زيارة اخرى للتاريخ: من المراحيل للمليشيات (٤-٩)
د. عمرو محمد عباس محجوب
1 July, 2023
1 July, 2023
في الفترة من87 - 1989 تحالفت 27 قبيلة عربية (التجمع العربي) ضد مجموعات "الزرقة". كانت الحركة الشعبية لتحرير السُّودان قد زادت من عملياتها العسكرية، وحققت تقدماً ملحوظأً في عدد من مناطق جنوب السُّودان، جبال النوبة في العام 1985م وجنوب النيل الأزرق في العام 1987 وحاولت التوسع في جنوب كردفان. أثناء حكومة الصادق المهدي (1986-1989)، تم تكليف وزير الدفاع الأسبق، اللواء (م) فضل لله برمة ناصر بتوزيع السلاح للقبائل العربية خاصة في مناطق دارفور وكردفان المتاخمة لجنوب السُّودان.
كان الغرض المعلن من تسليح القبائل العربية التي كانت تسمى (بالمراحيل) حماية مواشيهم من استهداف قوات الجيش الشعبي، والهدف المستبطن أن تعمل هذه المليشيات العربية جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة السُّودانية في محاربة الجيش الشعبي (لحماية الدين والهوية العربية) كما كانت تردد ذلك الحكومة المركزية. سنت حكومة المهدي وعبر برمة ناصر "قانون الدفاع الشعبي" الذي أجيز في مجلس الوزراء في الحكومة الائتلافية بين حزبي الأمة بقيادة الصادق المهدي والجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي وكان يفترض أن تتم إجازته في البرلمان ولكن تم إرجاؤه إلى أن استولت الجبهة الإسلامية على الحكم عبر انقلابها العسكري بقيادة عمر البشير .
تأسست المراحيل في عام 1986 كمليشيا لايتقاضون أجراً من الحكومة المركزية مقابل مساندتهم القوات الحكومية في الحرب، ولاتطالب بتعويضات على شهدائها وإنما تحصل على أجرها وتعويضاتها عن طريق نهب المواشى والممتلكات واختطاف الأطفال والنساء.
تسبب المراحيل في موت كثير من الأبرياء مثل مذبحة الضعين التي راحت ضحيتها مئات من الدينكا، تم إحراقهم في عربات القطار بالضعين في مايو 1987 واكتفت الحكومة آنذاك بإدانة الحادث فقط. ولم تقم الحكومة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الضعين ولم تحاول إلقاء القبض على المجرمين وتقديمهم للعدالة حتى تكون درساً لكل من تسول له نفسه بارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء.
كان ما فعلته حكومة الصادق المهدي خطأ كارثياً، إذا لم يكن جريمة دستورية خطيرة، فبعد أن غاص الجيش في محاربة حركات متمردة منذ الخمسينات، أدخلت مليشيات من السكان في الحرب. كان هذا استجابة لطلب السكان الحماية أو التسليح، وكان المنطقي والدستوري والأخلاقي هو أن تقوم الدولة بواجبها في حماية السكان، لكنها اختارت التسليح. سوف تحول هذه الإجراءات القبائل العربية في كردفان ودارفور من بنادق المرمطون وضامن عشرة وأبو خمسة وهي الأسلحة التي كانت تستخدم في القنيص وحماية البقر من الهمباتة خاصة الأبالة منهم، إلى الكلاشنكوف والدوشكا وغيرها.
وضعت إجراءات حكومة الصادق الأرضية التي وجدها انقلاب الإنقاذ، من برنامج تسليح القبائل، تجييش قطاعات كبيرة من الشعب السُّوداني، في معسكرات الدفاع الشعبي التي نشطت في بداية تسعنيات القرن الماضي في عملية عسكرة الشعب. كانت العادة في مناطق كردفان أن يستلم المواطن السلاح ويذهب إلى العمليات العسكرية ومن ثم يصبح ذلك السلاح ملكاً للمواطن. تطور السلاح وأصبحت القبائل تمتلك المدافع الثقيلة من دوشكا إلى أربيجي، عربات لاندكروزر وغيرها. أدت هذه فيما بعد لحروب قبلية، بين القبائل العربية نفسها، غير مسبوقة في عدد القتلى مثل قبيلة المعاليا مع قبيلة الرزيقات راح ضحيتها أكثر من (200)، صراعات بين بطون المسيرية أسفرت عن مايفوق ال400 قتيل، حرب الزيود وبني عمران وغيرهم من القبائل التي تتطاحن فيما بينها.
المراحيل (تحول في فترة لاحقة لاسم الفرسان) جزء من السكان المهمشين مثل غيرهم في السُّودان ودارفور خاصة، بل وأكثر تهميشاً. عندما انتهت حرب الجنوب، ولئلا يثوروا عليها أرادت الحكومة أن ينشغلوا بالنهب، فقامت بحشدهم في حربها ضد دارفور. حدثت تغيرات في العقيدة القتالية "الدفاع عن العروبة" لأن شعار الجهاد في سبيل الله لاتصلح في دارفور لأنها منطقة مسلمة على عكس الجنوب. وغيرت الاسم إلى الجنجويد.
سوف يكتب الصادق المهدي في نقد مبطن لما اتخذه من سياسات ضارة "الجنجويد وملف تسليح القبائل العربية" عن أخطاء الإنقاذ في الانقياد لتوجهها الإسلاموي العروبوي مستعينة بعناصر غير نظامية من الإثنية العربية، مما عمق التباين الإثني ولتجاوزات كبيرة ضد القبائل الأصيلة وتعديات على حقوق الإنسان، واستجلاب قبائل عربية غير سودانية وإحلالها في أراضي العرب. وشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار.
سوف يحاول السيد الصادق المهدي معالجة السؤال الذي تأخر هو والحركة السياسية في تناوله حوالي الست عقود "الواقع أن الوعي القومي السُّوداني في نشأته الباكرة في النصف الأول من القرن العشرين، قام على هوية عربية إسلامية وثيقة الصلة بالشرق الأوسط وشِمال إفريقيا...وافترض أن كل الهويات الثقافية السُّودانية الأخرى سيتم هضمها لا محالة وإذابتها في هذه الهوية.
إن تقويم مداولات الهوية منذ مطلع القرن العشرين، مروراً بمساجلات عشرينات القرن وثلاثيناته بل حتى ستيناته، يدل على غياب شبه كامل للوعي بالتَّنوُّع بين الشريحة السُّودانية المثقفة والكلام عن الهوية كان يعني بثقافة المركز، وإن تم الاختلاف في تحديد هوية المركز نفسها، بين من يرونها عربية إسلامية محضة، ومن يقطعون بهجنتها العربية - الإفريقيَّة".
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842
كان الغرض المعلن من تسليح القبائل العربية التي كانت تسمى (بالمراحيل) حماية مواشيهم من استهداف قوات الجيش الشعبي، والهدف المستبطن أن تعمل هذه المليشيات العربية جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة السُّودانية في محاربة الجيش الشعبي (لحماية الدين والهوية العربية) كما كانت تردد ذلك الحكومة المركزية. سنت حكومة المهدي وعبر برمة ناصر "قانون الدفاع الشعبي" الذي أجيز في مجلس الوزراء في الحكومة الائتلافية بين حزبي الأمة بقيادة الصادق المهدي والجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي وكان يفترض أن تتم إجازته في البرلمان ولكن تم إرجاؤه إلى أن استولت الجبهة الإسلامية على الحكم عبر انقلابها العسكري بقيادة عمر البشير .
تأسست المراحيل في عام 1986 كمليشيا لايتقاضون أجراً من الحكومة المركزية مقابل مساندتهم القوات الحكومية في الحرب، ولاتطالب بتعويضات على شهدائها وإنما تحصل على أجرها وتعويضاتها عن طريق نهب المواشى والممتلكات واختطاف الأطفال والنساء.
تسبب المراحيل في موت كثير من الأبرياء مثل مذبحة الضعين التي راحت ضحيتها مئات من الدينكا، تم إحراقهم في عربات القطار بالضعين في مايو 1987 واكتفت الحكومة آنذاك بإدانة الحادث فقط. ولم تقم الحكومة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الضعين ولم تحاول إلقاء القبض على المجرمين وتقديمهم للعدالة حتى تكون درساً لكل من تسول له نفسه بارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء.
كان ما فعلته حكومة الصادق المهدي خطأ كارثياً، إذا لم يكن جريمة دستورية خطيرة، فبعد أن غاص الجيش في محاربة حركات متمردة منذ الخمسينات، أدخلت مليشيات من السكان في الحرب. كان هذا استجابة لطلب السكان الحماية أو التسليح، وكان المنطقي والدستوري والأخلاقي هو أن تقوم الدولة بواجبها في حماية السكان، لكنها اختارت التسليح. سوف تحول هذه الإجراءات القبائل العربية في كردفان ودارفور من بنادق المرمطون وضامن عشرة وأبو خمسة وهي الأسلحة التي كانت تستخدم في القنيص وحماية البقر من الهمباتة خاصة الأبالة منهم، إلى الكلاشنكوف والدوشكا وغيرها.
وضعت إجراءات حكومة الصادق الأرضية التي وجدها انقلاب الإنقاذ، من برنامج تسليح القبائل، تجييش قطاعات كبيرة من الشعب السُّوداني، في معسكرات الدفاع الشعبي التي نشطت في بداية تسعنيات القرن الماضي في عملية عسكرة الشعب. كانت العادة في مناطق كردفان أن يستلم المواطن السلاح ويذهب إلى العمليات العسكرية ومن ثم يصبح ذلك السلاح ملكاً للمواطن. تطور السلاح وأصبحت القبائل تمتلك المدافع الثقيلة من دوشكا إلى أربيجي، عربات لاندكروزر وغيرها. أدت هذه فيما بعد لحروب قبلية، بين القبائل العربية نفسها، غير مسبوقة في عدد القتلى مثل قبيلة المعاليا مع قبيلة الرزيقات راح ضحيتها أكثر من (200)، صراعات بين بطون المسيرية أسفرت عن مايفوق ال400 قتيل، حرب الزيود وبني عمران وغيرهم من القبائل التي تتطاحن فيما بينها.
المراحيل (تحول في فترة لاحقة لاسم الفرسان) جزء من السكان المهمشين مثل غيرهم في السُّودان ودارفور خاصة، بل وأكثر تهميشاً. عندما انتهت حرب الجنوب، ولئلا يثوروا عليها أرادت الحكومة أن ينشغلوا بالنهب، فقامت بحشدهم في حربها ضد دارفور. حدثت تغيرات في العقيدة القتالية "الدفاع عن العروبة" لأن شعار الجهاد في سبيل الله لاتصلح في دارفور لأنها منطقة مسلمة على عكس الجنوب. وغيرت الاسم إلى الجنجويد.
سوف يكتب الصادق المهدي في نقد مبطن لما اتخذه من سياسات ضارة "الجنجويد وملف تسليح القبائل العربية" عن أخطاء الإنقاذ في الانقياد لتوجهها الإسلاموي العروبوي مستعينة بعناصر غير نظامية من الإثنية العربية، مما عمق التباين الإثني ولتجاوزات كبيرة ضد القبائل الأصيلة وتعديات على حقوق الإنسان، واستجلاب قبائل عربية غير سودانية وإحلالها في أراضي العرب. وشدّد على التَّنوُّع سبيلاً للاستقرار.
سوف يحاول السيد الصادق المهدي معالجة السؤال الذي تأخر هو والحركة السياسية في تناوله حوالي الست عقود "الواقع أن الوعي القومي السُّوداني في نشأته الباكرة في النصف الأول من القرن العشرين، قام على هوية عربية إسلامية وثيقة الصلة بالشرق الأوسط وشِمال إفريقيا...وافترض أن كل الهويات الثقافية السُّودانية الأخرى سيتم هضمها لا محالة وإذابتها في هذه الهوية.
إن تقويم مداولات الهوية منذ مطلع القرن العشرين، مروراً بمساجلات عشرينات القرن وثلاثيناته بل حتى ستيناته، يدل على غياب شبه كامل للوعي بالتَّنوُّع بين الشريحة السُّودانية المثقفة والكلام عن الهوية كان يعني بثقافة المركز، وإن تم الاختلاف في تحديد هوية المركز نفسها، بين من يرونها عربية إسلامية محضة، ومن يقطعون بهجنتها العربية - الإفريقيَّة".
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842