شرعُ الله المُفترى عليه 2-2
خالد عويس
روائي وصحافي سوداني
في مقالي السابق تناولتُ ما جرى لسيدةٍ سودانيةٍ مجهولة قدم نموذجاً للقهر المنهجي الذي تمارسه السلطة الحالية - باسم الدين - على الشعب السوداني بأسره. وقلتُ بوضوحٍ تام إن القضية ليست قضية تجاوزاتٍ من الشرطة السودانية وإنما هي علةٌ في القوانين وعلةٌ في (حُرّاس القوانين) وعلةٌ في المنظومة السياسية التي تحيط بالدستور والقوانين كونها - هذه المنظومة - لا تقيم وزناً للقوانين ولا للدين ذاته.
دولة (الإنقاذ) رفعت شعارات دينية منذُ سنواتها الأولى، لكنها لم تفلح في طرح نموذج (أخلاقي) حقيقي كالذي قدمه الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، أو الخليفة الأُموي، عمر بن عبدالعزيز. والشعاراتُ حين يخرقها، أول من يخرقها، الذين طرحوها، تصبح المسألة كلها ملهاة مستمرة، ولا تعدو أن تكون دجلاً محضاً. الشعبُ السوداني - اليوم – لا يستطيع أن يذكر اسم إسلاموي واحدٍ من الحاكمين كنموذج يُحتذى به في الاستقامة والإنصاف ومحاربة الفساد والطُهر، بل على العكس، أضحى الإسلامويون نماذج للفساد والإفساد والتلاعب بالدين لتحقيق غاياتٍ دنيوية. وهم معزولون عن الناس، عن البسطاء بجدران أسمنتية مصمتة وزجاج مظلل في سياراتٍ فخمة لا يراها العامة إلا لماماً تسبقها سيارات الشرطة والأمن في مواكب تختلف جذرياً عن نومِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحت شجرة !
لذا، فشريعتـ(هم) هذه هي من قبيل شريعةٍ يسميها المفكر الليبي، الصادق النيهوم (شريعة من ورق) في كتابٍ غاية في الأهمية تحت هذا الاسم. ولماذا شريعة من ورق؟ لأنها عنوانٌ للاستبداد والقهر لا الرحمة والعدل والإحسان. هي شريعةٌ تفارق مقاصد الإسلام وغاياته وسعته، لأنها تحارب الفقراء وتشوي جلودهم بسياطها وتقمعهم. هي شريعةٌ حذر منها الإسلام ذاته وأوضح رأيه فيها بأنها كالتي أهلكت أمماً سابقة لأنها كانت شريعة تحمي الأقوياء وتكرّس نفوذهم وسطوتهم، وتنصر الدولة الظالمة، وتقهر الفقراء. ولا يمكن أن يكون هذا النهج نهجاً يرضاه الله. فالله لم يبعث رسلَه لتكون تشريعاتهم نصرة لطائفة من الفاسدين، تحميهم، وتحمي نفوذهم، وتطلق يد رجال القانون على البسطاء. (لو كان الفقر رجلاً لقتلته). والفقرُ هو السمة الرئيسة لعهد (الإنقاذ). والقانون يحاكم الفقراء على فقرهم، مع أن الدولة هي التي أفقرتهم. هي التي جردتهم من حقهم في تعليمٍ مجاني وعلاجٍ مجاني. هي التي أثقلت كاهلهم بالضرائب. هي التي رفعت الدعم عن السلع. فبأي وجه وبأي حق تسألهم عن كيفية تدبير معاشهم وأرزاقهم حين يسلك الواحد منهم أو الواحدة طرقاً ملتوية من أجل لقمة العيش؟
ومن أين تعلم الناس ذلك؟ حسناً لماذا لم تنفذ (الإنقاذ) حد السرقة طيلة 21 سنة على واحدٍ من الفاسدين الذين تغولوا على حقوق الأيتام والأرامل؟
لماذا لا يحدثنا الطيب مصطفى عن دولته التي صارت بفضل جماعته ضمن أكثر الدول فساداً في العالم بأسره، وأقلها شفافية؟ لماذا لا يطالب بتنفيذ الحدود كلها على الذين يسرقون وتفضحهم تقارير المراجع العام سنويا؟
يطيب للطيب مصطفى أن يكتب مقالاً عن (حزب الأمة والفتاة اللعوب)، وعن الفساد في الجنوب، والفساد على بعد أمتار من مكتبه ! الطيب مصطفى مثالٌ على (نصف) المثقف الذي باع ضميره وباع دينه من أجل مصالح دنيوية. لم يكفه السياط التي انهالت على ظهر الفتاة ووجهها ورأسها وكل شبرٍ في جسدها فمضى يقذفها في عنوانه القميء ولكأنه كان شاهداً على الواقعة ! هل هذا هو الخُلق الإسلامي الذي يريد الطيب مصطفى أن يحاضرنا حوله؟
الطيب مصطفى يكتب عن (فتاة الفيديو التي حوكمت خمس مرات خلال السنوات القليلة الماضية بتهمة ممارسة الدعارة بل وبتهمة إدارة محل للدعارة)، لكنه يغفل في مقاله في صحيفة (كانجورا) العنصرية أن يخبرنا لماذا أُطلق سراحها إذن طالما أنها تفوقت على عصابة المافيا ذاتها؟ لماذا أُطلق سراحها طالما أنها كانت تُدير محلاً للدعارة؟
فليحدثنا الطيب مصطفى بمنطق ديني مسنود بالآيات والأحاديث عن صحة اتهام هذه السيدة بـ(ممارسة الدعارة) هل كان هناك؟ هل كان معه ثلاثة شهود عدول؟ أم أنها الرغبة في تمريغ سمعتها وسمعة أسرتها والدفاع عن دولته ومشروعه (الاحتضاري) ليس إلا؟ هل يستطيع الطيب مصطفى أن يؤكد لنا على صحة عبارته هذه وهو تحت اليمين؟ كيف يقابل وجه الله وهو يروّج لمثل هذه الاتهامات المشينة التي تشدد الإسلام أيّما تشدد حيالها كي لا تكون أعراض الناس وسمعتهم عرضةً لسهام أمثال الطيب مصطفى؟
يكتب الطيب مصطفى : (لم تخلُ صحيفتُها من الموبقات الأخرى مثل الاتّجار بالمخدرات الكيميائية وتحديداً الهيروين والأفيون)، ويا ألطاف السموات!! كل هذا والفتاة طليقة وقادرة على ترويج (الهيروين) مرةً أخرى؟ بماذا حوكمت إذن على كلّ هذه الجرائم؟ الدعارة، وإدارة بيت للدعارة وترويج (الهيروين) إذا علمنا أن الطيب مصطفى وفي مقاله ذاته يؤكد أن هذه الجرائم كلها وقعت خلال خمس سنوات فحسب؟
الطيب مصطفى يحسب أن الناس ليس لديهم عقول، وأنه سيهددهم بسيف الشريعة، وهو لا يعرف أن سيف الشريعة يهدده هو أولاً، لأن الشريعة الإسلامية إذا وجدت سبيلها إلى التطبيق الصحيح في السودان، فأول ما تفعله هو جلد الطيب مصطفى على القذف !!
ويتساءل الطيب مصطفى: (تراهم يريدون أن يُحيلوا الخرطوم إلى دار بغاء كبيرة مثل جوبا ولا تتدخل الحكومة ولتفعل من تشاء ما تشاء؟)، لكنه يغفل - وما أكثر غفلته – عن الأسباب، الأسباب التي حدت بانتشار البغاء في عاصمة المشروع الحضاري؟ هل ترى لأن السودانيات بطبعهن ميّالات للرذيلة، أم لأن حكومة الطيب مصطفى - بسياساتها وفسادها وإفسادها - هي التي دفعت غالبيتهن دفعا لذلك؟ لو عثرت بغلة بالعراق لسئل عمر عنها، لكن، شتّان ما بين عمر وعمر !
الطيب مصطفى، العنصري، الاستعلائي، الذي يدير (وكراً) للانحطاط الفكري يسميه صحيفة، يعتقد أن السودانيين غافلون عن ما يفعل. فهو ينفذ إستراتيجية إعلامية في منتهى الخطورة لتهيئة الرأي العام الشمالي لجريمة فصل الجنوب في ظروف استثنائية تسودها الكراهية والأحقاد. هذه هي إستراتيجية المؤتمر الوطني كله، فـ(المشروع الاحتضاري) لن يستقيم بوجود الجنوب، و(إعادة صياغة الإنسان السوداني) للأسوأ طبعا لن تمضي إلى غاياتها في وجود الجنوبيين، لذا لا مناص من تفعيل آلة إعلامية تجهز الرأي العام الشمالي لانفصال سلس دون أن يشعر السودانيون - في الشمال - بآثاره على حياتهم في النواحي كافة.
(إعادة صياغة إنسان السودان) هذه هي التي أفرزت الظواهر الخطيرة التي نراها الآن. البغاء هو نتيجة الفقر. والفقر هو نتيجة (الإنقاذ)، ومن أتوا لإنقاذنا دمروا مجتمعنا، وأفسدوا أخلاقنا، وأرهبونا، وجعلوا شرع الله ذاته أداةً في أيديهم للتخويف والقمع ليس إلا. هذه ليست شريعة ولا يحزنون. وهي لا تختلف في شيء عن القوانين التي طبقها جعفر نميري باسم الإسلام والإسلام منها بريء. إنها قوانين للاستبداد والتسلط. وإذا كان السيد خلف الله الرشيد، بثقله القانوني المعروف يقول في لقاء صحافيٍ هذا الأسبوع، إن القوانين السودانية الحالية وضعية، جرى حشر 4 حدود فيها حشراً، أين هي الشريعة الإسلامية إذن؟
الشريعةُ الإسلاميةُ - في عهد الإنقاذ، كما هو الحال في عهد نميري - ليست إلا أداةً لتخويف الضعفاء فقط، فهي لم تردع (الكبار) ولم تزجرهم. إذا كان أحد كبار شيوخ (الحركة الإسلاموية) هو السيد يسن عمر الإمام يقول إنه يخجل من دعوة أبنائه وأحفاده للانضمام للحركة الإسلاموية بعد الذي عاثته فساداً في السودان، فكيف يحدثنا هؤلاء - بقوة عين - عن الشريعة؟
حاسبوا أنفسكم أولاً. قولوا للشعب السوداني من أين لكم هذا؟ كيف لفقراء لا يملكون شروى نقير أن يتلاعبوا بالمليارات في غضون سنوات لا لشيء إلا لكونهم ينتمون إلى حزبٍ بعينه؟
وهل قام حزبهم هذا بواجباته – كدولة – تجاه مواطنيه ومواطناته حتى يحاسب ضعيفهم وضعيفتهم على جريمةٍ ما؟ هل أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف أم تركهم لوحش السوق الذي لن تلجمه توجيهات علي عثمان محمد طه لأجهزة أمنه بـ(الضرب بيدٍ من حديد على من يتلاعبون بقوت الشعب). التلاعب جرى منذُ 20 عاما، فأين كنتم؟ أين كنتم حين قفز الدولار من 12 جنيهاً إلى 20 جنيهاً؟ أين كنتم حين بلغ الدولار 2000 جنيه؟ أين كنتم حين بلغ 3000 جنيه؟ أين كنتم حين عجز 90% من شعبكم عن توفير ثمن الدواء للأطفال والكتاب المدرسي لهم؟ أين كنتم حين مات الشيوخ لعجزهم عن توفير ثمن علاج الملاريا؟ أين كنتم حين أغرق (ناسكم) الأسواق بالمحاليل الوريدية الفاسدة وبروميد البوتاسيوم؟ أين كنتم وأين كانت أجهزة أمنكم حين تعثر المزارعون – بعد دعة – وأُقتيدوا بالآلاف إلى السجون؟ أين كنتم حين أضحت (الكسرة) أغلى من (الرغيف)؟ أين كنتم، ولماذا لم تضربوا بيدٍ من حديد على الذين امتصوا دماءنا وصيرونا في فاقةٍ لئيمة حتى توارت كل قيم الكرم والشهامة والمروءة؟ أين كنتم حين مات الشباب بدعوى امتلاكهم عملات أجنبية؟ أين كنتم حين مات الأطفال في معسكر العيلفون؟ أين كنتم حين صاحت حرائر دارفور (وامعتصماه) ولا مجيب؟أين كنتم حين كانت الأنتينوف تسوي الجنوب بالأرض وتغمس يدها الطويلة في دماء الأطفال والعجزة؟ أين كنتم حين كمّت أجهزتكم أفواه السودانيين وقادتهم بالآلاف إلى بيوت الأشباح وعذبتهم وانتهكت حقوقهم الإنسانية؟ أين كنتم حين كان بعض كباركم يزودون أجهزة المخابرات الأميركية بمعلومات ثمينة؟ أين كنتم حين تطاول بعضكم في البنيان من مالنا ومن مال الأرامل والأيتام؟ أين كنتم حين أضحى 5% فقط من الشعب السوداني يملكون كل شيء و95% يخدمون هؤلاء الـ 5% هذا إن وجدوا سبيلا حتى لخدمتكم؟ أين كنتم حين رميتم بالآلاف إلى الشارع بدعوى الصالح العام؟ أين كنتم حين أضحى العلاج حلما للفقراء، وحين أصبح التعليم حكراً على أولادكم فقط؟
والبشير (يهدد) الشعب السوداني - من القضارف - بتطبيق الشريعة الإسلامية، وألا يجري أي حديث عن تعددية دينية أو ثقافية !! بل ويوجه بوقف التحقيق في مأساة السيدة التي أُنتهكت كرامتها وأُذلت. لو كنتُ مكان رئيس القضاء لاستقلت ! عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتردد في عقاب عمرو بن العاص، لأنه يحاذر أن يبعد عن مقاصد الإسلام ورحمته. عمر بن الخطاب لا يتردد في العودة من حيث أتى حين يقتحم على سُكارى مجلسهم فيؤاخذونه على التجسس والتحسس وعلى دخول البيوت من غير استئذان. عمر بن الخطاب يُعلن على الملأ أنه مخطئ في مسألة المهور، وأن امرأة قامت إليه في المسجد أصابت، ثم لا تتابعها سيارات الأمن ولا تُعتقل، ولا يضطر المئات من ناشطي حقوق الإنسان والسياسيين للانتظار - تحت هجير الشمس ولؤم رجال الشرطة والأمن -، فهل شريعة عمر بن الخطاب شريعة وهذه التي يهددوننا بها شريعة؟
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قدم نموذجا، وعمر (الآخر) قدم نموذجا، فأيهما شريعة؟
يقول الإمام، الصادق المهدي، في كتابه القيّم (العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي في الإسلام):
العقوبات الشرعية وسائل لتحقيق العدل ولحفظ مصالح الناس في خمسة أمور هي: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل. وذلك عندما تكون مصالح الناس في هذه المجالات الخمسة قائمة على أساس يرتضيه فيحميه الشرع، ومما يلزم لتحقيق العدل وحفظ المصالح المذكورة ،أن تكون ولاية الأمر (الحكومة) صحيحة التكوين بمقياس الشرع فيكون في وجودها دعم للعدل ورعاية لتلك المصالح جميعها.
إذا كانت الولاية باطلة التكوين فإنها سوف تهدر العدل وتقوض المصالح الخمس:
ستكون خطرا على النفس بما تقتل وتحبس بغير حق ،وتكون خطرا على الدين بما تنشر من ظلم وفساد، وتكون خطرا على المال بما تحرم العاملين الجادين من خصومها وتكافئ بالمال والثروة مؤيديها ومحاسيبها وان كانوا خاملين، وهكذا الولاية الباطلة من شأنها أن تهدر العدل وأن تقوض مصالح الناس في الوجوه الخمسة.
فإذا قامت العقوبات الشرعية لحماية الأوضاع في ظل ولاية هذا شأنها، فإنها تكون موظفة لا في تحقيق العدل وحفظ مصالح الناس كما ينبغي ولكن في حماية الظلم وفي تقويض مصالح الناس .حينئذ تكون العقوبات الشرعية موظفة ضد مقاصد الشريعة.
ومن المرجع ذاته ننقل: لم يفطن الفكر الإنساني الوضعي للصلة الوثيقة بين الجريمة والحالة الاجتماعية إلا منذ زمن قريب ولكن الشريعة الإسلامية- صنع الله- جهرت بالصلة الوثيقة بين الجريمة والحالة الاجتماعية. وليس من قبيل الصدفة أن كان أول من تطرق للصلة الوثيقة بين حال الإنسان الاجتماعي وبين سلوكه عالم إسلامي هو ابن خلدون الذي ضرب الأمثال التاريخية الواضحة في مقدمته الشهيرة لتوضيح تلك الصلة الوثيقة فابن خلدون إنما كان يغرف من معين التراث الإسلامي الواسع: وسأضرب بعض الأمثال التي توضح هذه الصلة بين الحالة الاجتماعية والجريمة:
أ-أقام الإسلام مجتمعا حاصر فيه الحاجة المادية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفقر أخو الكفر" فسلط الإسلام على الحاجة الإرادة العامة عن طريق بيت المال، والإرادة الخاصة عن طريق ما أوجب من تراحم وتكافل: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون".
بعض الناس نظر إلى الزكاة من جانب تزكية أموال أصحاب الأموال، لكن كثيرا من الفقهاء، ورأيهم الصواب، نظر لها من ناحية ضرورة القضاء على حاجة المحتاج. ولقد قرر ابن حزم أن على الجماعة الإسلامية، أن تتخذ من الإجراءات بما يشمل الزكاة ويتعداها حتى تحقق القضاء على الحاجة. فإزالة الحاجة هي حق في حد ذاتها ووسيلة من وسائل منع الجريمة ومن المروي عن الإمام على ابن أبي طالب قوله: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه."
ان شدة عقوبة السرقة في الإسلام جزءا لا يتجزأ من الكفاية والعدل اللذين يوجبهما النظام الإسلامي. لذلك اعتبر علماء المسلمين الحاجة شبهة مسقطه لحد السرقة. بل السرقة نفسها تعرف تعريفا يستثني حالة الاضطرار: " السرقة هي أخذ مال الغير، خفية، من حرز، دون اضطرار".
二- الشهوة الجنسية فطرة في الإنسان، والإسلام نظم ممارستها عن طريق الزواج ولنفي الحرج عن الناس جعل الإسلام الزواج مسألة سهلة جدا كأي اتفاق بين الناس يقوم على عرض وقبول، ولا تدخل فيه تعقيدات دينية ولا اجتماعية ليكون بسيطا وسهلا وميسورا. وفي إطار هذا الزواج البسيط الخالي من التعقيدات والموانع فرض الإسلام عقابا رادعا للجناة حماية للنسل وصيانة للأسرة وعندما كان الصحابة في ظروف تعذر معها الزواج أباح النبي صلى الله عليه وسلم زواج المتعة وهو الزواج المؤقت لكيلا يدفع الحرج الناس إلى العصيان.
ج-وعندما تحدث فقهاء المسلمين عن البغي، والخروج على الحاكم فانهم – قبل ان يضطرهم الواقع للتسليم بالأمر الواقع – خشية انتشار الفتن، اشترطوا ان تكون ولاية الحاكم صحيحة بمقياس الشرع. وكثير من الفقهاء اعتبروا غياب العدل وانتشار الظلم والفساد مبررا للخروج وبعضهم أوجب الخروج في هذه الحالة.
قال صلي الله عليه وسلم: " افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" .
أهم الدلائل على وعي المفكرين المسلمين بالصلة القوية بين الحالة الاجتماعية وسلوك الناس، الكتب الكثيرة عن مقاصد الشريعة التي ألفها بعض العلماء مثل:القواعد للقرافي، والأشباه والنظائر للسيوطي، والموافقات للشاطبي وغيرها، وقد تحدثوا في هذه الكتب عن قواعد جليلة استقرءوها من الكتاب السنة مثل:
*نفي الحرج.
*احتمال الضرر الخاص لإزالة الضرر العام.
*الضرورات تبيح المحظورات .. وهكذا.
وهذه القواعد وهي قواعد عدوها أسرار الشريعة الإسلامية فلا تفهم الشريعة إذا غاب فهم هذه القواعد ،وهي قواعد ثابتة في الكتاب والسنة. خذ القاعدة الأخيرة مثلا: قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
وقال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه).
وهذه القواعد ليست مجرد قواعد نظرية ولكنها لعبت دورا أساسيا في تكوين او تعطيل الأحكام واليك هذه الأمثال:
المثل الأول: قال أبو يوسف: "حدثني بعض المشايخ عن السفاح عن داود بن كردوس عن عبادة بن نعمان التغلبي أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين ان بني تغلب من علمت شوكتهم وهم بازاء العدو فان ظاهروا عليك العدو اشتدت مئونتهم .فان رأيت أن نعطيهم شيئا فافعل" ويروي أبو يوسف ان عمر بن الخطاب أسقط الجزية عنهم وعقد معهم اتفاقا بديلا. (23).
هذا معناه أن أمير المؤمنين عمر قد عطل الحرية على نصارى قبيلة تغلب لضرورة سياسية.
المثل الثاني: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم حدا قط في غزوة من الغزوات وهذا ما حدث من الصحابة أيضا وبناء على هذا الخبر قرر أكثرية الفقهاء انه لا يقام الحد في أثناء الحرب على محارب من جند المسلمين. لأنه يخشى ان يفر مرتكب الحد إلى الأعداء فيكون الضرر الذي يحدثه ذلك اكبر من السكوت على إقامة الحد. وعدم إقامته لا ينفي وجود جريمة، ولا ينفي أن تعاقب الجريمة تعزيرا والرأي الراجح أنه حتى بعد العودة من الغزو لا يقام الحد لأن التعزير قام مقام الحد.
وهذه حالة واضحة من حالات تعطيل الحد لأسباب ضرورة سياسية.
والمثل الثالث هو الخاص بغلامي حاطب بن أبي بلتعة اللذين سرقا ناقة منن رجل من مزينة فلم يقم عليهما عمر بن الخطاب الحد بل عزرهما لضرورة أنزلها بهما قلة الأجر الذي يأخذانه من حاطب.لذلك أعفاهما عمر من العقوبة ووضع غرامة على حاطب تبلغ أربعمائة درهم وأعطاها للمزني صاحب الناقة المسروقة تعويضا له. وهذا تعطيل لحد بسبب الضرورة الاقتصادية.
انتهي كلام الإمام، الصادق المهدي. ونرى أنه من الضروري قراءة هذا الكتاب بعين فاحصة لكل من يود الخوض في هذا الأمر الشائك، أمر الشريعة الإسلامية، لأنها أضحت – بالفعل – أداة سياسية لتكريس النفوذ وإخضاع الناس وإرهابهم وقمعهم دون أن يسأل الناس عن مدى مطابقة الدولة ذاتها وسياساتها وواجباتها لمقاييس الإسلام ومقاصده العليا. الدولة الحالية بعيدةٌ عن الرحمة والعدل والمساواة، بعيدةٌ عن رحمة الإسلام وسماحته، بعيدةٌ عن الأخذ بيد الضعيف، بعيدةٌ عن تلمس آلام الناس ومعاناتهم، وعليها أن تسعى لتوفير القوت أولا ومحاربة الفقر والفساد الذي قاد إلى الفقر، عليها أن تحاسب كبارها، عليها أن تكفكف دموع المعوزين وتوفر لهم مجانية العلاج والتعليم قبل أن تهددنا بسيف الشريعة، فما أكثر حاجتنا – اليوم – للشريعة، الشريعة الحقيقية حتى تقتص لنا من الظالمين.
في المقال المقبل سنتناول بالتحليل التصريحات الأخيرة لرئيس حزب الأمة، السيد الصادق المهدي حول خيارات ثلاثة حددها لمواجهة المرحلة المقبلة الخطيرة من عمر السودان.
Khalid Owais [khalidowais@hotmail.com]