رد على بعض التعليقات على مقابلة قناة الجزيرة

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
كتب عدد من الأساتذة الكتاب تعليقات على مقابلتي مع قناة الجزيرة، وتكرم بعض الأصدقاء بإرسال تعليقات الاساتذة يوسف حسين وشوقي بدري، وطلبوا مني ضرورة الرد عليها وتوضيح بعض النقاط.
وملا حظتي الأولى أن الاساتذة الكرام لم يستمعوا للمقابلة كاملة، واكتفوا بجزئية واحدة، ثم اسستنتجوا آراء نسبوها إلي، وقولوني ما لم أقل، خاصة الاستاذ يوسف حسين، ولهذا ارفق فيديو المقابلة كاملة لمن يرغب في الاطلاع عليها، وفيها سؤال منفصل عن لجنة إزالة التمكين وإجابتي على السؤال.
الملاحظة الثانية أن الأساتذة الكرام تعاملوا معي وكأني كنت في كهف بعيدا عن عملية الثورة، وأنه بعد نجاح الثورة جيء بي من ذلك الكهف، وعرضوا على المنصب، فقبلته ولم التزم بالسياسات والبرامج المعلنة، وفي هذا افتئات شديد.
لا أزكي نفسي ولا أعطيها دورا أكبر من حجمها، ولست أفضل من مئات الآلاف الذين انخرطوا في مقاومة نظام الإنقاذ منذ يومه الأول في الثلاثين من يونيو 1989، ودفعوا ثمنا غاليا، دماء وارواح وسجون و وتعذيب ومنافي، لكني كنت واحدا منهم منذ اليوم الاول، وتشرفت برفقتهم النضالية، وتزودت من إرادتهم وتصميمهم حتى في قمة لحظات اليأس، وظللت معهم حتى سقوط نظام الإنقاذ. بالتالي لست ضيفا على الثورة وحكومتها الانتقالية، لكني مساهم بسيط ضمن ملايين المساهمين في مسيرتها الطويلة وفي صياغة أدبياتها وأهدافها.
وأتشرف ايضا بأني كنت جزءا من حركة حقوق الإنسان السودانية، وهي ساحة نضال طويل ومرير ضد نظام الإنقاذ من أجل تأمين الحريات العامة وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام والتعبير، وتتلمذت على ورافقت مناضلين كبار أمثال الدكتور أمين مكي مدني وفاروق أبو عيسى، رحمهما الله، وكمال الجزولي وبروف علي سليمان ودكتور محمد عبد السلام ونبيل أديب وغيرهم كثر من الاساتذة والزملاء والزميلات. وقد لعبت حركة حقوق الإنسان السودانية دورا كبيرا في تعرية نظام الإنقاذ وتشديد الحصار الدولي عليه وتوالي الإدانات والعقوبات عليه نتيجة للانتهاكات الكبيرة التي ارتكبها في مختلف مناطق السودان.
لقد بدأ النقاش حول مدى حاجتنا للالتزام بما ناضلنا من أجله، منذ وقت مبكر، وفي مراحل مختلفة من عمر حركة النضال الثوري الممتدة لثلاثين عاما، وباستمرار كان هناك أكثر من رأي ووجهة نظرأ كلها اجتهادات داخل الصف النضالي. ومن المدهش أن يعتقد البعض أن حركة حقوق الإنسان هي حركة معارضة للإنقاذ تنتهي مهمتها بسقوطه، والحقيقة أنها يجب أن تستمر لتنزل المعايير والالتزامات الدولية لحقوق الإنسان في مواثيق وممارسات الثورة وحكومتها. والمدهش أكثر أن يحتكر من يحملون هذا الاعتقاد، بتجاهل اساسيات حقوق الإنسان، حق الانتماء للثورة، ويعنبرون المتمسكين بحقوق الإنسان خارجين على صفها.
فليراجع الناس شروط ومعنى الدولة المدنية الديمقراطية التي نسعى لإقامتها، وهذا بلا مغالطة من أكبر وأهم شعارات الثورة، وسيجدون ان سيادة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة واعتماد المواطنة كأساس للحقوق من أهم شروط الدولة المدنية.
لم يأتي في كل مواثيق وبرامج الثورة، بدءا من إعلان الحرية والتغيير وصولا لبرنامج الحكومة الذي اعتمدته الحرية والتغيير، وهي كانت القيادة السياسية للثورة، أي ذكر لمصادرات غير قانونية أو حجب الحريات أو منع صحفيين من الكتابة بأي حجة .
ماذا عن إزالة التمكين..؟
افترى علي هؤلاء الكتاب كذبا وقالوا إنني كنت من المعارضين للجنة وقانون إزالة التمكين، ولو استمعوا للمقابلة مع قناة الجزيرة كاملة لوجدوا فقرة كاملة عن لجنة إزالة التمكبن وأهميتها.
والحقيقة إن قانون ولجنة إزالة التمكين جاءت بطلب من أعضاء مجلس الوزراء. فقد وجد الوزراء أنهم مقيدون بنصوص دستورية وبقوانين موروثة تحرمهم من صلاحيات معالجة بعض مفارقات وممارسات نظام التمكين الإنقاذي، وظهرت الحاجة لجسم متخصص بصلاحيات كبيرة مسنودة بقانون ليقوم بعملية إزالة وتفكيك التمكين في الوزارات والمؤسسات الحكومية. وقامت اللجنة القانونية للحرية والتغيير بتقديم مسودة القانون، وخضع لنقاش مستفيض في مجلس الوزراء الذي أجازه بالإجماع، ثم رفعه للاجتماع المشترك مع المجلس السيادي لتتم إجازته ويصبح قانونا ملزما.
وهدف القانون لفك سيطرة النظام القديم ومؤسساته الموازية على جهاز الدولة، وتفكيك المؤسسات التي بنيت بأموال الشعب السوداني وتم تجييرها لمصلحة المؤتمر الوطني وبعض منسوبيه. وقد تعاونا في وزارة الإعلام مع اللجنة تعاونا كاملا، ووفرنا لها كامل الحرية في العمل في الوزارة والاجهزة التابعة لها. وقدمنا للجنة التفكيك تقريرا عن المؤسسات الإعلامية المملوكة للمؤتمر الوطني والتي تم تمويلها من أموال حكومية هي في النهاية أموال الشعب السوداني، ولكن تم تسجيلها بأسماء أفراد لم يدفعوا فيها مليما واحدا، وقد اتخذت اللجنة القرارات المناسبة تجاهها
لم يكن هناك خلاف بيننا وبين اللجنة في هذا الامر، ونرى أن ما فعلته اللجنة تجاه هذه المؤسسات كان قمة العدالة والحق. ثم أن اللجنة اتخذت قرارات تجاه مؤسسات إعلامية أخرى بناء على معلومات قالت أنها تمتلكها، ولم يكن لدينا علم بها، وبالتأكيد لم يكن علمنا بها شرطا لممارسة اللجنة عملها وفقا لقانونها وصلاحياتها.
الخلاف الوحيد مع بعض تيارات الثورة أنها لم تكن تريد انتظار عمل لجنة تفكيك التمكين، وإنما كانت تنتظر وتطلب منا قرارات مباشرة بمصادرة ومنع صدور بعض الصحف والمؤسسات الإعلامية وحتى منع صحفيين من الكتابة بناءا على مواقف هذه المؤسسات والصحفيين من الثورة، أي بناء على الموقف السياسي وليس الملكية والتبعية المباشرة للمؤتمر الوطني،وهذا ما رفضنا القيام به لعدة اسباب:
أولا: لم يكن ترخيص وإصدار الصحف من صلاحيات الوزارة، وبالتالي منع الصدور أو الإيقاف عن الكتابة كذلك. والجقيقة انه وحتي في عهد الإنقاذ لم تكن الوزارة هي التي تمارس أفعال المصادرة والمنع من الصدور ومنع الصحفيين من الكتابة، وإنما جهاز الأمن والمخابرات، وبمنطق قوة السلاح وليس استنادا لأي قانون.
ثانيا: حتى لو كانت الوزارة تمتلك هذه الصلاحية فإنه من غير المنطقي، بل والمخزي تماما، أن تقوم وزارة الإعلام في عهد ثورة الحرية والعدالة بممارسات جهاز أمن الإنقاذ من منع ومصادرات.
ثالثا: اي قرار بالمصادرة أو المنع من الكتابة بناء على الموقف السياسي، حتى لو كان معاديا للثورة، هو انتهاك مباشر لأبسط معايير واساسيات حقوق الإنسان وحرية التعبير والإعلام.
رابعا: استخدم كثير من الكتاب والناشطين تعبير الشرعية الثورية مطالبين لنا بالتعامل بها مع كل من يرونهم خصوما للثورة، رغم أن الحكومة تكونت بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية، وبالتالي صارت هناك شرعية دستورية ملزمة لا يمكن النكوص عنها لممارسة الشرعية الثورية. والحقيقة أنه واحدة من أخطاء القيادة السياسية للثورة أنه لم تكن هناك فترة لممارسة الشرعية الثورية، وكان يمكن أن تتضمن الوثيقة الدستورية نصا بسريانها بعد فترة زمنية معينة يتم خلالها اتخاذ عدد من القرارات والإجراءات التمهيدية قبل سريان الوثيقة، الشئ الذي لم يحدث.
لقد انفتحنا بعد الثورة على العالم، وبدأنا في تنظيف صورة واسم السودان من القبح الذي صاحب فترة الإنقاذ، من انتهاكات وفظائع يندي لها الجبين، وكان عهدنا مع أنفسنا ومع شعبنا أن نسعى لبناء دولة مدنية ديمقراطية تحترم كرامة الإنسان السوداني، مطلق الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه ومعتقده وثقافته ورأيه السياسي، وتضمن له حقه في التعبير وفي العيش بسلام في وطن لاتعلو فيه غير رايات سيادة حكم القانون والمواطنة المتساوية وحفظ الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
ومن المهم أن نقول، وبصراحة شديدة، أن هناك داخل الصف الثوري تيار شمولي يريد أن يستخدم نفس أساليب النظام البائد بحجة إنهم قد فعلوا ذلك، ارتكبوا أفظع جرائم الحرب، عذبوا الابرياء، وأحالوا عشرات الآلاف للصالح العام، واعتقلوا الآلاف بلا محاكمات، وشردوا شعبنا في كل بقاع الدنيا، وكل ذلك حق، لكننا لسنا هم، هذا هو المهم، لسنا هم، ولا يجب أن نكون كذلك، هذا هو الفارق بيننا وبينهم، وهو مبرر الثورة.
لو تمثلنا بهم وبممارساتهم فما هي ميزتنا إذن، وكيف يمكن لنا أن ننظر لأنفسنا وللعالم...؟ بيننا وبينهم القانون والعدالة.
لقد قدم الشهداء أرواحهم وقدم المناضلون تضحياتهم من أجل وطن مختلف، والوفاء لهم وتضحياتهم هو أن نسعى لبناء هذا الوطن الجميل المحترم الذي يفخر به أبناؤنا في المستقبل.
17يناير 2023

 

آراء