ذكريات جامعة الخرطوم … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
22 March, 2010
1967-1972
Gibriel47@hotmail.com
توطـئة
هذه المقالات محاولة لاسترجاع الذكريات في جامعة الخرطوم في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حين كان العود أخضرا. وكان كل شيء سليما ينبض حيوية ونشاطا في (قهوة النشاط) وغيرها من مرابع الصبا والشباب آنذاك. لقد كانت تلك فترة عصر ذهبي في السودان بكل المقاييس.
لقد أضفت بنات جامعة الخرطوم – آنذاك – السمر والبيض من السودانيات وغيرهن من الأجنبيات وبنات الفرنجة على الجامعة ألقا ونضارة وحلاوة وجمالا.
وقبيلة (البراكسة) هي مجموعة الطلاب الذين كانوا يسكنون الثكنات التي غادرها جيش المستعمر وأصبحت داخليات الطلاب بالقرب من سينما النيل الأزرق ومستشفى العيون.
ولا يعني الحديث بضمير المتكلم أن تلك التجارب والمعاناة العاطفية والأزمات النفسية المذكورة في هذه المقالات قد مر بها المؤلف، فرافق الليل وسهر الليالي الطوال وسبح مع موج الذكريات. بل مر ببعضها ومر بها بعض الأصدقاء الأعزاء، وكنت شاهد عصر عليها وعايشتها معهم.
كانت هذه التجارب تبدو في تلك الأيام معضلات جسام عصي حلها، ومتاهات صعب الخروج منها. كما يجب أن أنوه بأن أسماء الأبطال المذكورة هنا، والذين مروا بتلك المواقف، ليست حقيقية.
ومر الزمان وعدنا بذاكرتنا إليها، فوجدناها ليست بتلك الصورة التي كانت عليها آنئذ، سبحان الله!!! وعندما قرأ الأبطال المواقف الآن ضحكوا كثيرا بأسنان ليست كاملة، وتضاريس زمان أظهرت بجلاء مسيرة الأيام عليهم!!!
اقتضت بعض المواقف إخراجا أدبيا، ولم تكن الأمور حقيقة بتلك الصورة لأسباب عديدة احتفظ بها لنفسي، وأستميحكم العذر في ذلك.
فإلى كل الأصدقاء من الجنسين، وكل الذين عاصروا تلك الفترة الذهبية في أي كلية من كليات جامعة الخرطوم أهدي هذه المحاولة الطريفة علها تضع على ثغورهم بسمات وآهات رضا، وعلى صدروهم تنهدات شوق دفين، فقد وضع الفرسان (رجالا ونساء) أو على وشك أن يضعوا أسلحتهم، وقد (ذهب النوار وبقي العوار).
رحلات أثناء الدراسة الجامعية
1. الدويم
دعاني وصديقي إسماعيل عيسى شايب - طالب كلية البيطرة آنذاك– صديقنا عبد الحليم حامد - طالب كلية الزراعة آنذاك (الدكتور عبد الحليم حامد الآن) - لزيارة مدينة (الدويم) وقضاء عطلة عيد الأضحى معه في منزل أسرته العامر في الدويم. قبلنا الدعوة، وتوجهنا للبصات (الحافلات) المتجهة إلى الدويم.
أنطلق بنا (البص) محاذيا النيل الأبيض إلى جبل الأولياء، ثم عبرنا الجسر إلى غرب النيل الأبيض، وواصلنا رحلتنا.
كان بالبص إحدى جميلات جامعة الخرطوم الممشوقة القوام التي تغنى فيها أحد الشعراء بالقصيدة المشهورة (ظبية البص) مما أثار فينا كوامن الشوق للغناء حيث كان ثلاثتنا في الكابينة الأمامية مع قائد البص.
ولما كان إسماعيل من المغرمين بالغناء ويملك صوتا جميلا رغم لثغة لسانه، فقد استهل الغناء الجميل. وسرعان ما حذونا حذوه، وطفقنا نشدو معه في غناء جماعي (ليالي يا ليالي.. ليالي عودي تاني. و.... أيامي الفي الدويم).
انقضت الساعات سراعا، ودخلنا بخت الرضا – ذلك المعهد التليد الذي له أياد بيضاء على السودان قاطبة – ثم مدينة الدويم.
استضافتنا عائلة الأخ عبد الحليم حامد، ورحبت بنا أيما ترحيب. فقد كانت الاستعدادات على قدم وساق في منزل مضيفنا ليوم غد – يوم العيد.
أصبحنا، فذهبنا لصلاة العيد، ثم عدنا فذبحت الأضاحي، وانشغلت النساء بتحضير فطور العيد الشية (الشواء) بنوعيها: شية الجمر وشية الصاج و(المرارة النية) ، والقراصة والعصيدة، وغيرها من الأطعمة الشهية والشربوت (نقيع التمر).
ضجت البيوت بأصوات وضحكات الكبار ومباركة العيد والسلام من الغادين والرائحين كعادة السودانيين بعد صلاة العيد حين يمرون على بعضهم البعض زرافات ووحدانا مهنئين بالعيد السعيد.
ازدحمت الطرقات بالجلاليب (الجلابيب) البيضاء، والعمائم الكبيرة، والثياب النسائية الفاخرة، والوجوه الجميلة التي تميزت بها مدينة الدويم. وتحولت المدينة إلى حديقة غناء بثرثرة وضحكات أطفالها، وملابسهم الجديدة الزاهية الألوان، وانطلاقاتهم الرائعة مع البالونات في كل الاتجاهات.
2.رفاعة
وفي عيد آخر ذهبت وزميلي الباقر أبتر إلى رفاعة أثر دعوة كريمة من زميلنا المهذب عمر الفاضل نبق – طالب كلية العلوم آنذاك.
انساب بنا البص (الحافلة) في شارع مدني حتى الحصاحيصا، ثم ركبنا البنطون (المعدية) إلى شرق النيل الأزرق إلى رفاعة – مدينة شيخ العرب أبو سن شيخ الشكرية والمجاهد الباسل بابكر بدري رائد التعليم الأهلي ومؤسس التعليم النسائي في السودان.
قضينا أجمل اللحظات مع أسرة زميلنا عمر التي احتوتنا بكل حنان وأريحية الأكارم فلم نشعر قط أثناء بقائنا في رفاعة أننا في غير أهلنا. واكتحلت أعيننا بأهل رفاعة السمحين خلقا وخلقا.
فجهينة السودان عامة وغرب السودان خاصة تعرف أن هناك بطنان منها هما من أجمل الناس: (الشنابلة) في كردفان و(رفاعة) في البطانة.
تميز الباقر أبتر بأنه كان من أظرف الطلبة في كلية الآداب بعزفه الجميل على العود وأغانيه المبتدعة التي كانت تفيض ظرفا وتضفي على الطلاب بهجة وسعادة خاصة في رحلات الكلية إلى سوبا والبتري وغيرها من أماكن الرحلات:
- ياكوكو ما ترميني من سيدره (شجره). أنا بقع أنا بقع من سيدره.
- وفطومة بت الزين عاجباني فيك فصدين نايرات على الخدين
- سوري لأنت ياخـي بس كفاره لي أنا
يوم في البص لقيته حبــاني حبيته
سألت منه قــالوا في ملكيـه بيته
سوري لأنت ياخـي بس كفاره لي أنا.
3.أبو نعامة
وفي إحدى إجازات جامعة الخرطوم ذهبت وصديقي محمد أحمد إدريس- طالب كلية العلوم آنذاك (الدكتور محمد أحمد إدريس الأستاذ الجامعي الآن) - إلى أبي نعامة جنوب النيل الأزرق.
مررنا على مدني وسنار ثم سنجة وكركوج مدينة الشيخ الشريف محمد الأمين – رحمه الله رحمة واسعة - ثم أبي نعامة وعبرنا إلى (الهوي) شرق النيل الأزرق حيث استضافتني عائلة الأخ الكريم محمد أحمد بحفاوة وترحاب نادرين.
في صباح اليوم التالي أتى كل من بالقرية ببراد (إبريق) شاي بالحليب وكان كل واحد يصر على أن أشرب من (براده). شربت، وشربت، وشربت حتى تضلعت، ولم تجد بطني سبيلا سوى القيء. كرم قل أن تجد له مثيلا!!!
وكان المادح خال محمد أحمد يشنف آذاننا بصوته الجميل – كعادة أهل الجزيرة - بمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد كل وجبة غداء.
المدهش أني وجدت بعض الأفراد من قبيلة المسيرية في تلك المنطقة. استغربت كيف وصلوا إلى هناك من أقصى الغرب. ولكن علمت فيما بعد أن أجدادهم كانوا ضمن جيش الأمير (أحمد فضيل) الذي كان يقاتل في شرق السودان وحاول أن يدرك معركة كرري ولم يتمكن فانداح الجيش في الجزيرة. فظلوا يعرفون أصولهم، ولكن تغيرت لهجتهم رغم محافظة الكبار على مفردات منها. وعلى سبيل المثال عندما دعانا أحدهم لدخول بيته، فجلسنا على حافة السرير، وكنا في عجلة من أمرنا قال:
- اتمجدوا في السرير (أي أجلسوا عليه بمجد وليس كما جلسنا).
كما كان هناك أفراد من قبيلة المسيرية ممن وفد إلى تلك المنطقة حديثا يعملون في مصنع (الكناف) في أبي نعامة آنذاك. وكانوا يعبقون جو المدينة في العصريات بنقارة البقارة الرائعة والرقصات المدهشة.
وفي طريقنا لزيارة الشيخ الشريف محمد الأمين – رحمه الله رحمة واسعة – مررنا (بأم درمان فلاته) و(أم قراد) حسب تعليمات والد محمد أحمد - رحمه الله رحمة واسعة - بألا نغادر القرية دون أن نزور الشيخ محمد الأمين ونلتقي به ونتلقى الفاتحة منه.
4.الشرق الجميل
ذهبنا بالقطار في الإجازة الصيفية إلى بورتسودان، ومنها إلى سواكن، ثم كسلا، والقضارف في رحلة لجمعية الفنون الجميلة بجامعة الخرطوم.
كانت ثلتنا في جمعية الفنون بجامعة الخرطوم آنذاك تتكون من الشباب الرائعين محمد عمر بشارة (الفنان التشكيلي الرائع) وصلاح وديدي (الفنان التشكيلي المبدع) ومعتز علي عبد الله (الفنان التشكيلي المدهش) وأحمد عمر (السفير فيما بعد) والصراف (الدكتور الصراف) – شاعر (الحلمنتيشي) المشهور وبشير عمر (الدكتور بشير عمر الاقتصادي الدولي المعروف ووزير المالية في حكومة الصادق المهدي الأخيرة) وغيرهم.
أ. بورتسودان:
أقمنا بمدرسة بورتسودان الثانوية القريبة من البحر الأحمر. وأقمنا معرضا للفنون الجميلة بنادي الشباب في ثغر السودان في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. كما زرنا جزيرة ومنارة (سنجنيب) في عرض البحر الأحمر.
استرعى انتباهنا في هذه المدينة الجميلة نظافتها وإنسانها (أدروب) الأبي الشجاع الذي كسر المربع الإنجليزي وحير الإمبراطورية البريطانية في أوج قوتها وكذلك غرابها الغريب الشكل وقططها المذهلة.
ب. سواكن
ذهبنا إلى سواكن عثمان دقنة. رأينا خضرة وزرقة المياه الصافية، والأسماك المرجانية الرائعة الألوان، وقططها الغريبة الأطوار التي سمعنا عنها حكايات وحكايات، وكانت فعلا مذهلة.
رسمنا أطلال القصور وعلى رأسها قصر الشناوي، والمنازل الراقية، والقطط، والغربان، وشهدنا ما كانت عليه هذه المدينة الأسطورة من رغد العيش والرقي والتقدم حتى عفا عليها الدهر. فأسلاك الهاتف لا تزال ممدة على امتداد المباني السكنية. وهناك بعض المباني التي قد يصل ارتفاعها إلى سبعة طوابق.
تشبه سواكن مدينة جدة السعودية ومثيلاتها من المدن العريقة التي تطل على ساحل البحر الأحمر من اليمن جنوبا إلى خليج العقبة شمالا.
ت. كسلا
انتقلنا بمعرضنا إلى كسلا الوريفة وجناين الفاكهة المتنوعة، والحدائق الغناء. قمنا بزيارة (توتيل)، وأضرحة السادة الميرغنية، ووقفنا على القاش – هذا النهر الموسمي الذي صعب ترويضه. ذهبنا إلى جبل التاكا الشامخ شموخ كسلا. وشاهدنا جاليتها الهندية الكبيرة وذلك الخليط البشري الرائع القادم من كل جهات السودان، وخارج السودان. استمتعنا بجو كسلا اللطيف، واستوحى معظم زملائنا لوحاتهم من تلك البيئة الجميلة.
ث. القضارف
انتقلنا إلى القضارف، وأقمنا معرضنا بها، واستأنسنا بإنسانها الرائع الذي وفد إليها من كل السودان شمالا وجنوبا وغربا، وشرقا من الجارة أثيوبيا، ووقفنا على إمكانياتها الزراعية الضخمة، وأراضيها الطينية البكر، وسمسم القضارف الشهير. وحظيت القضارف وما حولها بلوحات رائعة من إبداعات زملائنا.
ثم استقلينا القاطرة عائدين إلى الخرطوم حيث أقمنا معرضا بقاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم. ولأول مرة في حياتي تباع لي لوحة بمبلغ خمسة وعشرين (25) جنيها!!! ولك أن تتخيل كبر هذا المبلغ لو علمت أن الإعانة التي كانت تعطيها الجامعة للطلاب تبلغ 150 قرشا (أي جنيه ونصف الجنيه) في الشهر فقط!!!
رسمت تلك اللوحة أثناء طوافنا في الشرق الحبيب. ظلت تلك اللوحة تعرض في كل المعارض التي أقمناها في بورتسودان، وكسلا، والقضارف، ولم تلق من يحرك لها ساكنا. لكن عندما عرضت في قاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم، عند عودتنا من رحلتنا إلى شرق السودان، تعلق بها أحد أساتذة الهندسة بجامعة الخرطوم. وظل يثني عليها، ويقول فيها (ما لم يقله مالك في الخمر). احسبني لو كنت موجودا لأهديته إياها مجانا؛ لأني لم أكن أر تلك الجماليات التي يتحدث عنها هذا الأستاذ الكبير.
استغل أصدقائي إياهم غيابي، فقبضوا الثمن فورا من الأستاذ الذي أدهشته تلك اللوحة السريالية. ولأنهم هذه المرة (مريشين)، استقلوا تاكسيا (سيارة أجرة) بدل البص (الحافلة)، وقصدوا إحدى أماكن السهر الليليـة ولم يأتوا حتى أتوا على آخر قرش من ثمن اللوحة الأسطورة.
وفي صباح اليوم التالي علمت من جهينة الخبر اليقين ولا حول ولا قوة إلا بالله!!!