تناولت هذه السلسلة خلال الحلقات الاربع الماضية التحولات الاقليمية والدولية وانعكاساتها على السودان وعلى رأسها بروز أهمية البلاد الجيوسياسية سياسيا وأمنيا واقتصاديا كما أصبح واضحا في مكافحة الارهاب وتجارة البشر. وتلقت هذه النقلة دفعة اضافية بالتحول الذي أحدثه السودان في علاقاته الاقليمية والاصطفاف مع المجموعة الخليجية في مواجهة أيران، وهي الخطوة التي أدت من ناحية ثانية الى بدء تدفق الاموال الخليجية للأستثمار في موارد البلاد الطبيعية تدعيما للأمن الغذائي، الامر الذي ينقل علاقة السودان مع الدول الخليجية الى مرتبة نوعية جديدة ذات بعد استراتيجي أمنيا واقتصاديا. هذا التطور سيلقي بتأثيراته على المشهد السياسي الداخلي المأزوم فهل يمكن أن يسهم في توسيع هامش الحركة السياسية أمام القوى المعارضة بما يسهم في تحقيق استقرار أفضل أم ترى الحكومة فيما جرى تأكيد على صواب نظرتها وتصرفاتها ودفعها بالتالي الى الاستمرار في سيطرتها المحكمة على مفاصل السلطة. نظريا ودستوريا يفترض أن تكون هذه هي الدورة النهائية للرئيس عمر البشير، الامر الذي ينبغي أن يدفع الحزب الوطني أن يهيء نفسه لأختيار مرشح جديد لأنتخابات 2020، على ان واقع الحال قد يأتي بقراءة مختلفة. وعلى رأس هذه ان البشير ومنذ انفصال الجنوب قبل خمس سنوات عزز من سلطته رئيسا حتى على حساب الحزب الوطني ومن خلفه الحركة الاسلامية التي جاءت بالانقاذ الى السلطة أبتداءا قبل اكثر من 27 عاما، وكذلك فأن الاختراقات التي تمت في علاقات البلاد الخارجية خاصة في المستوى الخليجي تعود الى مبادرته الشخصية أكثر منها نتاج عمل مؤسسي وبالتالي فهذه الدول سترى في وجوده ضمانا لآستمرار هذا الخط. بل وحتى الدفء الذي بدأ يسري في علاقات السودان مع الدول الغربية وأخرها تخفيف العقوبات الامريكية على السودان يمكن استخدامه ضد الرأي السابق القائل ان الوسيلة الرئيسية لاستعادة السودان علاقاته الخارجية تتمثل في تنحي البشير عن الرئاسة بسبب تداعيات قضية المحكمة الجنائية. طبعا سيظل الثامن من يوليو المقبل تاريخا مهما اذ سيتم فيه أما الغاء العقوبات الامريكية على السودان نهائيا أو أعادة تثبيتها. وفي اليوم التالي لأداء ترمب القسم رئيسا، وضع على الصفحة الرسمية للبيت الابيض اعلانات عن خطوط عريضة لسياساته في مختلف المجالات ومن بينها السياسة الخارجية التي قال انها ستركز على المصلحة الامريكية وحماية أمنها القومي، وانها تضع مواجهة تنظيم داعش في قائمة أولوياتها وانها ستتعامل مع المجتمع الدولي لوقف تمويلها والتصدي الى ألتها الاعلامية والمشاركة في المعلومات الاستخبارية عنها، ومضيفا ان أدارته لن تبحث عن أعداء جدد وأنما يسعدها أن يتحول الاعداء السابقين الى اصدقاء والاصدقاء الى حلفاء. واذا أضيف الى ذلك ان وزير الخارجية الجديد ركس تيلرسون بخلفيته النفطية من الذين لا يؤمنون بديبلوماسية المقاطعة، وان القضايا الخمس التي وضعتها ادارة أوباما لقياس مدى التقدم في علاقاتها بالسودان وهي التعاون في مواجهة داعش وقطع الصلة بجيش الرب، النأي عن التدخل في جنوب السودان، وتسهيل مرور الاغاثة وعدم القيام بعمليات عسكرية ضد المتمردين يبدو من السهل الالتزام بها. فالحكومة وعبر قرار من مجلس الوزراء أعلنت عن تمديد لوقف اطلاق النار لفترة ستة أشهر وموقف الحكومة من تقديم الاغاثة حصل على تقريظ من المجتمع الدولي مقابل الانتقاد الذي لقيه موقف الحركة الشعبية، وعليه فاحتمالات المضي قدما في الغاء العقوبات تبدو أكثر ترجيحا خاصة وللحكومة ما يدفعها لبذل الجهد للمحافظة على هذه النافذة التي فتحت والسعي الى توسيعها لتصبح بابا. هذا التطور في جانبيه الاقليمي والدولي وببعديه الامني والاقتصادي جعل الحكومة في موقف أفضل بأنتقالها من حالة الدفاع التي ظلت فيها طوال العقدين الماضيين الى ابرام تحالفات تقوم على المصلحة المباشرة، وهو ديدن العلاقات الدولية، كما انه المجال الذي لا تستطيع المعارضة أن تنافس فيه. ولعل هذه واحدة من الاوقات التي يفترض أن يم فيها تحويل المشكلة الى فرصة. والمشكلة تتمثل في تعويل المعارضة الكبير على العامل الخارجي في مواجهة الانقاذ. والفرصة تتمثل في العودة الى الداخل والارتباط بالقواعد وفق مفهوم جديد يعطي المجتمع دورا أكبر. وفي تجربة قرية "ألتي" في ولاية الجزيرة التي أوردها الاستاذ أحمد المصطفى أبراهيم ما يستحق التوقف. فقد قرر اهل القرية تفعيل نشاط اللجنة الشعبية عندهم وذلك عبر تقسيم سكان القرية حسب المجالات التي يعملون فيها وأتضح بعد الحصر وجود عشر مهن من أطباء ومعلمين وحرفيين وغيرهم. وقامت كل فئة بأختيار ثلاثة ممثلين ليمثلوا الفئة المعينة في المجلس الاعلى للجنة الشعبية كما تم تعيين واحد من كل مجموعة ليكونوا أعضاء في اللجنة التنفيذية المكونة من عشر أشخاص. أول مهمة قامت بها اللجنة أجراء أحصاء سكاني شامل أبرز ملامحه انه مقابل كل ثمانية مواليد جدد هناك وفاة واحدة. أهمية هذا التحرك انه بدأ من أسفل وبمبادرة ذاتية، الامر الذي يشير الى الامكانيات العالية الموجودة لدى القواعد وتحتاج الى أستغلال أفضل من القوى السياسية. بل هناك بعض المنافذ والسياسات التي يمكن تطويرها والمضي بها خطوات الى الامام مثل التوافق الذي بشر به والي شمال كردفان أحمد هارون بأستبعاد البعد السياسي من تشكيل اللجان الشعبية وتكوينها وفق أسس للتمثل النسبي يشمل النساء والشباب وأصحاب الخبرات وغير ذلك، لكن الاشكال في هذه الخطوات ان تأثيرها يصبح محدودا وكان يمكن أن تحدث فارقا كبيرا اذا تم أعتمادها سياسة عامة تنفذها الحكومة وتتعامل معها الاحزاب المعارضة بجدية وأيجابية أكبر اذ يمكن لجهد مثل هذا أن ينقل العمل السياسي الى مرحلة جديدة. فعملية مثل اجراء أحصاء سكاني للقرى أو المدن لا يحتاج الى تغيير في بنية النظام وهي خطوة أولية وأساسية يمكن البناء عليها لأنها تفتح أفاقا لعمل مجتمعي أكبر. تأسيس مثل هذا الوجود القاعدي كفيل بأستيلاد قيادات مجتمعية جديدة تتراكم خبراتها عبر العمل الايجابي في جانب البناء بدلا من المعارضة النظرية وأهم من ذلك انه يمكنها التواصل مع قواعدها بصورة أفضل وحشدها في عمل سياسي أكبر مثل مراقبة الانتخابات للحد من التزوير مثلا. فهنالك من الأليات التي يمكن اللجوء اليها لضمان نظافة العملية الانتخابية كالنص على حضور مندوبي الاحزاب المشاركة في الانتخابات في المركز وفتح الصناديق أمام هؤلاء المندوبين وحصر الاصوات والتوقيع على النتيجة من قبل كل الحضور قبل ارسالها الى المركز، وهو ما أثبتته تجربة فوز 19 نائبا مستقلا في الانتخابات الاخيرة. على ان خطوة مثل هذه تحتاج الى عمل سياسي لتثبيتها قانونيا وأهم من ذلك وجود الكوادر اللازمة للحضور والمشاركة في كل مراحل العملية الانتخابية، وهي قضية تتعلق بقدرة المعارضة على التوصل مع مناصريها أكثر من قدرة الحكومة على التزوير. حالة الانهاك التي تعيشها كل القوى السياسية بلغت مداها بوصول مرحلة ثورة أكتوبر بشخصياتها وأفكارها وممارساتها الى خط النهاية، ولعل هذا يوفر فرصة تفرض على كل من البشير والصادق المهدي المضي قدما وتنفيذ أعلانهما الخاص بالتخلي عن مواقعهما الحالية وفتح الطريق أمام قيادات جديدة، وعلى الحركات المسلحة وضع السلاح جانبا والانخراط في عمل سلمي مدني، وهي خطوات ستسهم في تمكين المجتمع من القيام بدور أكثر نشاطا وفاعلية بما يؤسس لعملية تغيير مستدام يبنى بالتدرج ويحوطه سياج من القبول العام يمكن أن يمثل أساسا للشرعية التي كان غيابها منبعا لعدم الاستقرار الذي شاب تجربة البلاد السياسية.