زمن ” البليلة ” !

 


 

عدنان زاهر
8 October, 2024

 

1

في زمن الصبا كانت في حينا امرأة مسنة تبيع لصبية الحى قصب السكر، " العنكوليب " و النبق ابان مواسم نضوجه و نزوله السوق، المرأة المسنه كان لها ما يميزها من نساء الحى الأخريات، فقد كانت حكيمة ذات بلاغة و منطق ،حتى صارت أقوالها تضرب أمثالا في الحى.
كانت تقول بدهشة و تندر عند ارتفاع السلع التي تقوم بشرائها من السوق ( انشاء الله ما يحضرنا زمن البليلة ) و هي تقصد ان لا تجبرها الظروف لأكل البليلة لانعدام الطعام و ندرته. الجدة لم تكن تتخيل أن صفوف البليلة صارت ترفا، و قد تطاولت و أصبحت شبيهة بصفوف البنزين أيام السفاح البشير بعد أن أكل الناس ابان الحرب الدائرة اليوم في زمن البرهان و حمديتى حتى " الكدايس " الأليفة !
مر بذهنى دعاء الجدة الذى تفوهت به قبل خمسين عاما و انا أشاهد في امدرمان صفوف المواطنين كل يحمل اناء في يده، و يقف في صف ممتد في انتظار أن يحصل على " كمشة " من البليلة من التكايا التي قام بأنشائها بعض المحسنين و فاعلي الخير، عندما عجزت دولة البرهان في توفير لقمة العيش للمواطنين الجوعى جراء الحرب الدموية التي يقوم بها طرفاء الحرب.
2
عبر التاريخ القريب في السودان وقعت أحداث مجاعة قتلت كثير من السودانيين و تناول بعضها الحكي الشعبي، أشهر تلك المجاعات هي المجاعة المشهورة في التاريخ باسم مجاعة ( سنة سته )، المجاعة حدثت في العام 1306ه و ذلك سبب أسم التسمية و يوافق العام 1888 م. و هنالك مجاعة أخرى حدثت في القرن الماضي في العام 1982- 1984 ابان حكم الديكتاتور نميري في دارفور، و قتلت آلاف المواطنين و أدت الى نزوح آلاف الآخرين الى العاصمة المثلثة.
مجاعة سنة سته- 1888م
هنالك عدة أسباب أدت الى مجاعة سنة سته منها المناخي ، السياسي و الإداري
المناخي
1- فيضان النيل كان ضعيفا ذلك العام.
2- قلة الأمطار التي لم تهطل ذلك العام مثل بقية الأعوام السابقة
3 – أسراب الجراد التي غزت الحقول وقضت على المحاصيل ( نعوم شقير- جغرافية و تاريخ السودان )
أسباب سياسية و أدارية
4- وجود ثلاث جيوش غير منتجة في دنقلا ، القلابات و دارفور بدعوى الجهاد و حفظ الأمن، تلك الحشود كانت على حساب الإنتاج الزراعي في الأرياف. ( ب م هولت دولة المهدية في السودان عهد الخليفة عبدالله 1885- 1898 )
5 – تهجير التعايشه أهل الخليفة عبداللة الى أمدرمان، و توفير الطعام لهم خصما على باقي المواطنين إضافة الى محاباة الخليفة لأهله بإعطاء الأولوية لهم في شراء الحبوب ( هولت ).
تلك الأسباب مجتمعة أدت الى مجاعة ضربت كل مدن السودان بدأت في بربر لتشمل بعد ذلك باقي المدن.... دنقلا، القضارف ،القلابات الخ و أدت الى هجرة و نزوح كبير الى العاصمة ادرمان هربا من المجاعة، ليواجه الفارين من المجاعة نفس المصير الذى هربوا منه و هو الموت جوعا في العاصمة.
أكل المواطنون الحمير، الجلود و حتى جثث الحيوانات النافقة، و آخرين عندما عجزوا عن توفير الطعام قاموا بتوثيق أطفالهم و ماتوا معهم جوعا داخل منازلهم تفاديا للسؤال و مد الأيدي (راجع كتاب سلاطين باشا – السف و النار ....أيضا نعوم شقير – جغرافية و تاريخ السودان ) .
مجاعة سنة 1982 - 1984
تعتبر واحدة من أسوأ المجاعات التي مر بها السودان حتى أضطر المواطنين في دارفور لنبش بيوت النمل بحثا عن الحبوب. أسباب المجاعة متعددة منها الطبيعي المتعلق بالتغيرات المناخية و منها المتعلقة بفساد السياسات و الحروب ، و يمكن حصر الأسباب في الآتي :
1- الجفاف الذى ضرب القرن الأفريقي و تأثرت به كثير من الدول في المنطقة.
2- إزاحة الغطاء النباتي عن مساحات كبيرة من الأراضي.
3- قلة الأمطار الذى أدى الى زوال و موت كثير من النباتات
4 – الحرب الأهلية في جنوب السودان و سياسات الدولة الخاطئة و الفساد الذى ضرب جهاز الدولة ، متمثلا في بنك فيصل الاسلامى الذى قام بشراء و تخزين الذرة ثم بيعها بأسعار عالية و كذلك شراء و تخزين الفحم ( الوقود ) مما فاقم من المجاعة.
كل ذلك أدى الى نزاعات مسلحة في دارفور و من ثم موت الألاف و الهجرة داخليا و خارجيا. أتذكر في تلك الأيام بلغ سعر الخروف جنيهات بسيطة لعجز ملاكها عن اطعامها و خوف موتها.....كانت تلك أيام صعبة نشاهد إرهاصتها هذه الأيام مما قد يشير الى تكرارها.
3
نبوءة الجدة التي كانت تتمنى أن لا تعيش ( زمن البليلة ) هانحن اليوم نعيش ذلك الزمن الخرافي، و حتى تلك " البليلة " المفتري عليها، سوف تعز و تختفى و تصبح رفاهية، وفقا لما تنبأت به منظمات الأمم المتحدة المختصة بمحاربة المجاعات، اذا أستمر الحال بما هو عليه الآن !
فقد ذكر تقرير برنامج الأغذية العالمي و هي وكالة تابعة للأمم المتحدة و الخاص بالسودان ( الى أن 9.3 مليون شخص يواجهون انعداما حادا في الأمن الغذائي بما في ذلك 2.7 مليون في حالة طوارئ غذائية ذلك بسبب الحرب و نزوح مئات الالاف من الأشخاص إضافة للجفاف و تدهور الظروف الاقتصادية ).
كما تشير التقارير المشتركة التي أقرتها منظمة الأغذية و الزراعة " فاو “، برنامج الأغذية العالمي و مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ( الى أن السودان يقف على حافة مجاعة كبرى ).
جدير بالذكر هنا الى أن وكالات الأمم المتحدة المختصة تعتمد في تقريرها الى عدة مؤشرات نوردها أدناه لأهميتها و هي :
- تدمير سلاسل الأمن الغذائي نتيجة للحرب كالمواصلات و البنية التحتية و الطرقات الذى يتسبب في أزمة و نقص الغذاء.
- استهداف المناطق الزراعية بواسطة طرفي الحرب
- اضعاف الاقتصاد المحلى مما يؤدى ارتفاع السلع و المواد الغذائية
- النزوح الجماعي للمواطنين
- اعاقات الوصول الى المساعدات الإنسانية بواسطة طرفي الحرب.
بعد كل هذا السرد يطل السؤال الأساسي و هو كيفية تفادى مشكلة المجاعة ؟
بما هو واضح ان طرفي النزاع غير حريصين على " حلحلة " مشاكل المواطنين، كما أن الظروف الدولية المعقدة المتمثلة في حرب فلسطين ، أوكرانيا و الانتخابات الأمريكية تجعل السودان يقبع في آخر بند الاهتمامات الدولية. لكن مع كل ذلك يظل الهدف الأساسي مواصلة الضغط لوقف الحرب، و فتح مسارات آمنة لوصول الاغاثات الإنسانية و ذلك ممكن التحقيق بالعزم و قوة الارادة، الوحدة و التنظيم.....شعبنا خلاق.

عدنان زاهر
6 أكتوبر 2024

elsadati2008@gmail.com

 

آراء