حرب كاسرة ضد ثوار دارفور, ضاربة بعرض الحائط كل المناشدات المحلية والدولية للإحتكام لصوت العقل وحل مليشيات الجنجويد التى تطورت أخيراً من ركوب الخيل والجمال إلى إستخدام تجهيزات حكومية متطورة متمثلة فى العربات ذات الدفع الرباعى وإستخدام الصواريخ ومدافع البازوكا والدوشكا فى تدمير منظم لديار القبائل المتوطنة, هل هكذا تبنى الدول؟ ولماذا لا يرفع المظلومون السلاح وهم يروا أن حكومتهم ومليشيات مغررة بها تريد إبادتهم كليةً عن الحياة؟

مسرحية مفاوضات إنجمينا:

وتجئ مفاوضات إنجمينا فى شكل مسرحية سيئة الإعداد والسيناريو والإخراج, ولذلك فليس من المستغرب أن تولد ميتة, ولقد خلقت تحركات الحكومة المحمومة ما بين الخرطوم وإنجمينا والتصريحات المتبادلة التى سبقت موعد المفاوضات ما بين الجانبين السودانى والتشادى نحو قضية دارفور جواً من الشكوك العميقة حول جدية الحكومة فى السعى إلى تفاوض أمين ومخلص مع حركة تحرير السودان, فقد تابعنا فى ذات السياق تسارع نشاط الحكومة وإبرامها لإتفاقات دفاعية وأمنية مع دولة تشاد خاصة فى المدة التى سبقت موعد الجولة الأخيرة من المفاوضات, وتحديداً فى الفترة ما بين تمديد وقف إطلاق النار فى 5/11/2003م وإلى 15/12/2003م, وهى موعد المفاوضات التى إنهارت بالأمس القريب, مما يشى برغبة محمومة لها لتحقيق حسم عسكرى مدمر وسريع تريحها قليلاً من متاعبها فى شرك المفاوضات المصيرية الذى دخلت فيه فى نيفاشا, فخلال هذه الفترة أوردت الصحف ووكالات الأعلام السودانية سلسلة من النشاطات فى هذا الصدد نوجزها فى التالى:

1- توقيع بروتوكول أمنى سودانى تشادى وتنسيق على المستوى الميدانى (الرأى العام 7/11/2003م).
2- أطلق الجنرال محمد نوري وزير الدفاع التشادي تصريحات أعلن فيهاالتنسيق المشترك بين القوات السودانية والتشادية لدرء الأنشطة المعادية للبلدين (ألوان 8/11/2003م).
3- وزيـرا الدفـاع بالسودان وتشـاد يتفقان على تكوين قوات مشتركة (أخبار اليوم 8/11/2003م).
4- وفد أمنى برئاسة اللواء الطيب ابراهيم محمد خير مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الامنية حكومى يجتمع مع ديبى لبحث خطوات انفاذ البروتكول الذي يدعو لانشاء قوة مشتركة للبلدين (الرأى العام 8/11/2003م).
5- قام الرئيس التشادي إدريس ديبي بزيارة سريعة الى الخرطوم تركزت على الخطط العملية المشتركة بين الخرطوم وانجمينا لمواجهة المشاكل بدارفور(الرأى العام 13/12/2003م).
6- وصول وفد عسكرى سودانى إلى العاصمة التشادية إنجمينا قبل بدء المفاوضات وإجتمعت بالرئيس ديبى, و تأتي الزيارة في إطار التعاون العسكري بين البلدين (الرأى العام 15/12/2003م).

هل يوجد فى هذه التحركات ما يوحى بنية الحكومة الدخول فى مفاوضات مخلصة تؤدى لإرساء دعائم السلام بدارفور؟ أم إنَّها إعداد العدة لحرب حقيقية وشرسة بمساعدة دولة تشاد؟ لقد ورد إلينا مؤخراً أن وفداً من دارفور إتصل بمكتب رئيس الجمهورية وعرضوا شكوى ضد حملات الإبادة التى تقوم بها مليشيات الجنجويد ضد الأهالى المستقرين من أهل الإقليم, ولدهشتهم فإنهم تلقوا رداً مفاده إنَّ الحكومة سوف لن تحل مليشيات الجنجويد, وإنَّ الأهالى هناك إن أرادوا السلامة فعليهم أن يضغطوا على عبدالواحد لإلقاء سلاحه وتسليم نفسه للحكومة, وإلاَّ فإنَّ الجنجويد سوف يظلوا موجودين فى الساحة لمساعدة ودعم القوات الحكومية. ليس فى ذلك من شيئ جديد وقد سبق أن وثقناه فى أكثر من مناسبة, بل إنَّ منظمات حقوق الإنسان العالمية والدول الكبرى المهتمة بالشأن السودانى صارت تورد صوراً مختلفة عن المآسى التى تسببها هذه القوات ضد الأهالى وبرعاية ودعم كامل من جانب الحكومة ومن أعلى المستويات فى الدولة.

إنَّ ما جرى فى إنجمينا يدل تماماً على عدم رغبة الحكومة فى الجلوس لإجراء أية مفاوضات مع حركة تحرير السودان, بل تريد كسب الوقت لنقل المزيد من القوات من جنوب السودان إلى دارفور, وحتى وصول وفدها إلى إنجمينا بغرض المشاركة فى المحادثات فإنَّ ذلك لم يحدث إلاَّ لغرض التغطية لإخراج الأكذوبة التى أطلقتها على العالم بشأن المطالب المزعومة لحركة نحرير السودان, ومن ثمَّ إتخاذ تلك المزاعم كذريعة لشن الحرب فى دارفور, وحسناً فعلت الحركة بإصدار بيان للشعب السودانى أوضحت فيه حقيقة أنها لم تجلس أبداً فى أى مفاوضات مع الجانب الحكومى, بل ولم تعرض مطالبها أبداً لأى كان, وأنَّ كل ما قالته الحكومة هو كذب وتلفيق لتبرير مواصلة إعتداءاتها ومليشياتها المسلحة على السكان الآمنين, لقد روى قادة الحركة ما حدث حقيقة نلخصها فى النقاط التالية:

1- وصل وفد الحركة المفاوض لإنجمينا يوم 14/12/2003م ونزلوا فى المكان المخصص لهم.
2- زارههم وزير الأمن التشادى فى اليوم التالى وسألهم عن المطالب التى يودون عرضها على الجانب الحكومى فردوا عليه بأنَّهم جاؤا للتفاوض وبحوزتهم كل ملفات الملاحق الخاصة بمطالبهم المشروعة, وأنَّهم سوف لن يكشفوا عن أى شيئ إلاَّ فى طاولة مفاوضات مباشرة مع الوفد الحكومي مع رقابة دولية كضمان لما ستفصح عنه المفاوضات.
3- أصَّر الوزير على الحصول على تلك الملاحق بحجة ترجمتها إلى اللغة الفرنسية فردَّ عليه وفد الحركة بأنهم قد رتبوا ذلك وسيكشفوا عنه خلال المفاوضات, وهنا خرج الوزير ولم يطلعهم على أى برنامج للإجتماع أو التفاوض.
4- فى اليوم التالى إستدعاهم الرئيس ديبى وإستفسرهم عن بعض الملاحظات ثمَّ خاطبهم بأنَّه بدأ يشعر بتعنت الجانبين (الحكومة والحركة) فى مطالبهم وإستحالة وصولهم لحل فى ظل الأوضاع القائمة, وأنَّه قد قرر سحب وساطته بينهم, بل وقال لهم حرفياً: "إذهبوا وإستمروا فى حربكم مع حكومتكم فإذا هزمتوها فمبروك لكم, وإذا إنهزمتم فتدبروا أمركم, أما إذا لم يتمكن أى طرف من هزيمة الآخر فإرجعوا إلىَّ و عندها سأواصل وساطتى بينكم مرة أخرى" وأضاف "إرجعوا من حيث جئتم وسوف لن تبيتوا فى بلدى هذه الليلة"!!
5- إخذوهم بطائرة فى المساء وأوصلوهم إلى الحدود التشادية السودانية وتركوهم فى الخلاء بين بعض الخيران والكراكير بعد أن قالوا لهم سيروا فى هذا الإتجاه وستجدوا أهلكم هناك!! ثمَّ فوجئوا صباح اليوم التالى بحملة أكاذيب الحكومة وإفتراءاتها عليهم بقصد تجيير الرأى العام المحلى والقومى والعالمى ضدهم.

ولقد تساءل منى أركو مناوي الأمين العام لحركة تحرير السودان ورئيس وفد التفاوض فى رده لجريدة الشرق الأوسط عن سؤال حول وصول التفاوض إلى طريق مسدود حيث أجاب "أنَّ المفاوضات لم تبدأ أبداً ولم نلتق مع أي أحد من الطرف الآخر.. فكيف تكون وصلت إلى طريق مسدود"، وروى ما دار في إنجمينا قائلاً: "حضرت على رأس وفد الحركة وإلتقينا في البداية معاوني الرئيس التشادي، طلبنا في اللقاء مفاوضات مباشرة مع الوفد الحكومي، ورقابة دولية، ويبدو إنه تم تسريب ما دار في هذه الجلسة إلى جهات حكومية، بدليل أنه عند لقائنا بالرئيس دبي، سألنا عن رؤيتنا لحل قضية دارفور، وبعد أن إستمع لوجهة نظرنا قال لنا عودوا إلى مناطقكم لأن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، فإستغربنا لما جرى، ولم نأخذ حديث الرئيس مأخذ الجد بإعتبار أنهم لم يبدأوا أي مفاوضات حتى تصل إلى طريق مسدود، ولكن بعد سماعنا بعد ذلك من إذاعة إنجمينا وأمدرمان أن المفاوضات قد إنهارت، عدنا أدراجنا" (الشرق الأوسط 18/12/2003م).

ذلك ما تمَّ حقيقة, ولعلَّ البيان الذى أصدره وزير الأمن التشادي حول إنهيار مفاوضات أبشي ما يثبت أنَّه لم تكن هناك مفاوضات أصلاً ولم تصدر من جانب وفد الحركة أى مطالب حتى تعتبرها الحكومة, كما ظلت أجهزة إعلامها تنعق بها, سبباً فى فشل المفاوضات, لقد جاء فى بيان وزير الأمن والهجرة التشادي, فى نسخته العربية, توضيحاً مهمَّاً نورد منه الآتى: "واليوم حضر إلي إنجمينا الوفد الحكومي ووفد الحركة والشيء الذي فهمناه من الإخوة في الحركة أنهم لا يمثلون كل الأطراف التي لها نشاط في دارفور وفي حالة توقيعهم علي ورقة (إتفاق) لا يمكن أن يجبر الآخرين علي وقف إطلاق النار لهذا نريد أن نطلع الرأي العام بأن هناك فشل في المناقشات منذ هذا اليوم وأن المناقشات قد توقفت بين الحكومة والحركة ونقول نحن في تشاد إن أراد الإخوة في الحركة في يوم من الأيام من الرئيس شخصيا والحكومة أن تتصل لتنشيط المفاوضات فإننا جاهزون للقيام بهذا الدور لكن في الوقت الراهن فإن المناقشات بين الحكومة والحركة بواسطة تشاد قد فشلت (أخبار اليوم 18/12/2003م).

هذا ما جاء على لسان الوزير فهل فيه أى شيئ يدل على أنَّ الحركة طالبت بإنشاء دولة فى دارفور والحصول على نسبة 13% من عائدات النفط وثمانية مقاعد وزارية فى الحكومة القومية ووجود ثلاثة كتائب عسكرية فى الخرطوم أسوة بالحركة الشعبية لتحرير السودان؟ كما أوردت أجهزة الحكومة وظلت تنعق به ضد الحركة المسلحة؟ ما هكذا تورد الإبل, وإذا فشلت الحكومة فى حسم الثوار عسكرياً فقد لا تتردد فى خلق الأكاذيب ضدهم, وهذه شأنها وديدنها ولم تكن هذه الأولى, فقد أطلقت قبل أيام كذبة سخيفة تزامنت مع موعد بدء التفاوض أعلنت فيه أنَّ تحقيقاتها قد كشفت عن دعم إسرائيلى لمتمردي دارفور! وأضافت أنَّ حركة العدل والمساواة والتى يتزعمها المحامي عبد الواحد لها علاقات خارجية مشبوهة وأنها تتلقى دعما من جهات تكيد للإسلام والمسلمين (سودانيز اون لاين 13/12/2003م)! ما دخل الإسلام والمسلمين فى ذلك؟ وهل أهل الإنقاذ أكثر إسلاماً عن أهل دارفور؟ تلك كذبة أطلقتها وكالة smc والمعروف أنَّ عبدالواحد ليس له علاقة بحركة العدل والمساواة إنما يتبع لحركة تحرير السودان, أمَّا هذه الوكالة, وهى كجهة تربت فى كنف جهاز الأمن السودانى, فقد إشتهرت ببث الفتن وبذر الأخبار الكاذبة (بروباقاندا) ضد معارضى الحكومة, وقد قامت فى نهاية شهر أغسطس الماضى بتسريب كذبة أخرى مفادها إنسلاخ الدكتورعلي الحاج والدكتورخليل إبراهيم والدكتور شريف حرير عن المؤتمرالشعبي والتحالف الفدرالي (لندن: اس ام سي 23/8/2003م) وهى أكذوبة أيضاً!

لكننا نلاحظ أيضاً فى بيان الوزير التشادى أعلاه جملة من الملاحظات جديرة بلفت النظر, أولها تأكيدها أن المفاوضات قد فشلت بسبب إشارة وفد الحركة بأنَّهم "في حالة توقيعهم علي ورقة (إتفاق) لا يمكن أن يجبر الآخرين علي وقف إطلاق النار", وعلينا أن نتساءل هنا عن دخل الأطراف الأخرى بتلك المفاوضات طالما هى بالأساس لم توقع إتفاقاً مع الحكومة على ذلك؟ وما هو المبرر فى ذلك لفشل التفاوض؟ لقد كان جديراً بالوزير التشادى القول "بإلغاء التفاوض" وليس فشله إلاَّ إذا كان فى الأمر سراً متفقاً عليه مسبقاً مع الحكومة السودانية, ثانياُ, كان من الأجدى لسيادة الوزير أن يسعى "لتعليق المفاوضات" إلى أجل جديد لضمان جذب الأطراف الأخرى إلى طاولة النقاش ويمكن فهم ذلك من زاوية موقع حكومته كراعية للتفاوض مما يعطيها درجة معقولة من الحيادية والشفافية فى وساطتها المزعومة, ثالثاً, قوله "واليوم حضر إلي إنجمينا الوفد الحكومي ووفد الحركة" قد يوحى بأنَّ هناك إجتماعاً قد إنعقد مما يجافى الواقع تماماً.

إنَّ التوتر المتفاقم داخل أجهزة النظام أصبح مشاهداً من كل الجوانب, وحتى الحكومة نفسها لا تأل فى تأكيدها لذلك كل يوم كإنعكاس لسلوكها المتشنج, فلم يمض بضع أيام على إعادة صحيفة الأيام للصدور حتى وأعيدت وقفها مرة أخرى بجانب صحيفة خرطوم مونيتر الإنجليزية, وحتى زيارة وفد الحركة الشعبية للخرطوم لم تشفع لها لإعادة الصدور, كيف سنبنى السلام والوحدة الوطنية بمثل هذه التصرفات العرجاء؟ ثم صدرت قرارات الزيادة فى أسعار السكر والبنزين والجازولين لتدمر أى ثقة فى أنَّ النظام وتباعد بينها وبين جماهير الشعب وتحيل ثمار السلام القادم إلى ثمار حنضلية مُرةه, ثمَّ جاءت حادثة قفل محطة قناة الجزيرة الفضائية وإعتقال مديرها لتكشف بجلاء ضيق صدرالنظام بالكلمة الحرة والشفافية الإعلامية, ومثلما قدَّرنا فى السابق أن وقف صحيفة الأيام قد يكون له علاقة بنشرها لأخبار دارفور المؤلمة فإنَّ قفل محطة الجزيرة قد يكون بسبب بثها لبرنامج من 4 حلقات بعنوان "الحريق" تناولت الأوضاع المتردية فى دارفور, وفوق هذا وذاك قامت بفبركة فرية مفاوضات إنجمينا لتتخذها ذريعة لمواصلة تدمير إقليم دارفور, المدمرة أصلاً, وتواصل إبادة البشر هناك, فمن سيصدق الحكومة بعد كل كشف الحال هذا؟ ومن الذى سيثق فى تعهداتها ومواثيقها, ولعلَّ قادة الحركة مدركين لذلك ولذلك فقد تصرفوا بحكمة وتركوا الأمر للشعب كى يحكم على الموقف بنفسه.

إنَّ حادثة مجزرة مليشيات الجنجويد لأهل مدينة كبكابية أمس الأول يجب قراءتها من زاوية رغبة الحكومة ومليشياتها العربية فى إبادة سكان دارفور من الأصول الأفريقية, وليس فى ذلك من جديد لديهم فقد فعلوها فى الجنوب وجبال النوبة من قبل, فآخر الأرقام التى وصلتنا تشير إلى مقتل 225 من المواطنين من سكان المدينة فى مختلف الأعمار, ولم ينج من الذين وقعوا ضحية ذلك الهجوم الغادر حتى العجزة والأطفال, هذا بخلاف النهب الواسع للأموال والحرق وتدمير المنازل, ساندتها قصف جوى لمصادر المياه حول المدينة فى مشهد شبيه لما جرى لمدينة كتم فى مطلع شهر أغسطس الماضى تكتمت الحكومة على تقرير رسمى أعده قاضى بشأنها, لكنَّ أبعاد المأساة تتكشف فى حادثة كبكابية حينما نعلم أنَّ هذه المدينة بها حامية عسكرية تابعة للجيش السودانى هى الثانية من حيث الحجم فى ولاية شمال دارفور بعد القيادة الغربية بالفاشر, فإذا كانت مهمة هذه الحامية حماية المدينة وكل أرجاء مناطق وسط دارفور فلماذا لم تتدخل لإنقاذ أرواح الناس؟ وأين ذهبت قيادتها وأفرادها وهم على مرمى حجر من وسط المدينة مقطع الوادى؟ هل هناك من تفسير آخر لذلك سوى ضلوع الحكومة حتى عنقها فى رعاية وتنفيذ (جينوسايد) منظم لإهلاك أهل الإقليم الأبرياء؟ إنَّ الأمر يحتاج إلى تدخل دولى شاءت الحكومة أم أبت, وكيف توافق على ذلك وهى المجرمة والمتهمة الأولى فيما يحدث, ولعلنا سنسمع عن قريب ما قد يشير إلى ذلك! فكل سلوك النظام العالمى الجديد تتحرك فى ذلك الإتجاه.

مشكلة الحكومة مع أهل دارفور قديمة متجددة:

إنَّ إشكالية العلاقة بين أهل دارفور وجلَّ الحكومات السودانية هى إشكالية قديمة متجددة, ولعلنا قد حلَّلنا ذلك فى مناسبات سابقة, لكنَّ الإشكالية الآن مع أهل الإنقاذ قد فاق حدَّ التصور, ببساطة نظام الإنقاذ لا تحترم أهل دارفور ولا تعترف أصلاً بآدميتهم, ناهيك عن وجود أى قضية لديهم, وإلاَّ فما القصد وراء هذه الإبادة التى يتعرض لها شعب الإقليم مع مشرق ومغرب كل شمس جديد؟ من الجانب الآخر, ونتيجة لتواتر مظالم الحكومة وإزدرائها, فإنَّ أهل دارفور فقدوا كل ثقة فيها أو خير يأتى من جانبها, وهم فى ذلك على حق, فبات هناك هوة عظيمة من عدم الثقة والشكوك المتبادلة التى قد تحتاج لمعجزة لردمها. ومع ذلك فإنَّ أهل دارفور ظلوا ملتزمين بوحدة السودان, بل ومدافعين عنها لمدى نصف قرن من الزمان منذ ما قبل إستقلال البلاد, ناهيك عن دورهم فى الدولة المهدية, وحين يأتى نظام الإنقاذ اليوم يفترى عليهم مطالبتهم بخلق دولة يحكمونها فذلك كذب صراح, لكن وللحقيقة فقط نقول إذا أراد أهل دارفور خلق دولة منفصلة إسمها "جمهورية دارفور" فقد لا يحتاجون لإذن فى ذلك من طاولة للمفاوضات أو أن يكون ذلك عطاء من أحد, فسينتزعونها إنتزاعاً, وحتى حين تتهمهم الحكومة بالمطالبة بتقرير المصير فإنَّ ذلك أيضاً يظل إتهام زائف, لكن وللحقيقة أيضاً نقول إنَّ أهل دارفور إذا ما طالبوا بذلك فذلك قد يكون حقاً مكفولاً لهم أكثر رجاحةً وأعمق تفهماً من جنوب السودان نفسه, فدارفور ظلت مستقلة طوال تاريخها ولم تنضم لسودان اليوم إلاَّ قسراً بواسطة القوة الأنجليزية الحديثة الغاشمة, لكنهم زهدوا فى ذلك وآمنوا بمبدأ وحدة بلادهم وإقليمهم فى وحدة السودان الواحد الموَّحد, لكن أيضاً فى ظل العدالة والمساواة والحقوق المتساوية مثلها مثل بقية الأقاليم الأخرى, لكنَّهم اليوم يُفجعون فى ذلك فلا تنمية ولا مساواة ولا إعتراف بل قتل وهدم وتشريد, فماذا بقى لهم أن يفعلوه سوى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم, ذلك حق مكفول لهم تحت كل الشرائع السماوية والأعراف الإنسانية.

ثمَّ ماذا بعد إنهيار المفاوضات:

ستظلَّ هذه المأساة التى تجرى فى دارفور مستمرة وسيموت خلق كثير دونما ذنب جنوه سوى أنَّهم فى الطرف الآخر من الحكومة ومليشياتها, وسيظلَّ المجتمع السودانى والعالمى مغيباً تماماً عمَّا يتم هناك من إبادة عنصرية, وإذا حُرم الإنسان من نعمة الحياة التى وهبها له ربَّه فإنَّ ذات الرَّب قد أعطاه الحق فى أن يدافع عنها, وإذا مات دونها فهو شهيد, وعليه فإننا نعتقد أنَّ هناك جملة من المفاهيم والخطوات التى يمكن إتخاذها فى سبيل وقف هذه الفتنة الخبيثة, نوجزها فى النقاط التالية:

أولاً: نعتقد إبتداءاً أنَّ التدخل الدولى قد أصبح أمراً محتوماً لإنقاذ حياة الأهالى الأبرياء من هذه المهلكة التى تجرى على أرض دارفور وبرعاية الحكومة وعصابات الجنجويد, ولا نعتقد أنَّ هذه الحكومة, أو مليشياتها, قادرة على فعل ذلك أو حتى فهم ما يفعلون, فعقليتهم لا يمكنَّهم من إستيعاب حجم الكارثة التى ينفذونها أو تخيل الدمار الذى ألحقوه فى بنية الإقليم وأهله, وبالنسبة لهذه الخطوة فما على أهل الإقليم إلاَّ مقاومة الظلم والتعبير عن ذلك بكل أشكاله, أمَّا بالنسبة لأبناء الإقليم فى حول العالم فعليهم القيام بمهمة الإعلام ومخاطبة أجهزة النظام العالمى الجديد والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية من أجل كشف زيف سياسات الحكومة وتوضيح ما يجرى حقيقة على أرض دارفور.

ثانياً: على كل أجنحة الحركة المسلحة التوحد, من الناحيتين العسكرية والسياسية, والتنسيق التام فيما بينها وتوزيع إمكانياتها على النحو الذى يخدم قضية دارفور بالطريقة المرجوة.

ثالثاً: أن تسعى قيادة الحركة المسلحة على إبعاد العنصر التشادى من لب هذه المشكلة كلياً, وحسناً فعل الرئيس التشادى بسحب وساطته, فما عاد هو ذلك السمسار النزيه بعد أن ثبت تورطه بما لا يدع مجالاً للشك فى تآمر مع الحكومة السودانية ضد قضية دارفور, ولعلَّ تمسك الحكومة به وبوساطته ما يؤكد دوره المشبوه.

رابعاً: أن يتم أى جولات قادمة للمفاوضات فى كينيا, وفى أعقاب إنتهاء مفاوضات السلام الحالية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان, وبوجود مراقبين دوليين والأمم المتحدة كضمانة لما تتمخض عنه المفاوضات. وحقيقة فإنَّ أهل دارفور يخشون أن يتم تمويل ثمن السلام فى جنوب السودان من حقوقهم المشروعة بينما تذهب بقية الثروة إلى مناطق أخرى ليس من بينها منطقتهم, وكأننا يا عمرو لا رحنا ولا جئنا!

خامساً: بالنسبة للجنجويد وأتباع التجمع العربى عليهم التفكير بعمق فيما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلاً فى دارفور وجنوب السودان ووضعهم فى تلك المعادلات والتى ستكون مختلفة تماماً عمَّا هو موجود اليوم, ويتصرفوا حسب ذلك.

سادساً: مطلوب من أبناء دارفور داخل وخارج السودان خلق ودعم الوحدة بينهم وتكثيف العمل من أجل مستقبل الإقليم والمحاولة لتعويض أهاليهم ما فات عليهم نتيجة الظلم والظلامات المتوارثة.

إحتمالات التدخل الدولى فى قضية دارفور:

كما ذكرنا أعلاه أنَّ إحتمالات التدخل الدولى لوضع حد لما يجرى فى دارفور من تطهير عرقى يبدو لائحاً فى الأفق, وقد سبق أن جاء فى الأنباء ما يفيد عن مساعي حثيثة لبريطانيا داخل أروقة مجلس الأمن لتقديم طلب للمجلس لإرسال قوات لحفظ الأمن بولاية دارفور (الأضواء 13/11/2003م), وبالرغم من عدم صدور شيئ عن ذلك إلاَّ أنَّه مؤشر لما يمكن أن تسير إليه الأمور خاصة بعد التطورات الأخيرة وتزايد وتيرة هجمات الحكومة ومليشياتها على السكان العزل, لكننا لاحظنا أيضاً فى المدة الأخيرة تحركات متزايدة فى ذلك الإتجاه, فقد أوردت الصحف السودانية مؤخراً حزمة من الأخبار نورد منها الآتى:

1- الامم المتحدة تحيل ملف دارفور لإدارة حقوق الإنسان بالمنظمة الدولية لإجراء التحقيقات اللازمة بشأن التطورات فى دارفور (الأضواء 3/12/2003م).
2- وفد من حركة العدل والمساواة يلتقى منظمة العفو الدولية بلندن ومباحثات حول مشكلة دارفور (سودانايل 8/12/2003م).
3- كوفي عنان ينتقد الوضع في دارفور ويطالب بحضور مباحثات أبَّشى (الأضواء 10/12/2003م).

هذا بجانب بيانات منظمة العفو الدولية والمنظمات العالمية المشابهة وتقاريرها التى ظلت تترى هذه الأيام بصورة توارت معها محادثات السلام فى نيفاشا, وربَّما نسمع قريباً عن تحركات مماثلة.



 

آراء