رعاية المسنين في الإسلام

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من القضايا التي شغلت المجتمعات المعاصرة قضية المسنين، إذ إن تزايد أعداد المسنين، وتأثير الحياة المادية في الإنسان المعاصر، أثرت سلباً في نظرة المجتمعات الغربية للمسنين باعتبارهم عبئاً على المجتمع، فضلاً عن الأسرة. فأنشئت الدور والملاجئ لإيوائهم، والعناية بهم من ناحية مادية، ولكن يظل الجانب النفسي والإنساني لا تستطيع تلك الملاجئ والدور توفيره. وقد امتدت هذه الظاهرة إلى مجتمعاتنا الإسلامية بسبب وقع الحضارة المعاصرة، وتأثيرها في حياة المسلمين، هذا في الوقت الذي عالج فيه الإسلام المشكلة في إطار فلسفة عامة تنطلق من نظرة الإسلام للإنسان خلقه وتكوينه، والعلاقة بين أفراده، ودور الإنسان في الحياة.
فالمسن في المنظور الإسلامي هو إنسان بلغ مرحلة متقدمة في العمر، قعدت به أو أعجزته عن القيام بمهامه وتصريف شؤونه، ومن ثم جعلته محتاجاً إلى غيره. وقد صور القرآن الكريم المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان والتي تبدأ بالطفولة مروراً بمرحلة الشباب وتنتهي بالشيخوخة والوفاة، وبين ما تتسم به مرحلة الشيخوخة من وهن القوى وشيب الرأس وضعف القدرة على الحفظ والتذكر وقلة العلم. يقول الله تعالى:”وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُم يَتَوَفاكُمْ وَمِنكُم من يُرَد إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِن اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ” (النحل:70) “وَمَنْ نُعَمرْهُ نُنَكسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ” (يس:68) “كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبكَ عَبْدَهُ زَكَرِيا، إِذْ نَادَى رَبهُ نِدَاء خَفِيّاً، قَالَ رَب إِني وَهَنَ الْعَظْمُ مِني وَاشْتَعَلَ الرأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَب شَقِيّاً” (مريم:1 4) “اللهُ الذِي خَلَقَكُم من ضَعْفٍ ثُم جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوةً ثُم جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” (الروم:54).
تغيرات الإنسان
وهذه المراحل والتطورات العمرية التي يمر بها الإنسان تطورات طبيعية وقدر من أقدار الله الحتمية، وسنة من سننه في الحياة البشرية، لا يملك الإنسان لها دفعاً مهما جهد في ذلك. ومن ثم ينبغي أن يتقبلها المسلم على أساس أنها أمر حتمي قضاه الله على عباده، فلا يصاب من جرائها بالضيق والضجر، ولا يتبرم بها، فيلجأ إلى الانتحار أو يقع في دوامة من الاكتئاب واليأس. كما يحدث في بعض المجتمعات التي بعدت عن الهدي الإلهي.
وهذه التغيرات التي يمر بها الإنسان في هذه المرحلة لا تغير من حقيقته كإنسان يتمتع بالكرامة وله حقوق ينبغي أن تصان ويحافظ عليها. إذ إن تكريم الله تعالى للإنسان الذي أشارت إليه الآية الكريمة:”وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَر وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم منَ الطيبَاتِ وَفَضلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ممنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” (الإسراء:70). هذا التكريم لا يرتبط بمرحلة عمرية معينة، بل إن حق الإنسان في التكريم والاحترام، حق مقرر في كل مراحل العمر في الصغر والكبر، والشباب والشيخوخة.
كما ربى الإسلام المسلم على الأمل والرجاء في رحمة الله فلا ييأس ولا يقنط مهما كانت الظروف التي يمر بها من ضعف أو عجز:”إِنهُ لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ اللّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” (يوسف:87) ويقول تعالى:”قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعاً إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ” (الزمر:53).
كما أن تعاليم الإسلام تربي المسلمين على أن ينظروا إلى الشيخوخة والتقدم في العمر على أنها نعمة من نعم الله:فقد ورد في الحديث “ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا بلى. قال:خياركم أطولكم أعماراً وأحسنكم أعمالا”، كما ورد أيضاً:”خير الناس من طال عمره وحسن عمله”.
كما أن الحياة في نظر المسلم ليست عبثا بل إنها في جملتها ابتلاء واختبار. فطول العمر وقصره، والقوة والضعف، والقدرة والعجز كلها امتحان من الله تعالى يستلزم الشكر أو الصبر:”الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك:2) وكما ورد في الحديث:”إن أمر المؤمن كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وان أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”.
حقوق محفوظة
ولئن عجز المسن والشيخ الكبير عن القيام بواجباته، والمحافظة على ضروراته، فهذا لا يعني ضياعها. إذ إن الإسلام قد عمل على حفظ تلك الحقوق للمسنين وصيانتها.. وألزم جهات عدة بالقيام بتلك الواجبات ورعاية المسنين، كالأسرة وذوي القربى والجيران والمجتمع ممثلاً في منظماته أو الدولة. ومن أولى هذه الجهات المكلفة برعاية المسنين الأسرة، إذ يعتبر الإسلام الأسرة المؤسسة الأساسية والمحورية المسؤولة عن مسنيها في إطار التكاليف الشرعية. وتتمثل هذه الأسرة في الأبناء فجعل الإسلام للآباء حقوقاً على أبنائهم، وخاصة حينما تتقدم بهم السن ويصيبهم العجز. فقد أمر الله ببر الوالدين والإحسان إليهما، وقرن ذلك بالأمر بعبادته وتوحيده، مما يدل على أهمية البر بالوالدين إلى درجة مقاربة لتوحيد الله تعالى وعبادته. يقول تعالى:”وَقَضَى رَبكَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلا إِياهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِما يَبْلُغَن عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لهُمَا أُف وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحْمَةِ وَقُل رب ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبيَانِي صَغِيراً” (الإسراء:23 24). فالإسلام يوجب الإحسان إلى الوالدين والتأدب معهما فلا يقول الابن لهما ما يسيء إليهما أو يجرح مشاعرهما، وأن يعاملهما برفق ورحمة. وهذا الإحسان يمتد ليشمل الأبوين ولو كانا كافرين، إذ أمر الإسلام بمصاحبتهما بالمعروف والطاعة لهما اللهم إلا في أمر فيه معصية لله:”وَوَصيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَي الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنْيَا مَعْرُوفاً وَاتبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَي ثُم إِلَي مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (لقمان:14 15)

وجاءت الأحاديث مؤكدة حق الوالدين على أبنائهم، وتحث على برهم وحسن رعايتهم، منها قوله صلى الله عليه وسلم:”بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم”. ومنه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه. قيل:من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والداه عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة”. وجعل الإسلام بر الوالدين سبيلاً إلى إنزال الرحمة وحلول البركة على الأبناء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه”. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين والإساءة إليهما، وعد ذلك من أكبر الكبائر. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس”.
ولا يقتصر البر بالوالدين على هذه الحياة الدنيا بل يمتد إلى ما بعد وفاتهما، إذ أوجب الإسلام على الأبناء، الدعاء للوالدين بعد موتهما بالرحمة والمغفرة، وقضاء ديونهما وإكرام من كانوا على صلة بهما في حياتهما من أقارب وأصدقاء ومواصلة ودّهم استمراراً لما كان عليه الأبوان. فقد روي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال:بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال:يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به من بعدهما؟ قال:”نعم:الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، واكرام صديقهما”. والمراد بالصلاة عليهما:الدعاء لهما.
فإذا لم يكن للمسن أبناء فإن مسؤولية رعايته تقع على عاتق أولي الأرحام أو الأسرة الممتدة كما يعبر علماء الاجتماع. فقد جعل الإسلام للقرابة الأولوية في الرعاية الاجتماعية، ورعاية المسنين بصفة خاصة، فدعا إلى التعاطف والتراحم والتقارب بين أولي الأرحام، استجابة لنوازع الفطرة في النفس الإنسانية. يقول تعالى:”وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِن اللّهَ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ” (الأنفال:75). ووردت العديد من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي تأمر بصلة الرحم، وجعلت الإحسان إلى الأقارب يلي الإحسان إلى الوالدين في الدرجة مباشرة. فقال تعالى:”وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِن اللّهَ لاَ يُحِب مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً” (النساء:36). ويقول تعالى:”وآتِ ذي القربى حقهُ والمسكينَ وابن السبيل، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام”. وحق الرحم أن تزوره وتستفسر عن أحواله، وتقدم له المساعدة المالية إن كان فقيراً، وعيادته إن كان مريضاً.
الجار والأخوة الإسلامية
وفي خارج إطار القرابة الرحمية هناك حقوق الجار على جاره، وحق الأخوة الإسلامية عموماً وهذه كلها توجب للمسلم حقوقاً، فالجار له حق الإحسان كما أشارت الآية السابقة، كما وردت الأحاديث التي تحث على الاهتمام بأمر الجار، ومن ذلك ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم:”ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، ومنها ما رواه البخاري رضي الله عنه:”ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”.
أما الأخوة الإسلامية فقد قرر الإسلام حقوقا توجبها، والتزامات متبادلة بين المسلمين:(إِنمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتقُوا اللهَ لَعَلكُمْ تُرْحَمُونَ” (الحجرات:10)، “إِن هَذِهِ أُمتُكُمْ أُمةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبكُمْ فَاعْبُدُونِ” (الأنبياء:92) ومن أبرز لوازم الأخوة التكافل بين أفراد المجتمع المسلم، والمودة والرحمة والتعاون والتعاطف، وشعور الجميع بمسؤولية بعضهم عن بعض، وأن كل واحد منهم حامل لتبعات أخيه، ومحمول على أخيه يسأل عن نفسه ويسأل عن غيره. “حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه”، وفي حديث آخر:”المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” (متفق عليه).
وهكذا فان المُسن أباً كان، أومن ذوي القربى، أو جاراً، أو فرداً من جماعة المسلمين، له حق الرعاية على أبنائه وأولي أرحامه، وجيرانه وجماعة المسلمين. وهؤلاء يؤدون هذا الواجب ويقومون به استجابة لدواعي الفطرة الإنسانية التي تلزم الابن بأن يعنى بأبيه، فالأدب الإسلامي أمر القريب بأن يهتم بأمر قريبه، والجار بأن يتولى شؤون جاره، وأن يهتم كل فرد من أفراد المجتمع ويسعى في مصلحة إخوانه المسلمين، ونزولاً على أمر الله الذي أمر ببر الوالدين، وصلة الرحم وأداء حقوق الجوار، والقيام بحقوق الأخوة الإسلامية، وألزم الدولة بالقيام بمسؤولياتها تجاه رعاياها.
وإن عجز هؤلاء جميعاً ولظروف قاهرة، عن القيام برعاية المسنين، واضطرت الدولة إلى إنشاء دور لهم، فينبغي أن يقوم على أمر تلك الدور من يخاف الله في إخوانه المسلمين، وأن يذكر أن جانبا مهما من عمله قربى إلى الله، وان يقوم أفراد المجتمع على اختلاف مستويات علاقتهم بالمسنين، بأداء حق الله فيهم من زيارتهم وتفقد أحوالهم، وإيناسهم، فلا يتركونهم نهباً للعزلة، والوحدة.

• هذه المقالة سبق ان نشرتها في صجيفة الخليج الاماراتية، بتاريخ :الجمعة" ,16/05/2008واعيد نشرها لمشاركة قراء سودانايل الاحتفاء باليوم العالمي للمسنين او كبار السن، ،الذي اقرته الامم المتحدة ،في العام 1991م للاحتفاء به في 1/ اكنوبر من كل عام.

 

ahmedm.algali@gmail.com
/////////////////////

 

آراء