شوقى أنا للبلد بى حالا والشوق لى تراب أهلى … بقلم: احلام اسماعيل حسن

 


 

 

(12)

 

 

___

أخذنى أبى فى سياحة داخل البيت الكبير الذى يتكون من غرفتين وراكوبة كبيرة .... إبتدأنا مرورنا بإحدى الغرفتين وهى غرفة حبوبة ستنا (جدة إسماعيل من ناحية أمه حد الزين) كانت محتويات الغرفة عبارة عن ثلاثة عناقريب وبترينة من الطراز الجميل الذى يــُعد من اساسيات تأثيث منازل ذلك الزمن .... كانت هذه الأشياء تبدو باهتة الملامح نتيجة تراكم غبار السنين عليها ولعلها بذلك كانت تعبر بطريقتها على حزنا عميقا لمفارقة ساكنيها لها والوحشة التى خيمت عليها حيث لم يعد يدخلها أحد ليهتم بها .. كان من بين محتويات الغرفة صندوقاً كبيرا مــُزيناً بألوان زاهية ... سألت أبى عنها فقال لى هذه هى( السحارة ) ..... هذه خزانة حبوبتى ستنا التى تضع فيها نفائس ممتلكاتها .... إقتربت منها أريد فتحها .... حذرنى أبى من فتحها فلربما كان هنالك ثعبان أو عقرب بداخلها .... زاد فضولى وأصررت على فتحها فطاوعنى أبى فى تلبية طلبى وعندما فتحنا (السحارة) وجدت فى داخلها أشياء كثيرة مختلفة ... بعضها نحاسى وبعضها فضى وأشياء أخرى ملفوفة بقماش وأخرى فخارية ... إندهش جميع الحضور لتلك المحتويات .... قال إسماعيل أن كل قطعة من هذه القطع لها ذكرى ولها مناسبة ..

إنه تاريخ فترات مضت يحكى عن حقبة كانت لها أبطالها وأحداثها .... قفزت فرحا وصرت أعبر عن فرحتى هذه وسط أهلى وكأننى إكتشفت قطعة أثرية نادرة .... واصل أبى سياحته بنا داخل البيت الكبير وكانت كل خطوة يخطوها أمامنا تفتح داخله مساحة لا محدودة لزمن عاشه بكلياته وسط حنان أمهاته على تراب هذا (الحوش) الديمة مرشوش ..

بعد جولتنا إجتمعنا داخل الراكوبة وتوسطنا إسماعيل جلسنا على بنابر تحكى عن جلسات سمر شهدتها هذه البقعة .... شخص أبى بنظراته بعيدا يبحث عن ساكنى الديار الذين كانوا .... بينما نحن جلوساً إذا بحبوباتنا سليكية والعاجبة وزينب بت الحرم وجدى محمود إسماعيل وآل القرشاب .... قالدن حبوباتى إسماعيل ... ( حليل حد الزين .... حليل ستنا .... حليلن وحليل حنيتن .... يا حليلك يا إسماعيل يا وليدى .... فتونا خليتونا براااانا ....) وسط هذا النغمات الشجية الحزينة إنهمرت دموع كان أغزرها دمعات أبى التى أبكتنى وهزتنى من أعماق إحساسى وربما كان هذا الموقف هو الذى زرع حنية أهلى وحبهم فى دواخلى إلى يومنا هذا وسيظل إلى ما شاء الله حبهم وحنانهم زادى فى مشوار حياتى مهما إختلفت بى المراسى ...

وقف جدى إسماعيل قائلا ( يا ولدى إسماعيل الغدا معانا ويا جماعة كوووولكن معزومين معانا ... يا ولدى حاجة السعده وبناتا سهام وإخلاص وحياة من صباحاً بدرى راجتنك عندنا والبلد كلها هنوووووك ..... إنت غاتس مع حبوباتك ....حليلن وحليلن بالكتير .....) سدت العبرة حلق جدى محمود .... غلبته دمعة إنحدرت على خده حاول أن يخفيها لكن إسماعيل الذى كانت كلمات جدى محمود قد إخترقت كل خلجاته أجهش بالبكاء وقتها تقالد الرجلان وأجهشا بالبكاء وما أغلى دموع الرجال .....

تهيأنا للخروج من منزل حبوبة ستنا فإذا برجل تكسوه هيبة الشيوخ يقدم علينا ويحتضن أبى بحنية وسلام بدا لى غريباً على الأيادى بعد ضمها على الصدر .... نادانى ابى قائلا تعالى يا أحلام سلمى على شيخ المبارك شيخ الظهر .... وجدت نفسى أكسر كل الحواجز وأفصح أمام الجميع ..: المبارك شيخ الظهر شوفنى جنيت ولا دستر ...؟ ضحك الشيخ وقال لى يعفوا عنك ويرضوا عنك .... رديت عليه بى دستورن أولاد ماما .... ضحك الجميع لهذا الحوار وليد اللحظة ...

وصلنا منزل جدى محمود وجدنا أهل البلد فى إنتظارنا وقضينا وسطهم لحظات لا تنسى مشبعة حنية ووفاء وترابطاً أسرياً ..... كانت وليمة مشهودة وكان جمعاً محضوراً يحكى عن زمن مضى ولن يعود لأن أبطاله قد رحلوا......

إتجهنا عصراً إلى أم درق لزيارة حبوبتى آمنة بت أم درق والتى كانت تحفظ الكثير من الشعر وتلقيه بطريقة مشوقة .... كان أبى يحب حبوبة آمنة .... دخل أبى أمامنا وانكفأ على حبوبتى آمنه يقبل رأسها وهى تتشبث به تجره عليها .....تقربه منها ... تشم أنفاسه .... تتمسح به ويتمسح بها ... عندما هدأت ثورة اللقاء جال كل منهما بنظراته فى الآخر ..... ثم أدارت حبوبتى آمنه نظرها فى أرجاء المكان بينما كان أبى ينقر الأرض بالعصا نقرات خفيفة .... سألته حبوبتى تتذكر ياااااإسماعيل لمن النعام غنى أنا والله طاريك يا أم درق طارى العشيرة وتتذكر لمن أمك حد الزين بكت (واتنخجت) عديل وغلبنا كلنا نسكتا ؟؟؟ رد عليها كيف ما بتذكر ... هو دى حاجة بتـتـنسى يا حاجة آمنة ؟؟؟ كانت كلمات أبى تخرج خلال دمعات تتقطر كلما عزف أحدهم على أوتار إحساسه الرهيف ......كانت جلسة ما منظور متيلا ...

واصلنا تجوالنا فزرنا خلوة البار التى تلقى فيها أبى أولى مراحله الدراسية ورسم لنا صورة حية لبرنامج الحيران وطريقة جلوسهم حول النار التى يوقدونها أثناء مذاكرتهم لكتاب الله وكيف كان شيخ الخلوة يقوم بدور المعلم والمربى والمرشد .... جلس أبى على الأرض واتكأ على جانبه وكأنه يراجع لوحه .....

من الخلوة ذهبنا إلى جبل الصلاح جبل كلنكاكول ... عند سفح الجبل وقفنا .... أحسست برهبة المكان ... أشار أبى إلى قبر جدى إسماعيل الولى الذى ســُمّــى عليه أبى ...شعرت أن هناك جاذبية تشدنى سحرا إلى جذورى الضاربة فى باطن الأرض ... هذا الفخر الذى أحمله فى داخلى سيظل يملأنى عزاً ما حييت ....وقف إسماعيل شاخص ببصره نحو الجبل وبدأ ينشد :

 

كـُـلـُــنـْـكـَـاكـُــولْ .......... أبـُـو الـصُّــلاَّحْ ويـَـابـَـا

يـَـا جـَــبـَــــــــلاً ....... يـَـطـِـلْ فـُــوقْ الـسِّـحـَـابـَـه

******

تـَـوَاريــخـَــكْ ....... بـَــدَتْ فـَــجْـــرْ الــصَّــحـَـابـَـه

وسـِـجــِـلْ الـخـَـالـِــدِيــنْ ......... مـِـنـَّـــكْ بـَــدَابـَـه

******

ولـِــيـــدَاتـَــكْ بـَـعــِـيـــدْ ..... فـِى الـغـُــرْبـَـه يـَـابـَـا

صَــغـَــيـْــرُونـُــنْ كــِــبــِـــرْ والـلـِّــيـــلـَـــه شَــــابـَـا

******

دِريــــبْ الــرَّجْـــعَــــه ..... مَــا لـِــقـَـــتـُــو بـَـــابـَـا

مَــرَاكـْــــبْ الـغـُـــرْبــَـه ضَـــلـَّـــتْ فـِـى عـُــبـَـــابـَـا

******

حـِـلـِـيـــلْ الــفـِـى الـبـَـعــِـيــدْ حَــضَــنْ الـصَّـبـَـابـَـه

عـَــزَاهـُــو غـُــنـَــاهـُــــو فـِـى وَتـَـــــرْ الــرَّبــَــابـَـه

******

طـِـريـــتـَـــكْ يـَـا الـجَّـــبـَـــلْ كـَـاسْــيـَــاكْ مَـهـَــابـَـه

طـِـريــــتْ أهـَــلـِـى وطـِـريــــتْ نـَــاسَـــاً تـَــعَـــابـَـا

******

فـِى حـَــــرْ الــشَّـــمــِـسْ ضَـــايـْـقــِــيــنْ عـَـــذابـَـه

لا غـِــيـــمَـــاً يـَـمُـــرْ .......... لا ضُـــلْ سـِحـَـابـَـه

******

نــِــهَــــارُن فـِـى الـجـُّـــرُوفْ مــِــيــــدَانْ حـَـــرَابـَـا

سَـــلالـِـــيــكـُــنْ سَـــنــِــيــنـِـى تـَــقـُـــولْ حـُــرَابـَـا

******

سَــوَاقـِــيــنـَــا الــتـَّــنـُـوحْ فـِـى الـلـِّــيـــلْ عـَــذابـَـا

وحـِـسَّــهَــا فـِى الـبـَـعـِــيــدْ يـَـهَـــدِى الـضَّــهَــابـَـا

******

جـَـــدَاولـُـــــنْ الــتــَّــــوَلـْـــولْ فـِـى إنـْــســِــيـَــابـَـا

زَغـَــاريـــدْ سَــمْــحـَـه كـَـاتـْـبــِــيــنْ لـِـى كـِـتـَــابـَـا

******

تـُـمُــورْنـَـا الـشَّــابـْـكـَـه دِى الـشَّــارْفـَــاتْ رُقــَـابـَـا

مـَــــعَ نـَــفـَــــسْ الــدِّغـِــيــــــشْ زَىَّ الــهَــبـَّــابـَـه

******

طـِـريــتْ الــقـَــلـْـعَــه شَــبـِّــيــتْ فـُـوقْ هـِـضَــابـَـا

وفـِـى وَاطـَــاتـَـــا ....... جـَــرْجـَــرْتَ الـكـِــتـَــابـَـا

******

كـِـبــِـرْتَ ........ ومَـا كـِــبــِـرتَ عـَـلـِـى رحـَــابـَـا

رضـِــعْـــتَ الـحـَـالـِـى مَــــمْـــزُوجْ بــِى شَــــرَابـَـا

******

مُــشْـــتـَـاقْ لـِـى حـَــدِيـــثْ نـَــاسْ يـُــمَّــه يـَــابـَـا

كــِـلــِــيـــمَـــــاتْ وَا شــِـــريــــرى ويـَـا خـَــــرَابـَـا

******

طــِـريــتْ حـَــبـُّـوبـْــتـِـى لـمَّـا تـَــقـُـولْ لـِى يـَــابـَـا

تـَــكـْـبـَـــرْ يـَـالـخـَــزيـــنْ دُخـْـــــرى الــتـَّــعَــــابـَـا

******

طـِــريـــتــَــا ... طـِــريـــتْ عـُـكـَّـــازَا وحـِـجـَـــابـَـا

وعـِـنـِــيــقـْــريــبـَـه وكـَـمَــانْ بـُـقـْـجـَــتْ تـِــيـَـابـَـه

******

ويـــنْ ودَّ الــنـِّـمــِـيـــرْ ...... فـَــارْسَ الــحـَـــرَابـَـا

شَـــايـْــلـِــيـــنْ الـــــــــدُّرُوعْ شَــــــدُّو الــكـَــــرَابـَـا

******

ويـــنْ فـَـــاطـْــنـَــه أمْ حـِـجـِــلْ ويـــنْ يـَـاجـَــلاَّبـَـه

فـِـى زَمَـــنْ الــمَــحـَــلْ ......... والـــدَّارْ خـَـــرَابـَـا

******

طـِــريـــتْ بـَـلـَـــدِى وطـِـريـــتْ ريــحـَــة تـُــرَابـَـه

عـُـرُوقْ الـطـِّــيــبـَـه ضَـــارْبـَــاتْ فـِـى شـِــعَـــابـَـا

******

إتـْــعَــلـَّــمْـــتَ ........ مـِـنْ صَــفـْــقـَــة شَـــبـَـابـَـه

حـَـــلاوْة الـــدُّنـْــيـَــا فـِـى هَـــمْـــــسْ الـــرَّبـَـــابـَـه

******

دِلـِــيـــبـُــنْ زَىْ هَــــدِيـــرْ الــرِّيــــحْ فـِـى غـَـــابـَـه

ويـَـا طـَـــرَاوْة الـلـِّـــيـــلْ مَــعَ الـنـَّــاسْ الـطـَّــرَابـَـا

 

رأيت أن أقف فى وسط أهلى الصــُلاح وأنا استعد غداً لإجراء عملية بالصمــّام عسى أن يكون هذا التواصل لأهلى قوة أتجه بها إلى الله أن يديم علينا وعليكم الصحة والعافية

AHLAM HASSAN [ahlamhassan@live.ca]

 

آراء