شطحات هيكلية: استدراكات .. ومذابح أبا …. بقلم: رباح الصادق
21 June, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
شطحات هيكلية (2-6)
استدراكات .. ومذابح أبا
كانت هذه الحلقات ثلاثية، ولكنها امتدت لثلاث حلقات أخرى بفعل حلقة (حتى تكتمل الصورة) التي قدمها الأستاذ الطاهر حسن التوم بقناة النيل الأزرق مساء يوم الاثنين 14 يونيو الجاري حول إفادات الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل في ساعة معه مطلع الشهر حول أحداث قصف الجزيرة أبا وقتل الإمام الهادي عام 1970م، فقد أضافت الحلقة لوعينا متضافرة مع بعض التعليقات التي وصلتنا حول مسألة هامة وهي تناول إفادات هيكل ضمن الحساسيات السودانية المصرية وهذا أمر هام للغاية نعتقد أنه كان غائبا عنا ونحن نكتب حلقتنا الأولى مما يلزمنا بالاستدراك على بعض ما سقناه، والثاني أن الحلقة أضافت للمغالطات الهيكلية مغالطات عابدونية (نسبة للسيد الفاتح عابدون) وبالتالي امتدت الأحداث التي نود تداولها منذ ما قبل أبا ثم أبا وما بعدها أي مقتل الإمام الشهيد. نزمع إذن اليوم الاستدراك على مقالنا الأول، ثم البدء في ذكر مذابح أبا. لنواصل حول مقتل الإمام الشهيد وحول ملابسات ما قبل أبا في حلقات قادمات بإذن الله.
استدراكات لازمة
في مقالنا الأول حملنا على الأستاذ محمد حسنين هيكل لأنه يتعالى على السودانيين، ممسكين بخيط تعالي أهل شمال الوادي على جنوبه ومتتبعين أوجاعا شبيهة لأخوتنا في النوبة ومدللين ببعض ما ساقه كاتب مصري أخفى هويته حول تراث فترة المماليك بمصر من الاستعلاء على الآخرين، لكأن الاستعلاء العنصري هو خصلة مصرية أصيلة، ولكأن ما في السودان منه براء! والحقيقة هي أن الاستعلاء العنصري الذي يعاني منه هيكل هو من الخلال البغيضة التي توجد بين كل الشعوب، وضعها الإسلام ضمن خلال الجاهلية (النتنة) ولكن كثيرا من المسلمين يتدثر بها، لذلك كان ينبغي أن نضعه في إطاره المعلوم، بل إن مصر من هذه الناحية أفضل مما هو موجود في السودان من تلك العنصرية النتنة. بدليل أن حركة اللواء الأبيض التي قامت بثورة 24، وهي في أحد وجوهها تأثر بالحركة الوطنية المصرية وثورتها في 1919م؛ تنطلق عند قياداتها المؤثرة من رفض للمجتمع السوداني وتكوينه القبلي حيث يمثل الانضمام إلى مصر -التي ذابت القبلية في حواضرها- وضعا أفضل، إذ انقطعت صلاتهم بأصولهم القبلية في السودان، وقد ساقت هذه الملاحظة بجلاء الباحثة اليابانية فاطمة يوشوكو كوريتا ونقلها المرحوم خالد الكد في بحثه حول (الأفندية ومفهوم القومية). لقد كان البطل علي عبد اللطيف من ضمن المجموعات الزنجية منزوعة الانتماء القبلي detribalized- وكان ينظر لفكرة الأمة النبيلة بشكل يختلف عن فكرة سليمان كشة زميل الكفاح ضد المستعمر، ولذلك كان توجهه نحو مصر من ضمن رفضه لقيم القبلية والتفاخر بالعروبة كعنصر التي كانت تسود بين جماعات مقدرة داخل المجتمع السوداني حينها. فمصر كانت ملاذا لبعض السودانيين الباحثين عن مقدار من الإنصاف العنصري لم يتسن وجوده بالسودان!
الاستدراك الثاني هو أن توجه هيكل الاستعلائي تجاه السودان (وقد ذكرناه ثم فصله الأستاذ إدريس حسن في حلقة "حتى تكتمل الصورة" المذكورة وذكر مناسباته بعد ثورة أكتوبر وبعد انقلاب مايو وغيرها مما يردده السودانيون) لا ينطبق على كل المثقفين المصريين، فهناك عشرات منهم صاروا نجوما سودانية، يبادلون أهل هذه البلاد المحبة ويبادلونهم، أمثال ميلاد حنا وإجلال رأفت ويوسف الشريف وهاني رسلان وأحمد حمروش وسعد الدين إبراهيم وأماني الطويل ولعل أبرزهم أسماء الحسيني التي كتبت عشية مباراة أم درمان الشهيرة بين مصر والجزائر في نوفمبر الماضي: "أما أنا.. فسأشجع السودان"!
والمعنى الهام الذي يجب ألا يفوت علينا ونحن ندير رأسنا عن الحساسيات المذكورة بين الشعبين، هو أنه وخاصة في العقدين الماضيين برزت دعوة قادها كثيرون لدى الجانبين السوداني والمصري، بضرورة تجاوز ماضي العلاقات المبنية على العواطف وعلى المواقف التاريخية المتحيزة لصالح أو لضد، فالمصالح التي تربطنا والملفات الموضوعية التي تجمعنا تصلح لتكون رباطا وثيقا لا تنفصم عراه.. إذن نقاشانا لهيكل ومع أنه يبحث في ملفات التاريخ، إلا أنه يجب أن يكون بعيدا عن الأحكام المطلقة فيما يتعلق بالمصري أو السوداني لأن المطلق الوحيد بين هذين البلدين هو رباط الجيرة الحيوي والمصيري وما أسفر عن عرى لن تنفصم.
مدخل لنقاش هيكل ثم عابدون
الأحداث التي تناولها هيكل من حلقتين: الأولى ما حدث من قصف في أبا ومن المسئول عنه، والثانية مصير الإمام الهادي المهدي، والأحداث التي تناولها السيد الفاتح عابدون تتعلق بما قبل أبا وتحديدا اعتقال السيد الصادق المهدي قبل ضربة أبا بتسعة شهور. ومع ترابط هذه الأحداث إلا أنها دارت في مسارح مختلفة وشهد عليها شهود مختلفين.
وبالرغم من ضعف التوثيق الذي يصيب مسيرتنا السياسية عامة، إلا أنه فيما يتعلق بالأحداث الجسام التي دارت في مطلع العهد المايوي فهناك بؤر مضيئة تسمح لنا بمعرفة ما دار فلا يستطيع أحدهم أن يلقي بالتهم والأكاذيب يمنة ويسرة بدون مصحح. ومن أهم أدبيات التوثيق كتاب "المصالحة الوطنية" الذي أصدره حزب الأمة في 1978م ونشره من قبل الأستاذ محجوب عروة مسلسلا في صحيفة الرأي العام. كذلك كتاب الأستاذ صديق البادي "أحداث الجزيرة أبا وودنوباوي" المنشور عام 1998م، وهناك كتاب الدكتور الصادق الهادي المهدي، وكتاب محكمة قتلة الإمام الهادي ورفيقيه، وكتب الأستاذ محمد محمد أحمد كرار، وغيرها. فهي تتيح كوات لمشاهدة الفجائع المايوية بقدر معقول من الوضوح. كما أتيح لنا استجلاء بعض الحقائق شفاهيا من شهود عيان أو مشاركين في الأحداث، وقد قمنا أثناء دراستنا للفولكلور بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم في العام 1996م بعمل بحث حول حادثة مقتل الإمام الهادي المهدي، تحت إشراف الدكتور قيصر موسى الزين، مما شكل لنا أرضية جيدة لمعرفة مواقف كثيرة وروايات حول ما دار بالكرمك.
سنبدأ بأحداث أبا ومقتل الإمام الشهيد أو الشطحات الهيكلية ثم نعود لما قبل أبا أو المغالطات العابدونية.
أحداث الجزيرة أبا
أما أحداث أبا فقد كانت ضمن إجراءات الحكم المايوي لتثبيت قدمه والبطش بالمعارضين. وسنذكر لاحقا وبالتفصيل (الطريق إلى مذبحة أبا) ولكننا اليوم نكتفي بتقرير أن مذبحة أبا كانت مكيدة معدة من النظام صحبها تلفيق إعلامي ضخم، وما هو عمل إعلام الشموليات سوى الفبركات والتضليل؟
كان الإمام الهادي قد ظل مقيما بالجزيرة أبا وقد انضم إليه جمع كبير من الأنصار وبدأ يبني "جامع الكون" في الجزيرة أبا. وفي مارس 1970م وضع برنامج زيارة النميري للنيل الأبيض وكانت العلاقة بين النظام الجديد والجزيرة أبا متوترة ففي أول يوم من شهر رمضان في نوفمبر 1969م سجل عضوا مجلس قيادة "الثورة" وقتئذ الرائدان فاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية وأبو القاسم محمد إبراهيم وزير الحكومات المحلية زيارة للإمام الهادي بالجزيرة أبا وتحدثا عن ضرورة إقامة نقطة بوليس في الجزيرة أبا، وهي التي لم تكن تعرف رائحة السيجار ولا شهدت التمباك ناهيك عن أنواع الجرائم التي يحمي منها البوليس! الإمام الهادي عارض الفكرة وأكد أن الأنصار يقدرون المسئولية الوطنية وظلوا يحفظون الأمن داخل الجزيرة أبا، وبعد مداولة توصل الاجتماع لاتفاق أن تشرف الحكومة علي الأمن بواسطة العمدة. وعندما أعلن برنامج زيارة النميري لمنطقة النيل الأبيض طرح السؤال في أوساط المعارضة ماذا تفعل؟.
كان رأي بعض الناس أن النيل الأبيض هو معقل المعارضة ولذلك لا بد أن يسمع النميري صوتها هناك. ومع أن الأمر كان موضع خلاف حول هل يسمع النميري صوت المعارضة الآن أم يتم تجاهله (تفاصيل المواقف المختلفة مرصودة في كتاب صديق البادي المذكور وسنتعرض لبعضها أثناء مناقشتنا للمغالطات العابدونية) إلا أن الرأي استقر على ضرورة أن تقابله جماهير سلمية تحمل شعارات في لافتات وهتافات هي: لا سلام بلا إسلام- الإسلام طريق الخلاص- إسلامية لا شرقية ولا غربية- لا شيوعية ولا إلحاد- وعاش الإمام حامي الإسلام. هذه الشعارات أُمر الأنصار من الكوة شمالا وإلى كاكا التجارية جنوبا، وفي ضفتي النيل الأبيض شرقا وغربا أن يحملوها، وألا يهتفوا بسقوط النظام ولا يعتدوا عليه يرفعوا فقط الشعارات. وحينما وصل نميري الكوة قابله بعض الأنصار باللافتات والشعارات المتفق عليها، ولكنهم أشاعوا أن أحدهم حاول التهجم عليه، وبالتالي عزمت الحكومة على اعتقال الإمام وأرسلت قوة بقيادة العقيد أحمد محمد أحمد أبو الدهب في صباح الخميس الموافق 26/3/1970م، ووقعت القوة في أسر الأنصار في الجزيرة أبا فاحتال قائدها مدعيا أنه قادم لمقابلة الإمام وأجرى معه حوارا ووقع معه اتفاقا خلاصته: إزالة الواجهة الشيوعية من الحكم؛ وإلغاء ميثاق طرابلس (وهو ميثاق أمني بين كل من مصر وليبيا والسودان ضمن المحور الشرقي)؛ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين؛ وإجراء استفتاء علي مشروع دستور 1968م. ووقع الطرفان علي الاتفاق وعادت القوة المسلحة أدراجها وأعلن الإمام علي الناس في خطبة الجمعة 27 مارس أن: كفي الله المؤمنين القتال!
ولكن العقيد أبو الدهب الذي نجا بالخدعة وصل للنميري في طوافه وكان في طريقه لكوستي بعد أن أنهى زيارته لتندلتي وأخبره بما جرى، فتقرر محاصرة الجزيرة أبا وتطويقها مما يتطلب استدعاء قوات إضافية. وأذاع نميري بيانا أعلن فيه المواجهة على الأنصار، وانهالت عليه البرقيات المؤيدة لهذا الخط من جميع الجهات والتيارات والنقابات، كما سير أنصار النظام المسيرات التي تنادي بضرب الأنصار وقياداتهم، وكانت شعاراتهم كالتالي: لا تحفظ بل إعدام (في إشارة للتحفظ على السيد الصادق المهدي)- اضرب الرجعية بيد من حديد- رأس الهادي مطلب شعبي- الصادق عميل أمريكي. وهكذا كان الرد المايوي على صوت المعارضة أن تدك دكا دكا.. ضمن خطة الضرب على الحديد وهو حام!
ضربة الجزيرة أبا عصر الجمعة 27/3/1970م
كان الأنصار وعلى رأسهم الإمام قد اطمأنوا إلى نجاح وساطة أبو الدهب وأن الأمور تجري كما طلبوا، وصلى الإمام بالناس ظهر الجمعة مؤكدا هذه المعاني، وبعد ذلك بقليل فوجئوا بهجوم عسكري عليهم ونيران تطلقها القوات المسلحة بقيادة العقيد أحمد محمد أبو الدهب -نفسه صاحب العهد الكاذب!
وفي الساعة الرابعة وخمس دقائق اشتبكت هذه القوة قبل أن تحتل مواقعها بالأنصار ولقيت مقاومة شرسة، واستشهد من الأنصار يومها أكثر من تسعين دفنوهم ليلا. بعد ذلك عين أبو القاسم محمد إبراهيم نفسه ليكون قائدا على القوة المرابطة بالجزيرة أبا، فوصلها ظهر السبت 28/3 كما وصلت سرية من القيادة الوسطى وسرية من القيادة الشرقية صباح الأحد 29/3 وانضمتا للقوات هناك. و بدأ منذ يوم السبت ضرب الجزيرة أبا بالطائرات وضربت إحداها بسلاح مضاد للطائرات، ثم استبدلت بالطائرات الميج 17 التي حلقت وضربت الجزيرة أبا، كما كان الضرب موجها للجزيرة أبا بالهاون طويلة المدى وكانت تصوب من حجر عسلاية بالضفة الشرقية، وأيضا من الطويلة الواقعة على الضفة الغربية، ومن الحصي، بالإضافة للضرب الجوي. وقد هجر كثيرون منازلهم واتجهوا للجنائن النائية والأطراف وبعضهم أغلقوا منازلهم ومع ذلك قتل كثيرون داخل منازلهم جراء الضرب العشوائي، ومن لطف الله فإن قنابل كثيرة لم تنفجر وتساقطت بعض المنازل ونجا من بداخلها. (البادي ص 73-74).
كان الضرب مكثفا ولا يتصوره عقل وشاع أنه قد اشتركت فيه الطائرات المصرية والليبية (وهو ما سنتعرض له لاحقا)، ولكن الأنصار واجهوا هذه المحنة بثبات عجيب، وكانت حلقات الراتب تعقد يوميا وتصل المئات فجرا وعصرا في حالة من الضرب والغبار لا يمكن معها تصور القيام بأي عمل. كما حدثت قصص كثيرة يرويها الأحباب الشهود على هذه الأحداث تؤكد أن العناية قللت خسائر الأنصار فالقنابل التي رميت كانت لو انفجرت كفيلة بأن تفجر الجزيرة أبا وتبيد كل من فيها، وقد جاء بعض الخبراء الروس بعد ذلك وقالوا إنهم يريدون فحص تربة الجزيرة أبا لمعرفة لماذا لا تنفجر القنابل عليها؟!. (روايات الأحباب المهاجرين حول الأحداث في حلقة توثيقية عقدت في يناير 2008م).
وبالرغم من ذلك فقد أورد كتاب (ذكرى الخالدين) الذي أصدرته في أبريل 2006م اللجنة العليا لإحياء ذكرى شهداء الجزيرة أبا والكرمك وونوباوي مارس 1970 أن عدد شهداء أبا وحدهم 3279 شهيدا وشهيدة مذكورين بقبائلهم. (أورد البادي رقما مخففا للغاية إذ أورد أن عدد قتلى الأنصار المحصورين بأبا كان 745 والجرحى والمعوقين 280)، هذا غير شهداء ودنوباوي بالأحد 29/3 الذين ساروا في مظاهرة احتجاجية على الضرب الغاشم للجزيرة أبا ومنعوا من اجتياز كبري النيل الأبيض فرجعوا وهوجموا بالذخيرة الحية وتم تعقبها حتى داخل مسجد الهجرة بودنوباوي فاستشهد 173 منهم بحسب كتاب ذكرى الخالدين (البادي يقول استشهد من الأنصار 162 وجرح 35 وقتل بالمصادفة 18 مواطنا كانوا يمرون بالطريق)!
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]