ربيع الثورات العربية والسودان: التوقعات والمآلات

 


 

 




الدكتور / المعتصم أحمد علي الأمين

ربيع الثورات العربية والسودان -التوقعات والمآلات

د. المعتصم أحمد علي الأمين(*)


مقدمة :

عرف السودان تجارب ديمقراطية سابقة ربما أكثر تجذرا من كثير من الدول العربية المحيطة التي حدثت فيها ثورات شعبية ناجحة مع بدايات العام 2011م ، حيث نجد أن السودان مر بثلاثة حقب ديمقراطية بعد ثورتين شعبيتين في أكتوبر 1964م ، وابريل 1985م ، وقد اعترف النادي السياسي والمتابعون والأكاديميون بأن ثورات السودان الشعبية كانت ثورات غير مسبوقة في المنطقة  وأدت إلي سقوط حكومات عسكرية قابضة (1) ، إلا أنها لم تكن ذات تأثير خارجي محسوس بدليل أن الثورات السودانية ظل تأثيرها في الداخل السوداني ولم يمتد إلي الدول المجاورة ، وهذا عكس الثورات العربية التي حدثت في العام 2011م حيث إمتدت من تونس إلي مصر إلي ليبيا وسوريا واليمن حتى خشي البعض من  أن تأثيراتها ربما تمتد وتصل إلي الدولة الصينية صاحبة المليار وثلاثمائة ألف نسمة والقبضة الديكتاتورية الخانقة في جنوب شرق آسيا! ، وماهذا الأمر ببعيد لو توالت نجاحات الثورات العربية في إقتلاع الأنظمة الديكتاتورية التي طالما جثمت علي صدور الجماهير لعقود من الزمان.
بيد أن السؤال الاساسي الذي تحاول هذه الورقة الإجابة عليه هو مدي تأثير ثورات الربيع العربي علي الواقع السوداني وإمكانية إستنساخها في السودان ؟ وهل نضجت الظروف الموضوعية بذلك ؟ ، ومن ثم النجاح في اقتلاع نظام آخر في المنطقة بغض النظر عن الخلافات الأيديولوجية وتوجهات الجماهير فيما يختص بالثورة أم أن حالة السودان تختلف عن الدول العربية المجاورة وأن هذا الأمر بعيد التصور؟ .
إختلافات الواقع السوداني :
يُعتبر نظام الحكم  الحالي في السودان الذي يُهمين عليه الإسلاميون من أكبر عوامل الاختلاف بينه وبين الأنظمة العربية الأخري التي حدثت فيها الثورات، ولايخفي علي الكثيرين أن الإسلاميين كانوا القوة المحركة الفعلية للثورات العربية  وخصوصا في جمهروية مصر العربية و الجماهيرية الليبية ، بينما أسهم الإسلاميون بنصيب وافر في تونس بيد أنها كانت ثورة مطلبية اقتصادية أكثر من كونها  ثورة ذات توجهات أيديولوجية في المقام الأول .
وبالتالي فإن الإسلاميين الذين يهيمنون علي الساحة السياسية السودانية متغيبون عن إحداث التغيير بفاعليتهم المشهودة في التنظيم والتنظير والإتصال بالمواطنين وإلباس كل ذلك ثوباً دينيا فضفاضا ، يسمح بتشجيع الناس علي البذل والتضحية والإحتجاج بالرغم من  قمع السلطات(2).
أما ثاني الاختلافات السودانية فإن إسلاميي السودان بالرغم من المعاناة الاقتصادية إستطاعوا أن يحققوا بعض النجاحات غير المتوقعة علي الصعيد الاقتصادي بالرغم من الحصار والمقاطعة العربية  والغربية وخصوصاً في السنوات الأولي ، وأعني بذلك مشروع إستخراج وإستغلال النفط السوداني الذي بدأ في استغلاله منذ أكثر من عقد من الزمان ( 1998م)  بالرغم من صعوبة هذه الخطوة   في ظل مقاطعة الشركات الدولية الغربية الرائدة في هذا المجال،  إلا أن عطش الدولة الصينية لسلعة البترول أغراها بالتوجه نحو السودان والإستثمار فيه وخصوصا في  مجال استخراج النفط وتصديره ، وقد استطاعت الحكومة السودانية بمساعدة السلطات الصينية وبعض الشركات الأخري مد أكثر من 1600 كلم بداية من اقاليم جنوب السودان وأواسطه حتي ميناء بشائر علي البحر الاحمر من انابيب النفط دون صعوبة كبيرة بالرغم من أن السودان يُصنف في عرف البعض بأنه من أكثر البلدان الإفريقية اضطرابا سياسيا وأمنياً وتحوطه المعارضة المسلحة في أغلب اقاليمه الجغرافية(3) .
هذا المشروع الضخم أوحي لكثير من المواطنين أن السلطات الحاكمة تعمل بجد من أجل الخروج من الأزمات الاقتصادية المتكررة بطرق مبتكرة وجادة  ، كما اقنع البعض بأن خروج السودان من ازماته الاقتصادية قد لا يتحقق إلا في ظل هذا النظام الذي تبدو منجزاته الاقتصادية غير منكورة مثل مشروع سد مروي والمشاريع المصاحبة له .
صحيح ان مشروع النفط السوداني قد شابته كثير من العيوب والأطماع مثل إغراء المتمردين الجنوبيين بوقف الحرب أولاً  والاصرار علي الاستقلال بعد مفاوضات سلمية من اجل الاستحواذ علي كافة حقوله في الاقليم الجنوبي إلا أنه استطاع ان يدفع بالحياة الاقتصادية اشواطا طويلة للأمام وأن يصنع مجموعة محلية لا بأس بها تمتلك خبرة عملية ثرة في مجال استخراج واستغلال النفط السوداني لم يكن من المقدر  تدريبها لولا توليد الخبرة العلمية والاحتكاك مع الشركات الأجنبية لعقد كامل من السنوات.
أما الأمر الآخر الذي أبعد المواطنين ربما عن التفكير في الثورة والتغيير فيتمثل في وصول الحرب الأهلية إلي نهاياتها في ظل هذه السلطة بعد حروب دامية استمرت لأكثر من خمسة عشر عاما متتالية ربما لم يشهد مثلها السودان من قبل مع تدخل دولي واقليمي واسع ، ومن ثم التوصل إلي إتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في 2005م والتي منحت الجنوبيين الحق في تقرير المصير بعد ست سنوات من تاريخ توقيعها(4) .
وبما أن هذه الإتفاقية قد  تم التوقيع عليها بعد مفاوضات شاقة استمرت لسنوات وشهد عليها المجتمع الدولي والإقليمي فلم يعد احداً يرغب باحداث تغييرات حقيقية في النظام عبر الثورة الشعبية حتي يصل هذا الأمر إلي خواتيمه ، ولم يكن خافيا علي احد أن خيار الانفصال هو الخيار المفضل بالنسبة للجنوبيين لذلك فضل الجميع  الإنتظار حتي تمر السنوات الإنتقالية ومن ثم دخول مشكلة جنوب السودان( التي طالما أرقت الشعب والحكومات المتعاقبة) إلي طور جديد من الحل لم يسبق لأحداً أن جربه ربما في القارة الإفريقية باجمعها إلا وهو مرحلة الانفصال الكامل بعد أن استنفذت الحرب الجميع وأرهقتهم ، وفي ظل هذه الظروف لا تعد الأجواء مناسبة للثورة وتغيير النظام كما حدث سابقا في 1964م و1985م.
ومن العوامل الأخري التي جعلت من السودان بلدا مُغايراً عن ما يجري في محيطه العربي من ثورات- هو خوف كتلة كبيرة من السكان أن يؤدي التغيير هذه المرة إلي بروز صور العرقية والقبلية أكثر عن الثورات الماضية بسبب الضيق الاقتصادي والحرب الأهلية ورفع لواء المناطقية والجهوية من قبل بعض النخب التي تريد أن تصل إلي السلطة والثروة عبر إثارة النعرات القبلية  والجهوية وبالتالي تحفّظت اعداداً كبيرةً من المواطنين من الثورة وخصوصا تلك التي تقع في أواسط وشمال السودان بعد أن إستشّفت سواء بالحق أو التوهم انها المقصودة بالاستهداف والثورة من قبل بعض أطراف السودان ! وقد بدأ ذلك جليا مع إصدار (الكتاب الاسود) الذي أشار بوضوح أن هناك بعض القبائل في وسط وشمال السودان تسيطر  علي السلطة والثروة وتهمّش الآخرين، وان التغيير لابد أن يستصحب تلك الهيمنة ويقضي عليها حتي يتوصل الجميع إلي توزيع عادل للسلطة والثروة ، ومن هنا تخوف البعض في هذا المثلث من الثورة باعتبارها أداه خطيرة لإبعادها عن مكاسبها التاريخية والسلطوية ..ربما بحكم القرب من المركز والاحتكاك بالعالم الخارجي والمبادرة بالتعليم وليس عن طريق المؤامرة المبيتة لاقصاء بعض القبائل الطرفية عن سُدة  السلطة والثروة ،  بدليل أن وسط السودان إستطاع أن يستوعب جماعات كبري من هذه  الفئات داخل فعالياته المختلفة وان تصل إلي الثروة والسلطة دون كثير باعتراض أو تخوف من بعض الجماعات المحلية ، وان تصبح مدن مثل الخرطوم وامدرمان ذات طابع سوداني مميز اكبر من كونها مدن تهيمن عليها بعض الجماعات العرقية دون الأخريين بحكم الإستيطان والموقع الجغرافي (5) .
أما فيما يختص بالشعوب العربية المجاورة فقد كان عامل الجهوية أو المناطقية غائب عن الثوريين وخصوصا في مصر وتونس بعد أن أتمت هاتان الدولتان عوامل وحدتهما البشرية والعرقية قبل سنوات طويلة من الانصهار والتعايش المشترك بحيث أصبحت القومية المصرية أو التونسية تتفوق عن ما عداها من قبائل وجماعات إثنية بالرغم من وجود اختلافات طفيفة بين العرب والبربر أو بين أهل الوجه البحري والقبلي ، لذلك عندما اندلعت الثورة في هذه الشعوب لم تكن هناك تخوفات من سيطرة جماعات عرقية ضد أخري وبالتالي تتكتل وتتّحد مع السلطة الحاكمة بفعل ذلك التخوف مما يجعل من انتصار الثورة أمرا شاقا ويتطلب تضحيات كبري في الأنفس والاموال .
أما فيما يختص بالجماهيرية الليبية وبالرغم من وجود العامل القبلي الذي أذكاه نظام العقيد معمر القذافي لأكثر من اربعين عاما إلا أن إدراك معظم الليبيون أنهم منحدرون من مجتمع واحد  يهيمن عليه الرابط الديني حد من فشل الثورة  حتى الآن، هذا بالإضافة إلي المساعدة العسكرية الخارجية المتمثلة في حلف شمال الاطلسي وبعض الدول العربية عبر آلة الحرب وآلة الإعلام التي حيّدت من الاعلام المضاد الذي لجأ إليه أنصار العقيد القذافي .
كذلك من أكبر الاختلافات  بين شعوب الثورة العربية والشعب السوداني موقف الحكومات من الغرب ومن سياساته في المنطقة وتأثير ذلك علي الشعوب، فعلي الرغم من التحالف الوثيق لحكومات مصر وتونس والجماهيرية الليبية  مع الغرب والإندماج والتماهي مع السياسات الغربية فيما يختص مثلا بالعلاقة مع اسرائيل والموقف من الجماعات الإسلامية والسياسات الاقتصادية إلا أن حكومات المنطقة العربية فيما يبدو لم تجني كثيرا من علاقاتها مع الغرب ، وعلي العكس من ذلك لم يزد انخراطها في السياسات الغربية إلا  مجافاةً لها  من الغرب فيما يبدو وحتى من شعوبها التي تحكمها.
فعلي الجانب المصري وبالرغم من إتفاقية كامب ديفيد 1978م مع إسرائيل إلا أن أعمال القتل والترويع والقصف بالطائرات والمدافع ضد الشعب الفلسطيني   مستمرة لعشرات السنين دون أن تخمد ودون أن تتمكن السلطات المصرية من خلال علاقتها مع اسرائيل من التوصل إلي تسوية عادلة في المنطقة بالرغم من التنازلات العربية والقبول  بخط الرابع من يونيو 1967م كخط للحدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، وإقامة علاقة كاملة مع اسرائيل وكل الدول العربية مجتمعة بحسب ما أقرّت به توصيات رؤساء دول الجامعة العربية والمبادرة السعودية في 2002م.
وبالتالي ومع إستمرار أعمال القمع والتنكيل المستمر  شعرت الجماهير العربية علي وجه العموم والجماهير المصرية علي وجه الخصوص بتواطؤ السلطات المصرية مع الاسرائيليين وخصوصا فيما يتعلق بحصار غزة وقصفها ودكها بالطائرات دون أن يكون الموقف الرسمي قويا بما فيه الكفاية (6) ، وأدي ذلك مع أسباب كثيرة أخري إلي قيام الثورة ونجاحها آخر المطاف ، اما الموقف السوداني الرسمي الذي لم تكن تجمعه مع اسرائيل أي علاقات فقد نأي بنفسه عن ُشبهة التحالف مع اسرائيل وصار متوافقا مع الجماهير العربية من الخليج حتي المحيط بل وصار في بعض الأحيان مؤيدا لمواقف أكثر تشددا تجاه اسرائيل من خلال دعم حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) وبعض الفصائل المقاتلة الأخري مما  جعله منسجماً مع مواقف شعبه.
أما علي صعيد الغرب والولايات المتحدة فقد كانت الشعوب تتحفظ علي العلاقة معها من خلال معرفة العلاقة الوثيقة التي تجمعهم مع إسرائيل بل ويحملونهم الدور الأكبر في زرع إسرائيل في المنطقة ، اضف إلي ذلك أن السياسات الاقتصادية الغربية التي طالما نادي الغرب بتطبيقها قد أثبت فشلها في تنمية الاقتصاد المصري والتونسي  (لسبب من الاسباب) لأنها زادت من عوامل الفقر والاحباط واليأس لدي شعوب هذه الدول، واستشعرت وجود مؤامرة غربية لتحطيم هذه الشعوب من خلال التحالف الوثيق مع الحكومات الفاسدة عبر توفير الحماية الأمنية لها لتضمن تنفيذ أجندتها الضارة في هذه البلدان مثل تحطيم الزراعة المحلية والاعتماد علي المنتجات الزراعية من الخارج،  (ولو عن طريق البذور المسرطنة والمعدلة وراثياً) وتحطيم القطاع العام الحكومي وبيعه بأقل الأثمان لمستثمرين محليين وأجانب هم  في حقيقة أمرهم وكلاء لشركات عالمية هدفها   آخر الأمر إجبار هذه الدول علي الاعتماد الكامل علي منتجات زراعية وصناعية من الخارج.
لذلك عندما هبّت الشعوب العربية ضد هذه السياسات وضد رؤساءها وحكامها كانت في حقيقة أمرها تثور ضد السياسات الإسرائيلية والغربية في المنطقة ، لذلك سعت الدول الغربية واسرائيل حتي آخر مدي لإحباط هذه الثورات لولا الاندفاع والتصميم الهائل من قبل الشعوب الذي أجبر الغرب للإمتثال  لصوت الجماهير - ولكن علي مضض ولأجلٍ محدود حتي تتبع إستراتيجية جديدة تُعيد  قبضتها مرة أخري علي شعوب المنطقة
أما فيما يختص بالجماهيرية الليبية التي تبدو في ظاهر أمرها مختلفة في سياستها تجاه الغرب بخلاف الحكومة المصرية والتونسية إلا أنها وفي أعماقها الدفينة كانت موالية للغرب حتي النخاع وخصوصا في العشرين عاما الأخيرة بدليل أن  وثائق ويكيليكس  المسربة كشفت أن هناك تنسيقا قويا بين أجهزة المخابرات الليبية وأجهزة المخابرات الغربية وخصوصا فيما يختص بمحاربة الإسلاميين بصورة عامة وتنظيم القاعدة والمتعاطفون معه  بصورة خاصة (7) . أضف إلي ذلك أن ليبيا تشكل حلقة مهمة لوقف تدفق المهاجرين إلي أوربا . ولا ننسي أن الأموال الليبية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات تُشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الغربي من خلال الاحتفاظ بها في البنوك الغربية كما تكشّف ذلك بعد سقوط النظام.  أضف إلي ذلك أن دعم حركات التمرد ودعم أصدقاء الغرب في المنطقة مثل موسفيني وأسياسي أفورقي والحركة الشعبية لتحرير السودان من أكبر روابط العلاقات مع نظام القذافي ، كما أن ليبيا انتهجت مواقف غريبة  وشاذة فيما يختص بالحق الفلسطيني حيث دعت إلي دمج الفلسطينيين والإسرائيليين في دولة واحدة تسمي (إسراطين) تجمع مابين الجاني والضحية  في آن واحد وفي هذا   تمييع كبير للقضية الفلسطينية .
وقد يسأل البعض لماذا  إذاً ضُرب النظام الليبي  بطائرات حلف شمال الاطلسي وتم دعم المعارضة المسلحة طالما أنه حليف أساسي للغرب في المنطقة ؟ بيد أن الإجابة علي هذا السؤال قد تبدو صعبة لأن كثيراً من الحقائق لم تتكّشف بعد  إلا أننا يمكن القول أن شكوك الغرب بقرب نهاية العقيد القذافي عاجلاً أو آجلاً قد دعتهم للتخلي عنه والإشتراك مع الإسلاميين وبعض العلمانيين بدلاً من أن يتخلصوا منه منفردين مما يصّعب عليهم إقامة علاقة مريحة مع الثوار الإسلاميين في المستقبل، كما أن الرغبة في الاستحواز علي الأموال الليبية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات في البنوك الغربية دفعت بهم للتحالف مع الثوار ومن ثم التخلص من نظام العقيد القذافي بعد أن يتم تدمير البنية التحتية لليبيا بفعل الحرب والقصف ليسُمح للشركات الغربية فيما بعد بإعادة  إعمار ليبيا مرة أخري بالأموال المجمدة مما يسمح بانتعاش الاقتصاد الغربي والأوروبي علي وجه الخصوص  بعد أن حاصرته الازمات المتتابعة وكادت أن تؤدي به (8) .
اما بخصوص السودان فلم تكن سياساته متوافقة مع الغرب طوال ربع القرن الماضي . لذلك لم تشعر الجماهير أن التماهي مع السياسات الغربية أدي مثلا إلي تراجع الاقتصاد ونمو طبقة سياسية فاسدة متحالفة مع الغرب ضد مصالح شعوبها وبالتالي لم يكن هذا الأمر سببا في قيام ثورة شعبية تريد استعادة كرامتها وكبريائها المفقودة نتيجة للعلاقة الشائهة مع الغرب .
وجه الشبه بين الواقع السوداني والعربي :
يُعتبر الواقع السوداني مشابها في بعض النواحي للواقع العربي وخصوصا تلك البلدان التي تفجّرت فيها الثورة ، ولعل أكبر تطابق يتمثل في المعاناة الاقتصادية التي تمر بها هذه البلدان ومن ضمنها السودان  ، صحيح أن السودان بمساحاته الشاسعة واراضيه الخصبة وبعض المشاريع الاقتصادية الكبري مثل استغلال واستخراج النفط إستطاع أن يقنع البعض بأن الاقتصاد في طريقه إلي التحسن  (في مرحلة من المراحل ) إلا أن هذه اللحظة تأخرت كثيرا ولم يعد البعض يثق بقدومها مع فقدان  مساحات شاسعة   بالإنفصال وخسران حقول واعدة من النفط كانت ترفد الخزينة السودانية بأكثر من 50% من صافي إيرادات النفط، وبالتالي إشتدت المعاناة الاقتصادية وأصبح السودان مثله مثل بقية البلدان العربية الأخري التي تعاني من ضائقة اقتصادية ليس بسبب فقر هذه البلدان  أحياناً ولكن بسبب الفساد وسيطرة طبقة واحدة علي الاقتصاد دون منافسة آخرين ، ويجمع فيما بينهم   الأخلاص للوضع السياسي الحالي لأنه يحافظ علي مصالحهم ويتستر علي إحتكارهم  المتجذر في الدولة ، ولعل أبلغ مثال علي ذلك دولة ليبيا التي تمتلك احتياطات ضخمة من النفط والغاز وفوق ذلك عدد سكانها ضئيل!، كما أن قربها من الاسواق العالمية كان سيجعل منها   أغني دول المنطقة لولا تبديد ثروتها في ما لا  طائل من وراءه مثل دعم حركات التمرد وزعزعة إستقرار دول المنطقة وسيطرة أفراد قلائل علي قطاع النفط دون مساءلة من أجهزة الدولة أو الراي العام المحلي وأهل الحل والعقد .
ومن الاسباب الأخُري التي يتشابه فيها السودان مع دول المنطقة التي ثارت علي حُكامها التطلع نحو الحرية والشفافية والديمقراطية مع ازدياد معدلات التعليم وسهولة الإتصال مع الخارج عن طريق الأقمار الصناعية وشبكة المعلومات الدولية (الانترنت ) ، ومعرفة البعض حجم الهوة السحيقة التي تفصل بلدانهم عن الدول  المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا وصحيا وثقافيا مما دفعهم للتفكير ملياً في معرفة   الاسباب التي أوصلت بلدناهم إلي هذا التخلف بالرغم من غني هذه البلدان ووجود أعداد كبيرة من هم في سن الإنتاج والعمل ، وقد توصل أغلبهم ألي أن النظام القمعي والديكتاتوري يؤدي إلي عدم الشفافية والغموض، ومن ثم سيطرة طبقة فاسدة علي السلطة والثروة بمعزل عن مراقبة الآخرين  وقدرتهم على الرفض والاحتجاج ، مما تسبب في تراكم الغضب علي هذه الطبقة وأدي إلي الثورة في آخر المطاف (9)  .
كذلك عرفت هذه الشعوب أن مجتمعاتها تعاني من إنقسامات حادة في كثير من النواحي مثل الأنقسام ما بين الأغنياء والفقراء والأنقسام مابين العرب والبربر والأنقسام ما بين الزنوج والعرب والحاميين والانقسام ما بين المسلمين والمسيحيين والانقسام مابين التقليديين والحداثيين والانقسام مابين الإسلاميين والعلمانيين ، وكل هذه الانقسامات تؤدي إلي تخلف وتراجع المجتمع ،  وقد يكون للطبقة الحاكمة يد  في هذه الأنقسامات العميقة حتي تتمكن من السيطرة والتحكم من خلال ضرب هذه الطبقات بعضها مع بعض ، مما يسهّل عليها عملية الحكم  والقيادة ، لذلك وعت هذه الشعوب أنها لو أرادت أن تنمو وأن تتطور لابد أن تقضي علي الأنظمة السياسية التي تستثمر في انقساماتها وتسعي إلي توسعتها علي حساب تطور المجتمع ، ومن هنا كانت هذه أحد اسباب الثورة في العالم العربي وخصوصا أن البعض يعرف أن مسألة المصالحة والعفو وتجاوز آثار الماضي  لايمكن أن تتم إلا في ظل نظام ديمقراطي مُعافي يسمح باخراج الهواء الساخن من الصدور بلا رقابة أو خوف مما يؤدي إلي إنجاح عملية المصالحة علي المدي المتوسط والبعيد.
كذلك يجب أن لاننسي أن التجربة الديمقراطية التركية الأخيرة بقيادة رجب طيب أردوغان حرّكت المياه الساكنة في المنطقة العربية بعد أن حاولت بعض السلطات القول بأن التجربة الديمقراطية تجربة تخص البلدان الغربية ذات الخلفية المسيحية وأن الدول الإسلامية ينبغي أن تكون لها تجربتها النابعة من ثقافتها الخاصة ، وبوصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلي السلطة عدة مرات عن طريق ديمقراطي سليم أُسقط في يد الحكومات الديكتاتورية في المنطقة وسعت إلى إلهاء الناس عن التجربة الديمقراطية التركية  بمختلف السُبل، إلا أن الجماهير بفضل ثورة الإتصال العالمية لم تلتفت كثيرا إلي محاولات الإلهاء وشحذت هممها لاسقاط هذه الحكومات ، ومن ثم إقامة نظام ديمقراطي لايتناقض مع مباديء الإسلام ويتعايش معها جنبا إلي جنب كما في التجربة التركية الرائدة.
ومن ناحية أخري لعل بعض النخب العربية تتذكر جيدا أن ملامح التجربة الديمقراطية التي كانت سائدة في بعض الدول العربية في العهد الاستعماري كان لها دور في تنمية وتطوير الشعوب العربية لسنوات طويلة إلى أن حّلت الديكتاتوريات العسكرية والقومية محلها مما أدي إلي تراجع المجتمعات العربية إقتصاديا وعمليا وثقافيا لعشرات الأعوام إلي الوراء بالرغم من أن ملامح التجربة الديمقراطية كانت مشوهة لنموها في الحقبة الاستعمارية إلا أنها بالرغم من ذلك أسدت خدمات كبيرة للمجتمع المصري علي سبيل المثال ، ولا يعتقد أحد أن نموذج طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد حسنين هيكل ومحمد متولي الشعراوي وسيد قطب واحمد حسن الزيات كان سينجح لولا تلك التجربة الديمقراطية التي استمرت لثلاثين عاما (1923- 1952م ) بالرغم من التعويقات التي وضعها القصر الملكي المصري وعملاء الاستعمار والأحزاب السياسية التي كانت ُتمثل مصالح طبقة صغيرة من الناس ولم تكن تُمثل مصالح الشعب التي كان يمثلها حزب الوفد يومئذٍ(10) .
ومن هنا نجد أنه من المحتمل جدا أن البعض قد ربط بين التجربة الديمقراطية القديمة والنهضة التي أحدثتها  في مختلف المجالات ثم الانتكاسة التي حدثت لهذه الشعوب في الحقبة الشمولية التي إستمرت لأكثر من خمسين عاما مما دفعه دفعا للثورة والاستماتة  فيها حتي يُكتب لها النصر لعل وعسي أن تغّير الواقع الذي شوهته الشمولية .
التأثيرات السلبية المحتملة للربيع العربي :
بالرغم من أن ثورات الشعوب العربية في بدايتها حالياً إلا أن ظهور بعض الجوانب السلبية بدأ واضحا للعيان منذ الآن. لذلك ربما تتغلب الجوانب السلبية علي هذه الثورات في المدي المتوسط والبعيد مما يجعل هذه الثورات نموذجا سيئا لبقية الشعوب العربية لكي تنخرط فيها وتستنسخها ومن ضمنهم السودان ، أو ربما ستتغلب هذه الثورات علي عيوبها وسلبياتها علي  المدي المتوسط والبعيد وتنجح في بناء نموذج ثوري تحتذي به دول المنطقة ، ولعل عملية الهدم والإحلال ربما  تكون من أيسر الأمور ولكن ما يعقبها هو الأخطر لذلك قال الرسول الكريم ( أتينا من الجهاد الاصغر إلي الجهاد الأكبر ) وهو مجاهدة النفس ومنعها من الانزلاق نحو الفوضي وحب التملك والسلطة وإعلاء صوت القبيلة والمنطقة والجهة .
بيد أن المؤكد في هذا الموضوع أن هناك مُتضررين كُثر من هذه الثورات وعلي رأسهم المستفيدين من الانظمة السابقة أو ما يطلق عليهم (الفلول)  في الصحافة العربية. ومن ضمنهم إسرائيل التي كانت تعتمد  بشكل أو بآخر علي هذه الأنظمة من اجل تأمين   سلامتها وأمنها الداخلي واستراتيجيتها المستقبلية مثل محاربة حركات الجهاد الإسلامي ومحاصرتها قبل الوصول إلي اسرائيل،  واجبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية علي تقديم تنازلات كبيرة من أجل تحقيق سلام منقوص، وعلي رأس ذلك الاعتراف باسرائيل والإعتراف بالقدس كعاصمة لاسرائيل ، وبقاء اللاجئيين الفلسطيين في بلدان الشتات العربي! .
كما أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كانت مستفيدة من هذه الانظمة في تأمين وصول النفط الرخيص عبر اراضيها ، وتنفيذ سياستها في المنطقة مثل محاربة الأصوليين  الإسلاميين ومقاطعة الأنظمة التي لا تتعاون معها كذلك في المنطقة و منع الهجرة غير الشرعية  وشراء منتجاتها الصناعية والزراعية  علي حساب القضاء علي صناعتها وزراعتها المحلية وغيرها من مُوجهات(11)  .
ومن ضمن الجماعات غير الراضية عن الثورات العربية بعض الطوائف المسيحية في المنطقة التي تحالفت مع الأنظمة  البائدة لإبعاد الإسلاميين عن الحكم وإختيار العلمانية الرافضة للدين كأيديولوجية للحكم ، ومساواتها مع الطائفة الإسلامية في  المكتسبات والنفوذ وإن لم تكن مناظرة أو مساوية لها في عدد المنتمين!!.
ومما لاشك فيه أن هؤلاء سوف لن يسكتون علي هذه الثورات ويحاولون تشويهها بشتي السبل حتي لا تتمكن من تحقيق شعاراتها ، وربما العودة بالأمور إلي ما كانت عليه قبل الثورة . إلا أنه بإمكان الشعوب العربية أن تفّوت ذلك علي هذه المجموعات  بأن تتوافق فيما بينها وأن تكون أكثر وعيا بمخططات الرافضين، وإعتبار أن انتصار الغرب وحلفاءه في المنطقة ليس قدرا معلقا في رقاب هذه الشعوب ، وإنه بالامكانية الانتصار مثلما انتصر الإيرانيون من قبل (1979) وانتصر الأتراك كذلك بالرغم من حجم الرفض والتآمر المستمرين من الداخل والخارج.
بيد أن ما يرشح في الساحة  العربية حتي الآن لايطمئّّن علي قدرة الثورة علي تجاوز صُعوباتها وخصوصا في جمهورية مصر العربية ، حيث ينبيء الصراع  النخبوي والجماهيري حول إتفاقية السلام مع اسرائيل بوجود خلل عظيم في هذا الاتجاه وخصوصا مع التفجيرات المتعاقبة  في أنبوب الغاز المتجه نحو اسرائيل ، واقتحام السفارة الإسرائيلية في سبتمبر 2011م ،  لأن من شأن ذلك أن يحشد الدعم والتأييد لاسرائيل ويمكّنها من وضع  إستعدادات مبكرة لإجهاض الثورة قبل أن ينمو عودها  ، ولا يُفيد الثورة المصرية حاليا الإلتفات إلي خلافاتها مع اسرائيل ، فبعد أن تتمكن في الارض ويشتد ساعدها يمكنها تصفية حساباتها مع إسرائيل ، مثلما فعلت تركيا بعد علاقة طويلة مع اسرائيل دون أن تتحسب الدولة العبرية لذلك  التغيير المفاجيء مما أسقط في يدها .
وحقيقة الأمر أن التصادم مع الخارج  حاليا ليس في صالح الشعب المصري بأي حال من الأحوال لأنه لازال يعتمد في غذاءه علي سبيل المثال علي الخارج ( سلعة القمح ) بعد أن أجبره النظام السابق علي ذلك  عبر سياساته المختلفة، كما أن توقف قناة السويس التي تمد الخزينة المصرية بأكثر من سبعة مليارات دولارات كل عام كفيل بان يخلق أزمة حادة في الاقتصاد المصري ، كما أننا يجب أن لا ننسي أن دخل السياحة المصرية يجلب للخزينة العامة قرابة الخمسة مليارات دولارات في العام وهي قطاع حساس للغاية يتأثر بالعنف والفوضي وعدم الاستقرار السياسي، ويمكن أن ينهار كليا في حالة حدوث منازعات وفراغ أمني في مصر خصوصا لو غذّّت هذه الضراعات أجهزة الأعلام الغربية التي تسيطر عليها الوكالة اليهودية (12)  .
وبالتالي في حالة حدوث إضطراب سياسي وتأثر هذين القطاعين   فإن مصير أكثر من ثمانين مليون مواطن يمكن أن يواجه صعوبة بالغة بعد أن يتبع ذلك هروب رؤوس الاموال إلي الخارج مع القادرين علي الهجرة  من أصحاب الكفاءات مما يضع مصر في حالة فوضي عارمة   فيتأثر بذلك بقية العرب ومن ضمنهم  السودانيون ويفكرون كثيرا في الطرق علي مسألة الثورة والتغيير .
ومن جهة أخري يمكن للثورة  ان تواجه نجاحات  لو تجاهلت مسألة العلاقات الإسرائيلية المصرية وإتفاقية كامب ديفيد ومسألة تصدير الغاز إلي اسرائيل وغيرها  ولايعني ذلك تخليها عن القضية الفلسطينية ولكن يمكن أن تدفع برفق لايصال رفضها إلي الإسرائيليين علي الاقل في هذه المرحلة الحساسة ، علي أن تستعيد وجهها الإسلامي المعتدل وتحاول أن تبني علاقات إستراتيجية مع السودان وليبيا اللذان ينتميان لنفس التوجه الإسلامي المعتدل ، وتحاول أن تستثمر بما لديها من خبرة وأيدي عاملة في قطاع الزراعة في السودان وقطاع الطاقة في ليبيا مما يمكنها في آخر المطاف في الاعتماد علي نفسها وجيرانها الأقربيين في مجال الغذاء والطاقة ، مما يسمح لها بمواجهة اسرائيل في المستقبل دون محاذير  كبيرة .
والأمر الآخر الذي يُمكن أن يؤدي إلي صدام وفوضي  وخصوصا في مصر وتونس الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين ، حيث من المعتقد أن يفوز الإسلاميون بأغلبية الاصوات في هاتين الدولتين وكذلك في ليبيا مما يؤدي ربما إلي صدام عنيف مع العلمانيين وذلك لأن الأخيرين طالما هيمنوا علي الحياة العامة في هذه البلاد ومن الصعب عزلهم وطردِهم عن السلطة والنفوذ ولو بإرادة الجماهير لأن تجذرهم عميق في التربة العربية ، أضف إلي ذلك أنه من المحتمل أن يلجأ الإسلاميون المنتشون بخمر النصر إلي عزلهم من الحياة العامة والإنتقام منهم جراء تورط البعض منهم مع الأنظمة السابقة كما حدث في السودان مما يؤدي إلي زيادة اشتعال الأزمة، بيد أن العزاء هو أن التغيير الذي حدث في السودان كان تغييرا عسكريا فوقياً ولم يكن تغييرا جماهيريا مما أدي إلي احتقان شديد ، ورفض العلمانيين السودانيين التغيير المدفوع بفهوة البندقية (13) .
لذلك يجب أن يكون الإسلاميون العرب متسامحون للغاية مع العلمانيين وأن لايحاولون دفعهم  دفعاً نحو أحضان خصومهم من الرافضين للتغيير كليا .
كما يجب الإنتباه إلي أن العلمانيين ليسو كتلة واحدة صلبة يصعب إختراقهم ففيهم المعجبون بالتجربة السياسية العلمانية الغربية ، ومنهم من ارتبطت حياته الاقتصادية ومهنته مع الغربيين فتأثر بهم في مختلف النواحي ، ومنهم من لم يتفهم التجربة السياسية للاحزاب الإسلامية وتاثر بالتجربة الإيرانية ذات الظروف الخاصة . لذلك مهاجمة العلمانيين ككل ومحاولة عزلهم من الحياة العامة كفيل بأن يؤدي إلي تصادم عنيف وقد يُغري الجيش مرة أخري بالسيطرة علي السلطة ! ، كما أن  الربيع العربي سوف تتأثر صورته في الخارج وعند جيرانه المقربين جراء النزاع والصدام المستمر .
والإسلاميون حالياً يملكون مميزات تمكّنهم من السيطرة علي الشارع العربي بمعزل عن  التصادم مع بعض التيارات ومحاربتها - مثل القبول التلقائي من قبل  الشارع العريض بالافكار الإسلامية التي صارت من المسلمات بعد أن فشلت الأفكار الإشتراكية والقومية التي تم تطبيقها في هذه البلدان ، كما أن تحميل بعض الناس المسئولية التاريخية للإتجاهات العلمانية التي كان تحكم قبل  الثورة اسباب  الفشل يسهم تلقائياً في إلتفاف الناس حول الفكر الإسلامي  ولا ننسي في ذلك الإيحاءات التركية.
مآلات التغيير في السودان
أما مآلات التغيير فلا أحد يُمكن أن يتنبأ بها بصورة دقيقة بسبب عدم مشاركة كتلة كبيرة  من الإسلاميين في السعي للتغيير كما قلنا لأن الإسلاميين أو الكتلة الأعظم منهم يديرون السلطة في الخرطوم ، ومن المعروف أن الإسلاميين في الوطن العربي لعبوا دورا كبيرا إن لم نقل الدور الأكبر في أسقاط الحكومات العربية عبر الثورة الجماهيرية السلمية أو المسلحة كما في الحالة الليبية.
وهذا عامل كبير لايمكن الاستهانة به في إبقاء الأمور كما هي عليه في السودان خصوصا لو عرفنا أن كثير من التيارات السياسية الأخري قد أصابها الوهن وإضمحلّت ولم تعد قادرة علي معايشة الأحداث ومواكبتها دعك  عن التأثير عليها مثل الإشتراكيين والقوميين العرب والعلمانيين والأحزاب التقليدية وبالتالي لايلوح في الأفق حتي الآن من يُظن أنهم ممن يمكن ن يقودوا التغيير الثوري سوي بعض الأقليات العرقية في أطراف البلاد ! وهم من تسبب في دعم النظام  جُزئياً علي غير قصد منهم  من خلال تخويف كتلة عريضة من الجماهير من أن تستولي هذه الأقليات العرقية الصارخة علي السلطة وبالتالي تتحول البلاد إلي صومال أخري عندها ترفض الأغلبية أن تحكمها هذه الأقليات المتنافرة فيما بينها عن طريق البندقية والقوة فتستعد بدورها بمناجزتها بنفس السلاح.
أما المراهنة علي الخارج في نظر البعض من أجل إسقاط النظام فإن مثل هذا الأمر يبدو بعيدا عن التصور  بسبب الإرهاق الذي أصاب القوي العظمي جراء الحرب على العراق والحرب على افغانستان والحرب ضد تنظيم القاعدة علي وجه العموم ، ولم تعد القوي العظمي تقوي علي إحداث أي تغيير جوهري في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي . وحتي الجماهيرية الليبية التي تم دعم ثوارها بالقصف الجوي المكثف ودعمهم بالأسلحة المتطورة والمعلومات الإستخبارية كاد دعمهم أن يتسبب في اسقاط الحكومات الغربية لولا النجاحات التي حققها الثوار   ووضوح عدالة قضيتهم ، والتوافق العربي والإقليمي علي ضرورة التخلص من نظام العقيد الليبي الأهوج الذي هدّد في أول خطاب بعد اندلاع الثورة بمحو مدينة بني غازي من علي الخريطة ، وقد حشد قواه وإتجه بالفعل نحو بنغازي لتنفيذ مجزرة هائلة عندئذٍ لم يعد امام القيادات والشعوب العربية خيار سوي دعم وتأييد القصف الجوي علي ليبيا ، كما لاننسي أن قرب ليبيا من السواحل الجنوبية لأوربا وغناها بالنفط والغاز جعل من الدول الأوربية والولايات المتحدة يتجاهلون مصاعبهم الإقتصادية ويتجهون نحو ليبيا لعل ذلك يكون فيه العلاج الكافي لتجاوز مصاعبهم الاقتصادية.  وبالرغم من ذلك رأينا أن الولايات المتحدة الأمريكية سحبت طائراتها الحربية في منتصف المعركة بسبب الأرهاق وتخوف قادة الكونجرس الأمريكي من أن تتحول حرب ليبيا  إلي حرب إستنزافية تقضي علي البقية الباقية من اقتصادها المنهار .
اما الذي يُمكن أن يؤثر فعليا علي النظام ويُمكن أن يحدث تغييراً كبيراً فيتمثل في الفشل الاقتصادي وغلاء الاسعار وإرتفاع مستوي البطالة الي مستويات قياسية . وعجز الدولة عن حل المشكلات الاقتصادية ربما بسبب إعتمادها لوقت طويل علي افراد قلائل في ادارة الملف الاقتصادي- ربما لاكثر من ربع قرن من الزمان دون تغيير يذكر ، وبما أن الفكر الاقتصادي متطور وأن الافراد عرضة للعجز والارهاق فإن خطر الإعتماد علي افراد قلائل دون تغيير سوف يُصيب أطراف الأدارة الاقتصادية بالشلل والعجز علي المدي المتوسط والطويل .
اضف إلي ذلك أن فقدان النفط من جنوب السودان بعد الانفصال أدي إلي أن تفقد الخزينة العام نصف ايراداتها بالرغم من أن هذا الأمر كان متصورا طوال الفترة الانتقالية التي استمرت ست سنوات إلا أنه وبعد حدوث الإنفصال بدأ للمراقبين أن الاحترازات كانت محدودة لمحاربة العجز المتوقع .
أما إذا رافق الانهيار الاقتصادي وتدني مستويات المعيشة ُشبهة انحياز السلطة الحاكمة لتكتلات  إقتصادية منتمية إليها فكريا وسياسياً كما كان يحدث في السابق(14) ، ومحاولة تغطية وتجاوز بعض ملفات  الفساد وتجاهل التدقيق المالي والمحاسبة كما يذكر المراجع العام كل عام! فإن هذه  وصفة جاهزة لحدوث هبّة جماهيرية  تلقائية غير منظمة ُتلحق السودان بنظرائه العرب الذين ثاروا علي أنظمتهم الحاكمة في ثورات الربيع العربي .


توصيات الدراسة:

1-    اصبحت الفكرة الديمقراطية لقيادة الحكم صاحبة الأولوية القصوي في البلدان المحيطة بالسودان ، ولايستبعد أن يطالب الشعب بالانتقال إلي الديمقراطية لذلك علي الجميع الاستعداد لذلك الاحتمال.
2-    معالجة الازمة الاقتصادية في السودان من اكبر عوامل الاستقرار ، ويجب ان تمنح الاولوية بدلا إلي خيار امنية اخري .
3-    استقلال الموقف السوداني في المجتمع الدولي اسهم في عدم تحميله اخطاء الغرب واسرائيل في المنطقة ووفر استقرارا سياسيا يجب المحافظة عليه.
4-    نجاح التيارات الإسلامية فى الوصول إلي السلطة بعد طول  ابعاد سيسهم في استقرار السودان ويزيد من تعاونه مع هذه البلدان ، علي أن يكون التعاون صريحا وواضحا وبعيدا عن الاجندة الخارجية .
5-    يجب الانتباه إلي أن  الذين يرفضون التغيير  والثورة في العالم العربي سوف لن يسكتون علي ماحدث ، وسوف يرغبون في اعادة عقارب الساعة الي الوراء متحالفين مع الغرب وبعض التيارات السياسية المتضررة من التغيير ، لذلك يجب استعمال الحكمة في معالجة هذا الأمر .


مصادر الدراسة :
1-    الإمام الصادق المهدي، نحو ثورة ثقافية ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة 2006م، ص 169.
2-    د. حسن مكي، الحركة الإسلامية في السودان 1969 – 1985م ، تاريخها وخطابها السياسي ، بيت المعرفة، أمدرمان السودان 1990 ، ص 128.
3-    دومينيك غرين ، إمبراطورية الإسلام في حوض النيل ، ترجمة وليد شحادة ، دار الكتاب العربي ، بيروت 2007م ، ص 442.
4-    أروب مادوت أروب ، السودان الطريق الشاق للسلام، ترجمة محمدعلي جادين ومحمد عثمان مكي ، دار مدارات للطباعة والنشر، الخرطوم 2009م، ص 328.
5-    د. محمد اسماعيل علي إسماعيل ، التداخل الثقافي في المجتمع السوداني، أمدرمان نموذجا ، إصدار مركز دراسات المجتمع ( مدا ) ، الخرطوم 2009م، ص 97.
6-    فهمي هويدي، خيولنا التي لاتصهل ، مقالات في السياسة والتياسة ، دار الشروق ، القاهرة 2006م ، ص 29.
7-    صفحة BBC Arabic الرئيسية علي الانترنت بتاريخ 16 سبتمبر 2011م.
8-    صحيفة إيلاف – أول جريدة الكترونية عربية يومية ، الاربعاء ، 5 أكتوبر 2011م ، علي شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ).
9-    محمد ابوالقاسم حاج حمد ، نحو وفاق وطني سوداني – رؤية استراتيجية، اصدار مركز الدراسات الإستراتيجية ،الخرطوم 1998م ، ص 17.
10-    د. لطيفة محمد سالم ، فاروق وسقوط الملكية في مصر 1936 – 1952م، مكتبة مدبولي ، القاهرة 1989م ، ص53.
11-    فهمي هويدي، خيولنا لا تصهل ، مقالات في السياسية والتياسة ، مصدر سابق ، ص 85
12-    بول  فندلي ، من يجرؤ علي الكلام ، ط ثامنة ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، بيروت ، 1992م ، ص 178.
13-    د. منصور خالد، السودان أهوال الحرب وطموحات السلام – قصة  بلدين ، دار تراث ، لندن 2003 ، ص 431.
14-    د. التجاني عبدالقادر حامد ، نزاعات الإسلاميين في السودان – مقالات في النقد والإصلاح ، الجزء الأول ، بدون دار نشر ، ابوظبي 2008م، ص 135 .

Matasm al-ameen [matasm.alameen@gmail.com]

 

آراء