رسالة حبات الفلفل ونثار القرنفل للسفير جمال محمد ابراهيم
ما كنت احفل كثيرا بصرير اقلام زعانف القوم من الرجرجة والدهماء، فهم كما قال الجاحظ من أهل العي في اللسان والعنة في مواقع البيان. ولكن اوجعتني حروفك ، اذ كنت مرجوا فينا من قبل، ليس بحسبك سفيرا ، ولكنك مثقفا ومبدعا ، كنا نتطلع إليك على عهد اليفاعة الدبلوماسية ونحسبك من مجرة جمال محمد احمد التي تنبع من موسوعية الثقافة ، وشجاعة الموقف واستقامة الفكر والصدق مع التاريخ. لكنك سقطت من تلك المجرة الي أمشاج مبتلاة من طفولة الثقافة ومراهقة الفكر.
حسبتك مدخر لوقت يعلو فيه الهرج ويغلوا فيه التهافت لترد الناس من غوائل التطرف الي جادة العقل، ومن غلواء الفجور الي رحاب المنطق، ومن رزايا الجدل العقيم الي التمنطق بإزار الحكمة.
اذ ان دور المثقف الحقيقي ليس اصطناع خطاب موازي لمنطق الرجرجة والدهماء ، وان زانته لغة من الأدب ، او مازجت نسجه خيوط من جزالة النظم المصنوع ، او بلاغة خَصِّية ماتت فحولتها بين غيهب المعني و يد الخصام المنشيء في الحلية. او هو كالثوب الرقيع ، ان شددته تهتك وان تركته تمرغ في أوحال البؤس وصدي الألوان الباهتة.
كنت مدخرا فينا ، كما حسبت، وأنت الآتي من أم درمان تلك المدينة التي رمت اثقال التاريخ واصطلت بجمر الوعي، وأصبحت رمزًا للتآلف ومستودعًا للثقافة وصناعة المستقبل. وأنت القادم من دفاتر كمبالا، و صحبت العسكري في أوج بطولته في رحلته الأخيرة ، ونسجت من توترات القبطي غلالة شفيفة من أوجاع التاريخ و رحيق التساكن الجميل. ، و أشعلت من تداعي الكهرمان ملحمة من إشراقات الوعي ، عندما يتجلي معاوية نور من مخاض العبقرية والخلود.
واتحفت ذائقتنا بتراجم رائقة من روايات ليلي أبو العلا، وأنت ترتكب جريمة رائعة لخيانة النص، مع سبق الإصرار والترصد.
حسبت إنتاجك الأدبي رافدًا يتغذي من شرايين التاريخ و أوردة العبر والعظات،
اذ ان التحولات والمنعطفات الكبري في التاريخ تكشف عن معدن المثقف ودوره الحقيقي .
كان أميل زولا الصحفي والأديب الفرنسي عند الموعد في مقالته التي نشرها في جريدة أورور في عام ١٨٩٨ بعنوان j’accuse ( أني اتهم) ، التي هزت اركان العدالة المسيسة في فرنسا، و دفع ثمن قوله الحقيقة نفيًا ومحاكمة وتشهيرا، لكن بقي موقفه علامة مضيئة في التاريخ. كان يمكنه ان يجاري سيكلوجية الجماهير كما قال غوستاف لوبون و عواطف العوام وارادة الدولة . لكنه استقي من نبع التاريخ و روح الثورة لإحداث التغيير المنشود، وبناء المؤسسات والاحتفاء بأقدار الرجال.
ما أسهل الاستسلام لعواطف الانتقام والتشفي ، فذلك خليق بالناشطين وهم يزحمون الأفق ببوقات لهم وطبول ، وليس المثقفين.
إن نظرية (الرجل العظيم ) التي سادت في القرن التاسع عشر Great man theory و التي عبر عنها الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل في كتابه الشهير عام 1841
، أن التاريخ يصنعه العظماء من الشخصيات الاستثنائية ، لا تعدو ان تكون إلا تلخيصا لشجاعة الموقف من اللحظة التاريخية و الأدبية لموافاة الحقيقة، عند المثقف صانع التاريخ و مدونه.
اردناك مثقفًا عضويا كما قال غرامشي ، تقوم بدور المثقف في المجتمع كما ينبغي له، ليس فقط في انتاج الأفكار و الرؤي والتصورات و طباعة الروايات، بل ان تتخذ موقفا ضد الهرج والفوضى والتشفى من اجل تحرير موقف جدلي اصيل كمثقف من التاريخ.
وقد فعلها السفراء المثقفون من أهل الضمائر الحية وان راشقتهم سنان من ألسنة حداد ، وتطفيف في ميزان كسبهم الوطني.
إن من تم فصلهم ليسوا من فصيل الملائكة لكنهم بالطبع ليسوا من سنخ الشياطين، فهم انجب ابناء الوطن الذين نافسوا بشرف ونزاهة في الوظيفة العامة، قدمتهم الكفاءة لا الموقف الأيديولوجي، و أغلبية من تم الاستغناء عن خدماتهم ابرياء من تهمة الانحياز السياسي لا يعرفون له طريقًا أو عنوانًا أو خطابًا تحمله طوابيع البريد.
وان اخذتم بعضهم بجريرة التعيين السياسي فذلك عرف نافذ ، وهم أقلية ، لكن ذلك لا يشفي غليل التشفي، وقد شغلت منصب الناطق الرسمي في نظام كنت تبغضه لكن بذلت له يد التودد حتي صرت ناطقا بإسم وزارة الخارجية لكفاءة معلومة وصيت لا يخبوا وقعه ولا يغيب رسمه، حتي بلغت سن التقاعد لم يمسكم سوء أو انتقاص من حقوق . وكنت سفيرا في بيروت حملت أوراق اعتماد جليس كوبر عندما كان يمهر الأوراق باللون الرئاسي الأسود. في المقابل لم يحتمل البروفيسور محمد ابراهيم خليل عملك معه ناطقًا رسميًا في لجنة الاستفتاء لجنوب السودان، واتهمك بالتدخل فيما لا يعنيك.
ان أي مثقف يحتفي بمجزرة الفصل الجماعي دون إعمال لقواعد العدل والقسط والإنصاف ، ودعاوى الترويج لسحب الجوازات واللقب، و يفرح للتشهير بزملائه كأنهم من المجرمين، وأخذ الناس بالشبهات دون تحقق ، يفقد صفته كمثقف، وان كتب آلاف الكتب، و لعله يصدق علي هؤلاء حديث الإمام الغزالي : " ان بعضهم ليصنف تصنيف العلماء ولكنه متشبه بهم وليس منهم في شيء". . ولعل البعض يصنف تصنيف المثقفين من مقالات وروايات ونقد وشعر ، واحاديث ناعمة الملمس لكن يفقد بوصلة ضميره من الحقيقة التي ادني درجاتها التحلي بالاستقامة الفكرية والأخلاقية.
يقول جان جاك روسو الاب الروحي للثورة الفرنسية ان المسئولية الأخلاقية عنصر أساسي لما أسماه تكوين الإرادة الحرة لبناء العقد الاجتماعي . إذن لا يستطيع أي مثقف مهما علا كعبه ان يؤثر علي التحولات الكبري دون التعبير عن مسئوليته الأخلاقية تجاه المجتمع و بناء عقده الاجتماعي، وتحديد احداثيات سلطة الفرد والمجتمع. .
كان حريًا بالمفكر العربي ادوارد سعيد ان يستشهد بالفيلسوف الفرنسي والكاتب اليهودي جولين بيندا في كتابه ( خيانة المثقف) ، وهو يغلظ علي بعض المثقفين الذين خانوا رؤية التاريخ وهم يصنعون خطاب الكراهية والعصبية التي قادت الي الحروب والفوضى.
ان اي مثقف يستثمر في التشفي وزراعة العصبية والفوضى هو خائن بالطبع لقضية الثقافة ، اذ تستعلي رمزية المثقف علي إرتكاسات الواقع لنشدانه تمثلات الحقيقة وتجلياتها في الضمير والوعي، ورفض المساومات علي الظرفي والعابر ..
وانا اربأ بالسفير المثقف جمال محمد ابراهيم ان يشيع خطاب الكراهية ، وان يغذيه بالشواهد المبتورة والمشوهة ، لأن التاريخ لا ينسي ، اذ كان خليقًا به في مرحلة هذه التحولات الكبيرة ان يكون داعية للحرية والعقل والعدل والإنصاف لا بوقًا شعبويا يجاري عواطف العامة من اجل التشفي ، والتحريض علي خطاب الكراهية والقطيعة الاجتماعية، اذ ان في ذلك الدور خيانة لضميره كمثقف وخيانة لإرهاصات العقد الاجتماعي الجديد ، إذ تقوم الحقوق والواجبات فيه علي عقد المواطنة لصنع التحول الديمقراطي المنشود . وهو بهذا الموقف قرر ان يكون في المكان الخطأ من التاريخ ، وهو ما لا يليق بمثقف مثله.
لم يكن العقاد نبيلا في خصومته ، بل كان معتدا بنفسه حادا في معاركه القلمية ، ولم يكن ذلك كما قال الرافعي صاحب الخصومة الأشهر في كتابه ( علي السفود)، لخصيصة في طبعه، ولكن كان العقاد علي النقيض من ذلك ، قال الرافعي: ( من آفة الذين يديمون النظر في كلام الناس ، انهم يفقدون استقلال الفكر و ابتكار القريحة ، ولم يكن العقاد كذلك).
ولعل سبب استشهادنا بخصومات العقاد الفكرية و الثقافية، انه متسق الفكر رغم حدته ، يتحلي بشجاعة الموقف من التاريخ.، لم يكن داعيا لفتنة اجتماعية بل كان محطمًا لأيقونات الثقافة والشعر والسياسة من لدن شوقي وطه حسين الي الملك فاروق وهو يقول ان مصر مستعدة لتحطيم اكبر رأس في البلد من اجل المحافظة علي الدستور.. وذلك قدر المثقف الحقيقي.
أخذ طه حسين علي جيل الشباب في عصره انهم يكتبون اكثر مما يقرأون، لكنه جعل من رسالته الفكرية والأدبية اضافة للتنوير والعقل والحداثة قضية العدالة الاجتماعية قيمة مركزية في مدرسته الفكرية، لذا كانت اهم قراراته عندما كان وزيرًا للمعارف مجانية التعليم في المدرسة الابتدائية الأمر الذي تبنته ثورة يوليو و توسعت فيه وجعلته اهم منجزاتها التاريخية.
كل الاستشهادات سالفة الذكر تؤكد، ان لكل مثقف رسالة في الحياة ، ليس من بينها إشاعة الكراهية ، أو تعميق القطيعة الاجتماعية أو استهداف فصيل لتصنيفات مهنية أو خصومات ايدلوجية، أو ان يكون المثقف اداة لتبرير القمع أو عسف النخبة المرتبطة بالسلطة ، واستهدافهم نتيجة للتوجه الفكري أو النسق الثقافي، أو الانحياز الاجتماعي.
من المؤسف ان يستشهد أهل الثقافة والفكر بنماذج فاشلة من التاريخ القريب حجة علي الواقع وبناء المستقبل في تبرير رخيص لأيدلوجيا التشفي والانتقام، وهو نهج نبذه الشعب وأدانه العقل السياسي.
أين تكمن حميمية المثقف؟ لمن تقاسم معهم ملح المهنة و رغيف المودة وسجايا الغربة وصحبة الصقيع والمنافي والمناخات الاستوائية وخدمة الوطن.
الأيدلوجيا ليست وطن ، و التمسك بقشور الليبرالية والديمقراطية التي سرعان ما تنكشف امام اول بادرة رعد، أو بريق من غمام السحب العابرة تكشف زيف الموقف من التاريخ والشعارات البراقة.
الليبرالية الحقيقية كما يدعيها السفير جمال هي جزء من الإيمان بالاستنارة كموقف من التاريخ، و التوقيع علي مسودة عقد اجتماعي يحرم استفحال الخصومة علي حساب الوطن، واستخدام النخبة المسيطرة علي مقاليد السلطة القوة الجبرية وزندية القانون المزيف لإقصاء المخالفين فكريا من الوظيفة العامة. بدافع الشبهة وإخلاء المناصب للتمكين البديل.
أفحم الأستاذ محمود محمد طه مخالفيه وهو يقول ان افكار خصومه هي موضع حربه وان أشخاصهم هي موضع حبه، وان جوهر الإسلام هو الاستقامة الفكرية اَي الموقف من التاريخ. وذلك امتحان سقط فيه الكثيرون. أما أخذ العفو فهو مرتبة لا يبلغها الا القليلين ، و يصعب من يستوفي اشراطها. لذا فأنت معفىٌ من العفو ، لكن لا بأس ان تأمر بالمعروف.
هل استقام عندك الخصام وأنت الخصم والحكم.؟!.
لعله من سفه الاحلام ان نختصم في لعاعة من لعاعات الدنيا ، وآخر المطاف كما قال صلاح احمد ابراهيم "كفن من طرف السوق وشبر في المقابر". لكن لكل مثقف ان يكون له موقف من التاريخ.
هذه الرسالة أردناها ان تعبق من نثار القرنفل، لحب مأمول وموقف مرتجي، فعفوا اذا غلبت عليها حبات الفلفل رغم بادرة العطاس ، كشعر عنترة ، وهو في السلم بن زبيبة وعند التحام الخيل ابن الأطايب.
khmuda@icloud.com