شيخ الغيم وعاشق أفريقيا وكاتب المنفستو “لن” يرحلوا!

 


 

 


elsouri1@yahoo.com

عفو الخاطر:

                 عللاني فان بيض الاماني          فنيت والظلام ليس بفان
                 ان تناسيتما وداد أناس            فاجعلاني من بعض من تذكران
                                                                                أبو العلاء المعري
     
          اليوم ذكرى رحيل محمد مفتاح رجب الفيتوري من وادي عبقر الى أعالي الفراديس. في مثل هذا اليوم لملم أوراقه، وأغلق دواته وامتشق قلمه، ولم يأبه بالجميع، بكل من غفل عن رد حقوقه اليه، أو الذين ظنوا أنهم آخذين تلك الحقوق منه. نظر الي السماء التي كانت يداه تصلان اليها، فيلهو بالأبراج والانجم ويطال المجرات. قليل جاهد ليرد اليه ما سلب منه. بذل السفير جمال محمد إبراهيم جهوداً حثيثة حتى انتزع له جواز سغر دبلوماسي في أواخر أيامه. الا أن البلد الذي رنا اليه دوماً في ترحاله حتى سكنت روحه المغرب القصي كان قد جرده من الجنسية، وهي حق مقدس كحق الانسان في الحياة. اما الجواز فما هو الا منحة وامتياز.
     
          قبل ذكراه بقليل عبرت ذكرى عملاقين غفل عنهما الكثيرون، جوزف حرب وانسي الحاج. وجدت رسالة بينما كنت أنبش في أوراقي المبعثرة، رسالة الى السفير الاديب الاريب جمال إبراهيم عن العمالقة الثلاثة، لم تنشر رسالتي اليه، ولكنه نشر رده عليها. اليوم موعد رسالتي وإعادة نشر رده الجميل. لعل الرسالتين تحفزان نشر عطر يغلب على رائحة الدخان والحريق:
     
     
    السفير الاديب العزيز جمال،
     
          سلام رغم دخان الحرائق وقصف القنابل وازيز الرصاص في زمن اللصوص هذا؛ عصر لصوص الحياة وسارقي الارحام والاجنة وما أتى، وما يأتي في الغد، وما بينهما.
     
          في الأيام القلية الماضية فقد وادي عبقر قامتين شعريتين خلال أسبوع واحد. ذهب شيخ الغيم وعكازة الريح تاركاً روضة فيروز خالية من أشجار الأكاسيا، مثلما ترك الغيم هائما من غير راعي، وجعل الريح تتعثر حينما فقدت عكازتها التي تتوكأ عليها وتهش بها على الديِّم الممطرة؛ "لا بقدر اشوفك، ولا بقدر انسيك، بشتاقلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك"، وخلُف مملكة الخبز والورد صحراء قاحلة ترتع فيها عواصف الجهالة والتعصب والرعب وأوراق الزمن المر لتغدو رماداً وملحاً. كأنه كان يعرف حق المعرفة الأيام الحالكات حينما أطلق صرخته تلك في وجوههم، قابضاً في كفيه جمر الكلمات والايمان الراسخ بالإنسان كما جبال لبنان الشماء. صاح جوزف حرب بأعلى صوته يسترجع المأساة "أفكلما حرية صارت بلون الورد من دمنا تزوجها خصي؟" لا يسترجع هنا الماضي بل كان ينظر الى الحاضر الدامي ويقرأ المستقبل المنظور! ورغم ذلك شكل من هذه المأساة نبض حياة، وشرياناً دافقاً ونماء. جوزف حرب، ابن الزهراني في جنوب لبنان المحروم والمقاوم والزاهر أيضاً، النصراني الماروني الفحل الرقيق المارد لا يشكو قهر تاريخه الإسلامي بل يحمله في صدره كما حمل صليبه نبوءة وورداً وبساتين وحنطة وزيتوناً ونخيلا، ليذكر في غمرة ذلك ان السودان هو ارض اجداده!:
     
          لو لم يبق من شعبي سوى واد يظلل ناقَتَي بدوي
          سأظل أفخر انني عربي
          والله لو لم يبق الا الوأد
          الا كاهن للات قال ان عبد الله ليس نبي
          سأظل أفخر انني عربي
          لو كان ميراثي خناجر قاتلي عمر وعثمان بن عفان
          وحمزة والامام علي
          سأظل أفخر انني عربي
          ولو ان سفيان بن حرب ساق عام الهجرة المكي مسبيا
          وشكّت بنت عتبة سيفها في شهره القمري
          سأظل أفخر انني عربي
          لا ليبيا أغلى لدي من العراق ولا العراق أعز عندي من دمشق
          ولا دمشق أحب من مصر اليا
          وانني ولد الجزائر وابن شطآن الخليج واسود حجري بمكة
          أحمر حجري بغزة أبيض حجري على قبر المسيح
          وليس تونس غير أني شاعر متحدر منها
          وما السودان الا أرض أجدادي وأني مغربي
          لم يزل رمحي الذي استقبلت موسى بن نصير فيه
          محفوراً عليه، بخط كف امرأة تدعى ردينة، أصلي اليمني
          والله ما لبنان الا قامتي لو حز سيف عدوكم عنقي
          لما رسمت دمائي في التراب سوى خريطة عالم
          يمتد من بحر الخليج الى المحيط الأطلسي
     
          كتب جوزيف حرب بالعامية اللبنانية حلو الأغاني ونظم شعراً بالفصحى تفرد به دون غيره، غير مقلد ولا راسم كمن سبقه أو عاصره أو أتى بعده، حتى بلغ ديوانه سبعمائة وألف صفحة ليصبح أضخم ديوان شعر منذ عرفت الخليقة النظم والغناء. كان هادئاً وهداراً في آنٍ معاً. يقف معك وهو يسير ويجلس اليك وهو واقف على موعد مع الإذاعة أو التلفزة أو المسرح أو مجلة هنا وصحيفة هناك. رأيته مرة في البيكاديللي، وكانت تعرض على خشبته مسرحية لفيروز فقلت له "ويسك ما أحسنك! غنى الجميع للربيع وللصيف، وانشدت انت لشهر أيلول، حينما ينسل الصيف هارباً ويدخل الخريف فتهمي السماء باكية على أوراق الشجر الصفراء، فأيلول طرفه مبلول. انا من عشاق هذا الشهر. خلدته أنت وجسدته سيدة الغناء، فيروز، بعد أن رصع تيجان لحنه فيلمون وهبي، فتبدى مجرة سماوية منيرة رغم الغيم والسحاب والأوراق الصفراء المتساقطة في بداية تعري الشجر من ارديته الخضراء." ضحك الشاعر العبقري ودخلنا الى المسرح بعد أن انقضت الاستراحة. في البيكاديللي ترى الناس وتقترب منهم حتى إن لم تكلمهم، ليس كعروض السيدة فيروز على خشبة معرض دمشق الدولي الذي درجت هي على الاطلالة منه على عشاقها الشوام من انحاء سورية الكبرى ومن دول المهجر والقادمين من رياح الصحراء في الجنوب، وكل هؤلاء الأكثر اخلاصاً لها وولهاً بصوتها وشدوها. في جلّق الشام لا يتزحزح الناس من مقاعدهم حتى لو امتدت الاستراحة أياماً وليس دقائق معدودات. ورغم ذلك كنا نتدافع على الأبواب قبل العرض بساعات دون طعام أو شراب! كانت الباهرة المبهرة تعطر غالبية عروضها تلك في الفيحاء بكلمات لجوزف حرب. اطلالتها غالباً ما تكون مسك ختام العروض الثقافية للمعرض التجاري الصناعي الذي كانت ترفع راياته على ضفة بردى في شهر آب، أواخر الصيف آن الكرم يعتصر!
     
          في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، واوار الحرب الاهلية اللبنانية ما زال مستعراَ، وامراء الحرب اللبنانيين وبعض السياسيين يحجون الى العاصمة السورية زرافات ووحدانا لسبب أو لغير سبب، وكثر منهم مقيم فيها ما أقامت ميسلون يتفيؤون ظلال الكرم السوري الحاتمي، وآخرون يبتردون في بركة الفندق الغساني ويطفئون ظمأهم بالمثلجات من كل الانواع، دلفت الى شيراتون دمشق يومذاك التقي في ردهته بعض الأصدقاء والمعارف من بين هؤلاء الحجيج الذين هاتفوني فور وصولهم (جلهم من الصحافيين) أو تركوا لي خبراً عند أبي عبدالله الحلاق (لم تكن الهواتف الخليوية حتى حلماً  يومئذٍ. ومن بين من اعتاد على أن يترك لي خبراً عند صالون بشير زريقي للحلاقة السفير الصديق العزيز صلاح محمد علي أيام خدمته هناك)، فوقع ناظري على فيلمون وهبي. حييته ثم انتحينا جانباً من مقهى الردهة الواسعة. بادرته بالقول: ماذا جئت تفعل هنا مع هؤلاء؟! لست منهم. أنت لبنان الصحيح لا العليل، لبنان العافية وليس لبنان السقيم. ماذا ترجًي في هذا النزل الذي تحول الى ملتقى ومقر رجال عِطرهم البارود وغناؤهم دوي القنابل وموائدهم مسمومة بملح الضغينة؟ ومتى جئت؟ أطرق هنيهة؛ ولما رفع رأسه أخذ يطرق بأنامله على الطاولة ويدندن وانا امطره بالأسئلة. لم يجب حتى فرغ من لحنه. قال: اسمع!  ثم انشد لحنا كان ابن ساعته كلماته تسخر من الحرب وامرائها وطوائف لبنان ومذاهبه وترسم صورتهم الحقيقية. ردد اللحن مرات ومرات. حينما توقف قال لي انه جاء اليوم بدعوة من بعض أهل الفن السوريين، لكنه سيعود ادراجه الى بيروت في المساء، إذ لا مكان له في فنادق دمشق المكتظة بالزائرين والحائرين، كما انه لم يعثر على من دعاه وضرب له موعداً. أبى أن يبقى في ضيافتي حتى لا يسبب حرجاً لهم. سألته عن بعض الأصدقاء في لبنان وحينما ذكرت جوزف حرب تهلل وجهه وقال: لو لي القدرة لما تركت قصيدة من قصائده بدون لحن، عامية أو فصحي بيد ان حجم ديوانه يستعصي على كل من عالج النغم في ارجاء العالم قاطبة؛ لكن انتظر "أسوارة العروس" قريباً. أسوارة العروس هي عن الجنوب اللبناني الذي أتي منه جوزف حرب وعاد اليه بعد سبعين عاماً وملايين الكلمات والاف الاف الاسطر اراق فيها بحاراً من مداد. من أجمل غناء السيدة فيروز ذلك الذي كتبه جوزف حرب ولحنه فيلمون وهبي! الحان فيلمون التي أتت وليدة اللحظة في جلسة أنس أو وقوفاً عند محطة انتظار بين موعدين لا تحصى ولا تعد، لكنها ذهبت ادراج الرياح. قليل منها حفظه بعض أصدقائه الا انها لم تسجل فطواها الزمن. جوزف!!
     
          "لما عالباب بنتودع
          بيكون الضو بعدو شي عم يطلع
          بوقف طلع فيك وما بقدر احكيك
          وبخاف تودعني وتفل وما ترجع"
     
          كان هذا منذ سنين عددا. لا، بل كان البارحة.
     
          بعد جوزف حرب، رحل عملاق آخر. هذا زمن الاقزام، يا جمال! العمالقة يرحلون أم ينقرضون يا ترى؟ أنسي الحاج الذي أسس للشعر المنثور، لقصيدة النثر التي أنكر كثيرون موسيقاها، حتى أتت السيدة فيروز لتدحض تلك "الفرية" فتغني له أكثر من قصيدة، ومن أروع ما غنت! انسي الحاج لم يكن شاعراً ملعونا مثلما انفكوا يرددون أو كما وصف نفسه في لحظة تجلي، بل هو الذي لعن لغتهم اليابسة فأذاب عنها الثلج المتراكم ورش على جليدها ملحاً لتصبح طرقاتها سالكة، ونفض التحنيط الذي اندس بين احشائها، ففغر الناس افواههم لما قرأوا "لن"، وادمنوا على مجلة "شعر". كان يكتب لنفسه: "كل كتاب لي هو لشخص واحد. المجد لله الذي أنعم عليّ بهذه القوة."
     
          كان أنسي شاعراً أغدق على اللغة ولم يبخل عليها بشيء مثلما نهل منها، كما كان صحافياً ماهراً، أصدر "ملحق النهار" ثم أصبح مديراً لتحرير جريدة النهار، وبعدها صار رئيساً للتحرير. كنا في ستينيات القرن الماضي ننتظر عند بائعي الصحف في العاصمة المثلثة بصبر لا يكل يوم قدوم الملحق و "ملحق الانوار" أيضاً. كانا ملحقين يسأل عنهما الأصدقاء والمعارف من لم يتسن له الحصول عليهما من المكتبات، كذلك حال مجلة شعر. أذكر ان الزميل العزيز صديق محيسي جاهد كثيرا في تلك الأيام ليجنبها الايدي التي تحاول اقتناصها عبثاً ومنها يداي، لكنه ما ضن بها بعد أن يفرغ منها.
     
          أنسي هو الذي كتب المنفستو غير الرسمي للشعر المنثور يوم قال في مقدمة ديوانه الأول "لن": (لتكن قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقاُ لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الايجاز – أو الاختصار – التوهج، والمجانية. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضاً على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الان تلك التي طالب بها رامبو حين أراد العثور على لغة تختصر كل شيء، العطور والأصوات والانوار، و بودلير عندما قال انه من الضروري استعمال شكل مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان.) وبهذا يكون أنسي الحاج في طليعة من حمل المعاول لكسر السدود بين اللغات الأخرى شعراً والعربية قريضاً، وسريعاً جاء ملتحقاً به أدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة وسركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وصلاح فائق وجان دمو وغيرهم. ولكن..! ألم يكن ما أتى به أنسي اكتشافاً، إن لم نقل إضافة، وليس اختراعاً؟ ألم يكن أبو عبد الله محمد بن عبد الله النفّري أول من أوقد تلك الشعلة في كتابه "المواقف والمخاطبات"؟
     
          كنت اتردد على "النهار" في مقرها القديم عند محلة الصنائع لغرض أو لآخر أو لموعد على الغداء مع مي كحالة في مطعم البرمكي الكائن في ذات المبنى أو "الهورس شو". لم يكن أي من صحافي النهار زبونا لدى مقهى ومطعم "الاتوال" المقابل للصحفية لسبب لم أدرك كنهه حتى اليوم، بل كانوا يذهبون مسافة حتى يصلون الهورس شو. كان في النهار تلك الأيام أكثر من مي، مي كحالة ومي منسّى والفلسطينية مي ضاهر، وكل منهن، وهن في ميعة الصبا، نجمة تبرق في سماء الصحافة اللبنانية وفي الغرفة ذاتها صحافي شاب يكتب بالعربية هو أمين المعلوف الذي أصبح فيما بعد أشهر كتاب الرواية الفرنسية ثم أدخل الى معبدها اللغوي وقدس أقداسها كاهناً مقداما، وبات أحد سدنة اللغة الفرنسية المؤتمنين عليها. كان أمين المعلوف صحافياً في النهار وليس في شقيقتها الأجنبية الاوريون لوجور. لم يكن قد تتلمذ على يدي شارل حلو، الصحافي الذي انتخب رئيساً للجمهورية استمراراً لنهج الشهابية وحارساً لطريق الجنرال فؤاد شهاب، فلم يكن الا صبيا في تلك الايام. بل كانت معرفته بالفرنسية يومئذ لا تقارن بطلاقة أي مي من الثلاث. الا ان اشتداد وطيس الحرب الاهلية الضروس قبيل عقد الثمانينيات بقليل اجبره على الالتجاء الى حضن أُم لبنان الرؤوم، فرنسا، والى عاصمة الاشعاع والنور، باريس، فانكب على الفرنسية يطوّع نواصيها حتى دانت له، فكانت "سمرقند" القصية تلك هي التي اخذت الجميع بغتة وأدهشت العالم. وكنت أرى انسي في هدؤه عند قدومي أو رواحي يعالج حرفاَ أو ينقب بين السطور، فأمضي في طريقي بعد أن أحييه بإيماءة وكان يرد اما بمثلها او يلوح بيده وهو مستغرق فيما يشغله. ثم أراه يأتي عجلا الى الهورس شو فانضم الى من يجلس اليه. كان أهل "النهار" يؤممون شطر المقهى نهاراً وقلماً ترى احداً منهم في المساء أو الليل. كان هناك ميشيل "ميشال" أبو جوده وانسي الحاج وكلوفيس مقصود واخرين. والنهار هي هؤلاء مع "من حقيبة النهار" و "اسرار الالهة"، فاذا انتقلوا الى صحيفة أخرى اسمها "التنكة" على سبيل المثال، لأصبحت التنكة هي النهار وأمست النهار تنكة!
     
          مثلما كان رائداً في الشعر كان أنسي رائداً في الصحافة بوجوهها كلها بما فيها السياسة. قال ذات مرة: "الشاعر لا يلطخ يديه بالسياسة، لكن ظهره ينكسر من سكوته عنها وقلبه يتحطم. الشاعر لا يلطخ يديه بالسياسة، لكن روحه مطعونة بكل حربة." رثى نفسه يوم بدأ مشواره الشعري. أراد من الناس أن يقرأوا رثاءه لنفسه قبل أن يقرأوا رثاء الاخرين له:
     
          "لن أكون بينكم لان ريشة من عصفور في اللطيف الربيعي ستكلل رأسي
          وشجر البرد سيكويني
          وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
          وبكاؤها كحياتي جميل"
     
          أخشى أيها الصديق العزيز أن ما تبقى من أيامنا سينقضي حزناً على رحيل الكبار واحداً بعد واحد أو دفعة واحدة، أو حسرة على نكرانهم واهمالهم أو تذكيرا ببعض ما يستحقون أو غضباً على من أنكرهم وحرمهم حقوقهم. منحت مصر الجنسية لوديع الصافي تقديرا لإبداعه، كذلك فعلت فرنسا؛ ومحمد الفيتوري لا ينال حقه في جواز سفر. أخشى أن يذهب صوتك وأصوات أخرى بلا صدى في البرية، ويعجز السودان عن الإيفاء بحقوق المبدعين بعد أن أسلم قياده للمرفعين، الضباع الجائعة الهائمة النهمة!
     سلمت دوماً أنت والاسرة الكريمة.
    عمـــــر
     
     
    بَقيـةُ مِـدَادٍ حَـزيْـن: رسالة إلى الصّديقِ عُمَر جَعفَر السَّوري

    أقرب إلى القلب :

    jamalim@yahoo.com
    ورغم ذيّاكَ البَريْق الذي كانَ لامِعاً  ذاتَ مَرّة
    يُؤخَـذ الآنَ مِن أمَامِ بَصَري تمَاماً
    وَرغْم أنْ لا شيءَ يُعيدَ إلى الوَراءِ سَـاعةَ
    البهَاءِ إلى العُشبِ، والمَجْـدِ إلى الزّهْرَةِ
    فلنْ نَأسَى أبـَداً، بلْ سَنَسْتعيْد
    القوّةَ في الذي ترَكْناهُ  وراءنـا.
    (ويليام  ووردسوورث)
    (1)
    لا نفدَ حبرُ قلمك، ولا فضّ فوك أيّها الصديق..
    لعلك تعرف كلفي بأدب الرسائل، وكثير احتفائي برسائلك أنت خاصّة، فهي المُتكأ من رهق الحياة من حولنا ، وهي المظلّة  التي استظلّ بها، وأستلقي – وأنا اقرأ كتابتك- على عشبٍ من خُضرة بهيّة ، وأنعم ببهائها كي أتغنّى ، كما تغنّى من قبل شيخ شعراء الإنجليزية الرومانسيين، "ويليام ووردسوورث" (1770-1850) عن "البَهاءِ في العُشبِ". أتراكَ تتذكّر معي البَهاء الذي جسّدته "نتالي وود" ومعها "وارين بيتي" في ذلك الفيلم الذي أخرجه "إليا كازان" في عام 1961 ، وحمل إسمه مقطعاً من قصيدة ذلك الشاعر الفخم..؟ يا لها من أيام تلك التي عشناً طرفاً منها  في ستينات القرن الماضي..
    (2)
    وثبَ البهاءُ إلى قلمي وإلى عشب حديقتي، وأنا استحضر ما كتبتَ أنتَ عن رحيل صوتين مُميّزين لصيحةٍ شعرية مُميّزة دوّت في جبل لبنان وسهوله: جوزيف حرب وأنسي الحاج. حدثتني عن وفاء أنسي لقصيدة النثر، صاغ شهادة ولادتها ورفع شأنها مع  جماعة أبي شقرا في لبنان، قبل أكثر من خمسين عاماً، بينهم سركون بولص وفؤاد رفقة ويوسف الخال وآخرون. كانوا جميعاً متلفّعين بعباءة "النهار" وغسان تويني صاحبها، أو بعباءة "الأنوار" وسعيد فريحة آمرها، وهما مؤسستان عملتا على إعلاء شأن الثقافة والشعر في لبنان على مدى سنوات طويلة، رسّختا صورة لبنان بفوحه الثقافي أكثر من رياح سياساته المهلكة. على ذكرك  الصحيفتين، أتذكر مثلما تذكرتَ أنت وصديقك محيسي، كيف كنا نتسابق مثل تسابقكما للحصول على ملحقيهما الثقافيين، سباقاً محموماً حتى لا تفوتنا إشراقات شعراء بيروت وإشراقات ذلك الجيل  أنسي وحرب وأبي شقرا وسواهم من شعراء الشام الذين ذكرتهم في رسالتك، وهم يجترحون أنساقاً جديدة تخرج بالشعر العربي إلى آفاق أرحب ، وأبعد من قيود التقليد، وأكثر استجابة لايقاعات العصر ولخطواته المتسارعة. أولئك هم من شكلوا جيل البهاء في العشب الذي أحدثك عنه. جيل تفتّح على عالمٍ حاصرته الحرب الباردة وانقسام العالم إلى شمال ثري وجنوب فقير، وطوّحت به  تقاطعات ثقافية  وتحوّلات كبرى في القيم والحريات وأنماط الحياة، وارتفعت في جوانبه رايات الفكر المتجدّد، يساراً ويميناً، ثم حراك التجديد في الفن وفي السينما، في الأدب وفي الشعر. عرفنا في العالم الغربي عزرا باوند وت.س. إليوت وستيفن سبندر وأضرابهم في سنوات القرن العشرين. في الساحة العربية بدأ الشعر يتخذ التفعيلة شكلاً جديداً وقف التقليديون دون انتشاره. وقصيدة النثر لا تكاد تجد أقلّ  اعترافٍ من  دوائر الثقافة العربية.
    كان سباقنا محموماً في أواخر ستينات القرن الماضي، لتعانق عيوننا كتابات كنفاني وغادة السمان، وأضرابهما.. ملاحق بيروت الثقافية نقرأها طازجة بعد ساعات من خروجها من مطابع بيروت. سمعت مؤخراً ومن السفير اللبناني الشاعر نزيه عاشور أننا موعودون بعودة قريبة لطيران الشرق الأوسط. أتذكر قبل سنوات كنا- أنا وسفير لبنان السابق في الخرطوم- نجلس إلى محمد الحوت مدير شركة طيران الشرق الأوسط، نستحثه ليعيد طيران لبنان إلى الخرطوم، وقد شرقنا بالتفاؤل، غير أن الظرف اللبناني لم يساعد آنذاك. أحيّ هنا مساعي صديقنا السفير اللبناني عاشور، آملاً أن تكلّل بما يحقق حلمه، وبما يعزّز محبّته العارمة للخرطوم، فيعود التواصل الثقافي بأوثق مما كان.
    (3)
    ليسَ محض كسلٍ شغلني عن الرّد على رسائلك. لا..! وإنّما والحقّ يقال، إنّ الحراك الثقافي – برغم مُثبطات السياسة ومُحبطات  الحياة من حولنا- هو حراكٌ صاعدٌ نامٍ  ويستحق أن نلتفت إليه عن جَدّ. لربّما أحاط نظرك بكتاباتي مؤخراً، وما تجاوزتْ مقالاتي الراتبة في الأسابيع الأخيرة تناولاً  لكتابٍ جديد، أو استعراضاً لإصدارةٍ خرجتْ من المطابع للتو.  بخٍ بخٍ، أيّها الكُتّاب وأيّها الناشرون..! الذي كتبتُه مؤخّراً هو من فيضِ إحساسي بأنّ ما خرج من المطابع حريّ  بنا  أن نلتفت إليه، وأن نتعهّده بالتعريف وبالتقريظ وبالنقد إن كان ممكنا.
    قبلَ سنواتٍ قليلة، كان النشر أمراً مستحيلا لا يقدر عليه إلا من أعانه الله أو من بعد الله، ناشرٌ مستغنٍ عن جني الربح وملاحقة المادة. الكُتّاب الراسخون كما تعلم،  أقلّ عناءاً من غيرهم في ذلك، ولكن ما أزهد تكلفة الطباعة بعد تطور أساليب النشر، وما أيسر امتلاك ما اتاحته ثورة الاتصالات، وما أعانتنا به الشبكة العنكبوتية في سبيل ذلك. أطرب طربا  باذخاً بما يجيء من قلمك ، وإني إلى ذلك أستحثك ايها الصديق لتستجمع طاقتك وغلبتك على العلة التي تحاصرك، فتنبري لتحرير ما سطره قلمك  من موقعك الالكتروني، وأنت تقول عليه هشيماً وما هو بهشيم، بل هو الثمر اليانع قطفاً فردوسياً، تتشهّاه الذائقة الأدبية وتستهضمه بلا عناء ، بل تتلقاه بمتعةٍ وببهاءٍ مثل بهاءِ عشبِ "ووردسوورث" الذي جئت على ذكرهِ عاليه.  أتطلّع أن أسمع منكَ ما يعكس استجابتك لمقترحي نشر مقالاتك في كتاب، إذ الكتاب الورقي بعد أن يحوي كتاباتك، يظلّ دائما هو حارس خلود الإبداع الأدبي، ولا أحسب النشر الإلكتروني إلا مُحفّزاً في الانتشار وفي طرق الآفاق، وفي مسعى الوصول إلى الأقاصي البعيدة . لن يكون النسخ الناعم بديلاً  لكتاب تكتنزه على رفِّ مكتبتك وتتحسّسه بحنوٍّ وحميمية..
    (4)
    حدّثتني عن الرّاحل وديع الصافي، ذلك الصوت الشامخ ، أنزل الله رحمته في غمام الشام على قبره، وقد حمل يوماً جنسية مصرية أو فرنسية، إذ العمالقة هم فوق تخوم  الجغرافيا سموّاً، وفوق ضباب التاريخ ذكرا، وسكناهم قمم الخلود، وسمات دخولهم إليها هيَ إبداعهم ، لا صفاتهم ولا ألوان بشرتهم ولا أعمارهم. حين تكاثرتْ الشائعات وكأنّها أماني حاسدين، خرج الشاعر الفيتوري يقول لهم إن الشعر لا يموت والشعراء الكبار باقون في الذاكرة. أي، هي كلمة صدقٍ  خرجت من لسان شاعرٍ حيّ، شعره خالدٌ  لن يموت .
    في حصول شاعرنا  الفيتوري على جواز سفرٍ دبلوماسي من وزارة الخارجية قصّة ،  وقد كنتُ طرفاً فيها، ولكن دعني بداية أقدّر عالياً  استجابة وزير الخارجية، وإصداره قراراً فورياً - وأنا في صحبته نتداول أمر شاعرنا الكبير- بأن يصدر الجواز على الفور، وطالبني أن أعدّ البيانات وأوافي يها مدير مكتبه السفير الصادق إلياس ومكتب المراسم المختصّ بتنفيذ الإجراء، وقد فعلت. لم أنتظر إذناً من شاعرنا الكبير، وأنا قد اخترتُ الصورة التي سيكون عليها في صفحة البيانات في الجواز الدبلوماسي، وإنّي أعترف أن توقيع الفيتوري على الجواز كان من قلمي، راجياً أن لا تحاسبني على ذلك محطات فحص الجوازات في مطارات مُستريبة. لوزارة الخارجية أن تفخر أنها منحتْ الفيتوري جوازسفرٍ يعيده إلى الوطن الذي انتمى إليه  منذ نعومة أظفاره، وإن ظلّ طائراً بجناحين يطوّف على  كل التراب العربي، هنا أو هناك. وإني أراه، في رحلته الطويلة بين العواصم العربية، فراشة في بستان الشعر العربي، يتنقل من بتلة إلى أخرى، وعلى لسانه الذرب رحيقٌ من كلِّ وردة وشذىً من كلِّ زهرة..

    (5)
    وددتُ أن أطمئنك، أيها الصديق العزيز، وقد ساور قلمك بعض شكٍّ إن لم نفلح في تحقيق ما ظلّ ينتظره الفيتوري وقد بشرنا أسرته به، ولكن يسّر الله الأمر علينا، وصدر الجواز. حكى الأستاذ الصحفي الألمعي طلحة جبريل أنه سمع نبأ منح الجواز الدبلوماسي في يوم 12 مارس الحالي، من زوجة الشاعر الكبير محمد الفيتوري، وقد حدّثته كيفَ أن عينَيّ شاعرنا فاضتا بدموعِ الفرح لوطنٍ تذكّره واحتفى به. الشكر المُستحق ينبغي أن نرفعه لمستحقه رأس الدبلوماسية السودانية، الأستاذ علي كرتي. لسنا في ساحة جدال سياسي، بل نحن نُحدّث عن رمزٍ لا اختلاف حوله وإن اختلفنا حول وطن جريح ، ولقد أبصر الأستاذ كرتي معنا ما كنا نرى، فاستجاب  مؤثراً الوفاء لهذا الرمز الباذخ : محمد الفيتوري.
    بقي علينا أيها الصديق، أن نعد للاحتفاء بالرمز الكبير حين يحلّ بالخرطوم.
    وإني أختم رسالتي، مُجدّداً تعزيتي للشعر العربي في لبنان، في رحيل الرمزين الكبيرين جوزيف حرب وأنسي الحاج، ولكن ومثلما قال شاعرنا الفيتوري، فإن الشاعر لا يموت. أراك تنتظر معنا مجيء شاعرنا الفيتوري إلى الخرطوم، بل السودان كله في انتظار درويشه المتجوّل  يحطّ رحله بعد تسفار، وبعد رهقٍ واعتلال.  

    الخرطوم – 17 مارس 2014
    

 

آراء