سيرغي لافروف و نكء الجِراحات

 


 

 

 

خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي، عقد بموسكو الشهر الجاري، كشف وزير الخارجية الروسي، أن إدارة الرئيس الأمريكي، باراك اوباما، لعبت دورا رئيسيا في تقسيم السودان، وأنها إشترطت على البشير، المطلوب لدى المحكمة الجنائية، الموافقة على فصل جنوب السودان مقابل التعامل معه، وأنها طالبت روسيا بالضغط على الرئيس البشير ليوافق، وبالفعل وافق!.

ما كشف عنه الوزير الروسي لم يكن مفاجأة لنا، سواء من حيث الدور الأمريكي في تقسيم السودان أو تعاون حكومة البشير مع هذا الدور. فموقف إدارة الرئيس أوباما هو من صميم إستراتيجية «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الأمريكية، والقائمة على إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات دينية ومذهبية ضعيفة ومتصارعة، بما يجعل من تنفيذ أهداف المشروع ممكنا وأمرا واقعا، والتي تتلخص في ضمان أمن إسرائيل وتفوقها النوعي في الإقليم، والتحكم في موقع المنطقة الاستراتيجي خاصة وأنها تتاخم روسيا والصين وتحوي طرقا رئيسية لنقل مصادر الطاقة إلى الغرب، والسيطرة على ثروات المنطقة القديمة والمكتشفة حديثا، وربط المنطقة بالسياسات الاقتصادية الأمريكية وباتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، توطيدا لعلاقات التبعية، ومحاولة لخلق السوق الشرق أوسطية، تكون اليد العليا فيه لإسرائيل، ومن خلاله يكتسب الكيان الصهيوني واقعا شرعيا وتتطبع علاقاته مع الدول العربية.

وفي هذا الإطار كان المسعى الأمريكي لتقسيم السودان إلى دولتين، جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، هو حلقة من حلقات تنفيذ هذا المشروع. وفي الحقيقة، ومن واقع السيناريوهات المتعددة التي ظلت تطرحها أمريكا، والمؤسسات الدولية وبنوك التفكير ذات الصلة بها، لعلاج الأزمة العامة في بلادنا، تولد لدينا، منذ البداية، شعور قوي بأن الولايات المتحدة ليست معنية بمفاهيم وتصورات الوحدة في إطار التنوع التي ظللنا نتغنى بها، وأنها ظلت تغض الطرف عن القوة الكامنة التي تفرزها هذه المفاهيم والتصورات، والتي في مقدورها خلق نظم ومؤسسات يمكن أن تحد من طغيان الصراع الإثني والديني في البلاد. وحاليا، ومن خلال مراقبتنا لتعامل الولايات المتحدة مع الصراع المتُفجر في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، تزداد شكوكنا حول أنها تدعم، وبشدة، المشاريع المتطلعة إلى فكفكة الروابط التي تشدنا إلى البقاء تحت راية الوطن الواحد، حتى أن الذهن يجد استحالة في استبعاد وجود رؤية/مؤامرة محكمة تهدف إلى إعادة تشكيل السودان إلى دويلات على أساس المكون الإثني. وللأسف، هناك من يتبنى هذه الرؤية/المؤامرة داخل نظام البشير، إن لم يكن بوعيه فبممارساته.

أما على الضفة الداخلية، فبعد التوقيع على إتفاقية السلام الشامل بين حكومة البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان، إنقضت الفترة الانتقالية بأكملها دون أي عمل جاد وذي مغزى للحفاظ على وحدة السودان. وفي الحقيقة، فإن نصوص الإتفاقية كانت وكأنها حبيبات منظومة بخيط رفيع، يمسك كل من حكومة البشير والحركة الشعبية بأحد طرفي هذا الخيط الرفيع، يشده ويجذبه بقوة إلى جانبه، الأول من منطلقات ايديولوجية دينية ضيقة والثاني وفق تطلعات قومية نخبوية أشد ضيقا، بدلا من دفع طرفي الخيط ليلتقيا في حلقة الإكتمال، حتى إنفرط العقد وتناثرت حبيباته على أوجاع الشعب فزادته عذابا على جراحاته.

فإتفاقية السلام الشامل، رغم أي انتقادات لها، جاءت بحزمة نصوص مؤهلة لمخاطبة قضايا بناء الدولة السودانية لولا أن تم التعامل معها وكأنها ملكية خاصة مسجلة حصريا بإسم الشريكين، ولولا أيضا عجز هذين الشريكين في ترسيخ معاني نصوص الاتفاقية ومراكمة مكونات جوهرها حتى تتوج بالوصول بنجاح إلى قمتيها اللتين انتظرهما الجميع، قمة التحول الديمقراطي، وقمة تحقيق شعار تقرير المصير. والكل يعلم مسلسلات الصراع الممتد منذ التوقيع على الاتفاقية بهدف تحقيق الصعود إلى القمة الأولى، والمتمثل في معركة القوانين المقيدة للحريات وقانون الانتخابات، إستقلال القضاء، قومية أجهزة الدولة، حياد وموضوعية الإعلام، رفع الوصاية عن النقابات والاتحادات، الاشكال التعبيرية من مظاهرات ومواكب، إلى غير ذلك من العراقيل الثقيلة والتي أدت إلى إنتصار زائف لحزب البشير في انتخابات وهمية مزورة.

وهكذا سقطت القمة الأولى في القاع، مما جعل الطريق إلى القمة الثانية، أي الاستفتاء، وعرا دامس الظلام. أعتقد، لن يعترض إلا مكابر على حقيقة أن نجاح قمة التحول الديمقراطي كان سيعطي الشعب السوداني بكل مكوناته السياسية والاجتماعية، المدنية والعسكرية، فرصة لمناقشة هادئة بناءة تصبو نحو هدف أساسي هو انتصار ونجاح قمة الاستفتاء، بما يعني التراضي على وحدة تحقق أيضا احلام الجنوبيين.

ولكن، وللأسف الشديد، شهدت الفترة الانتقالية قمعا ومزالق ومزايدات واستقطابات، وتجاهلا تاما لضرورة البدء بتنفيذ عمليات جادة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تزيل مظالم الماضي وتصلح التآكل الخطير الذي اصاب أعمدة هياكل الدولة السودانية حتى وصلت مرحلة الانهيار.

صحيح أن الاتفاقية والدستور الانتقالي قطعا شوطا كبيرا في اتجاه إصلاح هذه الأعمدة، لكن العبرة ليست بما في الورق وإنما بما تحقق على أرض الواقع. وإذا كانت قضايا الديمقراطية، وقسمة السلطة والثروة، وعلاقة الدين بالسياسة تشكل الخرسانة والاسمنت والحديد المسلح، لبناء هذه الأعمدة وبناء جسور الثقة للعبور إلى مرافئ الوحدة، فإن القيادة السياسية للفترة الانتقالية تمثل «تيم» المهندسين والعاملين المنفذين لهذا البناء.

وللأسف يبدو أن اولئك المهندسين والمنفذين من قيادات حزب البشير، كانوا إما غير مؤهلين أو غير عابئين إلا بتشييد العمارات السوامق خاصتهم. وهكذا، بدلا من تشيد جسور الثقة وتعبيدها، اهتزت وتساقطت، لا بين المركز والجنوب الذي ذهب فقط، وإنما بين المركز وسائر أطراف البلاد كما تصرخ المأساة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ويلوح في أفق البلاد شبح تفتت جديد، لن يصده إلا وقف الحرب والتحول الديمقراطي الكامل، والانتخابات الحرة النزيهة، وسيادة حكم القانون، وقومية أجهزة الدولة، ووضع الأساس المتين لبناء دولة المواطنة الديمقراطية.


نقلا عن القدس العربي

 

آراء