شهادتي في منصور خالد

 


 

 

طارق أبو صالح

"هذه الشهادة كنت قد كتبتها قبل ثلاثة أعوامٍ ونيف ضمن شهادات عدد من الإخوة السفراء لكتاب دكتور الواثق كمير "رحلتي مع منصور خالد: الخُروج من الذات لمُلاقاةِ الآخر" والذي صدر تزامُناً مع الذكرى الأولى لوفاة دكتور منصور خالد والذي وَّثق أحداثاً تُروى لأول مرّة لمرحلة مُهِّمة من تاريخ السُّودان السياسي المُعاصر بقلمِ شاهد عيان عاصر أحداث تلك الفترة وشارك فيها. وما يميّز هذا العمل عن غيره من الإصدارات الأُخرى أنَّ الكاتب اتخذ منهجاً علمياً صارماً شبيه بمنهجِ دكتور منصور خالد الذي يقوم على التدوين الدقيق للوقائع واللغة الجزِلة القوّية والتعبير الواضح الرشيق. أن تكتبَ عن منصور خالد لهي مُهِّمةٌ عسيرة، وما أصعب أن تكتبَ عن رجلٍ ملأ الدُنيا وشغلَ الناس. ورأيت أن أعيد نشر هذه الشهادة في الذكرى الرابعة لرحيل دكتور منصور خالد، رحمه الله".
منصور خالد محمد عبد الماجد المولود في حي الهجرة بأُم دُرمان يوم 17 يناير 1931م من الأسماء اللامعة التي برزت شامخة في السُّودان ونالت شُهرة كبيرة خلال العقود الستة التي تلت الاستقلال. اختلف الناس أم اتفقوا مع منصور خالد إلا أنّه يظل أحد الأعلام السامقة في السُّودان الحديث، فهو مُثقّفٌ موسوعي ومُفكِّرٌ فذ وأكاديمي مرموق وباحث مُدّقق وكاتب حاذق وقانوني ضليع ودبلوماسي من الطراز الأول، لم يستلطف طيلة حياته إطلاق صِفة السياسي عليه ويفزع من أن يُنعتُ بذلك، فلم يكن له انتماء لأي حزب أو تيّار سياسي ولا حتّى التزام أيديولوجي مُعيّن، وكان كُلما يجيء الحديث على ذِكر السياسة ومُجتمع ساس يسوس يُردِّد قول أبي العلاء المعّرِي:
يسُوسُونَ الأُمُورَ بِغيرِ عَقلٍ
فَينفذُ أمرُهُم ويُقالُ سَاسُة
فأُفُّ مِن الحياةِ وأُفُّ مِنّي
ومِن زمنٍ رئاستُهُ خُساسَة
ومع ذلك يُشكِّل منصور خالد رقماً مُهِّماً لا يُمكن تجاوزه في السياسة السُّودانية ويُعتبر بمُساهماته ومُشاركاته في مُختلف عُهود الحُكم مُنذ الاستقلال من أهم الشخصيات المُؤثرة في العمل السياسي، كما أنَّه من أبرز رموز الفكر وألمع نجوم الدِبلوماسية في السُّودان.
يعود تكوين شخصية منصور خالد للبيئة الدينية المُحافظة التي نشأ فيها، فجدَّه هو الشيخ محمد عبد الماجد، حفيد الشيخ حامد أب عصاةً سيف، الذي حقَّق حفيده منصور مخطوطته "الثلاثية الماجدية: صُور من الأدب الصوفي السُّوداني"، نُشرت في ثلاثة أجزاء، تناول الجزء الأوَّل سيرة الشيخ محمد عبد الماجد والشيخ أحمد الصاوي عبد الماجد، وتضمّن الجزء الثاني أشعار الشيخ أحمد الصاوي المُلّقب بصاوي القوافي، بينما خُصّص الجزء الثالث والأخير للشيخ عبد العزيز الدبَّاغ محمد عبد الماجد. وقد أثرّت نشأته الصوفية على طريقة تفكيره، إذ نشأ وترعرع وسط أسرة صوفية عريقة، وأسهمت تلك النزعة في لُغته وسلاسة الأفكار في كتاباته، لذا نراه كثيراً ما يستشهد في كتاباته ومُخاطباته بآياتٍ من القرآن الكريم وأبياتٍ من الشعر تليده وحديثه، فنجد أُسلوبه في اللُغة العربية أُسلوباً فريداً لا يُجارى. ولعل حذق واجادة منصور للُغة العربية بدأ في مرحلة مُبكِّرة من حياته، خُصوصاً مرحلة الدراسة في مدرسة وادي سيّدنا الثانوية، فقد حدَّثني أنَّه كان يُصدر آنذاك جريدة حائطية أسماها "هذيان" وكان يُشاركه بالكتابة والخط فيها والدي حسن سُليمان أبو صالح وعددٌ من مجايليه في وادي سيّدنا، كما كان يُشارك بالرسم في "هذيان" الفنّان التشكيلي إبراهيم الصلحي. وقد حكى لي عن تفوّق منصور خالد على أقرانه أثناء دراسته بمدرسة وادي سيَّدنا الثانوية عمِّي حُسين سُليمان أبو صالح والذي زامله في الدراسة مع والدي، وذكر لي أنَّ منصور ظهرت عليه علامات النُبوغ المُبكِّر والتميُّز بين أنداده وكانت جريدته الحائطية "هذيان" حدثاً ذاك الزمان، وروى لي كيف كان منصور يعود بعد العُطلات الأسبوعية للمدرسة مُحمَّلاً بالدوريات والمجلّات العربية الصادرة في القاهرة وبيروت وتلك باللُغة الإنجليزية القادمة من لندن وبلاد العم سام.
أول ما طرق اسم منصور خالد أسماعنا كان في مرحلة الطفولة مطلع سبعينات القرن الماضي، فقد كانت عمّتي عوضية سُليمان أبو صالح التي عملت سكرتيرة له عندما توّلى وزارة الخارجية بعد فشل انقلاب 19 يوليو 1971م، وذلك بعدما تمّ استدعاؤه على عجل من نيويورك حيثُ كان المندوب الدائم للسُّودان بالأمم المُتحدة. كانت عوضية تروي لنا بالتفصيل عن انضباط منصور ونظامه الدقيق واحترامه للمواعيد واهتمامه بأدّق التفاصيل في العمل بما فيه تنسيق مكتبه وديكوره وأثاثه، كما حدّثتنا عن أناقته المُلفتة وولعه بآخر صيحات الموضة. كان نادراً ما نلتقي منصور خالد في تلك السن الباكرة من الطفولة، وكنا نشاهده أحياناً في بعض المُناسبات الاجتماعية فوالده وأشقائه أبناء عُمومة جدّنا الشيخ سُليمان أبو صالح الذي كان له علاقة حميمة بآل الشيخ محمد عبد الماجد، وهُم ركيزة العُمراب في حي الهجرة بأُم دُرمان. ويتحدّث دكتور منصور خالد عن تلك العلاقة في الجزء الأول من مُذّكِراته "شذرات من وهوامشٍ على سيرةٍ ذاتية" فيقول: "في تلك الزيارات الأُسرية بشمال السُّودان أستأنى قليلاً عند زيارة للخال الدِردِيري الصاوي في حلفا لا لأمرٍ يتعلَّقُ مُباشرةً بالزيارة، وإنَّما لتجرُبة هي امتدادٌ لتجربة سابقة فتحت عيني على الخدمات الطبيَّة في السُّودان، ففي باكورة شبابي لم أكُن على عِلمٍ كبير بالخدمات الطبيَّة والاستطباب الحديث إذ نشأتُ في ظلِ أُسرة أغناها الطِب النبوي (ولا تسألني عن ماهيته) عن كُلِ طِبٍ عداه. وكان أقرب ما يكون للطِب الحديث في تجاربي هو الزيارات الأُسبوعية التي كان يقوم بها لدار الأُسرة الحكيم ود أب صالح (الشيخ سُليمان أبو صالح والد حسن وحُسين أبو صالح وإخوتهم) الذي كان يعمل كمُساعد حكيم في مُستشفى أُم دُرمان. كُنّا متى ما رأينا "الحكيم" في أوّلِ الطريق يتهادى على درّاجته مُعلِّقاً على رقبته سمَّاعة وحاملاً معه جُراباً مليئاً بالأدوية هرعنا إلى الأُمّهات نُنادي: الحكيم ود أب صالح جاء". أوّل من كان "الحكيم" يزور في الأُسرة الشيخ الصاوي للتحية، ثُمَّ ينفج من بعد إلى حوش الصاوي من بيتٍ إلى بيت – إذ لم تكُن للبيوتِ أبواب – لكيما يعود المرضى من الرِجال والنِساء والأطفال، ثُمّ يعود إلى الشيخ الصاوي ليس فقط لوداعه وإنَّما أيضاً ليستطِّبه الشيخ الصاوي روحياً بتعاويذٍ يقرؤها عليه.
بدأت معرفتي بدكتور منصور خالد عن قُرب عام 1999م عندما كُنت دبلوماسياً بسفارتنا بالجزائر، إذ زارها نهاية شهر سبتمبر ذلك العام بدعوة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لحضور أحد الفعاليات الثقافية هي الأيّام العربية للأدب والشعر كضيف شرف، وكان حينها مُستشاراً لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السُّودان جون قرنق دي مابيور. جلست إليه عند لقائي به لأكثر من ثلاث ساعات في قصر الثقافة (مُفدَّى زكريا) حيثُ أُقيمت تلك الأيّام. سألني في تلك الأُمسية عن أخبار الأهل وأحوالهم فرداً فرداً، استفسر عن أحوال والدي وعمِّي حُسين، وسألني عن عمّتي عوضية التي كانت سكرتيرته، فرددتُ عليه أنّها بخير وأنّ علي عبد الرحمن نميري وزير الدولة بوزارة الخارجية قد أنصفها بعدما أُحيق بها ظلم وفُصلت من الوزارة وقام بإرجاعها للخدمة، فقال لي أنّ علي نميري إنسان مُنصِف ويعرف الحق وهو من خيرة السُفراء في وزارة الخارجية. وتناولنا في تلك المُؤانسة الكثير من الأمور منها الخاص والعام ودار الحديث عن أحوال البلاد ومآلات الأمور فيها والحرب الدائرة في جنوب السُّودان وفُرص إحلال السلام في السُّودان. قلت له في تلك الجلسة بما أنّك صديقٌ مُقرّب للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي له علاقات قوّية مع الرؤساء والملوك العرب والأفارقة لماذا لا تطلب منه التوّسط بين المُعارضة المُمثّلة في التجمُّع الوطني الدِيمقراطي وبين الحكومة السُّودانية للوصول إلى إنهاء حالة العداء والتوافق حول مسألة الحُكم في السُّودان، وكذلك التوَّسط بين الحركة الشعبية لتحرير السُّودان والحكومة السُّودانية لإحلال السلام في السُّودان؟، فقال لي أنّ عبد العزيز بوتفليقة مُؤهلٌ لذلك ولكن مُبادرات التوَّسط بين أطراف المُعارضة السُّودانية والحكومة كثيرة هذه الأيّام. رُبما يكون منصور خالد قد أسرّ لصديقه عبد العزيز بوتفليقة كي يبذُل مساعيه لتقريب شقّة الخلاف بين الأطراف المُتشاكِسة في السُّودان، فأذكُر في يونيو 2000م ذهبت مع يوسف فضل أحمد سفير السُّودان بالجزائر آنذاك لوداع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمُناسبة انتهاء مُهِّمته بالجزائر. قال لنا الرئيس الجزائري بوتفليقة في ذلك اللقاء: "أود أن أُخبركم أنّ لدّي علاقات قوّية جِداً مع أطراف المُعارضة السُّودانية وأنا على تواصل مع محمد عُثمان الميرغني والصادق المهدي وجون قرنق ومستشاره منصور خالد الذي هو أعز أصدقائي في هذه الدنيا، كما أن علاقتي مع عُمر حسن أحمد البشير على ما يرام، لِذا أرجو ألا يدور بخُلد الحكومة السُّودانية أبداً أنّني قد استغل علاقتي يوماً من الأيّام في الاضرار بمصلحة السُّودان وشعبه الشقيق الذي أكُنُ له كُل حُب وتقدير. ويحتفظ عبد العزيز بوتفليقة بعلاقات وثيقة مع السُّودانيين ويكن لهم موّدة عظيمة، وأذكر قبل سفري للجزائر ذهبت للسفير أبوبكر عُثمان مُحمَّد صالح والذي كان أول سفير للسُّودان بالجزائر للتزوّد بنصائحه، وبعد أن قدَّم لي بعض المُوّجهات والنصائح قال لي: "بعد أن تصل الجزائر وتلتقي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قُل له أنَّ صديقك أبوبكر عُثمان مُحمَّد صالح يُقرِؤك السلام". وأذكر أنَّني عندما التقيت الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أول مرَّة وكنت حينذاك قائماً بالأعمال نقلت له رسالة السفير أبوبكر عُثمان مُحمَّد صالح كما قالها لي بالحرف، فقال لي: "السفير أبوبكر عُثمان مُحمَّد صالح أول سفير للسُّودان بالجزائر وهو صديق عزيز وإنسان عظيم، فبالله تتصل عليه اليوم وتبلغه سلامي وتحياتي". عوداً على بدءٍ، يبدو أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان يوّد أن يلعب دوراً في القضية السُّودانية، ولكن الواضح أنّ رغبته تِلك تصادمت مع المُبادرة المصرية الليبية حيثُ كان البلدان قد تقدّما للسُّودان في شهر أغسطس 1999م بمُبادرة مُشتركة تهدف لتحقيق مُصالحة بين جميع أطراف النزاع في السُّودان، كما تقاطعت تلك الرغبة الصادقة للرئيس بوتفليقة مع جهود السُلطة الحكومية لتنمية شرق أفريقيا (مُبادرة الإيقاد) التي كانت تُشرِف على مفاوضات السلام بين الحكومة السُّودانية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. وبعد ذلك تتالت لقاءاتي بدكتور منصور خالد في الجزائر العاصمة والتي كان يزورها بين الحين والآخر بدعواتٍ من صديقه الحميم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والذي كان يُرسل له طائرته الخاصة لتجيء به للجزائر كي يتبادل معه الرأي في إحدى القضايا الإقليمية أو الدولية التي قد تنعكس تداعياتها سلباً على الجزائر، وكان يُحظى بمُعاملة خاصة لدى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تفوق أحياناً مُعاملة رؤساء الدُوّل إذ كان لديه اتصال مُباشر به، وكان كُلّما يزور الجزائر يستقبله مسؤول رفيع بالدولة وتشريفات رئاسة الجمهورية وتُخصّص له سيّارة مُصفّحة ويقيم في "جِنان الميثاق" الإقامة الرسمية لملوك ورؤساء الدُوّل. وقد خصّ عبد العزيز بوتفليقة بعد انتخابه رئيساً للجزائر في أبريل 1999م صديقه منصور خالد بجواز سفر دبلوماسي جزائري ليُسهِّل له تنقُّلاته في أرجاء المعمورة التي يرتاد دُوّلها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً. ظللت التقي دكتور منصور خالد بالجزائر حتّى قُبيل يوليو 2003م تاريخ عودتي للالتحاق بديوان وزارة الخارجية بالخرطوم بعد انتهاء فترة عملي بسفارتنا في الجزائر.
تعود علاقة منصور خالد بالجزائر إلى ستينات القرن الماضي (1962- 1963م) حينما كان نائباً للمُمثِّل المُقيم للأُمم المُتحدة بالجزائر. وكانت فترة العامين الذين قضاهما بالجزائر من أكثر الفترات الزاهرة في حياته، ويقول في ذلك: "كان لي شرف تكوين صداقات حميمة ودائمة في الجزائر العاصمة. كانت تلك أكثر السنوات فائدةً في حياتي. كان وقتي في الجزائر خاصاً جداً". وقد أقام منصور خالد أثناء إقامته بالجزائر صداقة قوّية مع وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، كما أقام صداقات مع بعض الدبلوماسيين الجزائريين مثل محمد سحنون والأخضر الإبراهيمي وإدريس جزائري.
بعد ذلك توالت لقاءاتي بدكتور منصور خالد في روما أثناء عملي دِبلوماسياً بسفارتنا هناك خلال الفترة من أبريل 2005 إلى يونيو 2009م، حيثُ كان يزور إيطاليا أربع مرّات في العام، وكان أول مرّة يزورها خلال وجودي هناك في سبتمبر 2005م بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل، وذلك عندما كان مُستشاراً لرئيس الجمهورية ويشغل في نفس الوقت رئيس مجلس إدارة شركة الصمغ العربي، وقد زارها حينذاك بصفته الثانية للقاءِ بعض الشركات الإيطالية سعياً لتطوير وتحديث شركة الصمغ العربي.
كان منصور خالد يُقيم دائماً أثناء زياراته لروما في فندق ويستين إكسيلسيور The Westin Excelsior في جادَّة فيتوريو فينيتو Via Vittorio Veneto وهو أرقى وأفخم فندق في قلب العاصمة الإيطالية روما. وفي نهاية شهر أبريل 2009م قبل أن أُغادر روما بنحو شهرين قافلاً للخرطوم للالتحاق بوزارة الخارجية مرّة أُخرى بعد انتهاء فترة عملي بسفارتنا بإيطاليا اتصل بي قائلاً أنّه يوّد أن يحُّج إلى روما التي أحببها في يونيو للراحة والاستجمام من عناء ورهق العمل، فقلت له أنَّني سأعود للرئاسة بعد زُهاء شهرين وأقترحت عليه أن ينزل هذه المرَّة في فندق روم كافالييري Rome Cavalieri المُطل كفارسٍ على صهوة جواده من ربوة عالية من رُبى روما – تُسمّى Monte Mario - على المدينة ومن بينها الفاتيكان ونهر التيبر بتعرُّجاته قبل أن يصُب في البحر المُتوّسط، كما يُطل روم كافالييري، ويعني باللُغة الإيطالية فارس روما، من تلّه الباذخ على قصر الفارنيسينا الشامخ Palazzo della Farnesina مقر وزارة الخارجية الإيطالية والذي بناه موسيليني ليكون مقراً للحزب الفاشي Fascist Party ولكن بناءه توّقف عام 1943م أثناء الحرب العالمية الثانية ليكتمل عام 1959م بعد انتهاء تلك الحرب وسقوط موسيليني وحُكمه الفاشي بسنوات. لدهشتي وافق دكتور منصور خالد على مُقترحي بعد أن ذكرتُ له تلك المعلومات المُحفِّزة، فمعروفٌ عنه أنّه حريص جداً على أن يختار بتأنِّي كل ما يتصل براحتهِ وملبسهِ ومأكلهِ ومشربهِ بمُفردهِ بعد تمحيصٍ شديد وفحصٍ دقيق ولا يسمح لأي شخص بالتدّخُل في خياراته الشخصية مهما كان قُربه وعلاقته بهذا الشخص. سعِد منصور خالد أيّما سعادة بإقامته في فندق روم كافالييري، وكُنت كُل ما آتي لزيارته بالفندق أجده جالساً بالخارج يغازل في جمال حديقة الكافالييري الغنّاء وفي سحر طبيعة روما الخلّابة التي عشقها وبادلته عشقاً بعشق.
وقصة عشق منصور خالد لروما قديمة يرويها في رثائه لصديقه جمال محمد أحمد، فيقول: "في ربيع عام 1986م كان آخر لقاء بيني وبين أُستاذي الصديق جمال محمد أحمد. كان اللقاء في مقهى الدونيه Café Doney في شارع فيا فينيتو بمدينة روما التي كان جمال يعشقها، وكنت ما فتئت أفعل. فروما مدينة يُضمِّخها عبير الحضارة، وتكسوها هيبة آثارها الشامخة، وتفتح ذراعيها لكُلِ قادمٍ إليها لا يُضمِر لها شرّاً. أمضيت مع شيخي جمال ثلاث ساعات تبادلنا فيها الحديث حول العام والخاص والخُصوصي، ثُمّ استودعته إلى لقاء".
مقهى الدونيه الذي شهِد آخر لقاء جمع دكتور منصور خالد بأُستاذه وصديقه جمال محمد أحمد والذي استشَّفينا منه عشقهما لروما، يجاور فندق ويستين إكسيليسيور، والذي أصبح منصور من أهم عملائه، فهو زبون دائم يعرفه كُل العاملين في الفُندُق ويهرعون لخدمته كلما قدِم للفندق لما يغدقه عليهم من نفحاتٍ مالية.
لعل من الأمور التي زادت من وله منصور خالد بروما وأشعلت عِشقه لها مقاهيها الفخمة التي تُقدِّم نادلاتها الرشيقات الجميلات المشروبات الساخنة مثل قهوة الإسبريسو الشهيرة Espresso والتي تِشرب برشفةٍ واحدة والكابوتشينو Cappuccino بطعمه الرائع والموكاتشينو Mocaccino بنكهة الشوكولاتة اللذيذة. وكان يُحب الجلوس مع أصدقائه والسمر معهم في الشرفات الخارجية لتلك المقاهي، وفي بعض الأحيان يجلس فيها وحيداً تُسامر نفسه أفكاره ويتأمل ويكتب. كما كان منصور يهوى في روما مطاعمها الفاخرة التي تُقدِّم أشهى المأكولات الإيطالية التي انتشرت في كُلِ أرجاء العالم ولكنها اشتهرت في روما والمُدن الإيطالية بمذاقها الفريد ومِنها على سبيل المِثال المكرونة الإيطالية المعروفة بالباستا Pasta بأنواعها العديدة كالإسباغيتّي Spaghetti والفيتوشيني Fettuccine والتي يُطيب أكلها بعد أن تُنثر عليها وهي ساخنة حُبيبات من جبن البارميزان Parmegiana وهي نوعٌ من الجُبن لا يعرف سِر صنعه إلا الطليان. وكان منصور خالد يُحرص يوم مُغادرته لروما على شراء كميّات من جبن البارميزان تكفيه لحين عودته لها مُجدّداً بعد حين. وفي إحدى زياراته لروما دعوته لأحد مطاعم السمك صاحبه من جزيرة صقّلية، يُدعى المطعم Sicilia in Bocca ويعني "صقّلية في الفم"، ويقع هذا المطعم في جادة قاريبالدي Via Garibaldi في حي التراستيفري Trastevere التاريخي الشهير. وعندما جاء النادل بقائمة الطعام قال لي منصور: "بما أنَّك ترتاد هذه المطعم وتعرف طيَّبَ مأكولاته فتخيَّرَ لنا ما تراه"، فذهبت مع النادل واخترت سمكة قاروس Spigola كبيرة حيّة من حوض السمك تكفي لشخصين وأكثر، وبعد أن أخرجها النادل من الحوض جاء بها وعرضها لمنصور كما يقتضي العُرف في المطاعم الإيطالية. طلبت من النادل أن يطهى سمكة القاروس (اسمها باللُغة الإنجليزية Sea Bass) بالطريقة التقليدية الصقّلية، وهي تغليف السمكة كُلها بطبقة سميكة من خليط مُتماسك من الملح الخشِن بعد وضع بعض الأعشاب المُجفّفة كالبقدونس وروز ماري في أحشائها مع قليلٍ من الثوم والفِلفِل الأسوّد وقِطع الليمون ثُمّ وضعها في الفُرن. وبعد حوالي أربعين دقيقة أتى النادل بالسمكة مُحاطة بقِشرة سميكة من الملح صار لونها ذهبياً على طبقٍ كبير من الفُخار مُزيّن برسوم صقّلية تقليدية بالألوان الزرقاء والصفراء والخضراء، وبعد أن وضع السمكة على طاولة جوارنا أخذ يطرق خفيفاً على طبقة الملح بمطرقة إلى أن تكسّرت، ثُمّ أخذ يزيل الملح جانباً ويستخرج قطع السمك والبخار يخرج من جوفه ويضع لكُل واحدٍ منا نصيبه من السمك ويسكب عليه قليل من زيت الزيتون مع المُشهِّيات والمُقبِّلات المُرافقة من بطاطس مقلية وخُضرواتٍ مسلوقة. عندما تذوّق منصور قطعة صغيرة من السمك الساخن قال لي أنّه لم يأكل في حياته سمكاً طريّاً وشهياً مثل هذا السمك. أصبح مطعم Sicilia in Bocca برنامجاً ثابتاً في كُلِ زيارات منصور خالد لروما التي تلت هذه الزيارة وكان يسعد كثيراً كل مرّة يجيء لهذا المطعم في حي التراستيفيري أجمل وأعرق أحياء المدينة التاريخية.
أتاحت لي لقاءاتي المُتتالية بدكتور منصور خالد أثناء زياراته لروما خلال إقامتي بها أربعة أعوام التعرُّف على جوانب عديدة من شخصيته، فهو لا يسمح لكائن من كان بالولوج إلى حياته الخاصة والخوص في خُصوصياته ومنها عدم زواجه وايثاره أن يعيش بلا شريكة حياة. ومن أبغض الناس إليه بعد الجُهلاء هم الفُضوليين الذين يردعهم ولا يُعطي لهم أي مجال للتقرُّب منه أو التوّدُّد إليه. وهو لا يجنح إلى تناول الأمور الشخصية في نقده للأشخاص، بل يُركِّز على تناول وجهة النظر أو الموقف أو السلوك ونقد ذلك بطريقة موضوعية تكون قاسية أحياناً، وعندما يتجه بعض الناس إلى أمور شخصية في نقدهم له يغضب ويصرف النظر عنهم، ولكن إن حُمِل على الرد عليهم يكون عنيفاً. ومن الأمور التي يبغضها بُغضاً شديداً ولا يتسامح فيها قطعاً الجهل والتجهيل وتزييف الحقائق وتزوير التاريخ، ويكون قاسياً مع الشخص الجاهل الذي يتناول موضوعاً ولا يعرف شيئاً عنه، كما يكون أكثر قسوةً مع الشخص الذي يُزيّف الحقائق أو يُزوِّر التاريخ. وكذلك من صفاته أنّه لا يُجامل قط في أمرٍ لا يستحق المُجاملة فهو لا يعرف الرياء ولا المُداهنة.
كما لمست خلال تلك الزيارات العديدة التي قام بها منصور خالد لروما ولعه الشديد بالموضة والأناقة وحُبّه الدافق للفُنون التشكيلية، ففي كل مرّة كان يزور روما كان يحرص على الذهاب لمحلات الموضة العالمية في جادة القنوات Via dei Condotti سيراً على الاقدام أميالاً فهي تقع في قلب مدينة روما التاريخية التي يُمنع دخول السيّارات إليها، وكنت أرافقه في تلك الجولات المُمتعة حيثُ يغشى المحال واحداً تلو الآخر، فهُنا يشتري بدلة جميلة من Gucci، وهُناك يتوّقف ليختار مجموعة من ربطات العُنق الأنيقة من Versace ، ويعجبه جاكيت مخملي ماركة Emporio Romani فيشتريه ولا يبالي بالسعر، ويرى في فاترينة أحد المحّلات حذاء ماركة Salvatore Ferragamo فيختار اثنين واحد من الجلد والآخر من الشامواه. ويروق له عِطرٌ من Dolce & Gabbana فيبتاع منه قارورتين. ويُفتن بحقيبة جلدية في محل Louis Vuitton فلا يتردَّد في دفع مبلغٍ باهظٍ لاقتنائها. كانت تلك الجولات الطويلة من بداية فيا كوندوتي الشهير أمام ساحة إسبانيا Piazza di Spagna المُنتهية في جادَّة المسار Via del Corso عوداً إلى ساحة إسبانيا من أمتع اللحظات لمنصور خالد، كما كُنتُ أجد فيها مُتعةً عظيمة تُنعِش الروح. أمّا حُب وعِشق منصور خالد للفنون فقِصّةٌ أُخرى، ففي كُل مرّة يزور روما كانت محلات اللوحات والأعمال الفنيّة والتُحف جزءً أساسياً من برنامجه، وفي إحدى المرّات أعجبته أعمال فنية كان حجمها كبير فاشتراها وطلب مني ارسالها له بالطائرة فأرسلتها له بالشحن الجوي، وعند استلامه لها أصرّ على معرفة التكلفة، وعندما ذكرت له أنّها بلغت ألفا يورو كلّف مُدير مكتبه عبد الملك عبد الباقي بإرسال المبلغ وتأكّد من استلامه لي في اتصالٍ هاتفي. كان أيضاً مُولعاً بالورود والزهور وكان كُلّما زار روما يحرص على الذهاب لمشاتل الورود والزهور ويختار مجموعة من بُذور الأزاهير والورود التي هي جزء من حياته، وإذا أُعجِب بنبات لا يتردَّدُ في شرائه وأخذه معه للسُّودان.
من المواقف الصعبة لي مع منصور خالد في روما ذاك اليوم عندما اتصل بي من الخرطوم باكراً صديقه الإيطالي ريكاردو راشيتي Ricardo Raciti وأبلغني بوفاة والدة منصور الحاجة السارة بنت الصاوي وطلب مني الذهاب له في الفُندق لإبلاغه. حوالي الساعة التاسعة كنت في بهو الفندق لإبلاغ منصور بنبأ وفاة والدته، وعندما رأيته وقبل أن أُقرئه السلام قال لي الدوام لله فقد تُوفيت الوالدة فكفاني مشّقة إبلاغه إذ أن أصعب شيء على الإنسان إبلاغ أخيه بنبأ وفاة عزيز لديه. أذكر أيضاً عندما تُوفي الرئيس جعفر محمد نميري كان منصور خالد في روما وعند ابلاغه الخبر يوم 27 مايو 2008م تأثَّر تأثُّراً شديداً ونزلت دمعة من مآقيه رغم ما أصابه من الرجل. عند وفاة ريكاردو راشيتي بالسُّودان عام 2018م كان دكتور منصور خالد أول القادمين لحضور القِداس على جُثمانه بكاتيدرائية سانت ماثيو Saint Matthew’s Cathedral بالخُرطوم. تعجّب منصور كثيراً عندما علِم أنّ صديقه الإيطالي ريكاردو وهو كاثوليكي مُلتزِم قد كتب في وصيته أن يُحرق جُثمانه وينثر رماده على النيل. فقُلتُ له رُبّما أراد ريكاردو الذي عشق تُراب السُّودان الذي وُلِد فيه، رُبّما أراد أن يمتزج رُفاته المحروق مع النيل سليل الفراديس ويرتوي منه.
تواصلت لقاءتي مع دكتور منصور خالد بعد عودتي للخرطوم من روما، وكُنت كثيراً ما ألتقيه في المُناسبات الاجتماعية والندوات الثقافية التي يحرص على المُشاركة فيها، كما كُنت أحرص على زيارته بمنزله بين الحين والآخر وعندما يطيل غيابي عنه يتصل بي سائلاً عن السبب. سعِد كثيراً بتعريفه ببروفيسور جعفر ميرغني، مُدير معهد حضارة السُّودان وأُعجب أيّما إعجاب بالمخزون الهائل لمعلوماته عن تاريخ السُّودان وحضاراته التي ازدهرت في العالم القديم وبعِلمه الغزير في شتّى ضروب المعارف ومقدرته الهائلة للربط بين أحداث التاريخ وتحليلها واستخلاص العِبر والدروس منها واستقراء المُستقبل. وكان يتحيَّن كُل فُرصة يجدها للذهاب لجعفر في مكتبه بمتحف التُراث الشعبي (الإثنوغرافيا) والاستمتاع بمُؤانسته.

أثناء عملي بسفارتنا في مدريد التي وصلتها يوم 9 يوليو 2011م، - هذا اليوم التاريخي الذي أُعلن فيه جنوب السُّودان دولة مُستقِلّة - واستمر عملي بها حتّى 30 يونيو 2015م، أثناء تلك الفترة كان بيني ودكتور منصور خالد اتصالاتٍ هاتفية، إذ لم يتيّسر له زيارة إسبانيا خلال إقامتي بها أربعة أعوام. كان منصور ينوي الانتقال إلى إسبانيا والاستقرار في ملقا Malaga مسقط رأس الفنّان التشكيلي بابلو بيكاسو، وقد اختار ملقا التي تتوّسط منطقة ساحل الشمس Costa del Sol في الأندلُس نسبةً لهدوئها مُقارنةً بماربيا Marbella السياحية والتي تجذب أثرياء العرب، بالإضافة لطقسها المُعتدل طوال العام، ويبدو أنّ انفصال جنوب السُّودان الذي كان يعتبره قطعة عزيزة من الوطن ونظرته المُتشائمة لمآلات الأوضاع في السُّودان وتوّقعاته بانفراط عِقد الأمن هُنا وهُناك جعله زاهداً في الإقامة بالسُّودان، كأنَّما كان يقرأ تلك الأيَّام بعيون فاحصة مستقرئاً ما ستؤول إليه الأمور وهو يخط كتابه "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد: حول قضايا التغيير السياسي ومشكلات الحرب والسلام في السُّودان" الذي صدر عام 2010م، والاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السُّودان على الأبواب. وقد عُرِف منصور خالد بأنَّه كان وحدوياً مثل جون قرنق والذي بوفاتِه في حادث الطائرة الهِليكوبتر الغامض تلاشت كل الآمال في الوحدة ووجد الانفصاليَّون في الشمال وفي الجنوب فُرصتهم في الدعوة والترويج للانفصال إلى أن نالوا مُرادهم عند إجراء الاستفتاء على تقرير المصير يوم 9 يناير 2011م والذي صوّت فيه الجنُوبيَّون بنسبة عالية على الانفصال.

بعد عودتي من إسبانيا كُنت كثيراً ما أزوره في بيته الذي أحبَّه وأسماه بيت منصور. كان مُنشغلاً في تلك الأيَّام ومُنكبَّاً على إكمال مُذكِّراته " شذراتٌ من، وهوامشٍ على سيرةٍ ذاتية"، وكُنت كُلَّما أذهب إليه في داره أجده جالساً على مكتبه وأمامه رُزمٌ من الأوراق وأرتالٌ من الكُتب تكاد لا تراه وهي تعلو سطح المكتب، يتناول هذه الورقة ليراجع معلومة ويفتح تلك الصفحة من أحد كُتبه ليتأكد من معلومةٍ كان قد دوّنها في ذاك الكِتاب. كان حريصاً أيَّما حرص على إكمال هذا العمل، وكان دائماً يقول لي لا بُدَّ أن تخرج هذه المُذكِّرات ليعرف الناس الحقائق، وقد لا يروق ما كتبت للكثيرِ مِنهم بل وقد يُغضبهم ولكني لا أُبالي، فالمُهِم لدَّي أن يُدرك الناس الحقيقة ويعرفوا المعلومة الصحيحة، وقد يشعر بعض الناس أنَّني قد قسوت فيما كتبتُ على بعض الأشخاص ولكن هم الذين جنوا على أنفسِهم وقسوا عليها بما قالوه وما فعلوه وما ارتكبوه.
من خلال معرفتي بدكتور منصور خالد لمست فيه العديد من الخصال النبيلة، ولعل أسمى هذه الصِفات هي أنَّه لا يحمل في قلبه حقداً لأي شخصٍ مهما أصابه منه، فقد يغضب غضباً شديداً وينتقد بأقسى العبارات ذلك الشخص الذي انتاشه بسهامه ولكن لا يحقد عليه. كما أنّ إحدى أجمل خصاله هي وفائه الشديد لأصدقائه خاصةً أبناء جيله، وفي الكتاب الموسوم بعنوان "د. منصور خالد: في حضرة غيابهم" الذي أُصدر في فعالية تكريمه نرى كيف رثى بصدق نفراً من أصدقائه رحلوا إلى دار البقاء، ولكن أودّ أن أسرد هُنا موقفاً شاهدته بأُمِ عيني، ففي افتتاحية تكريم دكتور منصور خالد يوم 12 مارس 2016م بقاعة الصداقة بعد أسبوع واحد فقط من وفاة دكتور حسن الترابي، وقف منصور عندما جاء دوره للحديث، فقال والدموع تُغالبه أنّه بقي فقط اثنان على قيد الحياة من أبناء دفعته خريجي الحُقوق بكُلِّية الخرطوم الجامعية 1955م بعد رحيل حسن الترابي، هو والمُحامي محي الدين عووضة والذي ألقى بدوره كلمة مُؤثرة. كانت الصلات بينهم الثلاثة متينة للغاية ولم تفرّق وتُباعِد بينهم دروب السياسة ومُنعرجاتها، كما لم تؤثر قط على علاقتهم الاجتماعية، وقبل رحيل حسن الترابي بأسبوع اجتمع ثلاثتهم على مائدة عشاء إذ اعتادوا أن يلتقوا كأبناء دفعة بصِفة راتبة.
لعل أبلغ رثاء لدكتور منصور خالد في أصدقائه كان في صديقه الأثير وزميله في مدرسة وادي سيَّدنا الثانوية ورفيق دربه لنصفِ قرن، الأديب الروائي الطيِّب صالح، ونقتطف هُنا جزءً من هذه المرثية الصادقة المكتوبة في 23 يوليو 2009م والتي يستهلها بهذه الكلمات: " قبل خمسة أشهرٍ من يومِنا هذا لم نُوَّدعْ رجلاً في مقبرة البكري بمدينة أم درمان وإنِّما أودعنا رُفاةَ حُلم. وإذ يلتقي صِحابُ الطيِّب صالح الحُلم هذه الأمسية، لا يلتقون لتأبين أو رثاء وإنَّما لاستذكارِ وَمضَاتٍ من ذلك الحُلم. كُلُّكم عرف الطيِّب. عرِفه صديقاً، وعرِفه كاتباً، وعرِفه مُحدِّثاً، وعرِفه أخاً لم تلده أمه. ومثل كُثرٌ منكم أزعم، وأنا أقف أمامكم، أنِّني عرِفت الرجل كما لم يعرِفه الكثيرون. عرفته خلال ما ينيف على نصفِ قرنٍ تكافأنا فيه وُدَّاً لم يُفسده اختلافُ رأي، ولم يُكدِّر صفوه تبايُنَ فِكرٍ. بدأت الرِحلة من الدراسة الثانوية في مدرسة وادي سيَّدنا، ثُمَّ في جامعةِ الخرطوم، وامتدت عبر عقودٍ من الزمان تلاقينا فيها في كُلِ أصقاعِ المعمورة التي حملتنا إليها ضرورات الحياة وظروف العمل، كما حملتنا الرغبة في الارتحال إلى من نُحِب. نرتاد عندهم ومعهم رياض المعرفة ومغاني اللهو والإمتاع. تلك لحظاتٌ أظلم نفسي، قبل أن أظلم الراحل، إن لم أستذكر فيها رجالاً كان كل واحد منهم حبيباً إلى نفس الطيِّب: صلاح أحمد محمد صالح، فتح الرحمن البشير، عثمان محمد الحسن، محمد إبراهيم الشوش، حسن تاج السر، محمود عثمان صالح، محمد الحسن أحمد، حسن أبَّشر الطيب، وإلى أولئك من السُّودانيين ينضم حبيب الطيِّب وخدن نفسه، مُحمَّد بن عيسى الذي كان بيننا كلؤلؤةِ الغَوَّاص. فلله الحمد على تلك الصُحبة المُثرية.
كان الطيِّب، من بين كل صحبه رجلاً بهي الرواء يملأُ منه المرءُ عَينَه، ونسمة عفية في حياةٍ، كثيراً ما قاظت أيَّامها في الشتاء قبل صميم الصيف. تلك النسمة العفية أصبحنا أكثرَ حوجةً إليها عندما انتهت بنا الأمور إلى أوضاعٍ تعسَّرت فيها صحبة الأناسي. تلك أوضاعٌ وصفها الإمام الطبراني أجودَ وصفٍ حين قال: «إنَّ الناس قد مُسِخوا خنازير فمن وجدَ كلباً فليتمَّسك به». كان الطيِّب ناراً يقبِس منها كُلُ من يغشى مجلسه وكان في ذلك المجلس يلمع كذاتِ العرش، وهي الثُرِّيا. كان يُحِب الناس - كل الناس - حُبَّاً لا رياء فيه ولا مُداجاة رغم علمه بطبائع البشر، إذ كثيراً ما كان الطيِّب يترَّنم بشعرِ واحدٍ من شعرائه المُفضَّلين، غيلان بن عقبة بن العدوي الربابي المُلَّقب بذي الرُمَّة:
عوَى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى
وصَوّتَ إنســـــــانٌ فكدتُ أطيــــرُ".
كتب الكثيرون عن دكتور منصور خالد في حياته وبعد مماته، ولكن من أكثر الكتابات المُعبِّرة والتي تُلخِّص جوانب عديدة من شخصيته الفريدة ما خطّه يراع محمد الشيخ حسين عنه في تقديم كتابه "منصور خالد لورد من أُم درمان: قراءة في حوار مع الصفوة بعد 50 عاماً"، إذ سطر الكلمات التالية: "عرفت الدكتور منصور خالد أشهر من توّلى وزارة الخارجية في السُّودان، في فترة مُبكِّرة من بدايات وعيي الشخصي تعود إلى العام 1980م، عبر كتابه الأشهر (حوار مع الصفوة)، وكنت حينها طالباً في السنة الأولى من دراستي الجامعية. وقبل ذلك بنحو عامين كنت قد شاهدته وجهاً لوجه عندما زار بصفته وزيراً للتربية مدرسة الخرطوم الثانوية العليا الجديدة، التي كنت حينئذ طالباً فيها، وأذكر أنّ مُعظم حديثه في تلك الزيارة تركّز حول مكتبة المدرسة، وأهمية أن يتوّسع الطلاب في (القراءة المُكّثفة) في مُختلف ضروب المعرفة. ولفت نظري في هذا الكتاب عندما قرأته للمرّة الأولى، ثلاثة شواهد: أولها: أنّ الدكتور منصور خالد رجل مُستقيم الفكرة نزيه الرأي ليس له حسابات سياسية، وكان ذلك نوعاً نادراً من المُثقّفين السُّودانيين والعرب في ذلك الوقت. ثانيها: أنّ الدكتور منصور في حوار مع الصفوة كان رجلاً لا يمارس ألاعيب السياسة. كان يكتب ما يعتقد أنّه الصواب. ثالثهما: توّفر الدكتور منصور خالد على إمكانيات ذهنية وثقافية تُشير إلى مُفكِّر كبير مُتابع بدقة للتطوّرات السياسية والفكرية في العالم. وفوق كل ذلك فهو الدارس المُتعّمق للقانون والسياسة مما ساعده على تكوين عقلية مُركّبة تستلهم عبقرية التناقض وتكتشف الروابط بين التطوّرات. وفي يونيو 2015م أعدت قراءة كتاب (حوار مع الصفوة) بعد 50 عاماً من صدروه، فظهر أمامي الدكتور منصور خالد مثل لورد خرج من أزِّقة أُم درمان فكان هذا الكتاب".
كما تُعتبر شهادة د. النور حمد في ورقته بعنوان: منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل التي قرأها في الحفل المهيب لتكريم د. منصور خالد الذي أُقيم يوم 16 مارس 2016م بعنوان "منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب" من أقوى الشهادات التي قيلت في حق منصور. يقول النور في شهادته تلك عن منصور: "بوصفه كاتباً، يجلس منصور خالد، دون مراءٍ، ضمن القلةِ الأكثرِ تميُّزاً من بين الكُتَّابِ السُّودانيين. هذا، إن لم أقل إنَّه الأكثر تميُّزاً، على الإطلاق. ظلَّ منصور خالد، على خلافِ أكثريةِ السُّودانيين، ملتصقاً، طيلةَ حياته، بفعلِ الكتابة. يُضاف إلى ذلك أنه من جنسِ المفكرينَ، والباحثينَ، والكتاب، الذين يُفعمون عقلَك ووجدانَك، بذكائِهم اللّماح، وبغزارةِ علمِهم واتساعِه، وبتنوّع معارفه، فيصابُ من يحاول التعبيرَ عن تقديرِه له، بحالةٍ هي أشبهُ ما تكونُ بالشلل، لأنَّه لا يدريَ ماذا يأخذ، وماذا يترك، أو من أين يبدأ وأين ينتهي.
في تبيانِ تميُّزِ منصور خالد عن سواه، من الكُتّاب السُّودانيين، ربما أمكنني القولُ، أنَّه السُّودانيُّ الذي لم يجاريه سُودانيٌّ آخر، على الإطلاقِ، لا في القديمِ، ولا في الحديثِ، في كمِّ الصحائف، التي سوّدها. أما من حيث نوعيةِ الكتابةِ، فهو، دون شكٍّ، من بينِ القلةِ الأفضل. وأكثر ما يُميَّزه عن غيرِه انحصارُه في القضايا الجوهريةِ المرتبطةِ بتحدِّياتِ بناءِ الدولةِ في السُّودان. يضاف إلى ما تقدَّم، فإنَّ تناوُله لما يقومُ برصدِه من زوايا تحليلية، تتوكأ على فرزٍ دقيقٍ لمدلولاتِ الوقائعِ التاريخية، وطبيعة السياق السُّوداني، وحقيقة وضعه، بإزاءِ الواقعين؛ الكوكبي والإقليمي، تجعله الأدق رصداً، والأوسع منظوراً، والأطول نفساً.
لقد أرسى منصور خالد تقليداً مهنياً، في صناعةِ الكتابةِ، بالغ الأهمية، سوف يكون له أثرُه المُمتد على الأجيالِ المقبلةِ من الأكاديميين السُّودانيين، وعلى غيرِ الأكاديميين، من عامةِ المُثقَّفين والناشطين السياسيين، المُنخرطين في حقليْ السياسةِ والثقافة. هذا التقليدُ البارزُ الذي أرسى قواعدَه منصور، هو الرهبنة الجَّلِدةُ في محرابِ البحثِ والكتابة، في بلدٍ لا يصبر أهلُها، عادةً، على رهقِ البحثِ والكتابة، بل هم لا يصبرون على رهقِ التجويدِ، من حيث هو.
لم يصبرْ سودانيٌّ على مشَّقة التوثيق والرصد، وهو عملٌ غايةٌ في الإملال، مثلما صبرَ منصور خالد. ولذلك، ليس لدي تحفظ البتَّة، أنَّ منصور هو الأفضلُ، بلا منازعٍ، في الصبرِ والجلدِ على رهقِ البحثِ والكتابة. فهو لم يتركْ شاردةً، ولا واردةً، في حقبةِ ما بعدَ الاستقلالِ في السُّودان، إلا ورصدَها، وأشبعها تحليلاً وتشريحاً. ولو أراد أيُّ باحثٍ معلومةً ذاتَ مغزىً في سيرةِ الحياةِ السياسيةِ السُودانية، لحقبةِ ما بعد الاستقلال، سواءً تعلَّق الأمرُ بالوقائع، أو بالقضايا، على تشعُّبِها، وعلى اتساع طيفِها، فإنَّه لا شك واجدُها في مؤلفات منصور خالد. لقد ترك منصور خالد للأجيال القادمة، من السُّودانيين، سجلا توثيقياً فريداً، من أجل إيجادِ المعلومة، كما ترك لها جودةُ الكتابةِ، والرصدُ الدقيقُ، والتركيزُ على القضايا المركزية، وثلاثتُها لا تمثل سوى بضعِ جوانبَ مما أنجزه الرجل. كلُ تلك الأمور، تقول، وبأعلى صوت، أنَّ منصور خالد هو من بين السُّودانيينَ القلائلِ الذين يستحقون الاحتفاءَ بجدارة. ولو كُنَّا في بلاد تجري فيها الأمورُ بصورةٍ طبيعيةٍ، ويُحتَفى فيها بالفكرِ، وبالإسهامِ النوعيِّ، وبالإنجازِ الضخم، بعيداً عن ضيقِ أفقِ أهلِ الإيديولوجياتِ الرَّثّةِ، وفسالتِهم المعهودةِ، وعصبياتِهم الشبيهةِ بعصبياتِ القبائلِ الرعوية، فإنَّ منصور خالد ممن تُقامُ لهم التماثيلُ في الميادينِ العامة، وتُسمى باسمِهم الشوارعُ والمؤسسات".
ويا لها من شهادة باذخة كُتبت بأحرُفٍ من نور من النور حمد في حق منصور خالد.
نسج دكتور منصور خالد علاقات صداقة مع عدد من أعضاء الفريق الحكومي المُفاوِض في نيفاشا، وقد توّثقت علاقاته بنفرٍ منهم بعد عودته واستقراره بالسُّودان، منهم سيِّد الخطيب ويحيى حُسين وصلاح عبد الله محمد صالح (صلاح قوش) والذي ازدادت علاقته به متانةً بعد أن أوكل إليه إعداد دراسة لتطوير أكاديمية الأمن العُليا وإنشاء أكاديمية لجهاز الأمن والمُخابرات الوطني.
على الصعيد الشخصي كان لدكتور منصور خالد أفضالاً كثيرة عليّ لا يتسع المجال لذكرها هُنا، ولم يبخل عليَّ يوماً برأيه ولم يضّن عليّ بنُصحه ولم يكُف أبداً عن تشجيعي للاطّلاع والقراءة. ومن أفضاله عليّ والتي لن أنساها أنّه حفّزني للكتابة عن تاريخ وزارة الخارجية السُّودانية، ففي يناير 2016م كنت قد أعدّدت كُتيّباً عن نشأة وزارة الخارجية لمؤتمر سُفراء السُّودان السادس، وعندما رأى الكُتيّب أشار عليّ بتوسيع المادة لتُنشر كمقال، فقمت بذلك ونشرت المقال في مجّلة "السفير" يناير 2017م، وصحيفة "السُّوداني" مايو 2018م، وعندما قرأ الحلقات الثلاث من المقال بعنوان "لمحات من تاريخ وزارة الخارجية" المنشور بصحيفة السُّوداني اتصل بي بالهاتف وطلب مني الحضور فذهبت إليه على الفور، وبعد أن ألقيت عليه السلام بادرني بالإشادة بالمقال وقال لي: لماذا لا توّسع هذا العمل لكتاب؟ وشجّعني على ذلك قائلاً لي أنّه على استعداد لتقديم ما لديه من معلومات يُمكِن أن تُفيد في توثيق تاريخ وزارة الخارجية، فكانت كلمات منصور خالد المُشجِّعة تلك حافزاً لي ودافعاً للبدء في كتابة تاريخ وزارة الخارجية مُنذ نشأتها قبل الاستقلال كوكالة السُّودان للشؤون الخارجية أو ما كان يُسمَّى مكتب الشؤون الخاصة، وأتمنى أن يكتمل هذا العمل الذي قطعت فيه شوطاً مُقدَّراً ويرى النور قريباً.
لعل من اللحظات السعيدة في حياة منصور خالد خلال سنواته الأخيرة كانت عند استلامه النُسخة الأولى من آخر انتاجه من الكُتب، وأذكر ذلك عندما كنت معه ذاك اليوم من شهر أكتوبر 2018م في مكتبه بطابق المِيزانِين بمنزله في الخرطوم شرق وسألته عن أخبار كتابه "شذراتٌ من وهوامشٍ على سيرةٍ ذاتية" فقال لي ستُسر بِمُفاجأة بعد قليل، وبعد لحظاتٍ دخل علينا الفنّان التشكيلي عصام عبد الحفيظ – مَصّمِم غلاف الكتاب - وهو يحمل ملء يديه الأجزاء الأربعة الضخمة من مُذكِّرات منصور الصادرة عن "دار رؤية للنشر والتوزيع" في القاهرة. كنت محظوظاً بأنّني كنت مع صاحب الشذرات أول من اطلع على النُسخة المطبوعة الأولى من هذا الكنز الثمين، كما كُنت سعيداً غاية السعادة وأنا أرى آيات البِشر والسعادة ترتسم على وجه منصور، وازدادت سعادتي عندما وقّع لي بخطٍ جميل على النُسخ الأربعة للمُذكِّرات عند حصولي عليها بعد شهر من ذلك اليوم. ويُعتبر سِفر منصور خالد "شذراتٌ من وهوامشٍ على سيرةٍ ذاتية"، أُسلوباً جديداً في كتابة أدب السيرة الذاتية ممزوجاً بمُقتطفاتٍ من السيرة الغيرية لبعض الأعلام السُّودانيين الذين سعى المُؤلف إلى إعادة تشكيل حياتهم من خلال الكلمات عن طريق المنظور التاريخي أو الشخصي مُعتمداً على الأدلة المُتاحة؛ المحفوظة في الذاكرة، أو المكتوبة، أو الشفهية. وقد كتب منصور شذراته بنمطٍ قصصي مُشوِّق وتناول سيرته وسيرة غيره بأُسلوب روائي بديع مما جعلها عملاً أدبياً فريداً لم يسبقه عليه أحد. كان منصور خالد يشعر بأنَّ "شذراتٍ من وهوامشٍ على سيرةٍ ذاتية" سيختم بها كتاباته وستكون آخر أعماله في حياته، وقد كان سعيداً أيّما سعادة عندما صدرت المُذكِّرات نهاية عام 2018م لتكون مِسك ختام الدُرر التي زيّن بها هذا الكاتب الفذ والأديب الأريب المكتبة السُّودانية والعربية والعالمية.
وكانت من اللحظات المُبهِجة في حياته أيضاً عندما اجتمعت ثُلَّةٌ من أصدقائه وزملائه لتكريمه وأقاموا له احتفالية ضخمة تحت عنوان: "منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب". تأثّر منصور خالد غاية التأثّر بهذا التكريم وقد بدا ذلك واضحاً في المُحاضرة الطويلة التي قدّمها في الليلة الختامية لفعاليات تكريمه يوم 14 مارس 2016م في نادي الدِبلوماسي بالخرطوم.
حُلم دكتور منصور خالد الذي طالما راوده وكان يوَّد أن يتحقَّق في أُخريات أيّامه هو رؤية مركز منصور خالد للفنون ليكون أحد منارات السُّودان الثقافية وأحد معالمه الفنية. أذكر أنّه حدّثني عندما التقيته في أول زياراته لروما شهر سبتمبر 2005م أنَّ مشروع إنشاء مركز ثقافي ظلّ حلماً يراوده ويُداعب خياله قبل التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا وأنّه يأمل أن يتحقّق هذا الحُلم بعد توقيع اتفاق السلام وعودته للخرطوم. أشرت عليه بأن يُوكل إعداد تصميم المركز للمعماري القدير جاك إشخانس، وهو شقيق المُمثل المشهور إبراهيم خان، ويبدو أنّ ظروف عدم تواجد جاك إشخانس بالسُّودان قد حال دون ذلك فأوكل التصميم الأولي لاثنين من شباب المعماريين. وقبل سنوات قليلة كلّف الاستشاري المعماري العالمي Tom Postma Design ومقّره أمستردام بهولندا فأنجز هذا الاستشاري تصميماً خارجياً وداخلياً لمركز منصور خالد للفنون استوعب صالات عرض وقاعة للمُحاضرات ومكتبة ومطعم ومساحات تُوّفر منصّات لتبادل الأفكار والتأمل والمُناقشة، ويُعتبر هذا التصميم تُحفة معمارية فريدة. كان منصور خالد يوّد تنفيذ هذا المشروع الخلّاق في قطعة أرض كبيرة يمتلكها في الجريف غرب، ولكن عندما استحالت هذه الفكرة شرع في تحويل منزله "بيت منصور" ليكون داراً ثقافية بناءً على التصميم المعماري للاستشاري الهولندي، فأضاف طابقاً إلى طابقي منزله ضمّ غُرفة نوم واسعة مساحتها حوالي ثمانين مِتراً مُربّعاً زيَّن جُدرانها بلوحاتٍ زاهية الألوان للفنَّان التشكيلي السفير صالح مشامون، وقاعة مساحتها حوالي مائة وعشرين مِتراً زيّنها بأجمل مُقتنياته من الأعمال الفنّية شملت لوحات لإبراهيم الصلحي وعُثمان وقيع الله وأحمد مُحمَّد شبرين وبعض أعمال الخزف لصالح الزاكي وعبده عُثمان ومنحوتات حجرية وأعمال حفر على الخشب نحتها عبد الرحمن شنقل بإزميله، وكذلك قِطع نادرة من السِجَّاد الفارسي وأباريق وأواني نحاسية رائعة، وزُوِّد المبنى بمصعد حديث لتسهيل حركته.
كما كان لديه حُلمٌ آخر كبير يتجسّد في تأهيل مبنى الخلوة المُلحقة بمسجد جده الشيخ محمد عبد الماجد وتحديثها وتزويدها بوسائل العصر وتقنياته من أجهزة كمبيوتر وإنترنت. اقترحت عليه تكوين مجلس أُمناء ليقوم على إيجاد التمويل اللازم للمشروع والاشراف على خطوات تنفيذه، وقدّمت له قائمة تضُّم عدداً من رموز المُجتمع السُّوداني ورجال الأعمال ومُديري البنوك المُهتمين بالثقافة والتُراث شملت اثني عشر اسماً هم: دفع الله الحاج يوسف وأحمد البدوي محمد الأمين حامد وأحمد بشير النِفيدي ومحمد إسماعيل محمد ووجدي ميرغني محجوب ونزار خالد محجوب والفاتح عروة وأمين سيد أحمد ومُعتز البرير ومعاوية أحمد الأمين عبد الرحمن وزهير سعيد وأحمد أمين عبد اللطيف. لم ير هذا المشروع النور للمرض الذي ألّمّ بمنصور خالد في السنوات الأخيرة.

شرع دكتور منصور خالد في السنوات الأخيرة من حياته في إعداد موسوعة عن أغاني حقيبة الفن التي عشقها وكان يحتفظ بكُل تسجيلات أغاني الحقيبة من الإذاعة السُّودانية في أقراص مُمغنظة CD، كما كان دائماً يستمتع بجلسات الاستماع المسائية التي يُنظِّمها بصفة راتبة صديقه أحمد بشير النِفيدي في داره بالديوان في سوبا، والتي يشدو فيها بِالدُررِ النفيسة من أُغنيات الحقيبة السُّودانية عاصم البنّا ومرزوق محمود وغيرهم من المُبدعين، ونتمّنى أن تكون مخطوطة هذه الموسوعة النادرة محفوظة في حرزٍ أمين لترى النور في يومٍ من الأيّام لتُشكِّل إضافة قيّمة للتاريخ الغنائي السُّوداني.
كان لمنصور خالد العديد من الإنجازات البارزة على الصعيدين الوطني والدولي، فعلى الصعيد الوطني من أهم إنجازاته فوز السُّودان بعضوية مجلس الأمن لأوَّل مرَّة في الانتخابات التي جرت في نيويورك يوم 23 نوفمبر 1971م بعد أربعة أشهر من تعيينه وزيراً للخارجية، وقد ترأس مجلس الأمن الذي عقد جلسته خارج مقرّه في نيويورك، مُنتقلاً، للمرّة الأولى، إلى أديس أبابا بإثيوبيا. وعلى أيَّامه مندوباً دائماً للسُّودان في الأمم المتحدة عامي 1970 و1971م ترأس السُّودان الجمعية العامة للأُمم المُتحدة وكان له علاقات متينة مع جورج بوش المندوب الدائم للولايات المُتحدة الأمريكية بالأُمم المُتحدة، وقام حينذاك بدورٍ بارز في حل الخلاف الذي نشب بين المندوب الدائم الأمريكي والمندوب الدائم السوفيتي على أيَّام الحرب الباردة. كما تحفظ الذاكرة السُّودانية لدكتور منصور خالد دوره المِفتاحي في التوّصل لاتفاقية السلام في أديس أبابا عام 1972م فقد كان هو العقل السياسي وراء هذه الاتفاقية برعاية مجلس الكنائس العالمي والتي أوقفت 17 عاماً من الحرب الأهلية في جنوب السُّودان التي اندلعت في أغسطس 1955م، قبيل إعلان استقلال البلاد بأربعة أشهر. وقد ساد السلام والاستقرار في السُّودان بفضلِ هذه الاتفاقية 11 عاماً من 1972 إلى 1983م حين تجدَّدت الحرب مرَّة أُخرى في أغسطس من ذاك العام بعدما عدَّل الرئيس جعفر محمد نميري في بعض بنود اتفاقية سلام أديس أبابا. أيضاً كان مؤتمر الدِبلوماسية والتنمية الذي عُقد بالخرطوم عام 1974م وشارك فيه كِبار الاقتصاديين في العالم من بنات أفكار دكتور منصور خالد، وكذلك التكامل مع مصر والتكامل العربي الافريقي وبرنامج استغلال ثروات البحر الأحمر المُشتركة بين السُّودان والسّعودية المعروف بــ Atlantis II، وكذلك برنامج الأمن الغذائي العربي حيثُ كان أهم نتائج ذلك البرنامج تحديد بعض المشروعات في السُّودان والذي كان من ثمراته انشاء المُنظمة العربية للتنمية الزراعية والهيئة العربية للاستثمار والانماء الزراعي ومقرَّهما الخرطوم. خاطب منصور خالد المؤتمر قائلاً: "إنَّ الدِبلوماسية السُّودانية تُنفِّذ سياستنا الخارجية من خلالها، والدبلوماسية الحديثة مادة أوسع للمشاركة في سير العلاقات بين الأُمم". وقد نشأت أفكار جديدة في هذا المجال. إنَّ دبلوماسية التنمية فن جديد لشؤون الدُوَّل". وبالإضافة إلى ذلك مخيلة منصور خالد الدِبلوماسية إلى تأطير التعاون العربي الأفريقي الذي كانت قمته هي المصرف العربي للتنمية في أفريقيا ومقره الخرطوم. وعلى الصعيد الدولي توَّلى منصور خالد مهام دولية تتصل بملَّفات اللجنة الدولية للبيئة والتنمية، وهو نائب رئيس اللجنة، رئيسة وزراء النرويج السابقة، غرو هيلم برونتلاند Gro Harlem Brundtland، حيثُ قامت هذه اللجنة بالاعداد لقمة الأرض العالمية التي عُقِدت في ريو دي جانييرو بالبرازيل خلال الفترة من 3 إلى 14 يونيو 1992م. ويتذكّر العالم "قمّة الأرض"، وتقريرها "مُستقبلنا المشترك" Our Common Future، والذي عُرف أيضاً باسم تقرير لجنة برونتلاند ومنصور خالد الخاص بقضايا البيئة والتنمية. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أنشأتْ اللجنة الدولية للبيئة والتنمية لمعالجة قضايا البيئة والتنمية، وأوكلت رئاستها إلى غرو هيلم برونتلاند، ومنصور خالد نائباً للرئيس. وقد قادا معاً العمل المُتشعّب الذي اجترح تقارباً جديداً بين النشاطات التنموية في مُختلف البلدان، وعلاقتها بقضايا البيئة ومُستقبل سلامة الأرض. وضعت اللجنة، وعبر مؤتمرات عديدة من 1985 إلى 1992م، اللبنة الأولى والتعريف المُعتمد لما عُرف بعد ذلك بمفهوم "التنمية المُستدامة". وقد اعتمد قادة العالم بناءً على تقرير لجنة غرو هيلم برونتلاند ومنصور خالد الخاص بقضايا البيئة والتنمية جدول أعمال القرن الحادي والعشرين، مع وجود خُطط عمل مُحدَّدة لتحقيق التنمية المُستدامة على المُستويات الوطنية والإقليمية والدولية.
منصور خالد أحد أبرز وزراء الخارجية الذين وضعوا بصماتٍ واضحة لا تُخطئها العين في وزارة الخارجية، إذ أسهم في خلق نقلة نوعية في العمل الدبلوماسي، فمع بداية توّليه الوزارة تمّ تكريس مؤسسية العمل الدِبلوماسي وتوسيعه واستحداث إدارات جديدة بعد إعادة النظر في الهيكل الإداري الذي تقوم عليه الوزارة بما في ذلك الإدارات الجغرافية والسياسية والفنية وعلى رأسها المكتب التنفيذي والتقرير الرئاسي اليومي الذي يُرفع مباشرة لرئيس الجمهورية، وقبول مجموعات إضافية من ناشئة السلك الدِبلوماسي، كما اهتم منصور اهتماماً كبيراً بتأهيل وتدريب الدِبلوماسيين، وعمل أيضاً على تفعيل دِبلوماسية التنمية، الأمر الذي أدّى إلى استقطاب الاستثمارات العربية والغربية والتي دفعت بعجلة التنمية في السُّودان. وقد ظلَّ دكتور منصور خالد أثناء توليه حقيبة وزارة الخارجية مرَّتين (من 3 أغسطس 1971م إلى 25 أكتوبر 1975م، ومن 9 أكتوبر 1977م إلى 10 سبتمبر 1977م) حصيفاً ومُتنبّهاً إلى أهمية إحداث التوازن في علاقات السُّودان في دوائر انتماءاته المُتعدِّدة، إقليمياً ودولياً.
أبهر منصور خالد خصومه قبل مُريديه، وهم كُثر هُنا وهُناك، إذ شهد الجميع له بالاستقامة والكفاءة ورجاحة العقل، وقد أُتيح له الاطِّلاع على الكثير من أسرار السياسة السُّودانية التي خاض أُتونها مفكراً ووزيراً ومعارضاً لم تلن له عريكة، كما كان خبيراً بخبايا المُجتمع السُّوداني. وظلّ منصور خالد من أكثر الشخصيات السُّودانية إثارةً للجدل كسياسي وكاتب ومُفكِّر، وإن اختلف البعض حول أفكاره وطروحاته لكن يعترف كُل من عرفه بقُوّة قلمه وجزالة تعبيره ووضوح فكرته.

عصر يوم الأربعاء 22 أبريل 2020م بعد أن دخلت المنزل عائداً من المكتب بعد نهاية يوم عملٍ طويل رنّ جرس هاتفي النقَّال فإذا على الخط صديقي ماضي موسى محمد عبد الماجد المُقيم بنيويورك حيث يعمل بالأمم المُتحدة وهو ابن عم دكتور منصور خالد محمد عبد الماجد، وعندما ألقى عليّ السلام شعرت من صوته المُتهّدِّج أنّ هناك أمرٌ جلل، ولا أدري لماذا راودني إحساس عميق أنّ منصور خالد انتقل إلى دار البقاء. بعد تلقِّي الخبر الصاعق خيّمت عليّ سحابة حُزن عميقة على رحيل منصور وانتابني شُعورٌ فجاعة فقد عزيز، ويا له من إحساسٍ أليم.
برحيل دكتور منصور خالد انطوت صفحة ناصعة للفكر الحُر القائم على المبادئ الإنسانية في العالم أجمع، ولكن عزاؤنا أنَّ إنتاجه الفكري الغزير المُدوَّن في مُؤلفاتٍ وأسفارٍ باللغتين العربية والإنجليزية سيُخلِّد اسمه بين مُفكِّري العالم العِظام وروَّاد الاستنارة والتحديث في القرنين العشرين والحادي والعشرين، كما سيبقى نموذجاً تستلهم منه الأجيال الحالية والقادمة تفّرُّد الفكرة ونصاعة الرأي، وشجاعة الطرح ودِقَّة التشريح، ورصانة التحليل وحكمة الاستنتاج، وسيظل ما كتبه منصور خالد مُنذ أن عرف قلمه الكتابة نبراساً يضيء دروب السياسة والعمل العام لكلِ من تنكّب عنهما، وهادياً لكُلِ من استعصى عليه الأمر، ومُرشداً لكُلِ من حار به الدليل.
في الختام، لا يسعنا إلا ندعو الموّلى عزّ وجل أن يُنزِل على منصور خالد مُحمّد عبد الماجد، حفيد الشيخ حامد أب عصاةً سيف وسليل دوحة العُمراب، شآبيب رحمته وعزائم مغفرته، وأن يُسكِنه الفردوس الأعلى من الجنَّة مع النبيين والصدِّيقين والشُهداء والصالحين وحسُن أُولئك رفيقا.

مع منصور خالد في افتتاحية حفل تكريمه بقاعة الصداقة، 16 مارس 2016م

مع منصور خالد في مُناسبة اجتماعية قبل سفره للندن للعلاج، فبراير 2019م

بيت منصور الذي صمَّمه المعماري عبد المُنعِم مُصطفى

تمثال من الخشب في مدخل بيت منصور

بعض المُقتنيات الفنَّية داخل بيت منصور

صالون منصور وتظهر بعض اللوحات للفنَّان التشكيلي حسين جمعان

abusalih@minister.com

 

آراء