زمان التحولات (2/5): وداعا للسلاح؟
asidahmed@hotmail.com
أول الخطوات المطلوبة لتهيئة الساحة للتغيير أنهاء دورة العنف الحالية التي تعود بداية الى الى سوء الأدارة في تنفيذ أتفاق نيفاشا. ففي الحادي والثلاثين من ديسمبر 2010 قدم بان كي مون السكرتير العام للأمم المتحدة وقتها تقريرا الى مجلس الامن تحدث فيه عن تنفيذ اتفاقية السلام ومن بينها اعادة نشر القوات في اطار الترتيبات الامنية المتعلقة باتفاقية السلام الشامل، وأوضح ان الجيش السوداني انسحب بالكامل من الجنوب بينما كانت نسبة انسحاب جيش الحركة الشعبية 37.7 في المائة من أجمالي القوات البالغ عددها 60.852 وهذا ما يثير أسئلة من نوع لماذا حدث ذلك ولماذا لم تتحرك الحكومة لتصحيح الوضع في الوقت المناسب والحق الى جانبها وأهم من ذلك لماذا لم تلجأ لآستخدام كروت يمكن أن تضغط بها وعلى رأسها موضوع الاستفتاء على حق تقرير المصير.
فهذا التراخي والاهمال أدى الى وضع الاساس للتمرد الجديد الذي أنطلق من ولايتي جنوب كردفان بداية لتلحقها النيل الازرق وعبر الفرقتين التاسعة والعاشرة الذين كان يفترض أن ينسحبا مع الجيش الشعبي الى الجنوب، الامر الذي لم يحدث ليجد السودان نفسه في وجود قوة مسلحة تتبع لجيش أجنبي وكان السعي لتجريد سلاحها بالقوة وهو ما أدى الى أشتعال دورة العنف.
تفجر تلك الاحداث جعل قيادة الحركة الشعبية-شمال في حالة ملاحقة لما يجري أكثر من التحرك وفق رؤية ممنهجة لعملها. ويظهر ذلك في انه وخلال أسابيع قليلة من تلك الحادثة وبعد ايام من الانفصال الرسمي لجنوب السودان عقدت قيادة الحركة أجتماعا في 20-21/7/2011 خرج بسبعة قرارات من بينها تشكيل لجنة لصياغة الموقف النهائي للحركة بشأن التعامل مع نظام الانقاذ على أن تستكمل اللجنة عملها في غضون شهر، لكن قبل أسبوع من انتهاء الفترة المقررة تم اعلان قيام الجبهة الثورية بالتحالف مع حركات دارفور بهدف معلن هو اسقاط النظام عبر كل الوسائل المتاحة وقبل أن تقدم اللجنة أي تقرير عن رؤيتها لكيفية التعامل مع النظام.
وبعد ست سنوات وفي يناير الماضي القى السيد ياسر عرمان الامين العام للحركة الشعبية محاضرة في أوسلو تحت عنوان: "حقائق في المشهد السياسي السوداني" تطرق فيها الى ثمانية موضوعات تراوحت بين قضايا السلام والديمقراطية وان نظام الانقاذ وصل الى نهايته مع تفاصيل عن تصاعد المقاومة وحتى مواقف الجيش والقوات النظامية الاخرى وكذلك التعامل مع المجتمع الاقليمي والدولي وختم بالتطرق الى ما أطلق عليه: تجديد الحركة الشعبية وفيه أعلن عن ان الحركة سوف تستمر في تمسكها بطرحها لرؤية السودان الجديد والعمل على بناء سودان ديمقراطي علماني وانها تتفهم الحاجة الى تجديد وتطوير نفسها أخذة في الاعتبار انفصال الجنوب كما ستتناول قضايا التنظيم والديمقراطية الداخلية والتفحص النقدي لاخفاقات ونجاحات حركات التحرر الوطني.
وان جاز للمرء أن يقترح موضوعا على الحركة ليضم الى قائمة القضايا التي ستخضعها الى المراجعة والتقييم فهو موضوع العمل المسلح وجدواه في تحقيق الاهداف السياسية المرجوة وهل تستحق دفع الكلفة العالية خاصة. فالدمار الذي يسببه اللجوء الى العنف يحتاج الى عقد من السنين لتعود الامور الى ما كانت عليه قبل انطلاق العمل العسكري كما جاء في دراسات نشرها البنك الدولي مطلع هذه الالفية وحررها بول كوليير وايان بانون.
وتتزايد حدة الاسئلة عندما يكون البديل المطروح نظاما ديمقراطيا، لأن العمل العسكري واللجوء الى العنف نقيض لثقافة الرأي الآخر وحرية التنظيم وفوق ذلك حق المسائلة والشفافية وكلها أساسيات تتضح صعوبتها عند الحديث عن تحول القوى المقاتلة من حركة عسكرية الى حزب سياسي وفي دول الجوار وتحديدا تجربة الجيش الشعبي في جنوب السودان شواهد شاخصة.
ومن التطورات اللافتة للأنظار اختفاء صيغة "الانتفاضة المحمية" التي رانت على المشهد السياسي لفترة طويلة، والاحتفاء الكبير من قبل الحركات الحاملة للسلاح وعلى رأسها الحركة الشعبية بتحركات العصيان المدني الاخيرة وتقديم الاقتراحات لتطويرها. فالتأثير الذي أحدثته تلك التحركات وفي وقت قصير تجاوز ما حققه رفع السلاح مع غياب الكلفة العالية التي تصحب العمل العسكري. وهذا مؤشر على نضج في الموقف السياسي من قبل هذه الحركات لأنه لا يمكن الجمع بين العمل السلمي والعسكري في نفس الوقت، واذا كانت للحركات المسلحة القدرة على حماية المظاهرات والحراك السلمي فأن عليها من باب أولى منازلة القوات الحكومية وانتزاع السلطة منها. ثم ان التجربة السودانية وتلك التي شهدتها دول الجوار توضح بجلاء ان التحركات السلمية عندما تنتشر وتصل الى مرحلة معينة فأنها تفرض على القوات النظامية الانحياز الى جانب الانتفاضة السلمية، وهو الامر المستبعد حدوثه حال ظهور الحركات المسلحة في الساحة لحماية الانتفاضة.
على ان التطور الاهم يتمثل في انه ولفترة عامين تقريبا فأن هناك اعلانات متبادلة بين الحكومة والحركات المسلحة بأعلان وقف لأطلاق النار من طرف واحد رغم ان تلك الاعلانات لم تتبلور في شكل اليات محددة للمراقبة وأنطلاق عمليات الاغاثة.
ويلاحظ أيضا ما أورده تقرير للأمم المتحدة في السادس عشر من الشهر الماضي ان كلا من حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان-جناح مني لم يعد لهما وجود عسكري يذكر في دارفور وان الاولى قامت بتجميع مقاتليها في جنوب السودان والثانية في ليبيا وذلك وفق ما افادت به وكالة الانباء الفرنسية .
وهذا الموقف يتطلب المضي الى أخر الشوط واعلان التخلي عن رفع السلاح من جانب واحد، وهي خطوة تعزز من الوضعية الاخلاقية للحركات المسلحة وتعطي دفعة قوية للعمل السلمي، كما انها تنطلق من حقيقة ان رفع السلاح عمل طوعي في الاساس وانه وسيلة وليس غاية في حد ذاته. على انه من الصعب توقع قيام الحركات المسلحة بهذه الخطوة، الامر الذي يفرض على الحكومة تهيئة المناخ والسماح بهامش أكبر من الحريات لمواجهة حجة اللجوء الى السلاح لغياب الحرية، وأيضا من باب تعزيز فرص رفع العقوبات الامريكية. هذا بالاضافة الى ترتيبات للعفو والتسريح وأعادة التأهيل التي يمكن أن يسهم فيها الوسطاء.
و لا يعني بالطبع تحول الميزان العسكري ميدانيا لصالح الحكومة ان القضايا التي أدت الى حمل السلاح قد حلت، وهو ما يتطلب اعمال النظر في الخيار السلمي لمواجهة قضايا البناء الوطني في مختلف تجلياتها من جانبي الحكم ومعارضيه. فقبل أكثر من قرن من الزمان تحدث المفكر عبدالرحمن الكواكبي (1855-1902) في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد" ان الاستبداد لا يقاوم بالشدة وأنما باللين والتدرج، وانه قبل مقاومة الاستبداد يجب تهيئة ما يستبدل به. ولعل في تجربة الامريكان من أصول أفريقية في اللجوء الى العمل السياسي المدني السلمي والصبر عليه عقودا وعقودا من الزمان بداية من حادثة روزا بارك التي رفضت التخلي عن مقعدها في البص لراكب أبيض في العام 1955 لتتطور الحركة شيئا فشيئا وتحقق أكبر انتصاراتها في الستينات أبان ادارة ليندون جونسون التي كانت تخوض حرب فيتنام ومن بينها الحصول على حق التصويت والبناء عليها لتشكيل قاعدة سياسية قدمت الكثير من القيادات وبعضها بذل حياته كما تمكنت من تطويع الحركات الداعية للعنف مثل حركات الفهود السود والقوة السوداء التي كانت ترى أهمية الجوء الى القوة لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها البيض. على ان هذه الحركة نجحت في النهاية مع تطورات أخرى في ايصال باراك أوباما الى البيت الابيض عام 2009 ليصبح بذلك أول رئيس للولايات المتحدة من أصول أفريقية، وبعد 139 عاما من تبني التعديل الخامس عشر للدستور في 1870 الذي أكد على حق الانتخاب والترشيح بغض النظر عن اللون والعرق.
(غدا: لا للمقاطعة، نعم للمشاركة)