زيارة اخرى للتاريخ: جيوبوليتيكا السودان (٦-٩) 

 


 

 

قبل اكثر من ثلاثة عقود عبرت عن فكرة محتواها "ان السودان محطة مؤجلة في استرتيجيات القوى الدولية".

كان ارنولد توينبي قد كتب ان هناك ثلاث بلاد مرشحة ان تكون مصدر الغذاء في القرن العشرين هي كندا واستراليا والسودان بحكم مصادرها من الارض والمياه والقوى العاملة. تحققت توقعاته للبلدين لكن لم تتحقق في السودان حتى الان. حتى عندما طرح ان السودان سلة غذاء العالم في السبعينيات من العالم العربي في زمن السيادة الوطنية والفكر العروبي السائد، انتهت الاطروحة لان القوى الدولية لم تكن قد حسمت امر السودان استراتيجياً.

تناولت ثروات السودان وامكانياته في الجزء الثاني من كتاب "الرؤية السودانية: نحو اطار عام للرؤية، الى اين نريد الذهاب وكيف". واسميت هذه الامكانيات "الكفاءات الاساسية".

وشملت هذه الارض التي تقدر بنصف مليار فدان والتي تمتاز بالتسطح وقلة التضاريس الوعرة اذا اعتبرنا الجزء المتصحر اراضي طينية رسوبية؛ المياه الوفيرة من الانهار والامطار والسيول والحوض النوبي والبحيرة الافريقية العظيمة في دارفور وغيرها؛ الانسان السوداني ذوي الخبرات التاريخية الضاربة في عمق حضارات طويلة وتقبل السودانيين للتكنلوجيا بل ومساهماً تاريخيا فيها؛ المعادن المتنوعة والاحتياطيات الكبيرة من الغاز والنفط واليورانيوم والذهب والنحاس والاسمنت وغيرها وغيرها؛ ثروة حيوانية ضخمة من كافة الحيوانات التي تجوب المراعي الخصبة وتؤدي للرعي الجائر والتصحر وبدون الاستفادة الحقيقية منها واخيراً التنوع البيئي من الصحراء الى السافنا الفقيرة والغنية والغابات.

الموقع الجغرافي للسودان ايضاً مميز واستراتيجي. فهي المدخل الشرقي لدول الساحل والصحراء من سواحل البحر الاحمر  الى المحيط الاطلسي (وهو جزء من حلم الامارات وروسيا في السيطرة على موانيء البحر الأحمر كمدخل يربط الدول المغلقة بالتجارة العالمية). دول الساحل والصحراء كانت مصدر هجرات شعوب هذه الدول من تشاد و مالي والنيجر ونيجريا والتي تجد في السودان مداخلاً سهلة في الاندماج وسبل كسب العيش.

طوال تاريخه ظل السودان مقصداً للهجرات في اوقات الحروب والمجاعات من الشرق والجنوب من الكونغو ويوغندا وكينيا والصومال سابقا ومن اثيوبيا واريتريا  وجنوب السودان ولم تحتاج هذه الهجرات لمعسكرات لجوء سوى السبعينات والثمانينات في معسكر الشوك. كل الهجرات كانت بقبول المجتمعات المحلية للوافدين واسنيعابهم. كما ظل الغرب  الافريقي مصدرا للجوء كثيف وسهولة اندماجهم في المجتمعات المحلية.

كما انها تجاور اكبر الدول التي يزيد عدد سكانها على المائة مليون في الشرق الاثيوبي والشمال المصري والتي تمثل إمكانيات انتاج الغذاء لشعوبها هدفاً استراتيجيا لمستقبلها.  وحتى بعد انفصال الجنوب فالسودان هو المدخل لافريقيا الاستوائية على الاقل في موقعها كممر للمواصلات الجوية من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب.

كان هذا مفتاحاً للتدخلات الامنية على طوال التاريخ مابعد الاستقلال من الشمال والتي تناولها د. حيدر ابراهيم والامام الصادق المهدي في الالفية الثانية. كما ان اثيوبيا كانت ملاذاً امنا لحركات تمرد متعددة والتمدد الجغرافي عند ضعف الدولة. كل تغييرات السلطة في تشاد كانت تحسم من السودان مع فرار الجيش المهزوم للداخل السوداني ومن ثم اسقاط النظام من الداخل ايضاً.  رغم انفصال الجنوب بنسبة غير مسبوقة عالميا فقد عاد حوالي ثلث سكان جنوب السودان ويعيشون في السودان وتتحمل الدولة شئون حياتهم كمواطنين.

وفي العقد الاول والثاني برزت طموحات جديدة من ترتيبات روسيا في الحصول على قاعدة عسكرية في البحر الاحمر،  والأمارات في الحصول على ميناء يربط البحر الاحمر عبر الطرق والسكك الحديدة بكل افريقيا واخيراً عزم الولايات المتحدة في جعل السودان مقراً للافريكوم وسفارتها كاكبر سفارة في افريقيا ومركزاً متقدما.

هذا الصراع الدامي حول امكانيات السودان كان لها الدور الاكبر في وضع العراقيل امام الثورة السودانية واختراق مكوناتها وحتى اشعال الحرب بين عصابة الكيزان في الجيش وعصابة الجنجويد في الدعم السريع واصطفاف كل القوى خلف احدهما. وهو ما سنتناوله في المقال القادم.

 

Dr. Amr M A Mahgoub

omem99@gmail.com

whatsapp: +249911777842

/////////////////////

 

آراء