تتمسك كل من قوى الإجماع الوطني وهيئة نداء السودان باسقاط نظام حكومة الإنقاذ الوطني عن طريق انتفاضة شعبية أو عمل مسلح تقوم به الحركات المسلحة، في حين قرر حزب المؤتمر السوداني بصورة ديمقراطية شفافة وجريئة تليق بروح الشباب خوض انتخابات 2020 إذا ما تهيأت لها البيئة الحرة النزيهة، وصدر من الحركة الشعبية قطاع الشمال (جناح عقار وياسر) ما يفيد برغبتهم انتهاج العمل السياسي السلمي الذي يعني إمكانية المشاركة في الانتخابات. تعتمد القوى الرافضة لخوض انتخابات 2020 بأنها لن تكون حرة ولا نزيهة ولا عادلة، ولا تعني المشاركة فيها سوى إعطاء النظام شرعية سياسية لا يستحقها. وظل هذا هو منطق المعارضة لسنوات طويلة، وهناك مؤشرات وأدلة تؤيد حجج المعارضة بأن الانتخابات التي أجراها النظام طيلة عمره لا تنطبق عليها معايير الديمقراطية أو العدالة أو النزاهة. وبهذا السبب لم يتعرض النظام لأية منافسة سياسية حقيقية في كل انتخاباته الماضية في 1996، و2000، و 2010، و 2015، ولا أظن أن ضميره أنبه لغياب تلك المنافسة الديمقراطية طالما أنه استطاع الاستمرار في السلطة ونال اعتراف المجتمع الدولي بل والمحلي على أنه حكومة الأمر الواقع التي جاءت عبر انتخابات قانونية من حيث الشكل. وسيستمر هذا الوضع كما هو إذا لم تشارك القوى السياسية المعارضة في الانتخابات القادمة، فالنظام الذي جاء للسلطة عن طريق انقلاب عسكري لا يأسف على عدم المنافسة السياسية التي لا يؤمن بها ولا يريدها، فقد أكره عليها بواسطة المجتمع الدولي والمحلي. إلا أن هناك حججا أخرى تخص وضعية المعارضة السياسية وقدراتها لا يُصرح بها لكنها ذات صلة وثيقة بإحجام المعارضة عن خوض الانتخابات ضد الحزب الحاكم. فالمعارضة في حالة ضعف شديد: ليست لديها موارد مالية، وليس لديها برنامج معلن يعالج أزمات البلاد الراهنة، ولا تخلو قياداتها من اختلافات داخلية تصل أحيانا مرحلة الانشقاقات والفصل التعسفي، وتشهد تململا في قواعدها، وما عادت تلك الأحزاب لأسباب مختلفة جاذبة للأغلبية من الشباب الذين هم وقود الانتفاضة والعناصر الفاعلة في قوة الحزب وكسب الانتخابات. ولعل بعض الأحزاب الإقصائية تأمل في محاسبة قيادات الإنقاذ على ما ارتكبت في حقهم وحق الوطن من خطايا وموبقات، بل ولقطع الطريق تماماً لعودة الإسلام السياسي في الساحة السياسية بأي شكل كان ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، ولا يتحقق لهم هذا الهدف بانتقال سلمي انتخابي من حكومة الإنقاذ إلى حكومة أخرى من أحزاب المعارضة. ولكن الشاهد أمامنا أن أحزاب المعارضة مجتمعة لم تنجح طيلة العقود الثلاثة الماضية في تنظيم انتفاضة صغيرة أو كبيرة يمكن أن تهدد كيان النظام، بل عجزت عن دعم انتفاضة الشباب في سبتمبر 2013. ويعني هذا أن انتظار الوطن سيطول لسنوات قادمات تقتطع من تطوره السياسي وصلاح أحواله عامة.
والتجربة العربية من حولنا في تونس ومصر واليمن وسوريا تقول إن الأنظمة الاستبدادية التي تعيش سنوات طويلة تحتفظ بجزءٍ كبير من قواعدها الشعبية التي بنتها ورعتها لا تنفض عنها تماما حتى بعد خروجها من السلطة، فقد استطاع حزب نداء تونس الذي تكون على عجل من قيادات نظام بورقيبة وزين العابدين بن علي أن يفوز على كل قوى الثورة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الثانية (2014)، واستطاع اللواء أحمد شفيق رئيس الوزراء في عهد مبارك أن يحصل على 48,5 في المئة من أصوات الناخبين المصريين في الدورة الثانية لانتخابات 2012 التي جاءت بالرئيس مرسي للحكم، وتمكن الرئيس علي عبد الله صالح الذي تنازل عن السلطة في اليمن بعد انتفاضة شعبية عارمة وبناءً على المبادرة الخليجية أن يعود بقوة للساحة السياسية معتمدا على شعبية حزبه القديم (المؤتمر الشعبي العام) ومتحالفاً مع الحوثيين الذين سبق له أن حاربهم عدة مرات، واستطاع الرئيس بشار الأسد أن يحتفظ بقاعدته الشعبية التقليدية رغم شراسة المعارضة الجماهيرية لنظامه في كل أنحاء سوريا. وعلى ذات النمط أحسب أن القاعدة الشعبية التي تعتمد عليها سلطة الإنقاذ حاليا في الحكم ستظل باقية إلى حد ما حتى لو زالت سلطتها بانتفاضة شعبية أو بغيرها من الوسائل، ومن قبل بقيت القواعد الشعبية للأحزاب الكبيرة (الأمة والاتحادي الديمقراطي) بعد زوال سلطانها في عهد الفريق عبود ومن بعده الرئيس نميري. وهناك الكثيرون من قطاعات المجتمع الفاعلة تنتابهم المخاوف والهواجس من حدوث انتفاضة غير منضبطة أو تغيير عن طريق حركات مسلحة تنتمي لقبائل ومناطق مهمشة، ويشك كثير من الناس أن مثل ذلك التغيير سيأتي بديمقراطية تعددية تحفظ الحقوق وتبسط الحرية وسيادة حكم القانون لجميع المواطنين. وها نحن نشهد خلال الأربع سنوات الماضية كارثة الحرب القبلية البشعة في جنوب السودان التي تسببت فيها قيادات الحركة الشعبية التي نادت بصوت عالٍ لتأسيس "السودان الجديد" الذي يقوم على الحرية والديمقراطية والعلمانية والمساواة للجميع بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الثقافة.
إن الفشل المتكرر لجهود المعارضة السياسية والمسلحة لثلاث عقود في مقاومة النظام يدعو للتفكير خارج الصندوق لاستحداث أساليب واقعية جديدة تتجه بالبلاد نحو قدر أكبر من الحرية والمحاسبة وحكم القانون تمهيدا لتداول سلمي للسلطة في وقت قادم. ونذكر أن اتفاقية السلام الشامل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في 2005 أحدثت طفرة كبيرة في مجال الحريات والتعددية السياسية وكتابة دستور ديمقراطي تميز على كل الدساتير السابقة رغم ممانعة الأحزاب الشمالية لتلك الاتفاقية، وأن الحزب الحاكم لقي منافسة غير مسبوقة في انتخابات 2010 في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بل حتى في الانتخابات الرئاسية التي قاد فيها مرشح الحركة الشعبية ياسر عرمان حملة انتخابية ناجحة لقيت تأييدا جماهيريا واسعاً أخاف الحزب الحاكم فسارع بعقد صفقة مع رئيس حكومة الجنوب أدت إلى سحب مرشح الحركة الشعبية من المنافسة الرئاسية، ورغم انسحاب ياسر إلا أنه نال أصواتاً أكثر من البشير في جنوب السودان.
إن الديمقراطية نظام عسير التطبيق في البلاد المتخلفة ويحتاج استمراره ونضوجه لفترة طويلة من الممارسة والتثقيف والتربية، ولا يمكن القفز فوق تلك المرحلة الأولية غير الناضجة بأي وسيلة غير الصبر على الممارسة الممتدة عبر الأجيال. إن المعركة لتأسيس الديمقراطية بحكم طبيعتها المجتمعية المعقدة لا تُكسب بالضربة القاضية بل بالنقاط الفنية عبر جولات طويلة لا حصر لها. وقد استطاعت عدد من الدول الافريقية منذ تسعينيات القرن الماضي أن تسير في طريق التحول الديمقراطي المتعثر حتى وصلت إلى درجة لا بأس بها في التمسك باحترام الدستور وإجراء انتخابات دورية في مواعيدها واتاحة الحريات العامة والحفاظ على استقلال القضاء وحكم القانون ومحاربة الفساد وتأسيس أحزاب تسمو على القبلية والطائفية والمناطقية. وحدث مثل ذلك في أوقات سابقة لعدد من الدول الآسيوية وفي أمريكا الجنوبية. ويمكن أن يحدث أيضاً في السودان إذا اتصلت التجربة الديمقراطية لسنوات عديدة مهما كان مستوى أدائها فلم تنقطع بانقلابات عسكرية طائشة تئد التجربة في مهدها، وتجمد تطور البلاد السياسي، وتبدد موارد الوطن في حروب داخلية ومغامرات خارجية، وفي إرشاء الناشطين السياسيين والصرف غير المحسوب على أجهزة الأمن القمعية.
إن النظام القائم يمر بأضعف مراحله منذ تسلمه السلطة في يونيو 1989، يتجلى ذلك في معاركه الداخلية وفي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تسبب فيها حتى ما عاد يستطيع دفع رواتب سفرائه بالخارج، وفي علاقاته الخارجية المضطربة التي لا يستطيع أحد أن يتنبأ إلى أين تتجه، وما عاد في الإنقاذ وجه مقبول تقدمه لقيادة الدولة، وهذه هي الفترة المناسبة لمنازلة الحزب الحاكم سياسيا وانتخابياً. ولتكن البداية بالضغط عليه لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني الذي دعت إليه الحكومة نفسها وتعهدت بتنفيذ ما يصل إليه. ورغم نقص تمثيل الحوار للقوى السياسية الفاعلة وسيطرة الحكومة على إدارته إلا أنه توصل إلى عدد من التوصيات الجيدة التي يمكن أن تؤثر إيجابا على الساحة السياسية منها: المطالبة بوضع قانون انتخابات توافقي جديد، وبتكوين مفوضية قومية مستقلة للانتخابات، وبحق كل شخص للتعبير الحر عن نفسه بوسائل النشر كافة، وبحرية التجمع والتنظيم والالتزام بحقوق الإنسان كما وردت في المعاهدات الدولية، وبإلغاء الرقابة القبلية على الصحف، وبمراجعة القوانين القائمة ومواءمتها مع الدستور، وأن لا حصانة لأي سلطة من القضاء المستقل والمحكمة الدستورية، وأن على جهاز الأمن ممارسة مهامه وسلطاته وفقا للدستور والقانون. ولا يعني تعهد الحكومة بالتنفيذ الذي رددته قيادات المؤتمر الوطني كثيرا أنها ستلتزم فعلاً بعهودها، لكنها "معركة طويلة" ينبغي أن تخاض بجدية وذكاءٍ وحنكة، على رأسها توحد الجبهة التي تدعو لمبادئ الحكم الراشد من حرية وديمقراطية وعدالة، والمعارك السياسية مثل غيرها من المعارك يكسب المرء فيها مرة ويخسر مرات. وشاء الله سبحانه أن يكون التدافع بين الناس هو السنة الكونية التي تمنع الفساد في الأرض وليس هناك من فساد أكثر من الاستبداد والتجبر على حياة الناس، "ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". (البقرة:251).