دارفور… قضايا وإشكاليات

 


 

 

دارفور... قضايا وإشكاليات
(1)
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
darfurrights@yahoo.com
الولايات المتحدة الأمريكية

تصاعد الأحداث بدارفور وتغيراتها على مدار الساعة تفرض على المهتمين بأمرها أن يتعاملوا معها وفق ما تقتضيه ذلك التسارع, وكذلك تفرض علينا أيضاً أن ننتبع جملة من القضايا المختلفة والمتشعبة فى آن واحد مخافة ألاَّ نتخلف عن التفاعل معها, ولذلك نخصص هذه السلسلة المفتوحة من المقالات نحو ذلك علَّها تسعفنا إستكمال ما فاتنا من قضايا فى سلسلة مقالنا السابق "هموم دارفورية", ونأمل كذلك ألاَّ تفوتنا شاردة أو واردة بشأن التطورات القادمة.

(1)
الحركات المسلَّحة بدارفور وضرورة الحذر فى المرحلة المقبلة:

بينما بدأت الحكومة السودانية حصادها المُر فى الفتنة التى بذرتها ورعتها فى دارفور, وبينما بدأت تغوص فى وحل السياسة الدولية جراء سياساتها الأحادية الظالمة, والتى أهلكت الحرث والنسل فى ربوع تلك البلاد الطاهرة, يجدر بالحركات المسلَّحة بدارفور أن تنتبه إلى حقيقة أنَّه ليس هناك إحتمال لإستمرار شهر العسل بينها وبين ذات تلك القوى المتنفذة والتى راعها الظلم والإبادة والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فبادرت مجتهدة لرفعها عن كواهل هؤلاء البؤساء والمشردين ولإنقاذ حياة من تبقى إنقاذه, وهى إن تفعل ذلك فإنَّها تنظر للأزمة بكل جوانبها وتداعياتها وتضغط على الحكومة السودانية لتنفيذ ما تعهدت به مستصغرة أمامهم, لكنَّها سوف لن تغفل فى نفس الوقت أن تطالب وتضغط على الحركات المسلَّحة بذات المثل أن تلتزم أيضاً بما يليها من إستحقاقات طالما كانت هى الطرف الثانى فى صلب هذه المواجهة. إنَّ الضغوط على الحكومة السودانية التى وصلت إلى مستوى التهديد بالتدخل العسكرى من جانب رئيس الوزراء البريطانى وطرح القضية بصورة جادة أمام منصة مجلس الأمن الدولى سوف لن تحل الأزمة الناشبة ما لم يلتزم كل طرف من أطراف النزاع, وبصورة جادة, فى المشاركة فى المفاوضات المؤدية لحل سياسى إنطلاقاً من مفهوم يعرفه متخصصو العلوم السياسة جيداً تعتمد مبدأ أنَّ أى حرب ينشأ بين قوتين لا بد وأن يأتى حلُّها عن طريق المفاوضات السياسية, طالما أنَّ القضية سياسية فى أساسها, وقضية دارفور سياسية فى المقام الأول. ولذلك يجب على هذه الحركات المسلَّحة أن تراعى طبيعة التحرك العالمى بعين بصيرة وتحاول تكييف سياساتها بقصد المحافظة على تجيير الأوضاع والمتغيرات لمصلحتها ولن يكون ذلك بإتباع سياسات الرفض و ردود الفعل وإنَّما بإتخاذ المبادرة كمبدأ وإبداء المرونة اللازمة كتكتيك خاصة وأنَّ الحكومة السودانية تحاول الآن جاهدة ذرف دموع التماسيح والإنبطاح المخزى للقوى العالمية والولولة والظهور بأنَّها ضحية السياسات الدولية الظالمة مشبِّهة نفسها بالعراق وأفغانستان وشتان ما بينها وبين تلك الدول.

لقد ظللنا ننبه الإخوة بالحركات المسلَّحة, ومنذ إنفجار هذا النزاع, إلى ضرورة الإلتفات إلى تقوية ودعم الجانب السياسى فى قضيتهم, والتى هى قضية كل أهل دارفور, وإستشراف آفاق الحل النهائى لأصل النزاع بناءاً على مدخلات الحلول السياسية, وطالما كان الأمر كذلك, وطالما أنَّ القضية تكاد الآن أن تشارف نهاياتها إذا صدقت الجهود المؤدية لذلك, وحسب شواهد الضغوط الدولية, فيجب على قيادات هذه الحركات المسلَّحة رفع درجة الإحماء تحسباً للمفاوضات القادمة مع الحكومة السودانية والتى سوف لن تكون سهلة بتاتاً إن توقعوا ذلك. ببساطة إنَّ الحركة الشعبية لتحرير السودان قد إنتزعت كل ما تريده إنتزاعاً من بين فكَّى هذه الحكومة المعتدية على ثروات أهل الهامش وبضغوط هائلة وماكرة من المجتمع الدولى, والحكومة إن تنازلت عن ذلك, رهبة أو رغبة, فإنَّها سوف لن تتنازل عن المزيد وستستميت فى ذلك خاصة وأنَّ الطرف الآخر هم أهل دارفور والذين لم تحترمهم حكومة الإنقاذ قط منذ إنقلابها بل سعت جهدها لتدميرهم وقتلهم وتشريدهم وإقتطاع أراضيهم وضمِّها لأقليم بعينه بطريقة تشى بأشنع درجات الأستفزاز والإزدراء المتعمد, وهذه هى المعضلة الرئيسية فى سيكلوجية النزاع بدارفور. وتبعاً لذلك فقد ظللنا ننادى إخوتنا الثوار بضرورة تبنى إستراتيجية مرنة ومتمكنَّة فى آن واحد للدخول فى مرحلة المفاوضات ولتحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية, الآنية والمستقبلية, لمصلحة أهل الإقليم والتى قد تساعدهم فى تجاوز هذه الأزمة المفروضة عليهم والتحسب أيضاً لإشكاليات وتداعيات الراهن والمستقبل.

لقد عدَّدنا فى جملة من مقالاتنا بهذا الموقع المرموق بعض جوانب من الخطط والترتيبات التى يمكن أن تعتمدها الحركات المسلَّحة بدارفور بغرض دفع القضية إلى نهايات إيجابية, ولا ضير فى أن نورد الأهَّم من بعضها فى هذا المقال مرة أخرى, من باب التذكير, خاصة مع تسارع دقات الساعة نحو مائدة المفاوضات.

خلفية عامة قبل الدخول للمفاوضات:
(1) إنَّ المفاوضات القادمة حاسمة وسوف تؤثر نتائجها ليس على الجيل الحالى من أهل دارفور فحسب بل وعلى الأجيال القادمة على السواء وعلى مجمل أهل السودان.
(2) يجب أن تعى الحركات المسلَّحة بحقيقة أنَّهم يواجهون خصماً عنيداً ولئيماً, متمثلاً فى النظام الحاكم بالخرطوم, لا يتردد فى اللجؤ إلى كل أساليب المقالب والخداع والرشوة ونقض العهود من أجل تحقيق أهدافه ولو أدَّى ذلك إلى فناء كل أهل دارفور كما هو مشاهد فى الفترة الماضية.
(3) لقد قبل النظام الدخول فى هذه المفاوضات مكرهاً ومجبوراَ تحت ضغط الثوار وسيف التهديد الدولى لكنَّه لن يتورع فى وضع المزالق والعطبات لتعطيل أى إتفاق قد لا يتماشى مع مصلحته, وما السياسات التى إتبعوها خلال المفاوضات السابقة بدولة تشاد إلاَّ دليلاً على ذلك.
(4) كل القوى الوطنية والعالمية على السواء باتت مؤمنة بعدالة قضية دارفور إلاَّ هذه الحكومة ومحاسبيها وعلى الحركات المسلَّحة أن تعى هذه الحقيقة الهامة وتبنى عليها إستراتيجيتها التفاوضية بوعى وحكمة.
(5) أى نجاح كامل للمفاوضات يجب أن يحقق وحدة أهل دارفور وسيكون ذلك من خلال توسيع وفد التفاوض ليكون تحت راية عريضة تستوعب كل مقدرات أبناء دارفور وتجاربهم المختلفة متمثلة فى وفد موَّحد للتفاوض نقترح تسميتها ب "وفد دارفور للوحدة والمفاوضات".

خريط المسار إلى المفاوضات:
(1) تكوين لجنة موحَّدة من الحركات المسلحة تضم بجانبها الكوادر المختلفة والمقتدرة من أبناء الإقليم غير المنضويين فى هذه الحركات للشروع فوراً فى تكوين "وفد دارفور للوحدة والمفاوضات".
(2) على رؤساء الحركات المسلَّحة الإتصال بالوسطاء وتبليغهم بقرارهم المشترك لدخول المفاوضات بوفد موَّحد تحت إسم "وفد دارفور للوحدة والمفاوضات", يشمل ذلك أى شخص من دارفور من الكوادر السياسية والفكرية والثقافية والعسكرية والإدارة الأهلية المؤهلةَّ تختاره هذه الحركات, بجانب طلب تغيير مكان إنعقاد المفاوضات إلى مكان أكثر حياداً وإنفتاحاً مثل جنيف مثلاً.
(3) إعداد مؤتمر تحضيرى لهذه الكوادر المؤهلة المختارة من أبناء الإقليم لإعداد ملفات التفاوض المختلفة ووضع إستراتيجية التفاوض.
(4) إختيار وفد المفاوضات واللجان المساعدة مثل القيادة المرجعية والوفد الإستشارى والسكرتارية التنفيذية والمكتب الإعلامى والناطق الرسمى بإسم المفاوضات.
(5) ألاَّ يتعدى إكمال هذه الترتيبات مدى شهر واحد يكون وفد التفاوض بعدها جاهزاً لدخول المفاوضات.

مزايا الدخول للمفاوضات تحت لواء "وفد دارفور للوحدة والمفاوضات":
(1) وضع حجر الأساس لبناء وحدة أهل دارفور باكراً ومنذ ما قبل بدء التفاوض, وسيؤدى ذلك إلى فهم عام بأنَّ نتائج المفاوضات جاءت بمشاركة مختلف القوى من أهل الإقليم ممثلين فيها بكل طوائفهم وقبائلهم وإمكانياتهم البشرية والفكرية الشيئ الذى سيساعد فى تجسير الإنشقاق الذى ضرب فى نخاع التركيبة الإجتماعية بدارفور.
(2) تجميع القدرات المختلفة لكل أبناء الإقليم الحادبين على مصلحته يشمل ذلك الذين رفعوا السلاح بجانب السياسيين والمثقفين والناشطين من أجل خدمة دارفور.
(3) قطع الطريق على الحكومة فى وصفها للحركات المسلحة بأنَّهم لا يمثلون أهل دارفور, كما سيقطع الطريق عليها فى إتهاماتها الباطلة ضد هذه الحركات المسلَّحة بأنَّها موالية لجهات أخرى.
(4) خلق مناخ إيجابى لنوعية الحكم القادم فى دارفور والتى ستتمخض عنها المفوضات. إنَّ أى حلول فى هذا المجال يجب ألاَّ يكون أقلَّ من الحكم الذاتى الموسَّع سواءاً تمثل ذلك فى تقرير المصير أم كونفدرالية أم نظام فدرالى, ولذلك لا بد من إلتفاف كل أهل دارفور حول ذلك والمحافظة عليه كمكسب عادل فى القضية لا يمكن التفريط فيه أبداً.
(5) تمهيد الطريق لتطوير مسار سياسى مستقل ومنصف لأهل الإقليم فى المرحلة السياسية القادمة بالبلاد.

إدراك صعوبة المفاوضات:
(1) يجب على الحركات المسلَّحة أن تتحسب إلى حقيقة أنَّ المفاوضات القادمة سوف لن تكون سهلة أبداً وربما تكون أكثر تعقيداً من المرحلة الماضية.
(2) أثبتت هذه الحكومة بأنَّها لا تحترم أهل دارفور ولا تأبه لمعاناتهم ولذلك فهى ليست راغبةً أصلاً فى حضور هذه المفاوضات وما فعلت ذلك إلاَّ تحت التهديد الدولى ومن أعلى المستويات.
(3) ستستميت الحكومة فى رفض تقديم أى تنازلات حقيقية وسوف تستخدم كل وسائلها الخبيثة فى دحرجة التفاوض إلى فشل ثم رميها على رقاب وفد دارفور المفاوض.
(4) الحكومة ستتشدد فى منع أى كوادر من أبناء دارفور بخلاف أعضاء الحركات المسلحة من حضور المفاوضات, وقد سعت الحكومة من قبل ونجحت فى دفع الرئيس التشادى إدريس ديبى بعدم السماح لكوادر أبناء دارفور بالخارج من دخول تشاد للمشاركة فى مفاوضات أبَّشى الثانية.
(5) يجب الإدراك أنَّ هذه الحكومة قد "تجمَّرت" فى مفاوضات كينيا وسوف لن تكون بالخصم الهين على أية حال وعليه يجب أن يكون وفد دارفور على مستوى هذا التحدى.

هذه بعض المدخلات الهامة ومن جانبنا كمثقفين من أبناء هؤلاء البؤساء الذين نشاهدهم من على قنوات الفضائيات العالمية ومواقع الإنترنت المختلفة فإنَّنا سوف لن نبخل فى تقديم النصح والإرشاد والمتابعة لهذه الحركات فى سعيها لتكوين وفدها التفاوضى, وسنكون إلى جانبها طالما أنَّ القضية واحدة فى المبتدأ والمنتهى وبالله التوفيق.

(2)
محنة الدبلوماسية السودانية فى محنة الأزمة بدارفور:

كنت خارج أمريكا غضون الأسبوعين الماضيين للمشاركة فى مؤتمر عالمى عن الطاقة وقد تسنَّى لى خلال ذلك متابعة تطورات الأزمة بدارفور وتداعيات الضغوط العالمية على الحكومة السودانية من قناة ال CNN العالمية وشبكة الإنترنت من غرفتى بالفندق, وحمدت الله على ذلك حيث أنَّ قناة ال CNN المحليَّة داخل أمريكا ليس لها إهتمام آخر هذه الأيام غير الإنتخابات الأمريكية والمؤتمر العام للحزب الديمقراطى والذى سيعقبه بعد أيام المؤتمر العام للحزب الجمهورى. وعلى العموم فقد وفَّر لى ذلك تتبع أساطين الدبلوماسية السودانية وهم يتعرضون للبهدلة وكشف الحال أمام عدسات التلفزيونات العالمية حول سياسات الحكومة فى أزمة دارفور, فقد إستمعت لتصريحات من مؤتمر صحفى لوزير الخارجية الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل فى نادى الصحافة العربية متلفز من باريس يستجدى فيها المجتمع العالمى بضرورة إعطاء فترة أطول للحكومة السودانية لمعالجة أمر الجنجويد, كما تابعت مقابلات وتحقيقات القناة العالمية لل CNN مع كل من السيد الخضر هارون أحمد سفير السودان بواشنطن, والسيد يسين عابدين سفير السودان بلندن, وكذلك السيد الفاتح عروة ممثل السودان بالأمم المتحدة بنيويورك, وحقيقة فقد شعرت بإشفاق كبير تجاه هؤلاء السادة خاصة وأننى على معرفة ببعض منهم, والمشكلة هى أنَّ طبيعة عملهم وواجباتهم الوظيفية قد فرضت عليهم فرضاً واجب الدفاع عن سياسات حكومة يعلمون تمام العلم أنَّها ظالمة أضحت جرائمها فى دارفور تحت لائحة طويلة من التهم والتحقيقات العالمية وتغطية الفضائيات المختلفة بكل لغات الدنيا, بل وتكاد تحس بأنَّهم يحاولون إختلاق الحقائق والمبررات إختلاقاً ثقيلاً وهى لا تكاد تقنع أى مشاهد أو تصمد ولو للحظة أمام ضغط أسئلة وحوارات مقدمى البرامج والمحاورين الضيوف الذين يبدو عليهم أنهَّم على دراية ومعرفة تامة بما يحدث فى دارفور أكثر من هؤلاء السادة أنفسهم.

وبما أنَّ الحقائق حول مأساة دارفور قد أضحت واضحة لكل أطراف العالم وكذلك الرأى العام داخل السودان فليس هناك ثمَّة مجال لإنكارها أو التحايل على تزييف الحقائق والإلتفاف حولها, ويقينى أنَّ هؤلاء السادة السفراء ورئيسهم وزير الخارجية قد وقعوا ضحايا لأفعال البعض فى حكومتهم وأنَّهم بريؤون مما يحدث ولا علم لهم بحجم المأساة الماثلة, يكشف عن ذلك تواضع حججهم وقلة حيلتهم أمام ضغوط الإستفسارات العالمية, ومع ذلك فقد وجدوا أنفسهم فجأة يمسكون بقرون تلك المآسى أمام مسرح الإعلام العالمى بينما الذين تسببوا فيها بالأساس يختبأون خلف الستار يتلصصون عليهم إن أحسنوا الدفاع أم لا, بل وربما لا يزالون ينفخون فى نيران الفتنة التى أوقدوها بينما تظل الأرواح ترتفع إلى خالقها على مدار اليوم والساعة.

غير أنَّ أكثر ما أحزننى فى ردود بعض من هؤلاء السادة هو محاولتهم ربط ما يجرى فى دارفور بما نشاهده فى الفلوجة وبقية المدن العراقية وأفغانستان وفلسطين, وفى ذلك خلط ردئ للأمور, ولقد كان رد محاور من منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية لحقوق الإنسان حاسماً فى هذه الناحية حينما تصدى لأحد هؤلاء السفراء بقوله أنَّه ليس من الناحية الأخلاقية أو المنطقية تبرير قصف الحكومة السودانية للقرى ودعم مليشيات الجنجويد بقصف مماثل فى مكان آخر. وحينما يلجأ مسؤولو الحكومة السودانية إلى الإشارة المتكررة للمآسى فى العراق وفلسطين بقصد إشانة السمعة ضد أمريكا والدول الغربية الضاغطة عليها فإنَّهم يقعون فى مفاهيم خاطئة من قبيل أنَّنا لم نفعل فى دارفور بأكثر مما تفعلونه أنتم فى تلك المناطق! الشيئ الذى يعنى إختزال كامل للأزمة وإدراجها فى دائرة المناكفة والمحاججة الفارغة التى لا تفيد شيئاً سوى جر المزيد من العنت والمتاعب. وفى حوار آخر تساءلت المذيعة عن كيف تعجز دولة ذات سيادة عن حماية مواطنيها طالما كان ذلك يمثل أهمَّ الأسباب فى وجودها؟ وقد كان رد السفير بائساً حقيقةً إذ قال أنَّه حسب تقارير الأمم المتحدة  فإنَّ السودان مصنَّف  ضمن أقلِّ الدول نمواً فى العالم وبالتالى فإنَّ حدوث الإحتكاكات بين مجموعات من المواطنين أمر وارد فى هذه الدول! يقينى أنَّه حتى سيادة هذا السفير المحترم سوف لن يصدق إجابته وغير مقتنع برده التبريرى البارد هذا, الشيئ الذى لا يعنى سوى محاولة للهروب من أصل الواقع والذى يؤكد أنَّ الدولة نفسها متورطة لأخمص قدميها فى الإنتهاكات الجسيمة لحقوق مواطنيها الغلابى. وعلى كل يبدو أن هؤلاء السفراء وكبيرهم وزير الخارجية ينطبق عليهم المثل الشعبى القائل "الحيلة قليلة والخشم بليلة", كناية عن عدم المقدرة على قول الحقيقة ومحاولة الإلتفاف حولها. لقد خسرت الحكومة السودانية خسراناً مبيناً فى معركة الإعلام وهى نفس الساحة التى كان من الممكن لها تجييرها لجانبها لو أنَّها إعتمدت الشفافية والواقعية اللازمة منذ بدء النزاع لكنَّها آثرت إيصادها بل وجارت بالعقوبات الطائلة ضد كل من تسول له نفسه بكشف الحقائق الدامغة لجرمها ناسية أو متناسية أنَّ العالم قد أضحت قرية صغيرة وأنَّه حين "تاباها مملَّحة فستأكلها ناشفة", وما أصدق أمثالنا الشعبية فى تصوير تصاريف الحياة.

(3)
أزمة دارفور فى معادلات السياسة الدولية:

قد يكون صحيحاً أنَّ الإدارتين الأمريكية والبريطانية تضغطان على الحكومة السودانية بشأن الأزمة فى دارفور بهدف صرف الإنتباه العالمى عن إخفاقاتهم فى العراق والتشويش على ما يحدث فى إسرائيل, خاصة وأنَّ الإدارة الأمريكية الحالية مواجهة بإستحقاقات إنتخابية صعبة وجرد حساب ثقيل وهى مقبلة على إنتخابات مصيرية تحدد أن تكون أو لا تكون, وبسبب ذلك فهى تسعى إلى موازنة الفشل فى العراق بإنجاز موازى فى السودان خاصة وأنَّ مجموعات إنتخابية مهمَّة قد دفعت بأجندة القضايا السودانية, وتحديداً قضية دارفور, إلى صلب الصراع الإنتخابى, وما التصريحات والبيانات المتتالية التى ظلَّ يطلقها المرشح الديمقراطى جون كيرى إلاً شواهداً على ذلك. لقد قال الرئيس بوش فى إحدى لقاءاته الإنتخابية بحر الأسبوع الماضى أنَّه يريد أن يكون رئيساً من أجل السلام! وتصريح كهذا يحمل ملمحاً يشى بإخفاق فى هذا المجال فى فترة رئاسته هذه والتى ستنتهى فى الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الجارى إن لم يتمكن من الفوز بدورة جديدة, ولذلك فإنَّ تحقيق السلام فى جنوب السودان ثمَّ دعم ذلك بتحقيقه فى دارفور ستعطيه ورقة إنتخابية هائلة هو فى أمَّس الحوجة إليها ويمكنه التلويح بها فى وجوه منتقديه من الحزب الديمقراطى ومجموعات الأفارقة الأمريكان الضاغطة بشأن الأزمة فى دارفور. ولقد ركَّز الرئيس بوش فى خطابه الأسبوع الماضى أمام المؤتمر السنوى لرابطة المجموعات الحضرية الأمريكية, وهى واحدة من أهمِّ تنظيمات السود بأمريكا وأغلب أنصاره من الطبقة الوسطى المؤثرة, على قضية دارفور منتقداً سياسات الحكومة السودانية تجاهها بضراوة ومطالباً إيَّاها بالإسراع بحل مليشيات الجنجويد ومحاكمة قياداتهم والمتورطين فى إنتهاكات حقوق الإنسان هناك, ولا تخفى أصابع الأهداف الإنتخابية من وراء ذلك.

أمَّا بالنسبة للإدارة البريطانية فإنَّ التنسيق الإستراتيجى بينها والإدارة الأمريكية تلزمها مساندة أى موقف أمريكى على صعيد السياسة العالمية, بجانب رغبتها أيضاً فى صرف الأنظار عن محنتها فى العراق. وبالرغم من أنَّ الضغوط على رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير تبدو أقَّل وقعاً من تلك التى تقع على كاهل الرئيس بوش, من حيث أنَّه غير مواجه بأى إستحقاقات إنتخابية فى الظرف الحالى, إلاَّ أن إدارته ترغب أيضاً فى تجاوز كارثة العراق بأعجل ما تيسر, ولذلك لم يتردد رئيس الوزراء بالتهديد بالتدخل العسكرى فى دارفور إن لم تف الحكومة السودانية بتعهداتها, وقد دعم تصريحاته تلك القائد العام لأركان الجيش البريطانى الذى أكَّد إمكانه على تجميع خمسة ألف جندى بصورة سريعة من أجل مشروع التدخل إذا ما إستمرت الأمور على ما هو عليه, كما ساند خافير سولانا الأمين العام للإتحاد الأوروبى مطالب الدول الغربية للحكومة السودانية بضرور حسم مليشيات الموت بسرعة.

إنَّ الحكومة السودانية قد أخطأت خطاً فادحاً بإحتضان موسى هلال زعيم الجنجويد, والملقب ب "كراديتش دارفور" عند الأهالى هناك, كنايَّة عن السفَّاح الصربى ضد المسلمين فى البوسنة, وتوجيهه للتحدث مع وكالات الإعلام العالمى والسفراء والمسؤولين الدوليين وكأنَّه يمثل عنصراً مؤثراً فى الحكومة فى تحد سافر لمطالب الحكومة الأمريكية بضرورة محاكمته بل ووضعت إسمه على رأس قائمة الشخصيات الجنجويدية السبعة التى طالبت بمحاكمتهم. إنَّ التصرف المنطقى للحكومة فى هذا الخصوص هو أن تحتجز موسى هلال ولو بكفالة ضمان مؤقت وأن تطلب من الحكومة الأمريكية قائمة إتهاماتها والأدلة التى تدين الرجل, وبعد ذلك إمَّا أن تحاكمه إذا ثبت عندها أى إتهام أو أن تطلق سراحه إن لم يكن ذلك, لكن يبدو أنَّ الحكومة لا تتصرف ككتلة واحدة ولا تفكر بعقل واحد بل وتبنى سياساتها على مبدأ رزق اليوم باليوم. لقد ركزَّ رئيس تحرير مجلة النيوز ويك الأمريكية المؤثرة فى مقال له قبل ثلاثة أسابيع على تصريح موسى هلال لمجلته بأنَّه ليس من الجنجويد لكنَّه ساعد فى الإستنفار الذى دعت إليه الحكومة لمحاربة الثوار, لكنَّ المجلة, ومصادر أخرى, إعتبرت أن تصريحاً كهذا يمكن إتخاذه دليلاً حاسماً على تجاوز الحكومة لحقوق مواطنيها من خلال دعمها لتلك المليشيات وطالما أنَّ أفعال الجنجويد تظل تمثل إثباتات دامغة فى ذلك, إنَّ الأخبار التى كشفتها بعض الجهات خلال اليومين الماضيين والتى تشير إلى قتل بعض المواطنين فى دارفور حرقاً بعد تكبيلهم كان من المفترض أن تجعل الحكومة تنتفض للتحقيق حولها لكنَّها لم تحرك ساكنة فأى رسالة تود الحكومة إرسالها للمجتمع العالمى ولمن تبقى من شعب دارفور من وراء ذلك؟ لقد إعتبرت مجلة النيوز ويك تصريحات موسى هلال تلك إثباتاً أساسياً لتبعية الجنجويد للحكومة السودانية, إذ يمكن إعتباره فى هذه الحالة كشاهد ملك, بالرغم من أنَّ الحكومة ظلَّت, وما تزال, تكابر وتنكر علاقتها بالجنجويد وبالرغم من أنَّ تصريحات موسى هلال يثبت بأنَّه قد تلقى دعماً وتسليحاً وتمويلاً من الحكومة نفسها, كما أنَّه لم ينف حدوث تجاوزات فى حقوق الإنسان من مآسى ومجازر لكنَّه قلَّل من ذلك متهماً وكالات الإعلام العالمى بتضخيمها!

أمَّا فى الجانب الآخر المساند للحكومة السودانية فى صراعها مع مجلس الأمن الدولى بشأن إصدار قرار حول دارفور, وهى الصين وروسيا والباكستان والجزائر, فقد صرَّحت منظمة هيومان رايتس ووتش لقناة ال CNN أنَّ لكل من هذه الدول إستراتيجياتها الخاصة وراء مواقفها, فالصين إن أدانت الحكومة السودانية فى مجلس الأمن فإنَّها سوف تبدو كمن تدين نفسها من خلال ممارساتها المتعسفة ضد المعارضين لها فى إقليم التبت ومجموعات ضخمة من المسلمين فى المقاطعات الجنوبية الغربية, بجانب رغبتها فى عدم خلق إشكالية تعيق إستثماراتها النفطية الضخمة فى السودان, أمَّا روسيا فيتطابق أهدافها مع الأهداف الصينية فهى لا ترغب فى إدانة نفسها من جراء ما يحدث فى الشيشان إن هى أدانت ممارسات الحكومة السودانية فى دارفور, بجانب حوجتها لبيع أسراب كبيرة من الطائرات القاذفة من طراز ميج 29 للحكومة السودانية. بالنسبة للباكستان فهى أيضاً لا تريد فتح أسئلة لما تفعلها فى إقليم كشمير إن هى أدانت الحكومة السودانية, وتبدو أهداف الجزائر أقلُّ حرجاً تتمثل فى كونها لا تريد إدانة قطر إسلامى عربى فى المحافل الدولية كما إنَّها لديها سابقة فى تعطيل فوز محقق للإسلاميين فى إنتخابات عام 1992م البرلمانية والرئاسية. غير إنَّ القاسم المشترك بين أستراتيجيات هذه الدول الأربعة, وقد إنضمت إليها دول أخرى مؤخراً مثل البرازيل والكاميرون, قد تتمثل فى رد فعل رافض لممارسات أمريكا وبريطانيا فى العراق وأفغانستان والإنحياز الأعمى للسياسات الشارونية الغاشمة, وبالرغم من كل ذلك إلاًّ أنًَّّه لا يجب أن يحجب النظر عن تناول كل أزمة لوحدها بدلاً عن خلطها لتغييب قضية إعترفت كل القوى العالمية وأجهزة الأمم المتحدة بأنَّها أكبر كارثة يشاهدها العالم اليوم, وذلك تماماً ما تسعى الحكومة السودانية لتحقيقه.

بالنسبة للجانب العربى فقد تحدث الدكتور عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية لقناة ال CNN عن تداعيات الأزمة فى دارفور وبدا أكثر حياداً مطالباً بحل جذرى للمشكلة دون الحاجة لتطبيق عقوبات, يقول ذلك بالرغم من أنَّ اللجنَّة التى أرسلها شخصياً للتحقيق فى أصل النزاع قد توصلت إلى حقيقة حدوث إبادة جماعية وتصفية عرقية بالرغم من أنَّها لم تشر إلى ذلك صراحة بل طالبت بضرورة تكوين لجنة قانونية متخصصة للنظر فى تلك الجرائم, ومع كل ذلك فقد رفضت الحكومة السودانية ذلك التقرير بالرغم من ترحيبها بالوفد العربى المحقق فى بداية قدومها. ولقد نادى عمرو موسى فى تصريحاته تلك بضرورة تناول حل الإنتهاكات فى العراق وفلسطين على قدم المساواة مع الأزمة فى دارفور ونراه هنا يخلط أيضاً بين هذه القضايا وعندها سوف تضيع الحقيقة. تحت كل هذه التعقيدات تحاول منظمة الإتحاد الأفريقى الوليدة أن تفعل شيئاً تستر به عورة القارة من فضيحة أخرى مجلجلة تمددت أبعادها العالمية مثلما حدثت لمأساة مذبحة رواندا قبل عقد من الزمان, لكن هل ستتمكن هذه المنظمة بإمكانياتها الفقيرة من تحقيق أى إنجاز فى هذا الخصوص؟

ونواصل...

 

آراء