سقطت ورقة التوت … فيا أهل الشمال ماذا أنتم فاعلون؟ … بقلم: مكى عبدالرحمن – أمريكا

 


 

 

mekkimusa@aol.com

أجدنى فى منتهى الحسرة والأسى لما أصبح حقيقةً لا مداراةَ فيها من أن الجنوبَ ماضىٍ الى الأنفصال عن الوطن دون عودة ، بل الى مداركٍ مجهولةِ الغياهِب ربما جلبت للشعبين المنفصلين الجنوبى والشمالى الويلات واللعنات الموبقات وجرّا من خلفهما أحلافاً بين الأفريقى والعربى وما بين ذلك قواما. فإن كانت الحرب فى السابق بين أبناء وطنٍ واحدٍ ولم تسلم من التدخلات الأقليمية والدولية فكيف يكون الحال إذا تجددت بين دولتين هذه المره ما زالت أسباب العداءِ قائمةً بينها ؛ ولكلٍ عمقه الأستراتيجى محاطاً بخمس دولٍ لكليهما ؛ من بينهم دولتين يشتركان مع الدولتين الوليدتين فى الحدود هما أثيوبيا وأفريقيا الوسطى. وقد بدأ واضحاً أنّ الجميع ؛ صحفيين و كتاب ومفكرون وسياسيون فى المعارضة والحكومة بشقيها بدلاً عن الحديث عن وحدةِ كيانٍ فشل فيه السودانيون الأنصهار فى بوتقةٍ واحدةٍ تجمع شملهم المبعثر ؛ تراهم قد استسلموا للقدر المحتوم بان التاسع من يناير من العام القادم هو يوم اللاعودة. ففى ظل تنامى هذا الشعور العارم المسنود بواقعية لا سبيل لأنكارها نَسِىَ أهلُ الشمالِ حقيقةً هامّة من أن إنفصال الجنوب يعنى أنهم قد صًدّقُوا على كل النُعُوتِ بحقهم من أنهم لا ميثاق لهم ولا شرف ولا رؤية سياسىية تجنب السودان التقسيم. وأنكى من أنهم شعب لم يفهم طبيعة ثقافته الإسلامية التى ترى فى التنوع عظمةً وفخرا لا تحقيرا و ضعفا. لا يريد الشماليون غير ديناً واحد ووجههً واحدة وملةً واحدة فترى بعضهم يقول عن أهل الجنوب ؛ أجدى أن ينفصلوا فهم لا يشبهوننا.

 لقد جرّب ساسة الجنوب حكام الشمال  على مدار العقود الستة الماضية فلم يجدوا غير النكران والأستهتار وخرق العهود فى أنانيةٍ وإستهتارٍ مفضوحين بحقوقهم. كان الساسة والزعماء الجنوبيين حاضرين كلما رأى حكام الشمال الجلوس معهم ؛ فلم يحدث أن رفض الجنوب التفاوض حول تسويةٍ عادلة لقضيته. لقد قاد بعض زعماء الجنوب التمرد على الخرطوم مرات عددا ولكنهم لم يفكروا فى غير إقليمهم فى إطار السودان الواحد حتى أستُنْفِدَتِ الفرصَ أمامهم ولم يبقى غير أن يجربوا الأنفصال. فقد فشلت جهودهم فى كونفدرالية تعطهم حقهم فى حكم أنفسهم وذاتية وَفّرَتْ مناخاً سياسياً قريباً من ذلك ولكن نُقِضَتْ بعد عشرة سنوات بعد أن هلل لها الجميع وتغنوا بها وأعتبروها إنجازاً تاريخىاً للسودان والقارة السمراء فى وقتها. فكما قبلها تغنى الشعبُ وردد  فى الستينات– منقو قل لا عاش من يفصلنا ؛ تغنى فى السبعنيات ورقص على إيقاع – ما فى شمال بدون جنوب ، مافى جنوب بدون شمال.

 لم يقم الجنوب بغزو الخرطوم أو حتى المحاولة. لم يثبت أن خطط قادة ينتمون للجنوب القيام بإنقلاب عسكرى لأستلاب الحكم وتغيير معالم البلاد السياسية. وفى الأنقلابات الثلاث التى قهرت البلد كان يُؤْتًى بجنوبى أو أثنين ليُمثلا شكلياً الأقليم. لقد كان جلياً من أن حكومات الشمال كانت تكتفى بتمثيل الجنوبيين فى حكوماتها بإعتباره أكثر مما يستحقون دون النظر العميق فى طبيعة المشكلة ومثالية الحلول المطروحة. حتى الحكومات الديمقراطية أتت بممثلين عى الجنوب عندما أجريت إنتخابات عامه فى الشمال وأستحالت فى الجنوب بسبب الحرب كما حدث فى 1965 وجزئيا فى 1968 و 1986.

تمردوا فى العام 1955 بعد أن تنكر قادة الأستقلال لمطالبهم السياسية.فى كونفدرالية لو أُقِرّتْ فى وقتها لما كنا سمعنا بمشكلة تسمى جنوب السودان ولحفظ السودان أبنائه وأمواله التى إستنفدتها فى حروب ضروس زادت من نعرات العنصريه وها هى أخيرا تقود الى شرزمة الوطن برمته . عانى الأقليم تخلفا قل نظيره فى الشمال. وكل هذا والجنوب صابرٌ على الأذى لا يألوا جهدا فى أن ينافح عن حقوقه دون الأنفصال حتى جاءته الطامة الكبرى بإعلان تطبيق الشريعة الأسلامية فى ربوع الوطن والتى كان ممكن أن تكون مخرجاً مناسباً لو صدق القائمون على أمرها دون فرضٍ أو وصايةٍ على أهل الجنوب ؛ بل بالتوافق حولها وإشراكهم فى إتخاذ القرار. ومرة أخرى إن قامت الكونفدرالية فى عقد الأستقلال لجاز للشمال تطبيق الشريعة الأسلامية دون إثارة أهل الجنوب فى شئ. ولذلك لم يدم الحال؛ وثار الشعب فى الشمال على إمامه الملهم دون السوس الذى ظل ينخر له موضعا فى جنبات الوطن فجاء إنقلاب الجبهة الأسلامية ؛ وكانت ثالثة الأثافى على سكان الجنوب الصليبيين والشيوعيين والحاقدين والآبقين والمتمردين دوما والذين يسعون لأبادة العرب والقضاء على الأسلام فأعلنها النظام جهادا فى سبيل الله متوهماً أنه بذلك سيسحق التمرد الى الأبد. ولكن ... أُضطروا بعد خمسة عشرا عاما للتفاوض مع نفس القرنق والياسر عرمان وأشباهم وأشياعهم. وهذه المره حصل الجنوب على حق تقرير المصير تحت إحباطات مفاوض الخرطوم الذى وضح أنه لا يبالى بغير أن تستمر حكومته على سدة الحكم وليكن الثمن تجزئة الوطن وتقسيمه إرباً. فى تقديرى لو علم أهل السودان فى يناير 2005 بأن إتفاقية نيفاشا تحمل فى طياتها من تحت طيات المؤامرة المدبره إنفصال الجنوب بهذه الكيفية المعتمه لما هللوا لنائب الرئيس وأعتبروه بطلاً للسلام. وليس أصدق من أنهم خدعوا ، خرجوهم المشهود بالملايين يستقبلون زعيم الحركة الشعبيه عندما جاء الى العاصمه بعد واحد وعشرون عاما قضاها محاربا لثلاث حكوماتٍ شماليةٍ متعاقبة. فلنا أن نتخيل أن الشعب السودانى كان يعلم يقيناً فى 2005أن إتفاقية السلام كانت تعنى أيضاً إتفصال الجنوب ولم تكن مدة الخمس سنوات غير فترة إنتقالية للحركة الشعبية والمؤتمر الوطنى لحسابات الخسائر والأرباح !! نعم ؛ لقد كان الشعب تواقاً لوقف الحرب والإقتتال ولكن لم يكن مؤيداً لأتفصال الجنوب كثمن لذلك.

فبعد أن دنت لحظات الخروج عن النمط السياسى الذى فرضته حكومات الشمال وبعد أن ضاق أهل الجنوب زرعا به ، لم يتبقى غير التباكى والنواح ومراجعة التاريخ علها تثمر إستقرارأ يرتجى ونماءا ينتظر وسلاما نتمنى أن يعم. وأهم ما يمكن التذكير به حال إنفصال الجنوب من أن الشعب فى الشمال بمختلف مكوناته السياسية والأجتماعية فشل فى أن يستوعب آخراً -  يشاركه نفس الرقعة لمئات السنين ولمجرد أنه يختلف معه فى العرق والدين واللغة. لم يترك الشمال للجنوب خيارا أفضل من الأنفصال. أما والحال كذلك ؛ تناثرت على الأعتاب ثقافة الأنفصال حتى أضحى الناس فى كلا الجانبين يفكرون فى الأنفصال السياسى - وبعضهم يستهين به - ولكن يصعب عليهم تحديد المآلات الأجتماعية والأقتصادية والثقافية والحضارية له. لقد فشل السياسيون منذ الأستقلال  فى إيجاد صيغة سياسية غير تقرير المصير ليتكالبوا ويتآزروا ويتناوروا حولها بإعتبارها أيسر الحلول لمشكلٍ سياسىٍ ظل يؤرق السودان لزمنٍ طويل. مالكم كيف تحكمون؟ لقد كان متاحاً ما هو أدنى وأنفع من الأنفصال ولكن لشئ فى نفوس الساسه الشماليين قبل الأستقلال وبعده ، أو لقصر فى النظر الأستراتيجى أو للأستهتار بالمكون السياسى والثقافى والأقتصادى للجنوب – تم رفضه والتحايل عليه كما هو مدون فى الكتب والوثائق. وقد قدم المفكر الفذ د. منصور خالد فيما كتب تتبعاَ تاريخياً شافيا ضافيا عن تطور هذا الإرث المخذى لقضية الجنوب فى المخيلة السياسية للحكومات التى تعاقبت على أمر البلاد والعباد سواء المنتخب الديمقراطى منها أو الإنقلابى العسكرى. ومن السهل قرأة النتيجة التى ترتبت على ذلك من خلال الفرحة العارمة التى يشعر بها أغلب مواطنى الجنوب اليوم عندما وضح بجلاء حتمية إستقلالهم بدولتهم بعد عام أو أقل والى الأبد. لما لا وقد تشكل فى الوعى الجمعى لأهل الجنوب أن أهل الشمال لم يرعوا فيهم إلاً سياسيةً ولا ذمةً تنمويةً لا قبل أن يحملوا السلاح ولا بعد أن وقّعوا إتفاق سلامٍ كان هوالفرصة الأخيرة للشمال لأثبات حسن النوايا ومن أنه قادر على قهر الظروف التاريخية التى أدّت الى تلك الفجوة التنموية والأجتماعية بين شقى الوطن. لو فعّل أهل الشمال فكرهم وإرثهم الدينى بطريقةٍ صحيحة لكان المآل خيراً  يعود بانفع على الجميع ولكنهم آثروا الحكم والسلطان حتى عنما تحدثوا عن السلام. مع بالغ الأسف كان إتفاق السلام هو القشة التى قصمت ظهر الوطن. لقد أَنْكَرَتْ عروبةُ الشمالِ على مواطنى الجنوب ذوى الأصول والأنتماء الأقريقى حقهم فى أن يتمتعوا بكافة حقوق المواطنة الا على الورق فقط. كما فشل أيضاً إسلامُ الشمالِ فى أن يفسح مساحة متساوية لمن لا يدينون به من غالبية ساكنى الجنوب. وفشل شعب الشمال فى أن ينزل من عليائه ويعامل الجنوبى فى قالبه الإجتماعى بمساواةٍ لا تفرق بين الألوان والسحن.

لا شك أن الأمر كان يقتضى أكثر من إتفاقات تُوقع هنا وهناك سواء التى أُلغيت بعد حين أو التى تنكر لها مُوقِعُوها من حكام الشمال أو التى يماطل فيها تنفيذ بنودها الذين هللوا لها بالأمس القريب وأعتبروها فتحاً ونصراً لا يدانيه نصرٌغير  تحقيق الأستقلال فى 1956. فقد ظلوا يتحدثون عن وحدةٍ جاذبةٍ - كما سمُوها - على مدار الأربعة سنوات الماضية دون أن يُتْبِعُوا القولَ بعملٍ يرقى لمستوى التحدى ؛ ها هم وقد ركبوا القطار وأصبحوا يتحدثون بلغة محْبِطةٍ مفادها أن الجنوب لا محال ماضىٍ فى طريق الأنفصال. وكل ما يصبون إليه - وحدةٌ جاذبة - لا ندرى ما كنهها وكيف سيتم تحقيقها ولم تُسّوَى الظلامات بعد ! ولا حتى قضية دارفور قد حُلّت والشرق آيل للإنفجار!! وقد يقول قائل أى ظلامات نعنى بعد أن مُنِحَ الجنوبُ الحق فى أن ينفصل فى ترتيباتٍ وصفقاتٍ سياسيةٍ أشار إليها البعض من أنها بَتّتْ فى أمر اللاوحدة ! أقول بغير ما يتبادر الى الذهن وما تلوكه الألسنة وتخطه الأقلام من قضايا الأختلاف بين الجارتين فى العام 2011   حول البترول والحدود وغيرها من القضايا العالقة التى لم ولن يتم حسمها بصورة نهائية تُرْضِى الطرفين.

 أعنى حق مواطن الجنوب فى أن يسعى لتسوية المظالم فى حقه والتى أدت الى ما آل اليه حاله عبر ما يقارب الستة عقود تلت الأستعمار البريطانى المصرى. أمّا وقد أخذ الجنوب زمام المبادرة فلا شئ يمنعه من أن يرد الصاع صاعين لتلك الحضارة العربية الأسلاموية المزعومة فى السودان الشمالى والتى كانت سببا فى تعاسته وتخلفه وفقدان الملايين من الأنفس فى صراعٍ غير مبررٍ كان فيه الجنوبى ضحية على الدوام. فلم يتمرد لغير المساواة والعدالة السياسية والتنموية فى إطار نظامٍ سياسى يحقق ذلك ولا يهدر وحدة الوطن ويرهن مستقبله لعوامل إقليمية ودولية لا يستطيع كائن من كان أن يتنبأ بطبيعتها أو بما يمكن أن تؤدى إليه. إضف الى ذلك التداخلات الأجتماعيه والأقتصادية القائمة منذ عشرات السنين بين المواطنين فى شقى الوطن. ماذا عن المدعو جنوبى مولود فى الشمال وتَعَلّمَ وعاش وعمل وتملك فى الشمال عمره كله وأبنائه وأبناءهم؟ ماذا عن حالات الزواج "الأنتراشيال"؟ - فى مقالى الأخير حاورتُ جنوبياً لا يرى غير دولةٍ جنوبيةٍ مستقلة. وقد حدث أن دار حوار قصير بينى وبين جنوبية هذه المرة ترى أن فى الشمال مستقبلها بعد الأنفصال. جميلُ هذا !! فليختر من أراد الشمال ... ولكن يلِح سؤال أطرحه على كل الشماليين اليوم قبل الغد ؛ هل سَيُعَامَل الجنوبيون والجنوبيات الذين سيختارون الشمال لهم وطنا بإعتبارهم آخراً لا يبنبغى له أن يحلم بمساواته بأهل الشمال؟ هل بالفعل سيعاملون معاملة اللاجئين كما قال أحد الناس؟ علماً  بأن بينهم مسلمون وبينهم من يحملون قسمات الدم العربى شكلاً وثقافةً !! هل سيقبل الشمال العنجهى من أن يتم دمجهم بصورة مدروسة ومؤسسة تتجاوز الفكر والتفكيرالعنصرى البغيض المتأصل بين كثير من أبناء الشمال؟ هل ستتحمل الدولة القادمة مسؤلية ذلك ولا تتركها رهناً للظروف والأمزجة والأستغلال السياسى؟ هل سيصبح الجنوبيون "المتشملون" أقليةً إجتماعيةً منبوذه لا حقوق لها ؛ أم ماذا؟ لقد فشل أهل الشمال فى السابق من إستيعاب الجنوبيين فى قالبٍ إجتماعىٍ يساوى بين الناس جميعا دون تمميزٍ بينهم على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الأقليم ؛ وها هو الشمال قد وضع نفسه فى تحدٍ جديد بذات الخصائص فلنرى ماذا يصير غداً. وإن كان الغد لناظره قريب ؛ فمثل هذه الأمور لا تحتمل الأنتظار بل العمل المدروس والممنهج فى وطن ستظل التعددية الأثنيه والعرقية واللغوية والدينيه حاضرةً بقوة حتى بعد أن يغادر الجنوب من محطته التاريخية فى يناير القادم.

 

 

آراء