دور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة
د. حسين أدم الحاج
8 January, 2009
8 January, 2009
(2/2)
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
حرق العلم الإنجليزى بالفاشر:
لقد تركت أحداث مظاهرة الفاشر عام 1948م أثراً عميقاً بين جماهير دارفور والسلطات الأنجليزية والتى تعقدت مهامها أكثر مع إزدياد وتيرة الهَّم القومى للتحرر والإنعتاق, ولقد مثَّل نادى الفاشر فى تلك الحقبة وما تلتها معلماً بارزاً وصوتاً معبراً لتطلعات الشعب وتحولت لمنارة إشعاع دافق لإقامة الندوات السياسية والمحاضرات العلمية والمسرحيات الهادفة الموجهَّة, ولم يكن الناس بعيدين كذلك عن أخبار التحرر الوطنى الذى ساد أفريقيا وآسيا, وقد أخذ مؤتمر الخريجين بأم درمان فى تشجيع فروعها بالأقاليم للتعبير عن ذلك بكل الوسائل الممكنة مثلت مدينة الفاشر فيها حجر الزاوية, حيث تقرر حرق العلم البريطانى, فخرجت الجماهير فى مظاهرة هادرة فى 2 فبراير1952م (ويا ليت لو تحول هذا التاريخ إلى يوم وطنى فى دارفورعلى الأقل) تطالب بخروج المستعمر وتوجهوا إلى مقر إدارة المديرية نهاراً جهاراً ورفعوا الشاب أبوبكرمحمد حجازى, من أبناء حى أولاد الريف بالفاشر, إلى سطح المبنى الذى يرفرف عليه العلمان الإنجليزى والمصرى, وأمروه بألاَّ يمس العلم المصرى تكريماً لمصر, فأنزل لهم العلم الإنجليزى من ساريته, فهتفوا طويلاً "يسقط الإستعمار" ثمَّ أحرقوه, فى بادرة هى الأولى ضد الأمبراطورية البريطانية يقال أنَّها أغضبت الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا وحزنت حزناً شديداً عندما بلغها النبأ, لقد مثَّل حرق العلم البريطانى تعبيراً عن رفض بقاء الإستعمار لكن القوات الإنجليزية تعاملت معها بقسوة وفظاظة وتمَّ إعتقال كل من إشترك فى التخطيط لتلك المظاهرة, ويقال أنَّ القوات البريطانية أنتظرت حلول الظلام لإلقاء القبض على بقية المطلوبين فى بيوتهم, وكانوا ينزعون أحذية المعتقلين ثمَّ يلفون أقدامهم لفاً محكماً بقطع من جلود البقر المذبوحة بعد أن يصبوا عليها الماء البارد, وعندما تبدأ تلك الجلود بالتيبس تنقبض أكثر فيحدث ألماً رهيباً فى أقدام الأفراد المعذبين, ومع ذلك لا يتركونهم بل يجلدونهم على بطن تلك الأقدام الحافية بالسياط ويضربون عليها بالبساطين (نتمنى ألاَّ تطالع أجهزة الأمن السودانى هذه الطريقة البشعة للتعذيب!), وعلى العموم قبضت القوات البريطانية على 29 شاباً وقدمتهم لمحاكمات سريعة بالجلد وأحكام متفاوتة بالسجن حيث أودعتهم فى 4 سجون رئيسية هى شالا وحلوف ونيالا والأبيض, وقد أورد المؤرخ أرباب الأسماء التالية فى كل سجن:
سجن حلوف شمالى الفاشر:
محمد محمود محمد (العقوبة سنتان مع الأشغال الشاقة وقيد ثقيل و25 جلدة,), ياسين إبراهيم الضى, محمد عثمان أبَّشر, أحمد عيسى طه, هاشم الخليفة محمد نور, محمد عبدالله فضل السيد, محمد الحاج إبراهيم.
سجن شالا غربى الفاشر:
عبدالله يوسفو, الطيب محمد يحيى, جبريل أحمد موسى, عبدالرحمن محمد آدم, أمين حسب الله, أحمد شمنُّو, أبَّكر عبدالحكم, محمد الفكى خالد, سليمان كرامة, محمد الدومة سليمان, إبراهيم كيوكيو, مصطفى الخليفة محمد نور, أحمد آدم عبدالرحمن, محمد أبو اليمين, محمد عزَّة إدريس, أحمد شمين, محمد شريف جبريل.
سجن نيالا:
حسن محمد صالح, عباس محمد نور.
سجن البان جديد بالأبيِّض:
أبو القاسم الحاج محمد, يوسف محمد نور عالم, عبدالرحمن حسن طويل.
هذه هى الضريبة التى دفعها أهل الفاشر تعبيراً عن تضامنهم مع الهمَّ القومى للتحرر والإستقلال, والنضال من أجل وطن العز والكرامة, وما يزال بعض هؤلاء الأبطال على قيد الحياة, وحسناً فعلت الحكومة الإقليمية بدارفور عام 1983م بتكريمهم تكريما يليق بمكانتهم فمنحت كل واحد منهم قطعة أرض درجة أولى فى المخطط الحديث غربى المدينة خالية من الرسوم والضرائب تقديراً لما قاموا به من دور بطولى سيذكره التاريخ لهم ولأهل دارفور طويلاً.
معركة الإستقلال:
برغم كثافة وثراء النشاط السياسى فى دارفور وتركزها فى مدينة الفاشر, خاصة عقب قيام فرع لمؤتمر الخريجين فيها, إلاَّ أنَّ مناطق الوعى والحركة السياسية قد تتمددت رويداً رويداً لسائر أنحاء الإقليم متأثرة بالزخم القومى وحركته نحو الإستقلال ومتفاعلة بما يحدث فى الفاشر عاصمة المديرية, وتبعاً لذلك تحولت مدن مثل نيالا والجنينة وأم كدادة والضعين وكتم وعد الغنم إلى مراكز إشعاع سياسى نشط تكاملت مع مدينة الفاشر فى إبراز وجه دارفور النضالى من أجل التحرر من المستعمر.
فى الطريق نحو الإستقلال كان السودان منقسماً على المستوى القومى إلى عدة أحزاب تجمعت فى كتلتين رئيسيتين هما كتلة الأحزاب الإتحادية من جانب, والتى كانت تطالب بنوع من الوحدة مع مصر, وضمَّت أحزاب الأشقاء، الجبهةالوطنية, حزب الاتحاديين, وحزب وحدة وادي النيل, ثمَّ كتلة الأحزاب الإستقلالية التى تدعو لإستقلال السودان الكامل عن مصر وبريطانيا رافعة شعار "السودان للسودانيين" وضمت حزب الامة، والحزب الجمهوري الإشتراكي, والحزب الوطني, وبالرغم من فوز الحزب الوطني الإتحادي, الذي كان ينادي بوحدة وادي النيل, بأغلبية مقاعد البرلمان فى إنتخابات عام 1954 وتشكيله لحكومة بمفرده, إضافة إلى ثلاثة من الجنوبيين, وتسلم السيد إسماعيل الأزهرى رئاسة الوزارة إلاَّ أنَّ المد الإستقلالى كان جارفاً, وقد تعقد موقف الأزهرى أكثر إزاء فكرة وحدة وادى النيل خاصةً وأنَّ جماهير الحزب الوطني الديمقراطي والشعب السوداني عامةً قد إتجهت بقوة نحو فكرة القومية السودانية المستقلة, وقد تعقدت مهمته أكثر بعد أحداث العنف من جانب الأنصار عند إستقبال اللواء محمد نجيب وزملائه وكبار الزوار والضيوف الذين وفدوا من مختلف الأقطار لحضور إفتتاح البرلمان في أول مارس 1954م, ونتيجة لكل ذلك فقد إقتنع الأزهرى بفكرة الأمر الواقع وأعلن رغبة السودان فى الإستقلال فى مؤتمر (باندونج) بالرغم من المعارضة المصرية القوية للفكرة, لكن تطورت الأمور بسرعة أكبر نحو الإستقلال وإتفقت كل الاحزاب السياسية السودانية علي أن يعلن أعضاء البرلمان رغبتهم في ذلك من خلال مشروع قرار برلماني في 19 ديسمبر 1955م بدلاً عن قرار الإستفتاء الشعبي كما نصت عليه الإتفاقية البريطانية المصرية التى كانت قد أبرمت عام 1953م.
لكن قبل ذلك كله, ونسبة لتنامى المطالبة بالإستقلال الكامل, قرر السيد إسماعيل الأزهرى القيام بطواف على الإقاليم الغربية للبلاد, وكما معروف فهى معاقل قوية لحزب الأمة, ولذلك وجَّه حزب الأمة جماهيره فى تلك المناطق بحسن إستقبال رئيس الحكومة إستقبالاً ودياً وشعبياً لكن نبههم بأن يطالبوا بإستقلال السودان حتى يتعاظم الضغط الشعبى عليه للإلتزام به, فإنبهر الرجل بضخامة الإستقبال الذى وجده بالنهود, فى أول زيارة له بكردفان, وتيقن ألاَّ مناص من تبنى فكرة الأستقلال كهدف ثابت, ثم قادته زيارته لمدينة عد الغنم بجنوب دارفور, كأول منطقة بدارفور يزورها فى جولته تلك, وكان قد وصل إليها قبله نائب المنطقة, عن حزب الأمة لدائرة غرب البقارة, السيد عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة وشرع فى الإعداد الشعبى لمقابلة رئيس البلاد الذى وجد فى إستقباله عند وصوله لمطار المدينة مئات الألوف من الفرسان يغطون الأفق على صهوات الخيول مشهرين سيوفهم ورماحهم ويهتفون "عاش السودان حراً مستقلاً" فى منظر رهيب وداوى تأثر به الأزهرى حتى سالت دمعته من فرط إحساسه بعظمة الموقف, ويصف أحمد عبدالقادر أرباب هذه اللحظات فيقول: "بعد أن أخذ الرئيس مكانه المعد له تقدم السيد عبدالرحمن دبكة إلى المنصة وألقى كلمته مرحباً برئيس الحكومة وأعضاء وفده ترحيباً حاراً, وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, فهتفت الجماهير المحتشدة خلفه: عاش السودان حراً مستقلاً, ورعدت السماء بالهتافات الداوية, ثمَّ نهض السيد إسماعيل الأزهرى وسط تلك التظاهرة مخاطباً الحشد الكبير وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, السودان للسودانيين, فهاجت الجماهير من الفرحة حيث إنتصرت إرادة الشعب, وإنهمرت الدموع من الفرحة, ودوت الهتافات دون توقف وتعالت لعنان السماء باعثة هديراً صاخباً إهتزت له الأرض, وتحركت الجماهير فى حركة جنونية تعانق بعضها البعض وزغردت النساء ورزمت النقاقير وإبتهجت الدنيا لهذا اليوم التاريخى العظيم المشهد" (صفحة 345).
هكذا هم أهل دارفور, فمن أول يوم ضُمَّت فيه إقليمهم للدولة السودانية أثبتوا أنَّهم لم يأتوا من فراغ, بل جاءوا إليها يحملون زادهم ويتوشحون رداء تاريخ عظيم وإرث ثر وتجربة راسخة فى بناء الأمم, ولذلك فقد ظلوا يغذون التيار الوطنى السودانى بروافد دائمة وقوية من مخزونهم التاريخى ودفعهم الذاتى, خاصة عند المنعطفات الحرجة والمواقف الحاسمة. بناءاًَ على هذه الخلفية يجدر بنا أن نقرأ موقف النائب عبدالرحمن دبكة خاصة من جانب كونه يمثل أول شخصية سودانية يجهر بصوته عالياً مطالباً بإستقلال السودان وفى منطقته الإنتخابية, فأجبر بموقفه ذلك رئيس الحكومة المتردد ألاَّ يحذو إلاَّ حذوه, ولقد كان ذلك المشهد رهيباً وملهماً فى آن واحد تكرر مرة أخرى فى بداية الستينات عندما زار الرئيس جمال عبدالناصر السودان فصحبه الرئيس إبراهيم عبود فى زيارة لمنطقة غزالة جاوزت بجنوب دارفور حيث تدافعت جماهير قبائل البقارة ونظارهم وقياداتهم لإستقبالهما, ويقال أنَّ قرابة ربع مليون فارس قد إحتشدوا فى تلك المناسبة يهزون حرابهم الطويلة فى منظر سدوا بها عين الأفق من كل جانب فتأثر الرئيس عبدالناصر تأثراً بالغاً وإلتفت إلى الرئيس عبود قائلاً: والله لو كان عندى مثل هؤلاء الفرسان لكنت قد دخلت إسرائيل فى يوم واحد!
وعلى العموم فقد أقَّر البرلمان السودانى إعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية فى جلسة حاسمة يوم الأثنين 19 ديسمبر 1955م, وقد وصف الدكتور إبراهيم الأمين ما دار فى تلك الجلسة أورده فى مقال له بعنوان "أيام خالدة" عن إستقلال السودان, نشرته صحيفة الرأى العام مؤخراً بتاريخ 1/1/2004م, ذكر فيه أنَّ السيد ميرغني حسن زاكي الدين قد تقدم في مجلس النواب بالإقتراح الآتي: "نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نرى أن مطلب الجنوبيين بحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث سيعطي الإعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية" فثنى الإقتراح السيد بنجامين لوكي, نائب دائرة ياي بالمديرية الإستوائية ورئيس حزب الأحرار وقال: "عندما بدأ السودانيون يتجمعون ليتشاورون في شئون بلادهم رأي الجنوبيون أن أنجع طريقة للتشاور هي أن تكون للجنوب حكومة فدرالية.. وكلنا يسعى ويهدف لأن يكون السودان وحدة لا تتجزأ ... وهذا الهدف لا يتحقق إلا إذا كانت هناك حكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث"... وطُرح الإقتراح للتصويت فأجيز بالإجماع. وفي الساعة الحادية عشر والدقيقة 15 وصل مجلس النواب السوداني بالإجماع إلي القرار التاريخي بإعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية في نفس تلك الجلسة الخالدة والمرتبطة بوجدان كل سوداني, وكان صاحب الشرف العظيم لتقديم الإقتراح فارس من دارفور هو السيد عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة (حزب أمة) من نواب المعارضة فتقدم بالإقتراح الخاص بإرسال خطاب لمعالي الحاكم العام ... هذا نصه: (نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً .. نعلن بإسم الشعب السوداني أنَّ السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة, ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الإعتراف بهذا الإعلان فوراً), وثنى الإقتراح السيد مشاور جمعة سهل (وطنى إتحادى), وقد أشار السيد عبدالرحيم أبوشنب إلى هذه المناسبة أيضاً عبر مقال له بعنوان "الطريق إلي الإستقلال" نشرته موقع سودانايل بالإنترنت (15/1/2004م) أورد فيه أنَّ السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة قد علَّق على ذلك الإقتراح الذى تقدم به النائب دبكة ثمَّ إختتم المداولة السيد مبارك زروق وزير المواصلات ممثلاً من جانب الحكومة, وما كادت النتيجة أن تعلن حتي دوت القاعة بالتصفيق الحاد إشترك فيه الأعضاء والزوار على السواء وخرج بذلك المجلس علي اللوائح ولم يتدخل الرئيس تقديراً لأهمية المناسبة, وفي إحتفال مهيب أنزل العلمان البريطاني والمصري صبيحة اليوم الأول من يناير 1956م وفى نفس اللحظة تمَّ رفع العلم السوداني بواسطة كل من السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحكومة والسيد محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة، ودخل السودان في عهد جديد.
إنَّ ما يجدر الإشارة إليه من خلال هذا السرد الموجز هو أنَّ أول صوت نادى بإستقلال السودان هو صوت السيد عبدالحمن دبكة من مدينة عدالغنم (عد الفرسان حالياً وتقع فى جنوب دارفور) وسجل بذلك سبق تاريخي فريد فكرمته جميع الأحزاب بذلك السبق وفوضته بأن يقدم قرار الإستقلال من داخل البرلمان.
سلطنة المساليت ودورها فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة:
بالرغم من الدور المفصلى والحاسم الذى قامت به سلطنة المساليت فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة إلاَّ أنَّها لم تجد الإهتمام اللازم من قبل المؤرخين السودانيين, الشيئ الذى يستدعى معه ضرورة قيام نهضة قومية راكزة فى مجال علوم التاريخ لدعم الهوية والثقافة السودانية ولكشف ما خفى من الجوانب المهملة من تاريخنا القومى عامة, وخاصة فيما يتعلق بالإرث التاريخى والثقافى للمناطق المهمشة التى نعتقد بلا شك أنَّها تمثل لب التاريخ الأساسى للسودان, فمثلاً هل يعرف السودانيون اليوم شيئاً عن الكفاح البطولى لشعب البجاة ضد فراعنة مصر فى ساحق العصور والإنتصارات الداوية التى ألحقوها بهم؟ أو عن مملكة تقلى فى جبال النوبة؟ أو سلطنة الزغاوة والتى كانت تتمدد يوماً من بحيرة تشاد جنوباً إلى أطراف النيل ومملكة النوبة شرقاً والمناطق الجنوبية للدولة الليبية شمالاً؟ ثمًّ هل نعرف شيئاً ولو ضئيلاً عن تاريخ جنوب السودان كله ولو من باب الأساطير والروايات الشفاهية والتراث القبلى الشعبى؟ مثل هذه التساؤلات وغيرها تستدعى إهتمام المثقفين والمؤرخين قبل إهتمام الدولة لأنَّها تستند فى المقام الأول على عطاءات علمية جامعة ومواهب فكرية تتجلى فيها الإمكانات الفردية والقدرات الخلاَّقة.
سنعتمد فى هذا الجزء من المقال عن سلطنة دار المساليت ودورها فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة على التقرير الدقيق والمفصَّل الذى أعدَّه السيد يوسف سعيد تكنة, وزير التعاون الدولى الحالى, فقد سبق له أن عمل خلال فترة النظام المايوى محافظاً لمحافظة شمال دارفور, وكان مقر عاصمتها فى مدينة الجنينة, إذ كانت مدينة الفاشر تمثل عاصمة لكل إقليم دارفور بينما ظلت مدينة نيالا عاصمة لمحافظة جنوب دارفور, ونسبة لمعرفته الدقيقة بشئون إقليم دارفور فقد تم تكليفه من قبل اللجنة العليا لتطوير علاقات المجتمع التابعة لإدارة شئون الحكم الإتحادى بالخرطوم لإعداد دراسة عن الصراع القبلى بدارفور فأعدَّ بحثاً مفصلاً بعنوان "تقرير عن الصراع القبلى بدارفور" (1997م) حصلنا على النسخة الأولية منه سلطَّ فيها الضوء على جوانب مهمة عن طبيعة النزاعات القبلية بذلك الإقليم, ونسبة لعمله السابق كأعلى سلطة حكومية بمدينة الجنينة, قلب دار المساليت, فقد تكوَّنت لديه ذخيرة غنية عن الخلفية التاريخية لتلك المنطقة نلجأ لإقتباس بعض المعلومات منها فى هذه المساحة.
سلطنة المساليت, التى تتمدد على رقعة من الأرض فى أقصى الجزء الغربى من دارفور على الحدود السودانية التشادية, تميزت قبل غيرها من كل مناطق السودان الأخرى بدلالات تاريخية هامة ورهبة وإحترام عميقين من جانب المستعمر الأوربى قبل الممالك والسلطنات السودانية التى جاورتها, ولعلَّ نشوئها ضمن سلسلة السلطنات والممالك الإسلامية فى وسط السودان الغربى, مثل مملكة وداى وقبلها مملكة البرنو والكانم وباجرمى والهوسا وغيرها, ثمَّ معاصرتها لفترة الحكم التركى ثمَّ الدولة المهدية وسلطنة دارفور بقيادة السلطان على دينار قد جعلتها هدفاً ضمن هذه الممالك للهجمة الإستعمارية والتكالب على أفريقيا من قبل الدول الأوربية, ونسبة لذلك فقد ظلَّت سلطنة المساليت طوال تاريخها سلطنة مجاهدة وصامدة لم تسقط أبداً وإلى حين ضمها للسودان الحالى بواسطة الإحتلال الإنجليزى لدارفور, وحتى بعد ذلك وإلى عهد قريب ظلَّت لها خصوصيتها وكانت أكثر مناطق دارفور أمناً وسلاماً قبل أن تمتد إليها أيادى الظلم الرعينة فأحالتها خراباً وقتلاً ودماراً. لقد تأسست سلطنة المساليت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر فى نهائيات فترة الحكم التركى المصرى على يد الفقيه إسماعيل عبدالنبى والذى كان يُدرِّس القرآن فى قرية درجيل التى تقع إلى الشرق من مدينة الجنينة الحالية عاصمة ولاية غرب دارفور, ودخلت فى صراعات حربية دامية مع قوات الدولة المهدية بقيادة عثمان جانو وألحقت بها خسائر فادحة رفضاً لأوامر الخليفة بضرورة الهجرة لأم درمان وإستطاعت المحافظة بقوة على إستقلالها طوال فترة الدولة المهدية, ثم دخلت مرة أخرى فى صراعات مريرة مع السلطان على دينار الذى أرسل عدة تجريدات حربية قوية لضمها لسلطنته إنهزمت معظمها ولم يجد السلطان بعدها بداً سوى توقيع إتفاقية صلح معها وهو الصلح الذى وقعه مع السلطان محمد تاج الدين عام 1908م (1325هـ), لكنَّ الأوضاع لم تهدأ بعدها إذ أخذ الفرنسيون التقدم شرقاً من بحيرة تشاد وإستولوا على سلطنة ودَّاى المتاخمة لحدود سلطنة المساليت وأخذوا يطرقون الباب للتقدم شرقاً نحو سلطنة المساليت ثم إلى داخل دارفور وبقية أنحاء السودان.
والحال كذلك يمكننا بكل ثقة أن نقرر بأنَّه لولا فضل الله وفضل سلطنة المساليت لكانت دارفور, وربما حتى السودان الحالى, قد صارت ضمن سلسلة المستعمرات الفرنسية التى إمتدت على المحور الأوسط والغربى للقارة الأفريقية, من هنا تتجلى عظمة سلطنة المساليت, ودورها المفصلى فى وقف تمدد الإستعمار الفرنسى نحو السودان, ومن ثمَّ وقف زحف اللغة والثقافة الفرنسية اللتان, كما هو معروف, تدمران أول ما تدمران اللغات والثقافات المحلية للدول المستعمَرة وتحاولان تذويب هوياتها اللغوية وخصوصياتها الثقافية فى الثقافة الفرنسية.
بعد إستيلائهم على سلطنة ودَّاى أغار الفرنسيون من الغرب على دار المساليت فتصدى لهم السلطان محمد تاج الدين فى 25 أكتوبر 1910م, الموافق 23 من ذى الحجة 1327هـ, وإلتحم معهم فى معركة كُرُنْدُقْ التى تقع شرق مدينة الجنينة وهزمهم شر هزيمة وقتل قائدهم الكابتن جنيشون, لكنَّ الفرنسيون عادوا مرة ثانية بعد أسبوعين من هزيمتهم بقيادة الكولونيل مول فإلتقى بهم السلطان محمد تاج الدين مرة أخرى فى 9 نوفمبر 1910م, الموافق 7 ذو القعدة 1327هـ, فى معركة دَرَوتِى شرقى مدينة الجنينة الحالية وجنوب عاصمة المساليت التاريخية درجيل, وبالرغم من مقتل السلطان فى تلك المعركة إلاَّ أنَّ الفرنسيون لم يتمكنوا من الإستيلاء على سلطنته فخلفه عليها إبن أخيه السلطان محمد بحرالدين (المشهور بأندوكة) فتصدى للفرنسيين بجسارة وحاربهم فى معركة عُكرى إلى الشرق من درجيل فى عام 1912م, الموافق 15 محرم 1329هـ, ثمَّ حاربهم مرة أخرى فى منطقة هبيلة الحالية وهزمهم فإضطر الفرنسيون للتقهقر إلى بلدة أبَّشى بدار ودَّاى, وفى عام 1913م, 1330هـ, لم يجد الفرنسيون بداً سوى توقيع إتفاقية للصلح معه, على غرار ما فعل السلطان على دينار مع سلفه, تنازل بموجبه السلطان عن الجانب الغربى لدار المساليت وتشمل مركز أدرى الحالية التى تقع ضمن حدود الدولة التشادية الحالية, وذلك ما يفسر وجود قبيلة المساليت على جانبى الحدود السودانية التشادية.
وعندما إستولى الإنجليز على الفاشر وأزالوا سلطنة الفور عام 1916م لم يدخلوا دار المساليت عن طريق القوة المسلحة بل قرأوا تاريخها وإستوعبوه جيدا, ولذلك عندما دخلوها عام 1919م لم يحاربوا سلطانها محمد بحرالدين بل عرضوا عليه أتفاق صلح وافقوا فيه من جانبهم على عدم التدخل فى إدارة شئون سلطنته على أن يوافق السلطان أن يتبع لحكمهم كجزء من دولة السودان الإنجليزى المصرى فإرتضى ذلك, وقد ظلت بنود تلك الإتفاقية ثابتة وراسخة حتى بعد جلاء الإنجليز عن السودان, ووفقاً لذلك فإنَّ سلطنة دار المساليت تعد أول منطقة بالسودان تطبق عليها الحكم الذاتى, وكان نظام حكمها يماثل نظام مملكة البوغندا بمستعمرة يوغندا فى ذلك الوقت, وللحقيقة فقد رأت الإدارة البريطانية أن تجرب فيها فلسفة الحكم غير المباشر وإدخاله فى بقية مناطق السودان الأخرى بعد عام 1922م, وكان أن تمَّ الترويج لهذه الفلسفة من الحكم فى كل من نيجيريا والهند اللتان كانتا تخضعان للحكم البريطانى أيضاً, ولذلك فقد تجنبت الإدارة الإنجليزية أن يكون لديهم وجود بارز داخل مدينة الجنينة, بعد أن تحول إليها عاصمة المساليت من درجيل, فقد أقام الجيش الإنجليزى حاميته عند دخوله لدار المساليت أولاً ببلدة كرينك إلى الشرق من الجنينة عام 1919م, وفى عام 1921م تم إنتقاله إلى بلدة أردمتا شرقى ضفة وادى كجا الذى تقع مدينة الجنينة على الناحية الغربية منه, حيث ظلَّت تلك الحامية موجودة هناك إلى يومنا هذا, وكما إعتمدت الإدارة البريطانية على الإدارة الأهلية إعتماداً رئيسياً فى حكمهم لدارفور فقد قرروا بناءاً على إتفاقية 1919م الإبقاء على المؤسسلت السلطانية بداخل مدينة الجنينة فى يد السلطان, مثل محكمة السلطان وإدارته الأهلية والسجن الذى يتبع له, بينما تم إنشاء مؤسسات السلطة الإنجليزية بعيدة عنها فى منطقة أردمتا على بعد عدة أميال شرق مدينة الجنينة, وقد شملت تلك المؤسسات حامية الجيش والشرطة ومكاتب مفتش المركز والهيكل الإدارى, وهكذا تم الإحتفاظ للسلطان بنوع من الإستقلال الذاتى فى شئون السلطنة, وقد إستمر هذا الوضع حتى بعد إستقلال البلاد ولم يطرأ عليه جديد حتى بعد حل الإدارة الأهلية عام 1971م لخصوصيتها ونسبة لوضعها الحدودى, وظلت مطمئنة هادئة إلى أن إعتدى عليها نظام الإنقاذ عبر ما يعرف بنظام الأمارة فمزقتها إرباً إرباً إلى أربع وثلاثون أمارة دفعة واحدة, ذهبت معظمها لمحاسيبها من قبائل وافدة, أدت فوراً إلى تفجر نزاعات الدم وقامت هذه القبائل بإرتكاب فظائع كارثية ضد السكان المستقرين فى مناطقهم عبر القرون بصورة لم تشهدها المنطقة أبداً فى تاريخها الطويل.
إنَّ إحترام خصوصية سلطنة دار المساليت تتجلى فى حقيقة أن الإنجليز قد أسسوا وجودهم على تراث المساليت فى الحكم والإتفاقات التصالحية, وفى هذا الخصوص فقد قام الإنجليز, الذين سيطروا على السودان, والفرنسيون, الذين سيطروا على تشاد, بتطوير إتفاق الصلح والحدود والذى تمَّ من قبل بين السلطان بحرالدين والفرنسيين عام 1913م إلى قاعدة أساسية لترسيم الحدود بين مستعمريتهما, فبدأوا التفاوض حول ذلك عام 1919م وأكملوه عام 1924م فأصبح ذلك البروتوكول يمثل حدود السودان الغربية الحالية مع تشاد.
أخيراً, لعلَّه من الجدير الإشارة إلى هذه السلطنة ظلت مجاهدة ومسالمة فى آن واحد, وقد إستطاعت أن توائم بين هاتين السياستين ورأيناها تهزم قوات التركية و تتصدى لسياسات المهدية ثمَّ تدخل فى تصالحات نِدِّية مع السلطان على دينار ثمَّ مع الفرنسيين ثمَّ مع الإحتلال الإنجليزى وظلَّت محتفظة بكل خصوصياتها فى فترة الإستقلال الوطنى وإلى عهد قريب, وإستمرت هكذا لأكثر من قرن وربع قرن من الزمان حتى هجم عليها ليل بهيم.
خلاصة:
من السرد أعلاه نخلص إلى جملة من الحقائق التى توضح الأدوار المحورية التى لعبتها دارفور فى خضم الحركة الوطنية السودانية منذ ضمِّها الأول عام 1874م لدولة السودان التركى آنذاك, وقد لمسنا من خلال هذا العرض الموجز أدواراً ومواقف متفاوتة تمثلت فيها أهمية دارفور بالنسبة للسودان يمكننا تحليلها إجمالاً فى النقاط التالية:
أولاً: إنَّ أهل دارفور عندما ضمتهم الدولة السودانية كانت لهم خلفيات فكرية متجذرة بشأن الحكم مع وعى عميق بمفهومية الدولة وعلاقتها بالمواطن, يمكن تلخيصها بمفهوم المواطنة, والتى تطورت وتشكلت بطريقة هادئة عبر قرون من الممارسة, وقد لعبت الإدارة الأهلية دوراً أساسياً فى ذلك من خلال التسلسل الهرمى الدقيق والواضح للسلطة بحيث صار كل فرد فى المجتمع, وإلى عهد قريب, يعرف مكانه تماماً فى مجتمعه أو قبيلته ومن ثمَّ الواجبات المترتبة عليه, ولذلك كان المجتمع متماسكاً ولم تعرف مجتمعات دارفور أبداً صراعاً مكشوفاً على السلطة أو حرباً أهليةً على أساس نزاع حول كرسى الحكم, بل ظلَّت النزاعات تدور غالباً حول الموارد الطبيعية وهى, كما يعرف أهل دارفور جميعاً, ظلَّت مضبوطة بأعراف إجتماعية وتقاليد موروثة تطورت إلى آليات مقبولة إجتماعياً لفض النزاعات والسيطرة عليها.
ثانياً: علاقة المواطن بالسلطة فى دارفور التاريخية ظلَّت تمثل جزءاً من مفهومه للحياة, فالسلاطين والملوك والشراتى والنظار والعمد والدمالج والشيوخ ليسوا مجرد مناصب سلطوية فقط بل إكتسبوا بعداً روحياً تمثلت, وإلى اليوم, فى الإحترام والتبجيل وحتى الإقتداء من جانب المجتمع, ولعلَّ التركيب القبلى لشعب الإقليم ومن ثمَّ التنافس وتمحور الحياة على أساس القبيلة, طلباً للحماية والكسب وتأكيد الهوية, قد تفاعل مع الزمن وفرض نوعاً من هذه المفاهيم, إنََّّ فشل تجربة الإنقاذ فى فرض برنامج "الأمارة" لإعادة توزيع دارات القبائل الكبرى, من باب الكيد والإنتهازية السياسية, قد فشلت لأنَّها إصطدمت بمثل تلك المفاهيم, وقد فشلت قبلها محاولة النظام المايوى لحلِّ الإدارة الأهلية عام 1971م لذات الأسباب, وحتى عندما حاولت الدولة إستعادة دور تلك الإدارة لم تعد بذات الكفاءة والفاعلية, ولعلَّ ما يحدث فى الإقليم اليوم هو نتاج مباشر لكل تلك السياسات الطائشة. لقد عمد المسؤولون فى عهدى النميرى والإنقاذ, إضافة لقدر غير قليل من قصر النظر من جانب قيادات فترة الديمقراطية الثالثة, إلى تدمير نظام حكم ظلَّ يصوغ نفسه لحوالى الألف سنة دون أن يوجدوا بديلاً مكافئاً يسد محله, ولعلَّنا قد نتوسع فى ذلك عندما نستعرض فى مقال قادم تاريخ الإدارة الأهلية فى دارفور ودورها فى ترسيخ نظام الحكم وبناء شخصية مواطن الإقليم.
ثالثاً: كل المعانى سالفة الذكر شكَّلت مفهوم وفلسفة الدولة عند المواطن العادى بحيث يجعله مبادراً لإتخاذ قرارات, وربما بصفة فردية فى بعض الأحيان, طالما إقتنع بنفع ذلك للسلطة والمجتمع الذى يعيش فيه, مما يعكس تطوراً نوعياً جديراً بالدراسة والتأمل قلَّما يوجد حتى فى البلاد المتقدمة, ولعلَّ موقف النائب عبدالرحمن دبكة ما يدعم تحليلنا هذا, فهو لم يكن مطالباً بالجهر بإستقلال السودان فى الوقت الذى كان فيه حتى رئيس الحكومة نفسه وجزء كبير من مؤيديه مترددون فى حسم تلك الفكرة, لكنها جرأة فردية نعتقد أنَّ لها علاقة بمنشأ ذلك النائب وفلسفة تربيته فى بيئة ومجتمع تربى على مفاهيم محددة للعلاقة بين الوطن والمواطن.
رابعاً: نضال السلطان على دينار لإستعادة عرش سلطنة الفور يكشف وجهاً آخر من تصميم أهل دارفور فى المحافظة على وتيرة من الحكم والثقافة والتراث ألفوها من خلال قرون من المعايشة والتكيف لا نبالغ إن قلنا أنَّها صارت جزءاً من معانى وجودهم فى الحياة نفسها, ولعلَّ سلوك سلاطين الفور فى سياساتهم الخارجية ما يستدعى دراستها دراسة أكاديمية منظمة, أو جعلها أطروحات لرسائل الماجستير والدكتوراه على الأقل, فمثلاً ما الذى يجعل السلطان الشاب إبراهيم قرض أو السلطان على دينار يرسل مساعدات وأموال لشريف مكة وهم لم يلتقوه أبداً؟ إنَّ ما تمَّ فى هذا الشأن وغيره هو محض مبادرات شخصية لم يجبروا عليها, أمَّا لماذا فعلوا ذلك؟ وهل فعل أندادهم من حكام مناطق السودان الأخرى شبيه له؟ فهى أسئلة تظل مشروعة تستدعى البحث عن إجابة, لكن من جانبنا نعتقد أنَّ ذلك يمثل لبِّ القصيد ومكمن السر فى قوة شخصية إنسان إقليم دارفور متمثلة فى روح المبادرة البناءة ومحاولة التفرد عبر أفعال ربما تكون فوق العادة.
خامساً: نزعة البقاء وحصافة التفاوض وفن التصالح مع العدو الخارجى المتربص تتجلى أكثر ما تتجلى فى نضالات سلطنة المساليت, وهى بالرغم من صغر مساحتها إلاَّ أن تكتيكاتها الخاصة فى علاقاتها الخارجية قد أجبرت الأجنبى على إحترامها قبل الوطنى القريب, وهو مجال آخر مفتوح للدراسة, ويا ليت لو إلتفت أبناء المساليت بقيادة السلطان سعد بحرالدين والدكتور على حسن تاج الدين بتمويل بحوث أو إنشاء كرسى فى أحدى جامعات دارفور تعنى بدراسة التاريخ السياسى لسلطنة دار المساليت, أو حتى إنشاء مركز بحثى بمدينة الجنينة, ويمكننا بكل ثقة من أن نقول أنًّه لا توجد فى كل مناطق السودان الأخرى منطقة ظلت محافظة على إستقلاليتها وجذبت إهتمام المستعمر فى آن واحد غير سلطنة المساليت مما يستدعى إهتمام خاص من قبل أبنائها والمؤرخين السودانيين على السواء.
سادساً: لم تفتتح أى مدرسة أولية فى دارفور إلاَّ عام 1936م, ولم تفتتح أى مدرسة وسطى إلاَّ عام 1945م, ولم تفتتح أى مدرسة ثانوية إلاَّ عام 1958م, ومع ذلك تفاعل الناس سياسياً ووطنياً تفاعلاً مبكراً مع قضايا الوطن وتغنوا بحب السودان, وتظاهروا ضد المستعمر كما لو كانوا فى قلب العاصمة فمن أين كان لهم كل ذلك الوعى؟ إنَّها روح المبادرة ومحاولة التفرد, ولعلَّ حادثة حرق العلم البريطانى لدليل على ذلك بالرغم من عدم الإشارة إليها فى معظم مؤلفات التاريخ السودانية المعروفة, وذلك ما قصدناه مراراً فى عرض هذا المقال بضرورة سبر أغوار مدفونة من تاريخنا القومى, إنَّ حادثة حرق العلم البريطانى لو حصلت فى أى منطقة أخرى من السودان غير دارفور لسار بسيرتها ركبان كتاب التاريخ.
سابعاً: وكما بادر سلاطين دارفور قديماً بدعم الكعبة والحجيج فى مكة المكرمة وأرض الحجاز قام مواطنو دارفور عام 1948م بدعم القضية الفلسطينية, إن حادثة خلع طالب المرحلة المتوسطة محمد معروف لجلبابه وتبرعه به لدعم القضية الفلسطينية لحدث يجب الوقوف عنده وتناوله من زاوية الإلتزام بالوطن وقضاياه القومية, وتحليل الجوانب السيكلوجية الإجتماعية الملهمة له, يتساوى معه فى ذلك الشاب أبوبكر حجازى الذى أنزل العلم البريطانى من ساريته ليتم حرقه بواسطة الجماهير الثائرة.
ثامناً: ظلَّت جماهير دارفور, والفاشر خاصة, غير بعيدة عن الهمِّ القومى, فمؤتمر الخريجين الذى تكون بأم درمان عام 1937م وجد طريقه للفاشر بعد عامين فقط, رغم بعدها ومشقة الوصول إليها, ثمَّ جاءت مظاهرات عام 1948م بالفاشر ضد المجلس الإستشارى لشمال السودان والجمعية التشريعية تأكيدا للتواصل القومى ومشاركة أهل الإقليم فى الكفاح الوطنى جنباً لجنب مع كل أهل السودان فى المناطق والأقاليم الأخرى.
تاسعاً: لم تنتظر دارفور كثيراً, بعد ضمها لسودان محمد على باشا عام 1874م, لتؤكد مقدار ثقلها فى بناء القومية السودانية وإستعراض قدراتها الذاتية التى تمثلت سريعاً, وبعد سنوات معدودة, فى دعم وقيام الدولة المهدية مما يعنى ضمنياً أنَّ ذلك لم يأتى من فراغ, ولعلَّ دور أبناء دارفور الحاسم فى المحافظة على وحدة البلاد منذ مرحلة ما قبل إعلان الإستقلال, بالرغم من تحفظاتنا لمشاركاتهم فى حروب جنوب السودان, ثمَّ دورهم قبل وبعد ذلك فى بناء الإقتصاد السودانى من خلال تمركزهم فى خدمة مشروع الجزيرة ومشاريع الإنتاج المختلفة, كلها مؤشرات للقدرات الذاتية الهائلة لديهم وإستعدادهم الفطرى لولوج كل مجال وطنى والنبوغ فيه على كل المستويات. إنَّ هذه النقطة مهمة جداً وربما نجد فيها تفسيراً لحالة الخلاف المتكرر والشد والجذب بين الكوادر السياسية من أبناء الإقليم وقيادات أحزابهم القومية, وهى كثيرة ومشاهدة على أية حال, بل إنَّ بعضها ما تزال مشتعلة ولم يتم حسمها بعد. إنَّ تحليلنا لذلك هو محاولة هذه الكوادر التفرد وإطلاق قدراتها لكنهم ظلوا يصطدمون دوماً بسقوف محددة بواسطة القيادات المتنفذة فى هذه الأحزاب لا يترددون معها فى إثارة الخلاف معها, بعضها عاصف. سلوك هذه الكوادرعلى النطاق القومى هو سلوك فطرى يعبر عن درجة عالية من مبدأ روح المبادرة والجرأة جاءوا بها من بيئاتهم التى ترفض الركون واللا مبالاة, فإذا أرادوا التفرد فى عطائهم فى الوعاء القومى إصطدموا بقوالب محنطة من التنظيم والفكر لا تسعهم وتضيق بهم فيتبرمون بها, وربما يكمن فيها أيضاً سر محاولة النخب الحاكمة إبعاد أبناء دارفور دوماً عن مراكز الحكم القوية وإستخدامهم كديكورات للدعاية السياسية ولجم الذين يطالبون بمشاركات مؤثرة ذات معنى, وعلى العموم هذه نقطة مهمة سنحاول تحليلها بإستفاضة فى مقال قريب نتناول فيه إحتمالات المستقبل السياسى لإقليم دارفور.
عاشراً: رغم ندرة التعليم الحديث وإنعدام آليات الوعى الجماهيرى بالإضافة إلى محاربة الإنجليز الشرسة لأى دور يقوم به المتعلمون من أبناء الإقليم تجاه أهاليهم البسطاء, إلاَّ أنَّ تلك الجماهير ظلَّت تتحرك بتلقائية تجاه الأحداث القومية, إذاً لا بد من أن يكون هناك محرك ما يدفع تجاه ذلك نعتقد أنَّه الدفع الذاتى من عمق التاريخ الذى يتميز به أهل الإقليم, وربما نُبسِّط الصورة أكثر ونقربه للفهم إذا وصفنا ذلك المحرك بمثابة شيئ شبيه ب "جين" علق بتكوينهم النفسى والبدنى, أو كشيئ مكنون فى ذاكرة اللاوعى تدفع صاحبه للقيام بعمل لا إرادى يكون مصحوباً بتوجهات إيجابية فى سبيل دعم موقف معين. إنَّ الشواهد على ذلك كثيرة فالذين تصدوا لمدافع الإنجليز بسيوفهم وحرابهم فى كررى لم يكونوا أغبياء بل كانوا مؤمنين بقضية تهون فى سبيلها أرواحهم, و مدفوعين بتأثير ذلك الشيئ الذى يغذيهم بروح المبادرة والتصدى والجرأة والتعامل الحاسم مع المواقف الحرجة التى لا تحتمل التردد أو التراجع, لقد دخل أهل دارفور الحركة الوطنية السودانية والحركة الإستقلالية من الباب الواسع مستصحبين ذلك الشيئ فغيروا مجرى تاريخ البلاد وما زالوا وكفاهم ذلك, وقد آن الأوان لكى يغيروا مجرى حياتهم فى دارفور فمن بين الركام والرماد لا بد من أن تنبت زهرة ندية مشرقة وهم قادرون على ذلك بإذن الله.
أخيراً نهدى هذا المقال إلى الذين يعتقدون بأنًّ أهل دارفور يريدون السلطة ولا يشبهونها, دون تعليق!
الولايات المتحدة الأمريكية
حرق العلم الإنجليزى بالفاشر:
لقد تركت أحداث مظاهرة الفاشر عام 1948م أثراً عميقاً بين جماهير دارفور والسلطات الأنجليزية والتى تعقدت مهامها أكثر مع إزدياد وتيرة الهَّم القومى للتحرر والإنعتاق, ولقد مثَّل نادى الفاشر فى تلك الحقبة وما تلتها معلماً بارزاً وصوتاً معبراً لتطلعات الشعب وتحولت لمنارة إشعاع دافق لإقامة الندوات السياسية والمحاضرات العلمية والمسرحيات الهادفة الموجهَّة, ولم يكن الناس بعيدين كذلك عن أخبار التحرر الوطنى الذى ساد أفريقيا وآسيا, وقد أخذ مؤتمر الخريجين بأم درمان فى تشجيع فروعها بالأقاليم للتعبير عن ذلك بكل الوسائل الممكنة مثلت مدينة الفاشر فيها حجر الزاوية, حيث تقرر حرق العلم البريطانى, فخرجت الجماهير فى مظاهرة هادرة فى 2 فبراير1952م (ويا ليت لو تحول هذا التاريخ إلى يوم وطنى فى دارفورعلى الأقل) تطالب بخروج المستعمر وتوجهوا إلى مقر إدارة المديرية نهاراً جهاراً ورفعوا الشاب أبوبكرمحمد حجازى, من أبناء حى أولاد الريف بالفاشر, إلى سطح المبنى الذى يرفرف عليه العلمان الإنجليزى والمصرى, وأمروه بألاَّ يمس العلم المصرى تكريماً لمصر, فأنزل لهم العلم الإنجليزى من ساريته, فهتفوا طويلاً "يسقط الإستعمار" ثمَّ أحرقوه, فى بادرة هى الأولى ضد الأمبراطورية البريطانية يقال أنَّها أغضبت الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا وحزنت حزناً شديداً عندما بلغها النبأ, لقد مثَّل حرق العلم البريطانى تعبيراً عن رفض بقاء الإستعمار لكن القوات الإنجليزية تعاملت معها بقسوة وفظاظة وتمَّ إعتقال كل من إشترك فى التخطيط لتلك المظاهرة, ويقال أنَّ القوات البريطانية أنتظرت حلول الظلام لإلقاء القبض على بقية المطلوبين فى بيوتهم, وكانوا ينزعون أحذية المعتقلين ثمَّ يلفون أقدامهم لفاً محكماً بقطع من جلود البقر المذبوحة بعد أن يصبوا عليها الماء البارد, وعندما تبدأ تلك الجلود بالتيبس تنقبض أكثر فيحدث ألماً رهيباً فى أقدام الأفراد المعذبين, ومع ذلك لا يتركونهم بل يجلدونهم على بطن تلك الأقدام الحافية بالسياط ويضربون عليها بالبساطين (نتمنى ألاَّ تطالع أجهزة الأمن السودانى هذه الطريقة البشعة للتعذيب!), وعلى العموم قبضت القوات البريطانية على 29 شاباً وقدمتهم لمحاكمات سريعة بالجلد وأحكام متفاوتة بالسجن حيث أودعتهم فى 4 سجون رئيسية هى شالا وحلوف ونيالا والأبيض, وقد أورد المؤرخ أرباب الأسماء التالية فى كل سجن:
سجن حلوف شمالى الفاشر:
محمد محمود محمد (العقوبة سنتان مع الأشغال الشاقة وقيد ثقيل و25 جلدة,), ياسين إبراهيم الضى, محمد عثمان أبَّشر, أحمد عيسى طه, هاشم الخليفة محمد نور, محمد عبدالله فضل السيد, محمد الحاج إبراهيم.
سجن شالا غربى الفاشر:
عبدالله يوسفو, الطيب محمد يحيى, جبريل أحمد موسى, عبدالرحمن محمد آدم, أمين حسب الله, أحمد شمنُّو, أبَّكر عبدالحكم, محمد الفكى خالد, سليمان كرامة, محمد الدومة سليمان, إبراهيم كيوكيو, مصطفى الخليفة محمد نور, أحمد آدم عبدالرحمن, محمد أبو اليمين, محمد عزَّة إدريس, أحمد شمين, محمد شريف جبريل.
سجن نيالا:
حسن محمد صالح, عباس محمد نور.
سجن البان جديد بالأبيِّض:
أبو القاسم الحاج محمد, يوسف محمد نور عالم, عبدالرحمن حسن طويل.
هذه هى الضريبة التى دفعها أهل الفاشر تعبيراً عن تضامنهم مع الهمَّ القومى للتحرر والإستقلال, والنضال من أجل وطن العز والكرامة, وما يزال بعض هؤلاء الأبطال على قيد الحياة, وحسناً فعلت الحكومة الإقليمية بدارفور عام 1983م بتكريمهم تكريما يليق بمكانتهم فمنحت كل واحد منهم قطعة أرض درجة أولى فى المخطط الحديث غربى المدينة خالية من الرسوم والضرائب تقديراً لما قاموا به من دور بطولى سيذكره التاريخ لهم ولأهل دارفور طويلاً.
معركة الإستقلال:
برغم كثافة وثراء النشاط السياسى فى دارفور وتركزها فى مدينة الفاشر, خاصة عقب قيام فرع لمؤتمر الخريجين فيها, إلاَّ أنَّ مناطق الوعى والحركة السياسية قد تتمددت رويداً رويداً لسائر أنحاء الإقليم متأثرة بالزخم القومى وحركته نحو الإستقلال ومتفاعلة بما يحدث فى الفاشر عاصمة المديرية, وتبعاً لذلك تحولت مدن مثل نيالا والجنينة وأم كدادة والضعين وكتم وعد الغنم إلى مراكز إشعاع سياسى نشط تكاملت مع مدينة الفاشر فى إبراز وجه دارفور النضالى من أجل التحرر من المستعمر.
فى الطريق نحو الإستقلال كان السودان منقسماً على المستوى القومى إلى عدة أحزاب تجمعت فى كتلتين رئيسيتين هما كتلة الأحزاب الإتحادية من جانب, والتى كانت تطالب بنوع من الوحدة مع مصر, وضمَّت أحزاب الأشقاء، الجبهةالوطنية, حزب الاتحاديين, وحزب وحدة وادي النيل, ثمَّ كتلة الأحزاب الإستقلالية التى تدعو لإستقلال السودان الكامل عن مصر وبريطانيا رافعة شعار "السودان للسودانيين" وضمت حزب الامة، والحزب الجمهوري الإشتراكي, والحزب الوطني, وبالرغم من فوز الحزب الوطني الإتحادي, الذي كان ينادي بوحدة وادي النيل, بأغلبية مقاعد البرلمان فى إنتخابات عام 1954 وتشكيله لحكومة بمفرده, إضافة إلى ثلاثة من الجنوبيين, وتسلم السيد إسماعيل الأزهرى رئاسة الوزارة إلاَّ أنَّ المد الإستقلالى كان جارفاً, وقد تعقد موقف الأزهرى أكثر إزاء فكرة وحدة وادى النيل خاصةً وأنَّ جماهير الحزب الوطني الديمقراطي والشعب السوداني عامةً قد إتجهت بقوة نحو فكرة القومية السودانية المستقلة, وقد تعقدت مهمته أكثر بعد أحداث العنف من جانب الأنصار عند إستقبال اللواء محمد نجيب وزملائه وكبار الزوار والضيوف الذين وفدوا من مختلف الأقطار لحضور إفتتاح البرلمان في أول مارس 1954م, ونتيجة لكل ذلك فقد إقتنع الأزهرى بفكرة الأمر الواقع وأعلن رغبة السودان فى الإستقلال فى مؤتمر (باندونج) بالرغم من المعارضة المصرية القوية للفكرة, لكن تطورت الأمور بسرعة أكبر نحو الإستقلال وإتفقت كل الاحزاب السياسية السودانية علي أن يعلن أعضاء البرلمان رغبتهم في ذلك من خلال مشروع قرار برلماني في 19 ديسمبر 1955م بدلاً عن قرار الإستفتاء الشعبي كما نصت عليه الإتفاقية البريطانية المصرية التى كانت قد أبرمت عام 1953م.
لكن قبل ذلك كله, ونسبة لتنامى المطالبة بالإستقلال الكامل, قرر السيد إسماعيل الأزهرى القيام بطواف على الإقاليم الغربية للبلاد, وكما معروف فهى معاقل قوية لحزب الأمة, ولذلك وجَّه حزب الأمة جماهيره فى تلك المناطق بحسن إستقبال رئيس الحكومة إستقبالاً ودياً وشعبياً لكن نبههم بأن يطالبوا بإستقلال السودان حتى يتعاظم الضغط الشعبى عليه للإلتزام به, فإنبهر الرجل بضخامة الإستقبال الذى وجده بالنهود, فى أول زيارة له بكردفان, وتيقن ألاَّ مناص من تبنى فكرة الأستقلال كهدف ثابت, ثم قادته زيارته لمدينة عد الغنم بجنوب دارفور, كأول منطقة بدارفور يزورها فى جولته تلك, وكان قد وصل إليها قبله نائب المنطقة, عن حزب الأمة لدائرة غرب البقارة, السيد عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة وشرع فى الإعداد الشعبى لمقابلة رئيس البلاد الذى وجد فى إستقباله عند وصوله لمطار المدينة مئات الألوف من الفرسان يغطون الأفق على صهوات الخيول مشهرين سيوفهم ورماحهم ويهتفون "عاش السودان حراً مستقلاً" فى منظر رهيب وداوى تأثر به الأزهرى حتى سالت دمعته من فرط إحساسه بعظمة الموقف, ويصف أحمد عبدالقادر أرباب هذه اللحظات فيقول: "بعد أن أخذ الرئيس مكانه المعد له تقدم السيد عبدالرحمن دبكة إلى المنصة وألقى كلمته مرحباً برئيس الحكومة وأعضاء وفده ترحيباً حاراً, وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, فهتفت الجماهير المحتشدة خلفه: عاش السودان حراً مستقلاً, ورعدت السماء بالهتافات الداوية, ثمَّ نهض السيد إسماعيل الأزهرى وسط تلك التظاهرة مخاطباً الحشد الكبير وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, السودان للسودانيين, فهاجت الجماهير من الفرحة حيث إنتصرت إرادة الشعب, وإنهمرت الدموع من الفرحة, ودوت الهتافات دون توقف وتعالت لعنان السماء باعثة هديراً صاخباً إهتزت له الأرض, وتحركت الجماهير فى حركة جنونية تعانق بعضها البعض وزغردت النساء ورزمت النقاقير وإبتهجت الدنيا لهذا اليوم التاريخى العظيم المشهد" (صفحة 345).
هكذا هم أهل دارفور, فمن أول يوم ضُمَّت فيه إقليمهم للدولة السودانية أثبتوا أنَّهم لم يأتوا من فراغ, بل جاءوا إليها يحملون زادهم ويتوشحون رداء تاريخ عظيم وإرث ثر وتجربة راسخة فى بناء الأمم, ولذلك فقد ظلوا يغذون التيار الوطنى السودانى بروافد دائمة وقوية من مخزونهم التاريخى ودفعهم الذاتى, خاصة عند المنعطفات الحرجة والمواقف الحاسمة. بناءاًَ على هذه الخلفية يجدر بنا أن نقرأ موقف النائب عبدالرحمن دبكة خاصة من جانب كونه يمثل أول شخصية سودانية يجهر بصوته عالياً مطالباً بإستقلال السودان وفى منطقته الإنتخابية, فأجبر بموقفه ذلك رئيس الحكومة المتردد ألاَّ يحذو إلاَّ حذوه, ولقد كان ذلك المشهد رهيباً وملهماً فى آن واحد تكرر مرة أخرى فى بداية الستينات عندما زار الرئيس جمال عبدالناصر السودان فصحبه الرئيس إبراهيم عبود فى زيارة لمنطقة غزالة جاوزت بجنوب دارفور حيث تدافعت جماهير قبائل البقارة ونظارهم وقياداتهم لإستقبالهما, ويقال أنَّ قرابة ربع مليون فارس قد إحتشدوا فى تلك المناسبة يهزون حرابهم الطويلة فى منظر سدوا بها عين الأفق من كل جانب فتأثر الرئيس عبدالناصر تأثراً بالغاً وإلتفت إلى الرئيس عبود قائلاً: والله لو كان عندى مثل هؤلاء الفرسان لكنت قد دخلت إسرائيل فى يوم واحد!
وعلى العموم فقد أقَّر البرلمان السودانى إعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية فى جلسة حاسمة يوم الأثنين 19 ديسمبر 1955م, وقد وصف الدكتور إبراهيم الأمين ما دار فى تلك الجلسة أورده فى مقال له بعنوان "أيام خالدة" عن إستقلال السودان, نشرته صحيفة الرأى العام مؤخراً بتاريخ 1/1/2004م, ذكر فيه أنَّ السيد ميرغني حسن زاكي الدين قد تقدم في مجلس النواب بالإقتراح الآتي: "نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نرى أن مطلب الجنوبيين بحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث سيعطي الإعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية" فثنى الإقتراح السيد بنجامين لوكي, نائب دائرة ياي بالمديرية الإستوائية ورئيس حزب الأحرار وقال: "عندما بدأ السودانيون يتجمعون ليتشاورون في شئون بلادهم رأي الجنوبيون أن أنجع طريقة للتشاور هي أن تكون للجنوب حكومة فدرالية.. وكلنا يسعى ويهدف لأن يكون السودان وحدة لا تتجزأ ... وهذا الهدف لا يتحقق إلا إذا كانت هناك حكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث"... وطُرح الإقتراح للتصويت فأجيز بالإجماع. وفي الساعة الحادية عشر والدقيقة 15 وصل مجلس النواب السوداني بالإجماع إلي القرار التاريخي بإعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية في نفس تلك الجلسة الخالدة والمرتبطة بوجدان كل سوداني, وكان صاحب الشرف العظيم لتقديم الإقتراح فارس من دارفور هو السيد عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة (حزب أمة) من نواب المعارضة فتقدم بالإقتراح الخاص بإرسال خطاب لمعالي الحاكم العام ... هذا نصه: (نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً .. نعلن بإسم الشعب السوداني أنَّ السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة, ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الإعتراف بهذا الإعلان فوراً), وثنى الإقتراح السيد مشاور جمعة سهل (وطنى إتحادى), وقد أشار السيد عبدالرحيم أبوشنب إلى هذه المناسبة أيضاً عبر مقال له بعنوان "الطريق إلي الإستقلال" نشرته موقع سودانايل بالإنترنت (15/1/2004م) أورد فيه أنَّ السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة قد علَّق على ذلك الإقتراح الذى تقدم به النائب دبكة ثمَّ إختتم المداولة السيد مبارك زروق وزير المواصلات ممثلاً من جانب الحكومة, وما كادت النتيجة أن تعلن حتي دوت القاعة بالتصفيق الحاد إشترك فيه الأعضاء والزوار على السواء وخرج بذلك المجلس علي اللوائح ولم يتدخل الرئيس تقديراً لأهمية المناسبة, وفي إحتفال مهيب أنزل العلمان البريطاني والمصري صبيحة اليوم الأول من يناير 1956م وفى نفس اللحظة تمَّ رفع العلم السوداني بواسطة كل من السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحكومة والسيد محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة، ودخل السودان في عهد جديد.
إنَّ ما يجدر الإشارة إليه من خلال هذا السرد الموجز هو أنَّ أول صوت نادى بإستقلال السودان هو صوت السيد عبدالحمن دبكة من مدينة عدالغنم (عد الفرسان حالياً وتقع فى جنوب دارفور) وسجل بذلك سبق تاريخي فريد فكرمته جميع الأحزاب بذلك السبق وفوضته بأن يقدم قرار الإستقلال من داخل البرلمان.
سلطنة المساليت ودورها فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة:
بالرغم من الدور المفصلى والحاسم الذى قامت به سلطنة المساليت فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة إلاَّ أنَّها لم تجد الإهتمام اللازم من قبل المؤرخين السودانيين, الشيئ الذى يستدعى معه ضرورة قيام نهضة قومية راكزة فى مجال علوم التاريخ لدعم الهوية والثقافة السودانية ولكشف ما خفى من الجوانب المهملة من تاريخنا القومى عامة, وخاصة فيما يتعلق بالإرث التاريخى والثقافى للمناطق المهمشة التى نعتقد بلا شك أنَّها تمثل لب التاريخ الأساسى للسودان, فمثلاً هل يعرف السودانيون اليوم شيئاً عن الكفاح البطولى لشعب البجاة ضد فراعنة مصر فى ساحق العصور والإنتصارات الداوية التى ألحقوها بهم؟ أو عن مملكة تقلى فى جبال النوبة؟ أو سلطنة الزغاوة والتى كانت تتمدد يوماً من بحيرة تشاد جنوباً إلى أطراف النيل ومملكة النوبة شرقاً والمناطق الجنوبية للدولة الليبية شمالاً؟ ثمًّ هل نعرف شيئاً ولو ضئيلاً عن تاريخ جنوب السودان كله ولو من باب الأساطير والروايات الشفاهية والتراث القبلى الشعبى؟ مثل هذه التساؤلات وغيرها تستدعى إهتمام المثقفين والمؤرخين قبل إهتمام الدولة لأنَّها تستند فى المقام الأول على عطاءات علمية جامعة ومواهب فكرية تتجلى فيها الإمكانات الفردية والقدرات الخلاَّقة.
سنعتمد فى هذا الجزء من المقال عن سلطنة دار المساليت ودورها فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة على التقرير الدقيق والمفصَّل الذى أعدَّه السيد يوسف سعيد تكنة, وزير التعاون الدولى الحالى, فقد سبق له أن عمل خلال فترة النظام المايوى محافظاً لمحافظة شمال دارفور, وكان مقر عاصمتها فى مدينة الجنينة, إذ كانت مدينة الفاشر تمثل عاصمة لكل إقليم دارفور بينما ظلت مدينة نيالا عاصمة لمحافظة جنوب دارفور, ونسبة لمعرفته الدقيقة بشئون إقليم دارفور فقد تم تكليفه من قبل اللجنة العليا لتطوير علاقات المجتمع التابعة لإدارة شئون الحكم الإتحادى بالخرطوم لإعداد دراسة عن الصراع القبلى بدارفور فأعدَّ بحثاً مفصلاً بعنوان "تقرير عن الصراع القبلى بدارفور" (1997م) حصلنا على النسخة الأولية منه سلطَّ فيها الضوء على جوانب مهمة عن طبيعة النزاعات القبلية بذلك الإقليم, ونسبة لعمله السابق كأعلى سلطة حكومية بمدينة الجنينة, قلب دار المساليت, فقد تكوَّنت لديه ذخيرة غنية عن الخلفية التاريخية لتلك المنطقة نلجأ لإقتباس بعض المعلومات منها فى هذه المساحة.
سلطنة المساليت, التى تتمدد على رقعة من الأرض فى أقصى الجزء الغربى من دارفور على الحدود السودانية التشادية, تميزت قبل غيرها من كل مناطق السودان الأخرى بدلالات تاريخية هامة ورهبة وإحترام عميقين من جانب المستعمر الأوربى قبل الممالك والسلطنات السودانية التى جاورتها, ولعلَّ نشوئها ضمن سلسلة السلطنات والممالك الإسلامية فى وسط السودان الغربى, مثل مملكة وداى وقبلها مملكة البرنو والكانم وباجرمى والهوسا وغيرها, ثمَّ معاصرتها لفترة الحكم التركى ثمَّ الدولة المهدية وسلطنة دارفور بقيادة السلطان على دينار قد جعلتها هدفاً ضمن هذه الممالك للهجمة الإستعمارية والتكالب على أفريقيا من قبل الدول الأوربية, ونسبة لذلك فقد ظلَّت سلطنة المساليت طوال تاريخها سلطنة مجاهدة وصامدة لم تسقط أبداً وإلى حين ضمها للسودان الحالى بواسطة الإحتلال الإنجليزى لدارفور, وحتى بعد ذلك وإلى عهد قريب ظلَّت لها خصوصيتها وكانت أكثر مناطق دارفور أمناً وسلاماً قبل أن تمتد إليها أيادى الظلم الرعينة فأحالتها خراباً وقتلاً ودماراً. لقد تأسست سلطنة المساليت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر فى نهائيات فترة الحكم التركى المصرى على يد الفقيه إسماعيل عبدالنبى والذى كان يُدرِّس القرآن فى قرية درجيل التى تقع إلى الشرق من مدينة الجنينة الحالية عاصمة ولاية غرب دارفور, ودخلت فى صراعات حربية دامية مع قوات الدولة المهدية بقيادة عثمان جانو وألحقت بها خسائر فادحة رفضاً لأوامر الخليفة بضرورة الهجرة لأم درمان وإستطاعت المحافظة بقوة على إستقلالها طوال فترة الدولة المهدية, ثم دخلت مرة أخرى فى صراعات مريرة مع السلطان على دينار الذى أرسل عدة تجريدات حربية قوية لضمها لسلطنته إنهزمت معظمها ولم يجد السلطان بعدها بداً سوى توقيع إتفاقية صلح معها وهو الصلح الذى وقعه مع السلطان محمد تاج الدين عام 1908م (1325هـ), لكنَّ الأوضاع لم تهدأ بعدها إذ أخذ الفرنسيون التقدم شرقاً من بحيرة تشاد وإستولوا على سلطنة ودَّاى المتاخمة لحدود سلطنة المساليت وأخذوا يطرقون الباب للتقدم شرقاً نحو سلطنة المساليت ثم إلى داخل دارفور وبقية أنحاء السودان.
والحال كذلك يمكننا بكل ثقة أن نقرر بأنَّه لولا فضل الله وفضل سلطنة المساليت لكانت دارفور, وربما حتى السودان الحالى, قد صارت ضمن سلسلة المستعمرات الفرنسية التى إمتدت على المحور الأوسط والغربى للقارة الأفريقية, من هنا تتجلى عظمة سلطنة المساليت, ودورها المفصلى فى وقف تمدد الإستعمار الفرنسى نحو السودان, ومن ثمَّ وقف زحف اللغة والثقافة الفرنسية اللتان, كما هو معروف, تدمران أول ما تدمران اللغات والثقافات المحلية للدول المستعمَرة وتحاولان تذويب هوياتها اللغوية وخصوصياتها الثقافية فى الثقافة الفرنسية.
بعد إستيلائهم على سلطنة ودَّاى أغار الفرنسيون من الغرب على دار المساليت فتصدى لهم السلطان محمد تاج الدين فى 25 أكتوبر 1910م, الموافق 23 من ذى الحجة 1327هـ, وإلتحم معهم فى معركة كُرُنْدُقْ التى تقع شرق مدينة الجنينة وهزمهم شر هزيمة وقتل قائدهم الكابتن جنيشون, لكنَّ الفرنسيون عادوا مرة ثانية بعد أسبوعين من هزيمتهم بقيادة الكولونيل مول فإلتقى بهم السلطان محمد تاج الدين مرة أخرى فى 9 نوفمبر 1910م, الموافق 7 ذو القعدة 1327هـ, فى معركة دَرَوتِى شرقى مدينة الجنينة الحالية وجنوب عاصمة المساليت التاريخية درجيل, وبالرغم من مقتل السلطان فى تلك المعركة إلاَّ أنَّ الفرنسيون لم يتمكنوا من الإستيلاء على سلطنته فخلفه عليها إبن أخيه السلطان محمد بحرالدين (المشهور بأندوكة) فتصدى للفرنسيين بجسارة وحاربهم فى معركة عُكرى إلى الشرق من درجيل فى عام 1912م, الموافق 15 محرم 1329هـ, ثمَّ حاربهم مرة أخرى فى منطقة هبيلة الحالية وهزمهم فإضطر الفرنسيون للتقهقر إلى بلدة أبَّشى بدار ودَّاى, وفى عام 1913م, 1330هـ, لم يجد الفرنسيون بداً سوى توقيع إتفاقية للصلح معه, على غرار ما فعل السلطان على دينار مع سلفه, تنازل بموجبه السلطان عن الجانب الغربى لدار المساليت وتشمل مركز أدرى الحالية التى تقع ضمن حدود الدولة التشادية الحالية, وذلك ما يفسر وجود قبيلة المساليت على جانبى الحدود السودانية التشادية.
وعندما إستولى الإنجليز على الفاشر وأزالوا سلطنة الفور عام 1916م لم يدخلوا دار المساليت عن طريق القوة المسلحة بل قرأوا تاريخها وإستوعبوه جيدا, ولذلك عندما دخلوها عام 1919م لم يحاربوا سلطانها محمد بحرالدين بل عرضوا عليه أتفاق صلح وافقوا فيه من جانبهم على عدم التدخل فى إدارة شئون سلطنته على أن يوافق السلطان أن يتبع لحكمهم كجزء من دولة السودان الإنجليزى المصرى فإرتضى ذلك, وقد ظلت بنود تلك الإتفاقية ثابتة وراسخة حتى بعد جلاء الإنجليز عن السودان, ووفقاً لذلك فإنَّ سلطنة دار المساليت تعد أول منطقة بالسودان تطبق عليها الحكم الذاتى, وكان نظام حكمها يماثل نظام مملكة البوغندا بمستعمرة يوغندا فى ذلك الوقت, وللحقيقة فقد رأت الإدارة البريطانية أن تجرب فيها فلسفة الحكم غير المباشر وإدخاله فى بقية مناطق السودان الأخرى بعد عام 1922م, وكان أن تمَّ الترويج لهذه الفلسفة من الحكم فى كل من نيجيريا والهند اللتان كانتا تخضعان للحكم البريطانى أيضاً, ولذلك فقد تجنبت الإدارة الإنجليزية أن يكون لديهم وجود بارز داخل مدينة الجنينة, بعد أن تحول إليها عاصمة المساليت من درجيل, فقد أقام الجيش الإنجليزى حاميته عند دخوله لدار المساليت أولاً ببلدة كرينك إلى الشرق من الجنينة عام 1919م, وفى عام 1921م تم إنتقاله إلى بلدة أردمتا شرقى ضفة وادى كجا الذى تقع مدينة الجنينة على الناحية الغربية منه, حيث ظلَّت تلك الحامية موجودة هناك إلى يومنا هذا, وكما إعتمدت الإدارة البريطانية على الإدارة الأهلية إعتماداً رئيسياً فى حكمهم لدارفور فقد قرروا بناءاً على إتفاقية 1919م الإبقاء على المؤسسلت السلطانية بداخل مدينة الجنينة فى يد السلطان, مثل محكمة السلطان وإدارته الأهلية والسجن الذى يتبع له, بينما تم إنشاء مؤسسات السلطة الإنجليزية بعيدة عنها فى منطقة أردمتا على بعد عدة أميال شرق مدينة الجنينة, وقد شملت تلك المؤسسات حامية الجيش والشرطة ومكاتب مفتش المركز والهيكل الإدارى, وهكذا تم الإحتفاظ للسلطان بنوع من الإستقلال الذاتى فى شئون السلطنة, وقد إستمر هذا الوضع حتى بعد إستقلال البلاد ولم يطرأ عليه جديد حتى بعد حل الإدارة الأهلية عام 1971م لخصوصيتها ونسبة لوضعها الحدودى, وظلت مطمئنة هادئة إلى أن إعتدى عليها نظام الإنقاذ عبر ما يعرف بنظام الأمارة فمزقتها إرباً إرباً إلى أربع وثلاثون أمارة دفعة واحدة, ذهبت معظمها لمحاسيبها من قبائل وافدة, أدت فوراً إلى تفجر نزاعات الدم وقامت هذه القبائل بإرتكاب فظائع كارثية ضد السكان المستقرين فى مناطقهم عبر القرون بصورة لم تشهدها المنطقة أبداً فى تاريخها الطويل.
إنَّ إحترام خصوصية سلطنة دار المساليت تتجلى فى حقيقة أن الإنجليز قد أسسوا وجودهم على تراث المساليت فى الحكم والإتفاقات التصالحية, وفى هذا الخصوص فقد قام الإنجليز, الذين سيطروا على السودان, والفرنسيون, الذين سيطروا على تشاد, بتطوير إتفاق الصلح والحدود والذى تمَّ من قبل بين السلطان بحرالدين والفرنسيين عام 1913م إلى قاعدة أساسية لترسيم الحدود بين مستعمريتهما, فبدأوا التفاوض حول ذلك عام 1919م وأكملوه عام 1924م فأصبح ذلك البروتوكول يمثل حدود السودان الغربية الحالية مع تشاد.
أخيراً, لعلَّه من الجدير الإشارة إلى هذه السلطنة ظلت مجاهدة ومسالمة فى آن واحد, وقد إستطاعت أن توائم بين هاتين السياستين ورأيناها تهزم قوات التركية و تتصدى لسياسات المهدية ثمَّ تدخل فى تصالحات نِدِّية مع السلطان على دينار ثمَّ مع الفرنسيين ثمَّ مع الإحتلال الإنجليزى وظلَّت محتفظة بكل خصوصياتها فى فترة الإستقلال الوطنى وإلى عهد قريب, وإستمرت هكذا لأكثر من قرن وربع قرن من الزمان حتى هجم عليها ليل بهيم.
خلاصة:
من السرد أعلاه نخلص إلى جملة من الحقائق التى توضح الأدوار المحورية التى لعبتها دارفور فى خضم الحركة الوطنية السودانية منذ ضمِّها الأول عام 1874م لدولة السودان التركى آنذاك, وقد لمسنا من خلال هذا العرض الموجز أدواراً ومواقف متفاوتة تمثلت فيها أهمية دارفور بالنسبة للسودان يمكننا تحليلها إجمالاً فى النقاط التالية:
أولاً: إنَّ أهل دارفور عندما ضمتهم الدولة السودانية كانت لهم خلفيات فكرية متجذرة بشأن الحكم مع وعى عميق بمفهومية الدولة وعلاقتها بالمواطن, يمكن تلخيصها بمفهوم المواطنة, والتى تطورت وتشكلت بطريقة هادئة عبر قرون من الممارسة, وقد لعبت الإدارة الأهلية دوراً أساسياً فى ذلك من خلال التسلسل الهرمى الدقيق والواضح للسلطة بحيث صار كل فرد فى المجتمع, وإلى عهد قريب, يعرف مكانه تماماً فى مجتمعه أو قبيلته ومن ثمَّ الواجبات المترتبة عليه, ولذلك كان المجتمع متماسكاً ولم تعرف مجتمعات دارفور أبداً صراعاً مكشوفاً على السلطة أو حرباً أهليةً على أساس نزاع حول كرسى الحكم, بل ظلَّت النزاعات تدور غالباً حول الموارد الطبيعية وهى, كما يعرف أهل دارفور جميعاً, ظلَّت مضبوطة بأعراف إجتماعية وتقاليد موروثة تطورت إلى آليات مقبولة إجتماعياً لفض النزاعات والسيطرة عليها.
ثانياً: علاقة المواطن بالسلطة فى دارفور التاريخية ظلَّت تمثل جزءاً من مفهومه للحياة, فالسلاطين والملوك والشراتى والنظار والعمد والدمالج والشيوخ ليسوا مجرد مناصب سلطوية فقط بل إكتسبوا بعداً روحياً تمثلت, وإلى اليوم, فى الإحترام والتبجيل وحتى الإقتداء من جانب المجتمع, ولعلَّ التركيب القبلى لشعب الإقليم ومن ثمَّ التنافس وتمحور الحياة على أساس القبيلة, طلباً للحماية والكسب وتأكيد الهوية, قد تفاعل مع الزمن وفرض نوعاً من هذه المفاهيم, إنََّّ فشل تجربة الإنقاذ فى فرض برنامج "الأمارة" لإعادة توزيع دارات القبائل الكبرى, من باب الكيد والإنتهازية السياسية, قد فشلت لأنَّها إصطدمت بمثل تلك المفاهيم, وقد فشلت قبلها محاولة النظام المايوى لحلِّ الإدارة الأهلية عام 1971م لذات الأسباب, وحتى عندما حاولت الدولة إستعادة دور تلك الإدارة لم تعد بذات الكفاءة والفاعلية, ولعلَّ ما يحدث فى الإقليم اليوم هو نتاج مباشر لكل تلك السياسات الطائشة. لقد عمد المسؤولون فى عهدى النميرى والإنقاذ, إضافة لقدر غير قليل من قصر النظر من جانب قيادات فترة الديمقراطية الثالثة, إلى تدمير نظام حكم ظلَّ يصوغ نفسه لحوالى الألف سنة دون أن يوجدوا بديلاً مكافئاً يسد محله, ولعلَّنا قد نتوسع فى ذلك عندما نستعرض فى مقال قادم تاريخ الإدارة الأهلية فى دارفور ودورها فى ترسيخ نظام الحكم وبناء شخصية مواطن الإقليم.
ثالثاً: كل المعانى سالفة الذكر شكَّلت مفهوم وفلسفة الدولة عند المواطن العادى بحيث يجعله مبادراً لإتخاذ قرارات, وربما بصفة فردية فى بعض الأحيان, طالما إقتنع بنفع ذلك للسلطة والمجتمع الذى يعيش فيه, مما يعكس تطوراً نوعياً جديراً بالدراسة والتأمل قلَّما يوجد حتى فى البلاد المتقدمة, ولعلَّ موقف النائب عبدالرحمن دبكة ما يدعم تحليلنا هذا, فهو لم يكن مطالباً بالجهر بإستقلال السودان فى الوقت الذى كان فيه حتى رئيس الحكومة نفسه وجزء كبير من مؤيديه مترددون فى حسم تلك الفكرة, لكنها جرأة فردية نعتقد أنَّ لها علاقة بمنشأ ذلك النائب وفلسفة تربيته فى بيئة ومجتمع تربى على مفاهيم محددة للعلاقة بين الوطن والمواطن.
رابعاً: نضال السلطان على دينار لإستعادة عرش سلطنة الفور يكشف وجهاً آخر من تصميم أهل دارفور فى المحافظة على وتيرة من الحكم والثقافة والتراث ألفوها من خلال قرون من المعايشة والتكيف لا نبالغ إن قلنا أنَّها صارت جزءاً من معانى وجودهم فى الحياة نفسها, ولعلَّ سلوك سلاطين الفور فى سياساتهم الخارجية ما يستدعى دراستها دراسة أكاديمية منظمة, أو جعلها أطروحات لرسائل الماجستير والدكتوراه على الأقل, فمثلاً ما الذى يجعل السلطان الشاب إبراهيم قرض أو السلطان على دينار يرسل مساعدات وأموال لشريف مكة وهم لم يلتقوه أبداً؟ إنَّ ما تمَّ فى هذا الشأن وغيره هو محض مبادرات شخصية لم يجبروا عليها, أمَّا لماذا فعلوا ذلك؟ وهل فعل أندادهم من حكام مناطق السودان الأخرى شبيه له؟ فهى أسئلة تظل مشروعة تستدعى البحث عن إجابة, لكن من جانبنا نعتقد أنَّ ذلك يمثل لبِّ القصيد ومكمن السر فى قوة شخصية إنسان إقليم دارفور متمثلة فى روح المبادرة البناءة ومحاولة التفرد عبر أفعال ربما تكون فوق العادة.
خامساً: نزعة البقاء وحصافة التفاوض وفن التصالح مع العدو الخارجى المتربص تتجلى أكثر ما تتجلى فى نضالات سلطنة المساليت, وهى بالرغم من صغر مساحتها إلاَّ أن تكتيكاتها الخاصة فى علاقاتها الخارجية قد أجبرت الأجنبى على إحترامها قبل الوطنى القريب, وهو مجال آخر مفتوح للدراسة, ويا ليت لو إلتفت أبناء المساليت بقيادة السلطان سعد بحرالدين والدكتور على حسن تاج الدين بتمويل بحوث أو إنشاء كرسى فى أحدى جامعات دارفور تعنى بدراسة التاريخ السياسى لسلطنة دار المساليت, أو حتى إنشاء مركز بحثى بمدينة الجنينة, ويمكننا بكل ثقة من أن نقول أنًّه لا توجد فى كل مناطق السودان الأخرى منطقة ظلت محافظة على إستقلاليتها وجذبت إهتمام المستعمر فى آن واحد غير سلطنة المساليت مما يستدعى إهتمام خاص من قبل أبنائها والمؤرخين السودانيين على السواء.
سادساً: لم تفتتح أى مدرسة أولية فى دارفور إلاَّ عام 1936م, ولم تفتتح أى مدرسة وسطى إلاَّ عام 1945م, ولم تفتتح أى مدرسة ثانوية إلاَّ عام 1958م, ومع ذلك تفاعل الناس سياسياً ووطنياً تفاعلاً مبكراً مع قضايا الوطن وتغنوا بحب السودان, وتظاهروا ضد المستعمر كما لو كانوا فى قلب العاصمة فمن أين كان لهم كل ذلك الوعى؟ إنَّها روح المبادرة ومحاولة التفرد, ولعلَّ حادثة حرق العلم البريطانى لدليل على ذلك بالرغم من عدم الإشارة إليها فى معظم مؤلفات التاريخ السودانية المعروفة, وذلك ما قصدناه مراراً فى عرض هذا المقال بضرورة سبر أغوار مدفونة من تاريخنا القومى, إنَّ حادثة حرق العلم البريطانى لو حصلت فى أى منطقة أخرى من السودان غير دارفور لسار بسيرتها ركبان كتاب التاريخ.
سابعاً: وكما بادر سلاطين دارفور قديماً بدعم الكعبة والحجيج فى مكة المكرمة وأرض الحجاز قام مواطنو دارفور عام 1948م بدعم القضية الفلسطينية, إن حادثة خلع طالب المرحلة المتوسطة محمد معروف لجلبابه وتبرعه به لدعم القضية الفلسطينية لحدث يجب الوقوف عنده وتناوله من زاوية الإلتزام بالوطن وقضاياه القومية, وتحليل الجوانب السيكلوجية الإجتماعية الملهمة له, يتساوى معه فى ذلك الشاب أبوبكر حجازى الذى أنزل العلم البريطانى من ساريته ليتم حرقه بواسطة الجماهير الثائرة.
ثامناً: ظلَّت جماهير دارفور, والفاشر خاصة, غير بعيدة عن الهمِّ القومى, فمؤتمر الخريجين الذى تكون بأم درمان عام 1937م وجد طريقه للفاشر بعد عامين فقط, رغم بعدها ومشقة الوصول إليها, ثمَّ جاءت مظاهرات عام 1948م بالفاشر ضد المجلس الإستشارى لشمال السودان والجمعية التشريعية تأكيدا للتواصل القومى ومشاركة أهل الإقليم فى الكفاح الوطنى جنباً لجنب مع كل أهل السودان فى المناطق والأقاليم الأخرى.
تاسعاً: لم تنتظر دارفور كثيراً, بعد ضمها لسودان محمد على باشا عام 1874م, لتؤكد مقدار ثقلها فى بناء القومية السودانية وإستعراض قدراتها الذاتية التى تمثلت سريعاً, وبعد سنوات معدودة, فى دعم وقيام الدولة المهدية مما يعنى ضمنياً أنَّ ذلك لم يأتى من فراغ, ولعلَّ دور أبناء دارفور الحاسم فى المحافظة على وحدة البلاد منذ مرحلة ما قبل إعلان الإستقلال, بالرغم من تحفظاتنا لمشاركاتهم فى حروب جنوب السودان, ثمَّ دورهم قبل وبعد ذلك فى بناء الإقتصاد السودانى من خلال تمركزهم فى خدمة مشروع الجزيرة ومشاريع الإنتاج المختلفة, كلها مؤشرات للقدرات الذاتية الهائلة لديهم وإستعدادهم الفطرى لولوج كل مجال وطنى والنبوغ فيه على كل المستويات. إنَّ هذه النقطة مهمة جداً وربما نجد فيها تفسيراً لحالة الخلاف المتكرر والشد والجذب بين الكوادر السياسية من أبناء الإقليم وقيادات أحزابهم القومية, وهى كثيرة ومشاهدة على أية حال, بل إنَّ بعضها ما تزال مشتعلة ولم يتم حسمها بعد. إنَّ تحليلنا لذلك هو محاولة هذه الكوادر التفرد وإطلاق قدراتها لكنهم ظلوا يصطدمون دوماً بسقوف محددة بواسطة القيادات المتنفذة فى هذه الأحزاب لا يترددون معها فى إثارة الخلاف معها, بعضها عاصف. سلوك هذه الكوادرعلى النطاق القومى هو سلوك فطرى يعبر عن درجة عالية من مبدأ روح المبادرة والجرأة جاءوا بها من بيئاتهم التى ترفض الركون واللا مبالاة, فإذا أرادوا التفرد فى عطائهم فى الوعاء القومى إصطدموا بقوالب محنطة من التنظيم والفكر لا تسعهم وتضيق بهم فيتبرمون بها, وربما يكمن فيها أيضاً سر محاولة النخب الحاكمة إبعاد أبناء دارفور دوماً عن مراكز الحكم القوية وإستخدامهم كديكورات للدعاية السياسية ولجم الذين يطالبون بمشاركات مؤثرة ذات معنى, وعلى العموم هذه نقطة مهمة سنحاول تحليلها بإستفاضة فى مقال قريب نتناول فيه إحتمالات المستقبل السياسى لإقليم دارفور.
عاشراً: رغم ندرة التعليم الحديث وإنعدام آليات الوعى الجماهيرى بالإضافة إلى محاربة الإنجليز الشرسة لأى دور يقوم به المتعلمون من أبناء الإقليم تجاه أهاليهم البسطاء, إلاَّ أنَّ تلك الجماهير ظلَّت تتحرك بتلقائية تجاه الأحداث القومية, إذاً لا بد من أن يكون هناك محرك ما يدفع تجاه ذلك نعتقد أنَّه الدفع الذاتى من عمق التاريخ الذى يتميز به أهل الإقليم, وربما نُبسِّط الصورة أكثر ونقربه للفهم إذا وصفنا ذلك المحرك بمثابة شيئ شبيه ب "جين" علق بتكوينهم النفسى والبدنى, أو كشيئ مكنون فى ذاكرة اللاوعى تدفع صاحبه للقيام بعمل لا إرادى يكون مصحوباً بتوجهات إيجابية فى سبيل دعم موقف معين. إنَّ الشواهد على ذلك كثيرة فالذين تصدوا لمدافع الإنجليز بسيوفهم وحرابهم فى كررى لم يكونوا أغبياء بل كانوا مؤمنين بقضية تهون فى سبيلها أرواحهم, و مدفوعين بتأثير ذلك الشيئ الذى يغذيهم بروح المبادرة والتصدى والجرأة والتعامل الحاسم مع المواقف الحرجة التى لا تحتمل التردد أو التراجع, لقد دخل أهل دارفور الحركة الوطنية السودانية والحركة الإستقلالية من الباب الواسع مستصحبين ذلك الشيئ فغيروا مجرى تاريخ البلاد وما زالوا وكفاهم ذلك, وقد آن الأوان لكى يغيروا مجرى حياتهم فى دارفور فمن بين الركام والرماد لا بد من أن تنبت زهرة ندية مشرقة وهم قادرون على ذلك بإذن الله.
أخيراً نهدى هذا المقال إلى الذين يعتقدون بأنًّ أهل دارفور يريدون السلطة ولا يشبهونها, دون تعليق!