زاوية أخرى: حول الصراعات والنزاعات في السودان
البراق النذير الوراق
20 July, 2022
20 July, 2022
على الرغم المنطق المسنود بالشواهد قديمها وحديثها لاتهام السلطة الانقلابية بتأجيج الصراعات في بلادنا، إلا أن النظر بهذه الزاوية فقط لمشكلة مستعصية ومستشرية شيئاً فشيئاً يساهم في تسطيح فهمها وبالتالي تسطيح الحلول المطروحة لها، فالسلطة الانقلابية فيما يتعلق بتأجيج النزاعات القبلية والمناطقية من أجل تسويق بقائها كحامي وحافظ للأمن، لم تفعل شيئاً سوى استخدامها لعصا مخبئة بين ثيابنا وفي عقر بيوتنا لتضربنا بها جميعاً.
ما حدث ويحدث في النيل الأزرق وكسلا وفي بعض مناطق البلاد الأخرى، عاد كفرصة غير سعيدة لكنها مهمة، للتذكير بأنه مرتبط بتنامي شوفينية عظيمة العجيزة متوهطة على حجر السودانيين منذ أزمان بعيدة، فجاء تفاقم الاعتزاز بالقبيلة والعرق والانتماء الجهوي على حساب الشعور بالوطنية ووحدة المصير والتراب، وضمرت أهمية الاعتراف بحق الآخر في الوجود والدفاع عن هذا الحق أيضاً، وليس مجرد قبول هذا الآخر الذي "يُعتبر مختلفاً"!
والشوفينية- بغير ما يفهمها ويستخدمها البعض- تعني التعصب والتحيُّز غير المبرر أو الإفراط اللامنطقي في التمسك بمجموعة أو قبيلة محددة مع توهم الفرادة والتميُّز بناء على هذا الانتماء، ومع شعور بالمنافسة لحد الكراهية تجاه أي مجموعة أو قبيلة أخرى.
لقد وصلنا بشكل مريع لمرحلة نشوء وارتقاء دعاوى الانفصال والانزواء لأسباب عنصرية محضة، وهذا لم يحدث قط طوال تاريخ السودان، فحتى حرب السودان في جنوبه( كما سماها قرنق) والتي انتهت بالانفصال لدولتين، تحولت وتشعبت أسبابها طوال مراحل ما قبل استقلال جنوب السودان، حيث كانت حرباً اندلعت لأسباب معقدة قبل خروج الاستعمار ومن بينها اتهامات للاستعمار نفسه بتأجيجها، ولم تنجل هذه الأسباب بشكل كامل عبر كتب التاريخ والموثقين حتى اليوم؛ وتحولت لحرب أسبابها سياسية وإدارية في عهد النميري، ثم جيَّرتها الإنقاذ لجهة الباعث الديني، ولكن يظل العامل الرئيسي الذي يمكن الاتفاق عليه بشكل واضح أنها كانت حرباً للمطالبة بتوزيع عادل للسلطة والثروة، ففلسفة قادتها النهائيين بقيادة د. جون قرنق لم تنشغل كقيادة ذكية، بمحاولات تأجيج الدعاوي الدينية والثقافية والنعرات العنصرية، بل ألجمتها بخطاب فذ وبقدرة فائقة، الأمر الذي فشلت فيه قيادة الحركات المسلحة التي حضرت للخرطوم اليوم وحتى قيادات الجيش وعدد من القيادات السياسية.
إن غياب التنمية المتوازنة كعامل أساسي، عزَّز من هذا الشعور لدى بعض المجموعات السكانية في السودان، وبدلاً عن أن يكون انتشار وتوزع الموارد المتنوعة في بلد مثل السودان مصدر ثراء وكفاية متبادلة، صار المكان والنطاق الجغرافي لوجود القبيلة أو المجموعة، هو ذاته مورداً يجدر التمسك به من قبل هذه المجموعة أو تلك، فلو كانت هناك تنمية متوازنة وكانت هناك عدالة في الوصول للكفاية والحصول على وسائل وسبل العيش الكريم من غذاء وأمن ورعاية صحية وتعليم ومواصلات وفرص عمل وكسب معقول، لما احتاجت أي مجموعة للتمترس في مكان بوصفه حقاً حصرياً لا يجب مشاركته مع الآخرين!
السودان بلد يعتمد على الزراعة والرعي كقطاعين أساسيين في الاقتصاد ومؤخراً ظهر مورد الذهب؛ إن هذه القطاعات مرتبطة بالأرض في المقام الأول، وهذا يجعل من الصعوبة بمكان الحديث عن توزيع عادل دون تطوير هذه الموارد وتجديدها وتنويعها مع تطوير قطاعات أخرى مثل الخدمات والصناعات التحويلية وغيرهما. وفي هذه السانحة وعطفاً على دور انقلاب البرهان فيما حدث ويحدث من انفراط أمني واجتماعي، ليس في جانبه السياسي فقط بل في جزئية متعلقة بالتنمية، كانت هناك مسودة مشروع تنموي ترتكز على ربط الإنتاج ومناطقه بالمواصلات، وكانت الفكرة التي قدمها مجموعة من المهتمين والمختصين تقوم على أن يتطور قطاع المواصلات في مناطق الإنتاج، ثم تُربط جميع هذه المناطق بشبكة متصلة بالموانئ البحرية والنهرية والموانئ الجافة والمدن الكبرى. هذا المشروع كان في طوره النهائي بعد تكوين لجنة وزارية تضم خبراء في مجالات مختلفة قدمت تقريراً مفصلاً عقب اجتماعات مكثفة، عن مراحل تنفيذه والتمويل المطلوب له وكيفية توفيره (شملت الفكرة إشراك أصحاب المركبات العامة كمساهمين) بما في ذلك تمويل خطوط المواصلات ووسائل النقل والطرق المطلوبة في كل مرحلة من المراحل، وقد سُلمت نسخة من التقرير لرئيس الوزراء ووزير شؤون مجلس الوزراء ووزير النقل، وكان ذلك في شهر أكتوبر 2021، ولكن أتى الانقلاب في الخامس والعشرين منه فتعطل هذا المشروع.
في عدد من دول العالم المتقدمة يتم توزيع المهاجرين في مناطق ومدن مختلفة بشكل مقصود، وذلك فيه مجموعة من الفوائد؛ إحدى هذه الفوائد تيسير اندماج المهاجر في المجتمعات الجديدة ومنعه من تكوين مجموعة محددة في مكان محدد فتنعزل المجموعة وتتقوقع على ذاتها ما يزيد المخاطر على جميع الصُعد، وفائدة ثانية هي للسكان القديمين في هذه البلدان بحيث يثري ويطور وجود مهاجرين من مشارب متعددة من علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية، بحيث يسمح ضمن ما يسمح به، بعد مدة محددة وبشروط وقوانين معينة، بمشاركة المهاجرين وأبنائهم في النشاط السياسي وصولاً لمنصب رئيس الدولة ذاته، دون النظر لأصوله والبلد الذي جاء منه أو ولد ونشأ فيه.
إن إسقاط الانقلاب والتحول الديمقراطي ضروري ليس فقط من أجل الصراع الفوقي الذي يتمظهر في موضوع السلطة السياسية ومن يسيطر عليها، ولكنه ضروري أيضاً لأجل الالتفات والتخطيط الواعي لحل مشكلات عصية وضاربة في عصب البلاد وتكوينها بشكل علمي ومنهجي، من أجل النهوض وصولاً للدولة التي نحلم بها.
#تجربة الحرية والتغيير
baragnz@yahoo.com
ما حدث ويحدث في النيل الأزرق وكسلا وفي بعض مناطق البلاد الأخرى، عاد كفرصة غير سعيدة لكنها مهمة، للتذكير بأنه مرتبط بتنامي شوفينية عظيمة العجيزة متوهطة على حجر السودانيين منذ أزمان بعيدة، فجاء تفاقم الاعتزاز بالقبيلة والعرق والانتماء الجهوي على حساب الشعور بالوطنية ووحدة المصير والتراب، وضمرت أهمية الاعتراف بحق الآخر في الوجود والدفاع عن هذا الحق أيضاً، وليس مجرد قبول هذا الآخر الذي "يُعتبر مختلفاً"!
والشوفينية- بغير ما يفهمها ويستخدمها البعض- تعني التعصب والتحيُّز غير المبرر أو الإفراط اللامنطقي في التمسك بمجموعة أو قبيلة محددة مع توهم الفرادة والتميُّز بناء على هذا الانتماء، ومع شعور بالمنافسة لحد الكراهية تجاه أي مجموعة أو قبيلة أخرى.
لقد وصلنا بشكل مريع لمرحلة نشوء وارتقاء دعاوى الانفصال والانزواء لأسباب عنصرية محضة، وهذا لم يحدث قط طوال تاريخ السودان، فحتى حرب السودان في جنوبه( كما سماها قرنق) والتي انتهت بالانفصال لدولتين، تحولت وتشعبت أسبابها طوال مراحل ما قبل استقلال جنوب السودان، حيث كانت حرباً اندلعت لأسباب معقدة قبل خروج الاستعمار ومن بينها اتهامات للاستعمار نفسه بتأجيجها، ولم تنجل هذه الأسباب بشكل كامل عبر كتب التاريخ والموثقين حتى اليوم؛ وتحولت لحرب أسبابها سياسية وإدارية في عهد النميري، ثم جيَّرتها الإنقاذ لجهة الباعث الديني، ولكن يظل العامل الرئيسي الذي يمكن الاتفاق عليه بشكل واضح أنها كانت حرباً للمطالبة بتوزيع عادل للسلطة والثروة، ففلسفة قادتها النهائيين بقيادة د. جون قرنق لم تنشغل كقيادة ذكية، بمحاولات تأجيج الدعاوي الدينية والثقافية والنعرات العنصرية، بل ألجمتها بخطاب فذ وبقدرة فائقة، الأمر الذي فشلت فيه قيادة الحركات المسلحة التي حضرت للخرطوم اليوم وحتى قيادات الجيش وعدد من القيادات السياسية.
إن غياب التنمية المتوازنة كعامل أساسي، عزَّز من هذا الشعور لدى بعض المجموعات السكانية في السودان، وبدلاً عن أن يكون انتشار وتوزع الموارد المتنوعة في بلد مثل السودان مصدر ثراء وكفاية متبادلة، صار المكان والنطاق الجغرافي لوجود القبيلة أو المجموعة، هو ذاته مورداً يجدر التمسك به من قبل هذه المجموعة أو تلك، فلو كانت هناك تنمية متوازنة وكانت هناك عدالة في الوصول للكفاية والحصول على وسائل وسبل العيش الكريم من غذاء وأمن ورعاية صحية وتعليم ومواصلات وفرص عمل وكسب معقول، لما احتاجت أي مجموعة للتمترس في مكان بوصفه حقاً حصرياً لا يجب مشاركته مع الآخرين!
السودان بلد يعتمد على الزراعة والرعي كقطاعين أساسيين في الاقتصاد ومؤخراً ظهر مورد الذهب؛ إن هذه القطاعات مرتبطة بالأرض في المقام الأول، وهذا يجعل من الصعوبة بمكان الحديث عن توزيع عادل دون تطوير هذه الموارد وتجديدها وتنويعها مع تطوير قطاعات أخرى مثل الخدمات والصناعات التحويلية وغيرهما. وفي هذه السانحة وعطفاً على دور انقلاب البرهان فيما حدث ويحدث من انفراط أمني واجتماعي، ليس في جانبه السياسي فقط بل في جزئية متعلقة بالتنمية، كانت هناك مسودة مشروع تنموي ترتكز على ربط الإنتاج ومناطقه بالمواصلات، وكانت الفكرة التي قدمها مجموعة من المهتمين والمختصين تقوم على أن يتطور قطاع المواصلات في مناطق الإنتاج، ثم تُربط جميع هذه المناطق بشبكة متصلة بالموانئ البحرية والنهرية والموانئ الجافة والمدن الكبرى. هذا المشروع كان في طوره النهائي بعد تكوين لجنة وزارية تضم خبراء في مجالات مختلفة قدمت تقريراً مفصلاً عقب اجتماعات مكثفة، عن مراحل تنفيذه والتمويل المطلوب له وكيفية توفيره (شملت الفكرة إشراك أصحاب المركبات العامة كمساهمين) بما في ذلك تمويل خطوط المواصلات ووسائل النقل والطرق المطلوبة في كل مرحلة من المراحل، وقد سُلمت نسخة من التقرير لرئيس الوزراء ووزير شؤون مجلس الوزراء ووزير النقل، وكان ذلك في شهر أكتوبر 2021، ولكن أتى الانقلاب في الخامس والعشرين منه فتعطل هذا المشروع.
في عدد من دول العالم المتقدمة يتم توزيع المهاجرين في مناطق ومدن مختلفة بشكل مقصود، وذلك فيه مجموعة من الفوائد؛ إحدى هذه الفوائد تيسير اندماج المهاجر في المجتمعات الجديدة ومنعه من تكوين مجموعة محددة في مكان محدد فتنعزل المجموعة وتتقوقع على ذاتها ما يزيد المخاطر على جميع الصُعد، وفائدة ثانية هي للسكان القديمين في هذه البلدان بحيث يثري ويطور وجود مهاجرين من مشارب متعددة من علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية، بحيث يسمح ضمن ما يسمح به، بعد مدة محددة وبشروط وقوانين معينة، بمشاركة المهاجرين وأبنائهم في النشاط السياسي وصولاً لمنصب رئيس الدولة ذاته، دون النظر لأصوله والبلد الذي جاء منه أو ولد ونشأ فيه.
إن إسقاط الانقلاب والتحول الديمقراطي ضروري ليس فقط من أجل الصراع الفوقي الذي يتمظهر في موضوع السلطة السياسية ومن يسيطر عليها، ولكنه ضروري أيضاً لأجل الالتفات والتخطيط الواعي لحل مشكلات عصية وضاربة في عصب البلاد وتكوينها بشكل علمي ومنهجي، من أجل النهوض وصولاً للدولة التي نحلم بها.
#تجربة الحرية والتغيير
baragnz@yahoo.com