زيارة اخرى للتاريخ: الجنجويد (٥-٩)
د. عمرو محمد عباس محجوب
2 July, 2023
2 July, 2023
تورد قناة العربية في تحقيقها أن أصل الكلمة لا يعود إلى اللغة العربية، وأن الاسم عائد إلى اللغات المحكية في تشاد المجاورة، مشيرة إلى أن اللفظ مقترن تاريخياً بعصابات السرقة. ويشير علي أبو زيد الأمين العام للهيئة الشعبية لتطوير دارفور إلى أن الاسم متداول في السُّودان وتشاد: "يرجع اسم الجنجويد إلى فترات زمنية سابقة في تاريخ دارفور...أنهم مجموعات منظمة تغير على القرى لتسلب وتنهب، مذكراً أن الجنجويد يطلق عليهم في جنوب دارفور اسم جاغت."
التطور والتكوين
شنت الحكومة السُّودانية، في مسعى منها للسيطرة على التمرد في دارفور، حملة شرسة في أعوام 2003-2004 عبر مناشدة القبائل للقتال دعماً لجيش يتسم بضعفه وتدهور معنوياته. معظم الذين جندوا لقتال التمرد هم من جماعات عربية الهوية. ووصف الصراع بأنه أول إبادة جماعية في القرن الواحد والعشرين، ومالت إلى إدراج عرب دارفور، الذين لبث معظمهم على الحياد، ضمن الميليشيات والمنظمات شبه العسكرية للجنجويد التي دعمتها الحكومة.
من المهم التعرف على الأسباب الحقيقية التي جعلت من المليشيات جزءًا من واقع دارفور. أهمها أن دارفور –بعكس الجنوب- تتواجد فيها قبائل سودانية إفريقية أغلبها مستقر ولها تقاليد طويلة من الحكم والسيطرة، وقبائل سودانية عربية أغلبها مترحلة في تداخل شديد. حال بدء التمرد في 2003م كان مكوناً في أغلبه من "الفور، الزغاوة والمساليت وهي أكبر القبائل السُّودانية الإفريقيَّة"، وهم ملاك أغلب الأراضي الخصبة.
أيد زعماء القبائل العربية مكافحة التمرد لسببين رئيسيين – الأرض والماء، فقد وجد العرب الذين لا يملكون أرضاً فرصة لتوسيع مداخلهم إلى الأراضي، ومنه إلى القوة السياسية نظراً لأن الأرض مرتبطة بحيازة مشايخ متنفذة لها. قدم الشيخ هلال عبدالله إلى إقليم دارفور من تشاد في منتصف القرن الماضي وعاش هناك لسنوات دون أن يمتلك أرضاً "حاكورة " ليستقر فيه وظل متجولاً طول فصول السنة متنقلاً ببعيره. ثم تحصل علي "حاكورة " في منطقة شمال مدينة كتم سماه "دامرة" الشيخ هلال عبدالله وتعرف حالياً ب"مستريحة".
منذ الثمانينيات بدا أن حشد الحكومة للميليشيات القبلية سياسة مجربة ومختبرة، لضعف الجيش المحترف المنهك أصلاً من الحروب والتصفيات، لمعرفتهم بطبيعة الأرض وتعودهم حملهم السلاح لحماية قطعانهم، وإعطاء الحكومة أدلة أنها مجرد نزاعات قبلية. بعد تكوين المليشيات، ومدها بالسلاح والمال، وارتكابها جرائم من القتل، انتهاكات حقوق الإنسان، الاغتصابات، حرق القرى وإجبار مئات الآلاف من القرويين على هجر أراضيهم. وبحكم فظاعة ما اقترفته أصبحت خائفة من عمليات انتقام سوف تبدرعن ضحاياها، خاصة إذا تمت عمليات تسوية سياسية.
تم تجاهل الدعوات المتكررة التي تطالب الحكومة بنزع سلاح الجنجويد، تعددت الميليشيات ودوافعها، واعتقدت الحكومة بقدرتها على السيطرة على الميليشيات. مثلما تستخدم الحكومة الميليشيات، فقد استخدمت الميليشيات الحكومة – للحصول على الرواتب وغنائم الحرب والأرض والانتقام. مستفيدة أن تكون خارج نطاق سيطرة الحكومة أو في بعض الحالات، خارج سيطرة زعماء قبائلها. كان أكثر تعبير عن هذا عصيان أقوى زعيم لمنظمة شبه عسكرية محمد حمدان دوغلو، المعروف ب "حميدتي".
تمرد حميدتي
في شهر أكتوبر2007 ، هدد حميدتي باقتحام نيالا ما لم تدفع لهم رواتبهم المتأخرة منذ مدة طويلة، وادعى في شهر نوفمبر بأنه أقام تحالفاً مع جماعة متمردة عربية جديدة، اسمها الجبهة الثورية السُّودانية (بقيادة مهندس كمبيوتر يدعى أنور خاطر من أولاد عيد وهم فرع من المحاميد). وجاء في بيانها "إن قصف الحكومة العشوائي لن يثني العرب من مواصلة التمرد بغية استعادة حقوقنا". انشقاق حميدتي ومعه ما لا يقل عن 70 مركبة مسلحة تسليحاً ثقيلاً، أحدث أكبر تحول في التوازن العسكري في دارفور منذ بدء الصراع.
في عموم دارفور في سنة2007 ، حل محل الفرار التدريجي صوب المتمردين الذي بدأ في سنة 2005 ، تحرك إعداد أكبر من القوات شبه العسكرية أطلقوا على أنفسهم اسم "الجندي المظلوم" ومع ازدياد عددهم زادت حاجتهم إلى الذخائر، قاموا بالهجوم على قوافل الحكومة ومراكز الشرطة. شنوا في ديسمبر 2007 سلسلة من الهجمات ضد قوافل الحكومة وقوات الأمن في منطقة زالنجي. شعرت الحكومة بأنها معرضة لتهديد شديد فسحبت جميع نقاط الشرطة والجيش من المناطق الريفية وأسندت إليهم مهمة الدفاع عن زالنجي. كما أخذت رواتب الجيش التي كانت تنقل سابقاً براً، ترسل الآن جواً.
في مطلع سنة 2008 عاد حميدتي إلى حظيرة الحكومة بعدما لم يجد راعياً بديلاً، لقد رفضته ليبيا وتشاد والأمم المتحدة والولايات المتحدة، كما أن محاولاته للانضمأم إلى قوات الجبهة الثورية السُّودانية صدّها أنور خاطر. فاتح حميدتي أيضاً جيش تحرير السُّودان، لكنه لم يجد، كما قال، "تفكيراً استراتيجياً - مصلحة ذاتية فقط وافتقار إلى قيادة". عندما أصبحت عزلتهم وانعدام التأييد واضحاً ونفدت أمواله، قال حميدتي إنه كان لديه خياران: إعادة الانضمام للحكومة، أو أن يصبح "جنجويداً وتعني بلغة العرب لصاً."
قال حميدتي الذي أطلق على حركته المتمردة قوات الوعد الصادق، إنه يقاتل من أجل تحقيق العدالة للعرب، وقال في لقاء معه في سنة 2009، إن السبب الرئيسي لتمرده هو تعيين الزغاوي ميني مناوي كبيراً لمستشاري الرئيس. على النقيض من اتفاق السلام مع مناوي، فإن العرب الذين قاتلوا مع الحكومة لم يتلقوا رواتبهم ولا تعويضات عن قتلاهم وجرحاهم في الحرب، كما لم تقدم لهم الخدمات الصحية أو البيطرية أو المدارس أو الماء، وووجدوا أن طرق هجرة مواشيهم يوصدها المتمردون.
ما زال الغموض يكتنف شروط الصفقة التي أرجعت الخرطوم بموجبها حميدتي، طالب كما ذكرت تقارير غير مؤكدة، فضلاً عن تنمية منطقته أم القرى، برتبة فريق في الجيش لنفسه والنظارة لعمه دوغلو جمعة ومنصب مفوض لشقيقه عبد الرحيم حمدان دوغلو ومبلغ نقدي مقداره مليار جنيه سوداني لنفسه، ونصف هذا المبلغ لأخيه، لتعويض المقاتلين وأسرهم. مخبرو الأمم المتحدة قالوا إن 3 آلافاً من رجاله أدرجوا في الجيش النظامي برواتب الجيش، ووعد حوالي 300 منهم بإخضاعهم لتدريب الضباط. الاتفاق حسب زملائه كان حول مكونين: المال والسلاح.
من مليشيا لقوات الدعم السريع
كانت أحداث سبتمبر 2013م هي من غَير "الجنجويد" لقوات الدعم السريع. فبعدما دخلت في العمليات العسكرية في ولايتيْ النيل الأزرق وجنوب كردفان وإقليم دارفور، إلى جانب القوات المسلحة، مع تمتّعها بميزات تفوّقت من خلالها على الجيش السُّوداني، بما فيها العتاد العسكري والمرتبات. كانت أحداث سبتمبر نقلاً لمركز الصراع، من الأطراف والتي استمرت لفترة طويلة، للوسط والعاصمة تحديداً. فقد نقلت تلك القوات إلى مركز الدولة ونشرت في مناطق مختلفة في العاصمة المثلثة، وتمت الاستعانة بها في قمع تظاهرات سبتمبر 2013 والتي أدّت إلى مقتل وإصابة المئات بالرصاص الحي.
في العام 2014، وحّدت الحكومة هذه المليشيات وأطلقت عليها "قوات الدعم السريع". ولتقنين وضعها، أدخلتها تحت المسؤولية المباشرة لجهاز الأمن، لا سيما بعد تواتر معلومات عن رفض الجيش السُّوداني أن تكون جزءًا منه، باعتبارها مليشيا فوضوية لا ترتكز على عقيدة قتالية بل قبليّة، ما أقرّ به حميدتي عندما شدّد في تصريح عقب إقالته من منصبه كمستشار للأمن في ولاية جنوب دارفور، "أنا إنسان حرّ، لديّ أهلي، ولديّ جيشي وإمكاناتي، ولا يستطيع أن يقلّص الوالي صلاحياتي".
مع تعديل الدستور الانتقالي، في نهاية عام 2014 وتحويل جهاز الأمن إلى قوة نظامية، مثل الجيش والشرطة، أتاح التعديل أن تكون قوات الدعم السريع الذراع العسكرية للأمن، لتقاتل في مناطق العمليات المختلفة. وضح هذا عند اعتقال زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، لانتقاده "الدعم السريع" واتهامه لها بارتكاب جرائم عدة وضمّ أجانب. ونقلت تصريحات لحميدتي تعليقاً على اعتقال الصادق حينه، "أنّ "الجنجويد" أصبحت تملك زمام الأمور في البلد، وبإمكانها فك أسر الصادق أو إبقاؤه".
صادق البرلمان السُّوداني في 16 يناير 2017م، بالأغلبية على قانون خاص بتبعية قوات الدعم السريع، المثيرة للجدل، إلى القوات المسلحة، وينص القانون على أن تكون تحت إمرة القائد الأعلى للجيش، وهو رئيس الجمهورية، كما نص على خضوع تلك القوات للتدريب والتسليح والتجهيز بواسطة القوات المسلحة السُّودانية. القانون يصنف تلك القوات بأنها قوات عسكرية قومية مهمتها دعم ومساندة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في أداء مهامها. يضبط التشريع الجديد العمل المالي لقوات الدعم السريع بقانون الإجراءات المالية والمحاسبية، ونص المشروع على أن يعين رئيس الجمهورية قائداً للدعم السريع ويكون مسؤولاً أمامه عن أداء قواته.
قال وزير الدفاع السُّوداني أن ضرورة إنشاء قوات الدعم السريع: نتجت لتنوع العدو وتطور أساليبه وزخم المعلومات!، وهو ما جعل أنواع وأشكال عناصر الاستهداف اليوم ليست كالأمس، ولم يعد العدو تقليدياً حيث تطورت أساليب القتال وأنواع الجريمة باستخدام التقنية العالية والمهارات المتقدمة، مما استوجب تغيير الذهنية والأساليب. لافتاً إلى أن القانون نص على قومية قوات الدعم السريع ولكنها تعمل وفق المهام العملياتية للقوات المسلحة وتحت إدارة العمليات الحربية.
لقد تم خلق الوحش، تسليحه وتدريبه وتمويله. وكما في كل المواقف المشابهة فقد تمدد أكثر من القدرة على التحكم فيه. بدأ الجنجويد بالرغبة في السيطرة على دارفور، فحالت دون ذلك عزيمة أهل دارفور ومقاومتهم الصلبة من أفارقة وعرب، وشيوخ قبائل عاقلة يهمها مصالح التعايش، وكذلك قرارات مجلس الأمن، اليوناميد، تقارير مبعوثي الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، العقوبات، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية. انتقلت المليشيات لكامل الوطن وطموحاتها تتزايد. لقد تم تقنين شراكتها في السلطة التي ترتجف في الخرطوم من عصيانات أبناء وبنات الشعب.
تفكيك المشكلة
عند بدء حركات الاحتجاج الدارفورية ضد التهميش منذ الستينات، تم تبنيها من القبائل الإفريقية وعزل عنها مستعربة دارفور وعربها. وعندما رفعت الحركات الدارفورية السلاح تم عزل عرب دارفور "بتجاوز المكونات العربية في دارفور، الذي لو تم لحسم الصراع مع سلطة المركز منذ زمن بعيد، وبالقدر نفسه كان أيضاً من أهم أسباب تعطل وإطالة أمد الثورة حتى اليوم، كل هذا يدخل ضمن مراجعات نقدية لمشوار الثورة السودانية التي فشلت في استيعاب القوى العربية في دارفور بشكل يشكل لهذه القوى قناعة مكتملة تمكنها من التفاعل بدينامكية معاكسة تخدم الثورة وتسرع في إنهاء منظومة الاستبداد المتمركزة في تدوير الجميع ضد الجميع، وهي متمرسة في صناعة الحرب والقتل".
مع تطور الحركات المسلحة، تشققاتها، تطورت المليشيات العربية من المراحيل، للجنجويد، ثم دمجت في القوى الأمنية تحت اسم حرس الحدود والتدخل السريع، كمعبر عن حرب الوكالة بمجموعات قبلية لإدارة الصراع المحتدم في دارفور. وكما يشير محجوب حسين، فإن القومية العربية في دارفور ووفق التراتبية العروبية في السودان، وضعت في موقع متأخر، بناء على خلفيات تاريخية تتعلق باستعلاء الحزام الحاكم على غرب السودان في عمومه، فالقوى العربية في دارفور كانت كلها ضحايا الجغرافيا أكثر من العرق.
يطرح آدم الزين محمد مدخلاً لفهم النزاعات في دارفور، ويرى أن هناك ثلاثة أنواع: أولاً: صراع على مستوى القواعد الشعبية وتتعلق بالهوية المجتمعية. ويرى أن هناك تبسيطا في الصراعات المتقابلة (الرعاة والمستقرون، العرب والزرقة، مع أو ضد الحكومة وغيرها)، ويرى أنها تقع ضمن إطار الصراع حول الموارد (المياه والمراعي والأرض الزراعية). ذكر 41 نزاعاً بين مجموعات سكانية منذ عام 1932م، وكان نصفها بين قبائل ذات أصول واحدة. واستمرت لأنها لم تعالج قضايا الموارد، المرتبطة بإهمال التنمية وتهميش إجابات بكامله.
ثانياً: الصراع على السلطة بين النخب الدارفورية. تاريخيًّا ومنذ عهد السلطنات كانت السياسة تعتمد على السياسات القبلية، ومعها الصعود في السلم الاجتماعي. وفي عقود الإنقاذ كانت السلطة واضحة في أنها ستكافئ من ينتمي لحزبها أو من يحمل السلاح معها. حدد الزين خمس مجموعات تتصارع على السلطة إقليمياً: الحزب الحاكم، موقعي الاتفاقيات، الحركات المسلحة الرافضة، الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني.
ثالثاً: الصراع بين المركز وإلاطراف بسبب التهميش. يرى الزين أن الإحساس بالتهميش بدأ من 1965م مع جبهة نهضة دارفور، وعُبِر عنها بشكل واضح في الكتاب الأسود 2002م. ويرى أن السلطة اعترفت في اتفاقية الدوحة بالتخلف النسبي ولكنها كافأت حملة السلاح وأعطتهم السلطة. الملاحظ أن كتاب آدم الزين لم يذكر إدارة التَّنوُّع في كتابه.
عام 2005م أجرى الزين استطلاع رأي لعدد 236 (200 رجل و36 امرأة) من النخب المجتمعية الدارفورية (طلاب، إدارة أهلية، أعضاء منظمات، أحزاب). رفض 74% منهم التمييز العرقي واعتبروا أنفسهم دارفورين فقط، 3% اعتبروا أنفسهم عرب و17% غير عرب. وأيد 60% حكومة تكنوقراط، 47% أن تكون من دارفور و13% من خارجها، 15% حكومة ائتلافية بين الحكومة والحركات والحركة الشعبية لتحرير السُّودان. أيد 77% إجابات قبول الاقليم الواحد. وجاءت توصيات السياسة: حكومة تكنوقراط انتقالية، تحول ديمقراطي، تنمية جيدة والاستفادة من آليات حل النزاعات الدارفورية.
من المشكلة للحل
تسود أفكار نمطية كثيرة في قضايا دارفور، عمل الكثير من الأطراف لتسود. لكن قدم مجموعة من الكتاب الموضوعيين من أوفاهي، محمد سليمان محمد (السودان: صراع الموارد والهوية)، يوسف تَكَنَة (دارفور صراع السلطة والموارد) تحليل وتركيب الإشكالات الحقيقية لصراعات دارفور.
بداية لابد من تجاوز أي مسميات ملغمة، فأبناء دارفور جميعاً هم دارفوريون، وقد استطاعوا جميعاً أن يقدموا نماذجاً من التعايش المثمر والأخلاقي. كل أبناء دارفور نتاج تداخل وتلاقح تاريخي واجتماعي كبير ومستمر، يطلقون على نفسهم "دارفوريين أو غرابة"، ويحسون بالانتماء. كل الأطراف في دارفور مسلحة وضمنها الحركات المسلحة وهي تمثل في أغلبها تكوينات إثنية متجانسة (الفور، المساليت والزغاوة). كل هذه التكوينات لديها أجندة محلية تلبي حاجتها، وأخرى لها أجندة إقليمية.
مع تكون الحركات المسلحة وتسليح التكوينات الإثنية الأخرى، وجدت القوى المحلية (السلطات السُّودانية)، القوى الإقليمية (تشاد، ليبيا) والقوى الدولية (فرنسا، المانيا، إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها) موطئ قدم في مشاكل الإقليم. ليس أمام أبناء دارفور سوى أن يحاولوا حل مشاكلهم بعيداً عن المستفيدين منها. وعلى بقية السُّودان أن يقدم لهم كل العون بتغيير السياسات التي تعالج التَّنوُّع وتديره بحصافة وحب لهذا الشعب المتنوع.
اختتمت جولي فلينت في كتابها الهام ما بعد الجنجويد: فهم ميليشيات دارفور: "لا يمكن معالجة الفوضى في دارفور بالكامل ما لم تقم تحليلات لهوية ودوافع أولئك الذين يحملون السلاح، وفي حالة الرعاة، فهم كم منهم سيستأنف التنقل إذا ما استطاع وكم منهم ما عاد راغباً في العيش مثل البدو باعتبار ذلك لا يتماشى مع الحداثة والتعليم. لم يتم تناول الميليشيات العربية بشكل كاف ولم تفهم بشكل جيد. وإذا أريد لدارفور أن تنعم بالسلام فإن ظروفهم ومطالبهم السياسية وحاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية تقتضي تدقيقاً وتحليلات جدية. إن هذه الميليشيات هي جزء من المشكلة وينبغي أن تكون جزءًا من الحل.
ما لم يقله الكتاب إن مشكلة المليشيات هي سياسات حكومية، إقليمية ودولية تستغل كل الأطراف، من الرعاة المهمشين والذين يشكلون غالبية "الجنجويد" وغيرها، والمستقرين المهمشين أيضاً. تكوينات دارفور الإثنية هناك منذ ألفيات وتتعايش بطرقها الخاصة. في ظل سلطات تراعي التَّنوُّع والتعدد، وتعطيه الفرصة لتصبح قوة إيجابية، سوف يجد الدارفوريون حلولاً لمشاكلهم.
الآفاق
عندما وجه إبراهيم بدري مذكرته إلى لجنة تعديل الدستور في 13 مايو 1951م، كان يتحدث عن واقعنا اليوم: "عندما أقول جنوب السُّودان لا أعني مواطني المديريات الجنوبية الثلاث لكن أيضاً الذين هم في جنوب الفونج يقطنون - مديرية النيل الأزرق - وكذلك بعض مواطني دارفور وجبال النُّوبة في كردفان...هؤلاء الناس... لا تربطهم علاقات تقليدية أو دينية أو لغوية أو ثقافية بينهم وبين الشماليين، العلاقة الوحيدة هي علاقة إقليمية التي تعود إلى الاحتلال التركي- المصري العام 1820م".
جاء في مقال الصادق المهدي: يشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار "كان لدى الجماعات صاحبة الثقافات المغايرة لثقافة الوسط المهيمنة، ولحدة تلك المغايرة بين الشِّمال والجنوب فقد أثمرت حرباً إقليم ضارية اشتعلت في الجنوب واتقدت طويلاً، حتى انتهت مع مفاقمة نكء جرح الهوية على يدي الإنقاذ إلى الانفصال. وبرز الوعي بالتَّنوُّع كذلك لدى حركات واعية بالمظالم السياسية والتنموية والثقافية لمناطقها مثل مؤتمر البجا وجبهة نهضة دارفور".
جاء في مقال "هل لدارفور من مستقبل في السُّودان" رغم أن أوفاهي مؤمن بأن مستقبل دارفور هو "مع السُّودان"، ولكن هذا يستدعي أن يحكم السُّودان "بطريقة مختلفة تماماً عن ما هو حادث في سودان اليوم". ويرى أوفاهي أن دارفور تاريخياً ليست جزءًا "طبيعياً" من السُّودان. حتى أن ضمها في عام 1916م، كان لحد كبير نتيجة لتقدم القوات الفرنسية شرقاً نحو بحيرة تشاد. لكن من المهم عدم الركون لهذا التحليل بل التصدي لعكس التهميش ودفعها لحضن وطن حر دافئ، عادل وتسوده المساواة.
ماخوذ من كتاب التنوع في السودان الجزء الرابع، الفصل العشرون:
١- تقرير لجنة التحقيق الإداري في جنوب السودان 1955، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2005م.
٢- جولي فلينت: ما بعد الجنجويد فهم ميليشيات دارفور، مسح الأسلحة الصغيرة – المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية، جنيف، طبعة أولى يونيو 2009،www.smallarmssurveysudan.org/.../HSBA-WP-17-Beyond-Janjaweed 2009م
٣- العربي الجديد: "الجنجويد"... قنبلة السودان الموقوتة. https://www.alaraby.co.uk/politics/ 2015/5/21/الجنجويد--قنبلة-السودان-الموقوتة
٤- العربي الجديد: "الجنجويد"... قنبلة السودان الموقوتة. https://www.alaraby.co.uk/politics/ 2015/5/21/الجنجويد--قنبلة-السودان-الموقوتة.
٥- السودان يقنن رسمياً قوات "الدعم السريع" المثيرة للجدل: http://www.albayan.ae/one-world/arabs/2017-01-17-1.2829043
٦-:محجوب حسين: شيخ قبيلة المحاميد موسي هلال وضرورة الانتقال نحو صراع السلطة والحكم في السودان، https://www.alrakoba.net/news-action-show-id-141996.htm
٧-آدم الزين محمد: مدخل بديل للسلام في دارفور: مشروع الفكر الديموقراطي، سلسلة قراءة من أجل التغيير (29)، 2015.
٨-:الصادق المهدي: يشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار: http://www.alhayat.com/Articles/3035919/ /الصادق-المهدي-يشدّد-على-التَّنوُّع -سبيلاً-للاستقرار.
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842
التطور والتكوين
شنت الحكومة السُّودانية، في مسعى منها للسيطرة على التمرد في دارفور، حملة شرسة في أعوام 2003-2004 عبر مناشدة القبائل للقتال دعماً لجيش يتسم بضعفه وتدهور معنوياته. معظم الذين جندوا لقتال التمرد هم من جماعات عربية الهوية. ووصف الصراع بأنه أول إبادة جماعية في القرن الواحد والعشرين، ومالت إلى إدراج عرب دارفور، الذين لبث معظمهم على الحياد، ضمن الميليشيات والمنظمات شبه العسكرية للجنجويد التي دعمتها الحكومة.
من المهم التعرف على الأسباب الحقيقية التي جعلت من المليشيات جزءًا من واقع دارفور. أهمها أن دارفور –بعكس الجنوب- تتواجد فيها قبائل سودانية إفريقية أغلبها مستقر ولها تقاليد طويلة من الحكم والسيطرة، وقبائل سودانية عربية أغلبها مترحلة في تداخل شديد. حال بدء التمرد في 2003م كان مكوناً في أغلبه من "الفور، الزغاوة والمساليت وهي أكبر القبائل السُّودانية الإفريقيَّة"، وهم ملاك أغلب الأراضي الخصبة.
أيد زعماء القبائل العربية مكافحة التمرد لسببين رئيسيين – الأرض والماء، فقد وجد العرب الذين لا يملكون أرضاً فرصة لتوسيع مداخلهم إلى الأراضي، ومنه إلى القوة السياسية نظراً لأن الأرض مرتبطة بحيازة مشايخ متنفذة لها. قدم الشيخ هلال عبدالله إلى إقليم دارفور من تشاد في منتصف القرن الماضي وعاش هناك لسنوات دون أن يمتلك أرضاً "حاكورة " ليستقر فيه وظل متجولاً طول فصول السنة متنقلاً ببعيره. ثم تحصل علي "حاكورة " في منطقة شمال مدينة كتم سماه "دامرة" الشيخ هلال عبدالله وتعرف حالياً ب"مستريحة".
منذ الثمانينيات بدا أن حشد الحكومة للميليشيات القبلية سياسة مجربة ومختبرة، لضعف الجيش المحترف المنهك أصلاً من الحروب والتصفيات، لمعرفتهم بطبيعة الأرض وتعودهم حملهم السلاح لحماية قطعانهم، وإعطاء الحكومة أدلة أنها مجرد نزاعات قبلية. بعد تكوين المليشيات، ومدها بالسلاح والمال، وارتكابها جرائم من القتل، انتهاكات حقوق الإنسان، الاغتصابات، حرق القرى وإجبار مئات الآلاف من القرويين على هجر أراضيهم. وبحكم فظاعة ما اقترفته أصبحت خائفة من عمليات انتقام سوف تبدرعن ضحاياها، خاصة إذا تمت عمليات تسوية سياسية.
تم تجاهل الدعوات المتكررة التي تطالب الحكومة بنزع سلاح الجنجويد، تعددت الميليشيات ودوافعها، واعتقدت الحكومة بقدرتها على السيطرة على الميليشيات. مثلما تستخدم الحكومة الميليشيات، فقد استخدمت الميليشيات الحكومة – للحصول على الرواتب وغنائم الحرب والأرض والانتقام. مستفيدة أن تكون خارج نطاق سيطرة الحكومة أو في بعض الحالات، خارج سيطرة زعماء قبائلها. كان أكثر تعبير عن هذا عصيان أقوى زعيم لمنظمة شبه عسكرية محمد حمدان دوغلو، المعروف ب "حميدتي".
تمرد حميدتي
في شهر أكتوبر2007 ، هدد حميدتي باقتحام نيالا ما لم تدفع لهم رواتبهم المتأخرة منذ مدة طويلة، وادعى في شهر نوفمبر بأنه أقام تحالفاً مع جماعة متمردة عربية جديدة، اسمها الجبهة الثورية السُّودانية (بقيادة مهندس كمبيوتر يدعى أنور خاطر من أولاد عيد وهم فرع من المحاميد). وجاء في بيانها "إن قصف الحكومة العشوائي لن يثني العرب من مواصلة التمرد بغية استعادة حقوقنا". انشقاق حميدتي ومعه ما لا يقل عن 70 مركبة مسلحة تسليحاً ثقيلاً، أحدث أكبر تحول في التوازن العسكري في دارفور منذ بدء الصراع.
في عموم دارفور في سنة2007 ، حل محل الفرار التدريجي صوب المتمردين الذي بدأ في سنة 2005 ، تحرك إعداد أكبر من القوات شبه العسكرية أطلقوا على أنفسهم اسم "الجندي المظلوم" ومع ازدياد عددهم زادت حاجتهم إلى الذخائر، قاموا بالهجوم على قوافل الحكومة ومراكز الشرطة. شنوا في ديسمبر 2007 سلسلة من الهجمات ضد قوافل الحكومة وقوات الأمن في منطقة زالنجي. شعرت الحكومة بأنها معرضة لتهديد شديد فسحبت جميع نقاط الشرطة والجيش من المناطق الريفية وأسندت إليهم مهمة الدفاع عن زالنجي. كما أخذت رواتب الجيش التي كانت تنقل سابقاً براً، ترسل الآن جواً.
في مطلع سنة 2008 عاد حميدتي إلى حظيرة الحكومة بعدما لم يجد راعياً بديلاً، لقد رفضته ليبيا وتشاد والأمم المتحدة والولايات المتحدة، كما أن محاولاته للانضمأم إلى قوات الجبهة الثورية السُّودانية صدّها أنور خاطر. فاتح حميدتي أيضاً جيش تحرير السُّودان، لكنه لم يجد، كما قال، "تفكيراً استراتيجياً - مصلحة ذاتية فقط وافتقار إلى قيادة". عندما أصبحت عزلتهم وانعدام التأييد واضحاً ونفدت أمواله، قال حميدتي إنه كان لديه خياران: إعادة الانضمام للحكومة، أو أن يصبح "جنجويداً وتعني بلغة العرب لصاً."
قال حميدتي الذي أطلق على حركته المتمردة قوات الوعد الصادق، إنه يقاتل من أجل تحقيق العدالة للعرب، وقال في لقاء معه في سنة 2009، إن السبب الرئيسي لتمرده هو تعيين الزغاوي ميني مناوي كبيراً لمستشاري الرئيس. على النقيض من اتفاق السلام مع مناوي، فإن العرب الذين قاتلوا مع الحكومة لم يتلقوا رواتبهم ولا تعويضات عن قتلاهم وجرحاهم في الحرب، كما لم تقدم لهم الخدمات الصحية أو البيطرية أو المدارس أو الماء، وووجدوا أن طرق هجرة مواشيهم يوصدها المتمردون.
ما زال الغموض يكتنف شروط الصفقة التي أرجعت الخرطوم بموجبها حميدتي، طالب كما ذكرت تقارير غير مؤكدة، فضلاً عن تنمية منطقته أم القرى، برتبة فريق في الجيش لنفسه والنظارة لعمه دوغلو جمعة ومنصب مفوض لشقيقه عبد الرحيم حمدان دوغلو ومبلغ نقدي مقداره مليار جنيه سوداني لنفسه، ونصف هذا المبلغ لأخيه، لتعويض المقاتلين وأسرهم. مخبرو الأمم المتحدة قالوا إن 3 آلافاً من رجاله أدرجوا في الجيش النظامي برواتب الجيش، ووعد حوالي 300 منهم بإخضاعهم لتدريب الضباط. الاتفاق حسب زملائه كان حول مكونين: المال والسلاح.
من مليشيا لقوات الدعم السريع
كانت أحداث سبتمبر 2013م هي من غَير "الجنجويد" لقوات الدعم السريع. فبعدما دخلت في العمليات العسكرية في ولايتيْ النيل الأزرق وجنوب كردفان وإقليم دارفور، إلى جانب القوات المسلحة، مع تمتّعها بميزات تفوّقت من خلالها على الجيش السُّوداني، بما فيها العتاد العسكري والمرتبات. كانت أحداث سبتمبر نقلاً لمركز الصراع، من الأطراف والتي استمرت لفترة طويلة، للوسط والعاصمة تحديداً. فقد نقلت تلك القوات إلى مركز الدولة ونشرت في مناطق مختلفة في العاصمة المثلثة، وتمت الاستعانة بها في قمع تظاهرات سبتمبر 2013 والتي أدّت إلى مقتل وإصابة المئات بالرصاص الحي.
في العام 2014، وحّدت الحكومة هذه المليشيات وأطلقت عليها "قوات الدعم السريع". ولتقنين وضعها، أدخلتها تحت المسؤولية المباشرة لجهاز الأمن، لا سيما بعد تواتر معلومات عن رفض الجيش السُّوداني أن تكون جزءًا منه، باعتبارها مليشيا فوضوية لا ترتكز على عقيدة قتالية بل قبليّة، ما أقرّ به حميدتي عندما شدّد في تصريح عقب إقالته من منصبه كمستشار للأمن في ولاية جنوب دارفور، "أنا إنسان حرّ، لديّ أهلي، ولديّ جيشي وإمكاناتي، ولا يستطيع أن يقلّص الوالي صلاحياتي".
مع تعديل الدستور الانتقالي، في نهاية عام 2014 وتحويل جهاز الأمن إلى قوة نظامية، مثل الجيش والشرطة، أتاح التعديل أن تكون قوات الدعم السريع الذراع العسكرية للأمن، لتقاتل في مناطق العمليات المختلفة. وضح هذا عند اعتقال زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، لانتقاده "الدعم السريع" واتهامه لها بارتكاب جرائم عدة وضمّ أجانب. ونقلت تصريحات لحميدتي تعليقاً على اعتقال الصادق حينه، "أنّ "الجنجويد" أصبحت تملك زمام الأمور في البلد، وبإمكانها فك أسر الصادق أو إبقاؤه".
صادق البرلمان السُّوداني في 16 يناير 2017م، بالأغلبية على قانون خاص بتبعية قوات الدعم السريع، المثيرة للجدل، إلى القوات المسلحة، وينص القانون على أن تكون تحت إمرة القائد الأعلى للجيش، وهو رئيس الجمهورية، كما نص على خضوع تلك القوات للتدريب والتسليح والتجهيز بواسطة القوات المسلحة السُّودانية. القانون يصنف تلك القوات بأنها قوات عسكرية قومية مهمتها دعم ومساندة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في أداء مهامها. يضبط التشريع الجديد العمل المالي لقوات الدعم السريع بقانون الإجراءات المالية والمحاسبية، ونص المشروع على أن يعين رئيس الجمهورية قائداً للدعم السريع ويكون مسؤولاً أمامه عن أداء قواته.
قال وزير الدفاع السُّوداني أن ضرورة إنشاء قوات الدعم السريع: نتجت لتنوع العدو وتطور أساليبه وزخم المعلومات!، وهو ما جعل أنواع وأشكال عناصر الاستهداف اليوم ليست كالأمس، ولم يعد العدو تقليدياً حيث تطورت أساليب القتال وأنواع الجريمة باستخدام التقنية العالية والمهارات المتقدمة، مما استوجب تغيير الذهنية والأساليب. لافتاً إلى أن القانون نص على قومية قوات الدعم السريع ولكنها تعمل وفق المهام العملياتية للقوات المسلحة وتحت إدارة العمليات الحربية.
لقد تم خلق الوحش، تسليحه وتدريبه وتمويله. وكما في كل المواقف المشابهة فقد تمدد أكثر من القدرة على التحكم فيه. بدأ الجنجويد بالرغبة في السيطرة على دارفور، فحالت دون ذلك عزيمة أهل دارفور ومقاومتهم الصلبة من أفارقة وعرب، وشيوخ قبائل عاقلة يهمها مصالح التعايش، وكذلك قرارات مجلس الأمن، اليوناميد، تقارير مبعوثي الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، العقوبات، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية. انتقلت المليشيات لكامل الوطن وطموحاتها تتزايد. لقد تم تقنين شراكتها في السلطة التي ترتجف في الخرطوم من عصيانات أبناء وبنات الشعب.
تفكيك المشكلة
عند بدء حركات الاحتجاج الدارفورية ضد التهميش منذ الستينات، تم تبنيها من القبائل الإفريقية وعزل عنها مستعربة دارفور وعربها. وعندما رفعت الحركات الدارفورية السلاح تم عزل عرب دارفور "بتجاوز المكونات العربية في دارفور، الذي لو تم لحسم الصراع مع سلطة المركز منذ زمن بعيد، وبالقدر نفسه كان أيضاً من أهم أسباب تعطل وإطالة أمد الثورة حتى اليوم، كل هذا يدخل ضمن مراجعات نقدية لمشوار الثورة السودانية التي فشلت في استيعاب القوى العربية في دارفور بشكل يشكل لهذه القوى قناعة مكتملة تمكنها من التفاعل بدينامكية معاكسة تخدم الثورة وتسرع في إنهاء منظومة الاستبداد المتمركزة في تدوير الجميع ضد الجميع، وهي متمرسة في صناعة الحرب والقتل".
مع تطور الحركات المسلحة، تشققاتها، تطورت المليشيات العربية من المراحيل، للجنجويد، ثم دمجت في القوى الأمنية تحت اسم حرس الحدود والتدخل السريع، كمعبر عن حرب الوكالة بمجموعات قبلية لإدارة الصراع المحتدم في دارفور. وكما يشير محجوب حسين، فإن القومية العربية في دارفور ووفق التراتبية العروبية في السودان، وضعت في موقع متأخر، بناء على خلفيات تاريخية تتعلق باستعلاء الحزام الحاكم على غرب السودان في عمومه، فالقوى العربية في دارفور كانت كلها ضحايا الجغرافيا أكثر من العرق.
يطرح آدم الزين محمد مدخلاً لفهم النزاعات في دارفور، ويرى أن هناك ثلاثة أنواع: أولاً: صراع على مستوى القواعد الشعبية وتتعلق بالهوية المجتمعية. ويرى أن هناك تبسيطا في الصراعات المتقابلة (الرعاة والمستقرون، العرب والزرقة، مع أو ضد الحكومة وغيرها)، ويرى أنها تقع ضمن إطار الصراع حول الموارد (المياه والمراعي والأرض الزراعية). ذكر 41 نزاعاً بين مجموعات سكانية منذ عام 1932م، وكان نصفها بين قبائل ذات أصول واحدة. واستمرت لأنها لم تعالج قضايا الموارد، المرتبطة بإهمال التنمية وتهميش إجابات بكامله.
ثانياً: الصراع على السلطة بين النخب الدارفورية. تاريخيًّا ومنذ عهد السلطنات كانت السياسة تعتمد على السياسات القبلية، ومعها الصعود في السلم الاجتماعي. وفي عقود الإنقاذ كانت السلطة واضحة في أنها ستكافئ من ينتمي لحزبها أو من يحمل السلاح معها. حدد الزين خمس مجموعات تتصارع على السلطة إقليمياً: الحزب الحاكم، موقعي الاتفاقيات، الحركات المسلحة الرافضة، الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني.
ثالثاً: الصراع بين المركز وإلاطراف بسبب التهميش. يرى الزين أن الإحساس بالتهميش بدأ من 1965م مع جبهة نهضة دارفور، وعُبِر عنها بشكل واضح في الكتاب الأسود 2002م. ويرى أن السلطة اعترفت في اتفاقية الدوحة بالتخلف النسبي ولكنها كافأت حملة السلاح وأعطتهم السلطة. الملاحظ أن كتاب آدم الزين لم يذكر إدارة التَّنوُّع في كتابه.
عام 2005م أجرى الزين استطلاع رأي لعدد 236 (200 رجل و36 امرأة) من النخب المجتمعية الدارفورية (طلاب، إدارة أهلية، أعضاء منظمات، أحزاب). رفض 74% منهم التمييز العرقي واعتبروا أنفسهم دارفورين فقط، 3% اعتبروا أنفسهم عرب و17% غير عرب. وأيد 60% حكومة تكنوقراط، 47% أن تكون من دارفور و13% من خارجها، 15% حكومة ائتلافية بين الحكومة والحركات والحركة الشعبية لتحرير السُّودان. أيد 77% إجابات قبول الاقليم الواحد. وجاءت توصيات السياسة: حكومة تكنوقراط انتقالية، تحول ديمقراطي، تنمية جيدة والاستفادة من آليات حل النزاعات الدارفورية.
من المشكلة للحل
تسود أفكار نمطية كثيرة في قضايا دارفور، عمل الكثير من الأطراف لتسود. لكن قدم مجموعة من الكتاب الموضوعيين من أوفاهي، محمد سليمان محمد (السودان: صراع الموارد والهوية)، يوسف تَكَنَة (دارفور صراع السلطة والموارد) تحليل وتركيب الإشكالات الحقيقية لصراعات دارفور.
بداية لابد من تجاوز أي مسميات ملغمة، فأبناء دارفور جميعاً هم دارفوريون، وقد استطاعوا جميعاً أن يقدموا نماذجاً من التعايش المثمر والأخلاقي. كل أبناء دارفور نتاج تداخل وتلاقح تاريخي واجتماعي كبير ومستمر، يطلقون على نفسهم "دارفوريين أو غرابة"، ويحسون بالانتماء. كل الأطراف في دارفور مسلحة وضمنها الحركات المسلحة وهي تمثل في أغلبها تكوينات إثنية متجانسة (الفور، المساليت والزغاوة). كل هذه التكوينات لديها أجندة محلية تلبي حاجتها، وأخرى لها أجندة إقليمية.
مع تكون الحركات المسلحة وتسليح التكوينات الإثنية الأخرى، وجدت القوى المحلية (السلطات السُّودانية)، القوى الإقليمية (تشاد، ليبيا) والقوى الدولية (فرنسا، المانيا، إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها) موطئ قدم في مشاكل الإقليم. ليس أمام أبناء دارفور سوى أن يحاولوا حل مشاكلهم بعيداً عن المستفيدين منها. وعلى بقية السُّودان أن يقدم لهم كل العون بتغيير السياسات التي تعالج التَّنوُّع وتديره بحصافة وحب لهذا الشعب المتنوع.
اختتمت جولي فلينت في كتابها الهام ما بعد الجنجويد: فهم ميليشيات دارفور: "لا يمكن معالجة الفوضى في دارفور بالكامل ما لم تقم تحليلات لهوية ودوافع أولئك الذين يحملون السلاح، وفي حالة الرعاة، فهم كم منهم سيستأنف التنقل إذا ما استطاع وكم منهم ما عاد راغباً في العيش مثل البدو باعتبار ذلك لا يتماشى مع الحداثة والتعليم. لم يتم تناول الميليشيات العربية بشكل كاف ولم تفهم بشكل جيد. وإذا أريد لدارفور أن تنعم بالسلام فإن ظروفهم ومطالبهم السياسية وحاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية تقتضي تدقيقاً وتحليلات جدية. إن هذه الميليشيات هي جزء من المشكلة وينبغي أن تكون جزءًا من الحل.
ما لم يقله الكتاب إن مشكلة المليشيات هي سياسات حكومية، إقليمية ودولية تستغل كل الأطراف، من الرعاة المهمشين والذين يشكلون غالبية "الجنجويد" وغيرها، والمستقرين المهمشين أيضاً. تكوينات دارفور الإثنية هناك منذ ألفيات وتتعايش بطرقها الخاصة. في ظل سلطات تراعي التَّنوُّع والتعدد، وتعطيه الفرصة لتصبح قوة إيجابية، سوف يجد الدارفوريون حلولاً لمشاكلهم.
الآفاق
عندما وجه إبراهيم بدري مذكرته إلى لجنة تعديل الدستور في 13 مايو 1951م، كان يتحدث عن واقعنا اليوم: "عندما أقول جنوب السُّودان لا أعني مواطني المديريات الجنوبية الثلاث لكن أيضاً الذين هم في جنوب الفونج يقطنون - مديرية النيل الأزرق - وكذلك بعض مواطني دارفور وجبال النُّوبة في كردفان...هؤلاء الناس... لا تربطهم علاقات تقليدية أو دينية أو لغوية أو ثقافية بينهم وبين الشماليين، العلاقة الوحيدة هي علاقة إقليمية التي تعود إلى الاحتلال التركي- المصري العام 1820م".
جاء في مقال الصادق المهدي: يشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار "كان لدى الجماعات صاحبة الثقافات المغايرة لثقافة الوسط المهيمنة، ولحدة تلك المغايرة بين الشِّمال والجنوب فقد أثمرت حرباً إقليم ضارية اشتعلت في الجنوب واتقدت طويلاً، حتى انتهت مع مفاقمة نكء جرح الهوية على يدي الإنقاذ إلى الانفصال. وبرز الوعي بالتَّنوُّع كذلك لدى حركات واعية بالمظالم السياسية والتنموية والثقافية لمناطقها مثل مؤتمر البجا وجبهة نهضة دارفور".
جاء في مقال "هل لدارفور من مستقبل في السُّودان" رغم أن أوفاهي مؤمن بأن مستقبل دارفور هو "مع السُّودان"، ولكن هذا يستدعي أن يحكم السُّودان "بطريقة مختلفة تماماً عن ما هو حادث في سودان اليوم". ويرى أوفاهي أن دارفور تاريخياً ليست جزءًا "طبيعياً" من السُّودان. حتى أن ضمها في عام 1916م، كان لحد كبير نتيجة لتقدم القوات الفرنسية شرقاً نحو بحيرة تشاد. لكن من المهم عدم الركون لهذا التحليل بل التصدي لعكس التهميش ودفعها لحضن وطن حر دافئ، عادل وتسوده المساواة.
ماخوذ من كتاب التنوع في السودان الجزء الرابع، الفصل العشرون:
١- تقرير لجنة التحقيق الإداري في جنوب السودان 1955، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2005م.
٢- جولي فلينت: ما بعد الجنجويد فهم ميليشيات دارفور، مسح الأسلحة الصغيرة – المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية، جنيف، طبعة أولى يونيو 2009،www.smallarmssurveysudan.org/.../HSBA-WP-17-Beyond-Janjaweed 2009م
٣- العربي الجديد: "الجنجويد"... قنبلة السودان الموقوتة. https://www.alaraby.co.uk/politics/ 2015/5/21/الجنجويد--قنبلة-السودان-الموقوتة
٤- العربي الجديد: "الجنجويد"... قنبلة السودان الموقوتة. https://www.alaraby.co.uk/politics/ 2015/5/21/الجنجويد--قنبلة-السودان-الموقوتة.
٥- السودان يقنن رسمياً قوات "الدعم السريع" المثيرة للجدل: http://www.albayan.ae/one-world/arabs/2017-01-17-1.2829043
٦-:محجوب حسين: شيخ قبيلة المحاميد موسي هلال وضرورة الانتقال نحو صراع السلطة والحكم في السودان، https://www.alrakoba.net/news-action-show-id-141996.htm
٧-آدم الزين محمد: مدخل بديل للسلام في دارفور: مشروع الفكر الديموقراطي، سلسلة قراءة من أجل التغيير (29)، 2015.
٨-:الصادق المهدي: يشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار: http://www.alhayat.com/Articles/3035919/ /الصادق-المهدي-يشدّد-على-التَّنوُّع -سبيلاً-للاستقرار.
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842