رسالة الي المسنين وقدامي السياسيين (3/3)
تعديل موازين القوي والجيوش الخمسة
عرف السودان المقاومة المدنية/ النضال السلمي منذ الكفاح ضد المستعمر، واحرز استقلاله (بالاتفاق) لا بالتطور الدستوري ولا الكفاح المسلح. وخلال حقب كل الحكومات الوطنية ظلت الاحزاب السياسية في معظمها متمسكة بالنضال السلمي وهي تواجه الحل والحظر والمطاردة و الاعتقال والسجن وحتي اغتيال القيادات بالقوانين والأوامر الدستورية ولوائح الطوارئ والمحاكم العسكرية الايجازية. ونطلق علي النضال السلمي "العمل الجماهيري الصبور و الدؤوب" ويسميه المجددون "العمل التراكمي" ويطلق عليه نشطاء المقاومة المدنية في المنطقة العربية وغيرها "كفاح اللاعنف" واختصره نشطاء السودان في مفردة واحدة "السلمية"
واشكال النضال السلمي التاريخية في السودان:
- مقاومة الحظر بالعمل السري، والمنشورات والمجلات وكتابة الشعارات علي الجدران
- المذكرات ذات المطالب (ومنها حرية التنظيم و التعبير)
- تجمع أسر المعتقلين، وصناديق الزمالة، واضراب المعتقلين
- التظاهرات، الاضرابات متعددة الاشكال والاعتصامات
- التسجيلات الصوتية والاحتجاجات... الي اخر ما تعلمون
الاحتجاجات والمقاومة المدنية
الاحتجاجات تعبير رافض لإجراءات ما، اقتصادية أو غيرها، أو قانون. المهم ان خطاب المحتجين يوجه الي الحكومة التي تستطيع وقفها بالتراجع او التعديل او القمع. والاحتجاجات في كل النظم الديكتاتورية/الشمولية هي اعمال غير مشروعة (اثارة الشغب)
اما المقاومة المدنية، وهي في جوهرها عصيان فإنها توجه خطابها للجماهير لا للحكومة فالاحتجاجات علي غلاء الاسعار. – مثلا- شيء ولكن عندما يكون موضوع المقاومة فشل النظام الاقتصادي والمظالم والفساد فان الأمر يكون مختلفا.
انظر: شعارات كل انواع المقاومة المدنية الراهنة
اذن: فان توجيه الخطاب للحكومة او الرئيس بحسب شعارات الناس تشكل انقلابا علي موضوع النضال السلمي وشروع في انسحاب منظم فلم يحدث في كل التاريخ استسلام نظام حكم شمولي/ديكتاتوري واستجابته لدعوة التنازل عن السلطة.
القمع و العنف الجماهيري
الابتعاد عن العنف الجماهيري والنضال السلمي بإقامة مئيات التنظيمات من ابرز عوامل تعديل موازين القوي لصالح نشطاء المقاومة المدنية بكسب متعاطفين ومؤيدين جدد بما في ذلك القوات النظامية. وأكدت تجربة ثورة اكتوبر 1964 أن العمل الجماهيري الواسع هو الذي نقل الضباط و الجنود الي موقف متقدم برفض تنفيذ الأوامر بأطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين العزل وكذلك في انتفاضة مارس/ابريل 1985(وكان الأمر سيختلف اذا كان المتظاهرين مدججين بالسلاح، او اتجهوا للحرائق و تدمير الممتلكات العامة)
واشتداد قمع المواكب والتظاهرات يسقط شهداء/ضحايا لكن اعدادهم تكون قليلة في النضال السلمي و العكس عند العنف الجماهيري، بل ان القمع المفرط ينتج عنه:
- تزايد اعداد المؤيدين للقضية - يثير السخط وسط الجنود المكلفين به
ومن جهة أخري فان القمع يجعل المقاومة السلمية محل تعاطف المجتمع الدولي وشعوبه وقد يرتقي الي تأييد/دعم المقاومة السلمية خاصة اذا تم توجيهه نحو الاطفال والنساء.. فالنضال السلمي في القرن الذي نعيش هو استراتيجية عملية من اجل التحول الديمقراطي.
وان ترياق قمع النشاط الجماهيري يمكن ايجازه في ثلاث كلمات: التنظيم والوحدة والثبات بطريقة الجماهير نفسها. والعنف الذي يواجه القمع نتائجه وخيمة ويطال الجميع حتي غير المشاركين في النشاط وداخل بيوتهم(!) وخاصة ان جيوش النظام الحاكم الخمسة ليست كما جيوش المقاومة المدنية الخمسة فان نتائج العنف الشعبي في مواجهة القمع معروفة: انسحاب القيادات الطوعي/أو فرض الانسحاب عليها بتوقف حركة الجماهير..
ان جماهير الشعب الفتي/الشباب تعلمت وتتعلم وحدها فلماذا لا نتركها بعد أن اتخذت قرارها ونربكها حدبا عليها؟!
الجيوش السياسية الخمسة
استمرار التحشيد بالمواكب والادوات الأخرى للوصول للكثافة يعني العمل علي تعديل موازين القوي ، بالتوعية والتنظيم (تجمعات العاملين) و (لجان الأحياء) مع التركيز علي ولاية الخرطوم.
وولاية الخرطوم تظل عند الناس كل الناس (منارة) رغم وجود سبعة عشر ولاية وهي عندهم كما جامعة الخرطوم (منارة) علي الرغم من أنه أصبح الي جانبها اكثر من خمسين جامعة وكلية جامعية.
ويحرص النشطاء – كما عبروا- علي الا تتخذ ولاية الخرطوم القرار بالإنابة عن الولايات الأخرى – ولا ينبغي لها- فالحراك الجماهيري العفوي بدأ في الدمازين وانتقل الي بورتسودان وانطلق من عطبرة.
فما هو الواقع الراهن في جبهه التغيير؟ وماهي افكار النشطاء التي نستطيع الخروج بها من جملة الحركة العامة؟
الواقع يفيد أن للمقاومة السلمية خمسة جيوش سياسية عرمرم/ كثيرة الأعداد وهي:
1- جيش الجماهير الشعبية في الاحياء والمدن 2- جيش تجمعات العاملين في المنشئات المختلفة 3- جيش نساء السودان الماجدات في كل الساحات والانحاء
4- جيش نشطاء المقاومة المدني 5- وجيش القوي السياسية الداعمة من احزاب و تنظيمات و حركات
ويدرك النشطاء أنهم في مطلع المرحلة الثانية في طريق التغيير والتحول وهو يتطلب تعديل موازين القوي وهو ليس بالأمر الهين، ليس من جهة القدرات ومتطلبات الصمود في وجه القمع بل أيضا بأثر النشاط السياسي المضاد الوطني والخارجي. كما أن بعض الجيوش السياسية تحتاج لمزيد من التنظيم حتي تبرز القيادة الموحدة ويختار كل جيش قيادته
وسبقت الجماهير الشعبية في مدن وولايات، ولاية الخرطوم في عطبرة و بورتسودان والابيض و مدني وغيرها مثلما سبقت عطبرة المدن الأخرى في عدم التعاون الاقتصادي (مقاطعة المستهلكين) وهي لها تجاربها المستنبطة من الارث النضالي السوداني منذ حقبة (المستعمر البريطاني)
أنظر: قصيدة الشاعر/ يوسف مصطفي التني (في الفؤاد ارعاه العناية) قال :
عندي وطني بقضيلي حاجة
كيف أسيبه وأروح لي خواجة
يغني وطني ويحيجني حاجة
وأضاف النشطاء اعادة تسمية الشوارع كما حدث خلال وبعد أكتوبر 1964 وتكوين لجان الأحياء/ المحليات/ المدن في ولاية الخرطوم تحتاج لجهد اكبر يساعد في ذلك الموجهات البسيطة التي صدرت بشأنها
- اساس اللجنة الشباب الباسل الذي تم اختباره في الميادين وساحات الأحياء
- يقومون بتنظيم انفسهم بأنفسهم دون اشراف او وصاية من أية جهة
- الانضمام الي اللجان فرديا
- تضع اللجنة خططها بنفسها وتنفيذها بحسب قدراتها دون انتظار اذن
- تشبيك اللجان فيما بينها وكذلك مع الأحياء المجاور.. إلي آخر
وبذلك يتكون جيش الجماهير الشعبية ويختار قياداته
ولاية الخرطوم
وولاية الخرطوم التي بها 60% من المتقاعدين و المفصولين تعسفيا وفاقدي الوظائف في القطاعيين المدني و العسكري ، و معدلات البطالة فيها بنسبة 18.8% وتبلغ فيها نسبة الفقر 29.9% وعدد الفقراء تحت خط الفقر أكثر من مليون ونصف. وسكانها يشكلون 17.4% من اجمالي سكان السودان. تتكون كما تعلمون من سبعة محليات تتجزأ الي نحو 105 وحدة ادارية. وترتيب المحليات بحسب أعداد السكان (بالمليون) هو :
شرق النيل 2.2 جبل أولياء 1.8 أم بده 1.5 الخرطوم 0.8 كرري 0.7
أم درمان 0.5 الخرطوم بحري 0.5
وسكان الولاية 8 ملايين وعشرة بالتعداد الترددي. مليونان يدخلون ويخرجون يوميا لأسباب العلاج/ الدراسة/ الخدمات الحكومية وغيرها
لاحظ: محلية ام بدة اكثر مره ونصف من الولاية الشمالية من حيث عدد السكان
لاحظ: تتكون الولاية من اكثر من 2200 حارة/ حي ويحيط بالأحياء القديمة حزام ممتد من الأحياء الفقيرة قوامها الذين استوطنوها للظروف المعلومة. ومعظم السكان من العمالة المستضعفة وعمال اليومية والفريشة في الاسواق وغير ذلك وهم يعيشون رزق اليوم باليوم. ولا يشاركون في المواكب ويساعدهم المتظاهرون بالمحافظة علي سلامة بضائعهم. وهؤلاء لن يشاركوا الا عند اللحظات/ اليوم الاخير..
ومعروف ان تلك الأحياء الفقيرة تحتاج لأدوات أخري للتحشيد خلافا للكر والفر والمظاهرات التي تتطلق في الحادية عشر صباحا(!) ونتذكر ان داخل تلك الاحياء تنظيمات بدائية وقبلية لها شيوخ ومحاكم و سجون لا علاقة لها بأجهزة الدولة..
جيش العاملين
أقامت جماهير العاملين تنظيمات تلبي حاجة المهام أمام الشعب وهي الاضراب السياسي والعصيان المدني وهي (تجمعات العاملين) بديلا للنقابات الرسمية / المفقودة وقطعا هذا بديل مؤقت لان النقابات فيها الثوريين وغيرهم ايضا. وفرض العاملون التنظيمات كما فرض جيش الجماهير الشعبية حرية التعبير وابداء الراي والذي قد يمتد الي حرية الصحافة
وتجمعات العاملين التي بدأها المهنيون شملت الموظفين والعمال والفنيين والتقنيين الي جانب المزارعين والطلاب و الشباب والنساء و معظم الفئيات.. والمهم ان هذه التجمعات / اللجان/ الكيانات/ المبادرات هي خطوة ضرورية لبناء أرضية المجتمع المستقل و النقابات الحرة المستقلة خارج نطاق سيطرة النظام والاحزاب السياسية حاكمة او معارضة.
وتميزت التنظيمات بالتنوع في اشكال التنظيم (حرية التنظيم) سواء علي مستوي المؤسسات أو المهن والوظائف أو الانتاج أو الصناعة.. وكتب احد المهندسين عن مفهوم الشرعية الثورية:
(ان الثورة والقانون مفهومان متعارضان.. الثورة تقوم لأن الناس تقرر ان التغيير في اطار النظام القائم و القوانين التي تحكمه لم يعد كافيا او ممكنا، ولا يمكن تصور ان تقوم ثورة وتحترم القانون السابق والا كانت مجرد حركة اصلاح.. فالثورة تستمد شرعيتها من نفسها وليس من أي قانون)
وهذا ما يتسق مع مفهوم التجربة النقابية الوطنية:
ان النقابة تستمد شرعيتها من قواعدها لا من القانون وذلك منذ 1948
لكن: ان اكبر فوائد التجربة اليوم انها حكمت نهائيا بفناء فكرة تذويب النقابات المهنية في نقابات المنشات. ولم يعد فساد الفكرة يحتاج لبيان
خاتمة
وأختم بالتنبيه علي :
1- لاتزال الحكومة تتعامل مع ما يجري كاحتجاجات محدودة حتي اذا تواصلت لعشر سنوات !!
2- واستنادا علي ذلك الفهم انتقلت من القمع في الساحات و الميادين الي انزال العقوبات الادارية والمحاكمات الجنائية. اداريا بالإيقاف عن العمل ، والفصل التعسفي والتهديد بالفصل لمهنين و موظفين وعمال وجنائيا بصدور احكام بالسجن لمتظاهرين بل طال الفصل امام جامع النهود لذي انتقد الملثمين الذين يعتقلون و يضربون المتظاهرين ومخالفة ذلك لشرع الله. (وهذا بخلاف البرلمانيين والنظاميين الذين شاركوا في "الاحتجاجات" بحسب مساعد الرئيس د/فيصل ابراهيم حسن..)
والسجون لن تسع الألاف خاصة وبعض معتقلي الولايات يتم ترحيلهم الي الخرطوم (نساء بورتسودان نموذجا)
3- ان تعديل موازين القوي للطرفين لن يكون بالقمع ولا العنف الجماهيري ولا المبادرات ولا التهديد بحل الاحزاب والتنظيمات ولا باللجوء للاجنبي
طريق حكومة الوفاق الوطني واحد: استيعاب مطالب جماهير الشعب
وطريق نشطاء المقاومة واحد: العمل الجماهيري الصبور والدؤوب وهو طريق وعر ولا يخلو من العقبات قمع الاجهزة الرسمية من جهة والسياسيين الساعين للسلطة باي ثمن.
اخوكم
محمد علي خوجلي
khogali17@yahoo.com
////////////////////