شَذَرَاتُ من كتاب “الحالة الإفريقية” للبروفيسور علي مزروعي .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
15 March, 2023
15 March, 2023
شَذَرَاتُ من كتاب "الحالة الإفريقية" للبروفيسور علي مزروعي
The African Condition – Ali A. Mazrui
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: جمع كتاب البروفيسور الكيني – الأمريكي علي الأمين المزروعي (فبراير 1933 - أكتوبر 2014م) ست محاضرات كان قد ألقاها في أماكن وأزمان مختلفة، تدور كلها حول أحوال أفريقيا في فترة الاستعمار الأوروبي وما بعدها. صدر الكتاب عن دار نشر جامعة كمبردج عام 1980م. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب صدر منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، إلا أن كثيرا مما جاء فيه لا يزال يصدق على الحال في إفريقيا.
ولد المزروعي في ممبسا بكينيا (لعائلة ثرية ومهمة وعمانية الأصل)، وتلقى تعليمه الجامعي والعالي (بين عامي 1960 و1966م) في إنجلترا وأمريكا، حيث حصل على درجة البكالوريوس من جامعة مانشستر، والماجستير من جامعة كولومبيا، والدكتوراه من جامعة أكسفورد. ثم عمل في مجال التدريس الجامعي والبحث الأكاديمي في مجال العلوم السياسية والدراسات الأفريقية في جامعة ماكيرري بأوغندا، وجامعة ميتشغان الأمريكية، ثم جامعة ولاية نيويورك في بينغامتون، وجامعات عديدة أخرى. وللمزروعي العديد من الكتب والأوراق الأكاديمية والبرامج التلفزيونية الوثائقية (انظر مقال البروفيسور عبد الله على إبراهيم المعنون: "بروفسير على مزروعي (1933-2014): كالفراشات، كالنحل" https://tinyurl.com/yc2aru8y ).
وكان بروفسير على مزروعي قد ألقى قبل عام أو عامين من وفاته محاضرة عامة بجامعة السلطان قابوس شهدها عدد كبير من المهتمين بالشؤون الأفريقية، لعلها كانت محاضرته العامة الأخيرة. وعقدت بمسقط ندوة فكرية في عام 2015م عن والد بروفسير على مزروعي (المفكر الإسلامي الدكتور علي بن الأمين بن علي المزروعي) شارك فيها البروفيسور إبراهيم الزين صغيرون مع مؤرخين آخرين.
المترجم
******* ******** **********
"جنة عدن" في حالة اضمحلال Garden of Eden in Decay
1. تتناول هذه المحاضرة مفارقة مفادها أن إفريقيا هي موطن أول بشر في العالم، ولكنها آخر موطن صار صالحاً حقاً للسكنى. وتتراوح أزمة القابلية للسكن في التاريخ الحديث بين مشاكل الأمراض المدارية إلى صعوبات في الاتصالات المادية والنقل، ومن افتقار أفريقيا السوداء للاستقرار السياسي، وتعقيدات جنوب أفريقيا التي يهيمن عليها البيض. إن الهجرة الجماعية التي سببتها العنصرية البيضاء وكذلك الطغيان الأسود، هي جزء من أزمة "الظروف المعيشية" بالمعنى السياسي. إن كانت أفريقيا هي مسقط رأس آدم، فإن "جنة عدن" اليوم في حالة يرثى لها. ما الخطأ؟
2. قام المزروعي في هذه المحاضرة بدراسة حالة أفريقيا، جزيئاً بحسبانها وسيلة لقياس حالة العالم. وذكر أن "أفريقيا عندي هي جزء من مرآة لحالة البشرية جمعاء". غير أن اليد اليمني في المرآة تظهر في اليسار، والعكس صحيح بالطبع. فالمرآة هي انعكاس للحقيقة، وهي أيضاً تشويه لها. ففي المرآة مفارقة وتناقض (paradox). والمفارقة التي تناولها في هذه المحاضرة هي مفارقة "جنة عدن" وهي في حالة اضمحلال. وأستخدم الكاتب في هذه المحاضرة، وفي بقية المحاضرات، مفهوم "المفارقة" باعتباره طريقة للتحليل. فأتباع أفلاطون وهيجل وماركس يستخدمونه أيضا بحسبانه أداةً لدراسة الواقع، غير أنهم يسمون طريقتهم "الديالكتيك". وفيه يتم التوفيق بين الصفات التي تُرى متناقضة. فالواقع دائماً ما يكون وحدةً من الأضداد.
إذلال الصليب The Cross of Humiliation
1. لم يكن الأفارقة أكثر الشعوب تعرضاً للاضطهاد والوحشية، لكنهم كانوا، على الأرجح، هم الأكثر تعرضاً للإذلال في التاريخ الحديث. ففيما يتعلق بالاضطهاد والوحشية الجسدية، كانت المحرقة التي عانى منها اليهود تحت حكم النازيين، والإبادة الجماعية التي حاقت بالأمريكيين الأصليين، وبالسكان الأصليين الأستراليين على أيادي الشعوب البيضاء أمثلة مروعة، وتماثل كل ما عانت منه الشعوب السوداء. غير أن الأفارقة تعرضوا كذلك للإذلال في التاريخ بطرق متعددة شملت تجارة الرقيق والفصل العنصري ومعاملتهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة في أجزاء من قارتهم حتى يومنا هذا (أي عام نشر الكتاب في 1980م. المترجم) على الرغم من كونهم يشكلون الأغلبية العددية في البلاد. إلا أن العنصرية، باعتبارها ظاهرة اجتماعية، في طريقها للزوال. وماتت القبلية، أولاً في أوروبا، وستموت يوما ما في أفريقيا. وماتت العنصرية أولاً في أفريقيا، وستختفي كذلك في أوروبا يوماً ما. لن يخلو المجتمع الإنساني أبداً من وجود طبقات، غير أنه سيخلو يوماً ما من القبيلة وسيشفى من (داء) العنصرية.
2. حكى المؤلف في هذه المحاضرة عن زيارته للولايات المتحدة في بداية عام 1965م وهو في رفقة زوجه البريطانية (مولي) وطفله الهجين (جمال). وكانت تدور حينها جدالات كثيرة في أوساط الأمريكيين حول الزواج (والعلاقات الأخرى) بين الأفراد من ذوي عرقيات مختلفة (miscegenation). وكانت أكثر من نصف ولايات أمريكا حتى نهاية الستينيات تجرم مثل تلك العلاقات المختلطة الأعراق. بل إن المحكمة الأميركية العليا تحاشت إصدار حكم مباشر على دستورية القوانين التي تمنع الزيجات المختلطة. وكان المؤلف في حيرة من أمره وهو يقود سيارته من شيكاغو عبر عدد من الولايات إلى لوس انجلس في غرب البلاد في أمر سريان ذلك القانون فيها. ورغم أنه لم يصادف أي عداء أو مشكلة في المبيت في أي فندق صغير بكل الولايات التي مر بها، إلا أنه كان يحس وهو يقف أمام موظف الفندق بالقلق الشديد والريبة والشك والخوف من الاحراج. وذكر الكاتب أيضا أن كل الأزواج من أعراق مختلطة كانوا يحملون معهم في سفرهم صليب عدم اليقين cross of uncertainty. ولما عاد المؤلف لأمريكا في السبعينيات، وجد أن ذلك القانون الذي يجرم الزيجات المختلطة قد بدأ في الزوال، إلا أنه وجد كذلك أن هنالك بقية من عنصرية ما زالت تمارس ضد الأزواج من أعراق مختلطة. وحكى عن تجربة شخصية له في عام 1973 أكدت له ذلك تماماً عندما رفض مدير أحد الفنادق أن يعطيه غرفة له ولعائلته بحجة عدم وجود غرفة مناسبة تسعهم جميعا (على الرغم من وجود عبارة "أماكن شاغرة Vacancy"في لافتة الفندق). وبعد إصرار من الكاتب وزوجه أراهم صاحب الفندق غرفة ضيقة وسيئة التأثيث، فقبلوا بها مضطرين. وبعد دقائق لاحظ المزروعي أن عبارة "أماكن شاغرة" لا زالت موجودة، ثم لاحظ دخول رجل وامرأة من البيض للفندق، وتم على الفور منحهما غرفة دون تردد. وبعد احتجاج منه على تلك المعاملة سارعت إدارة الفندق بالاعتذار (خوفا بالطبع من فقدان رخصة العمل) ووفرت له ولعائلته غرفة واسعة، بل وأحضرت لهم جهاز تلفزيون وعدداً من المخدات الإضافية! وبررت الإدارة ما قامت به في البداية بأن تلك الغرفة الواسعة كانت محجوزة بالفعل، ولكن من حجزها اتصل بهم وألغى حجزه!! وخلص الكاتب من الحكايتين إلى أنهما لا تشكلان حالة (فردية) لوقوعه ضحيةً لعنصرية مباشرة، بل تعبران أكثر عن إحساس خفي وخبيث بالشك والريبة عندما يكون لدى المجتمع تقليد من العنصرية والتمييز. وبدا أن عائلة الكاتب ظلت بصورة دورية تتعرض لحالات مختلفة مثل التي ذكرها، كان قليل منها واضحا جليا، بينما كان معظمها في الغالب خفياً أو مستتراً بطريقة لا تخلو من خبث ودهاء.
صراع حضارات A Clash of Cultures
المجتمعات الأفريقية ليست قريبة من الغرب ثقافياً، بيد أنها كانت قد شهدت أسرع وتيرة من التغريب في هذا القرن. وتتم السيطرة والتحكم في القارة بشكل غير متناسب مِنْ قِبَل الأفريقيين المُسْتَغْرِبين. وانتشرت الديانة المسيحية في إفريقيا بشكل أسرع من أي قارة أخرى. وفاق قبول اللغات الأوروبية في إدارة الأعمال الوطنية في أفريقيا قبوله في آسيا. وبقي الأفارقة عالقين بين: إما التمرد ضد الغرب، أو تقليده. لقد غدت القارة الإفريقية "بوتقة انصهار" لمختلف الأنظمة الأخلاقية والثقافية والفكرية. هل أفريقيا بحاجة إلى أن تعود "أفريقية الطابع" مرة أخرى؟
عبء التخلف The Burden of Under development
1. لا شك في أن أفريقيا ليست هي أفقر المناطق في هذا العالم من ناحية الموارد، لكنها أقل قارات العالم المأهولة بالسكان تنميةً. ففي أفريقيا ثروات معدنية هائلة وإمكانات زراعية ضخمة، توجد جنبا إلى جنب أقل مستويات للمعيشة في العالم. ويكمن جزء من هذه المشكلة في طبيعة التغيير الاقتصادي الذي تبنته وشجعت عليه الكلولونيالية الغربية في أفريقيا، التي شوهت وأفسدت الاقتصادات الإفريقية خدمةً لاحتياجات الغرب الخاصة. ويتضمن الصراع الاقتصادي القادم في إفريقيا البحث عن طرق لتصحيح هذا التشوه والإفساد والتغلب على التبعية. يجب محاولة تجريب سبع استراتيجيات لتخطي تلك التبعية، بدءًا من الاعتماد المحلي على الذات، إلى استخدام "حصان طروادة" الاقتصادي للتسلل إلى قلاع القوة الصناعية في الشمال.
2. أورد الكاتب في هذا الفصل بعض ذكرياته الشخصية عن حياته بمدينة ممبسا في غضون سنوات الأربعينيات، وتطرق لنظرة الكولونياليين البريطانيين التي تضطهد الأفارقة، ولا تعد الواحد منهم إلا نصف شيطان ونصف قرد. وذكر أن أولئك الكولونياليين كانوا يعتبرون أن عقول الأفارقة تماثل عقول الأطفال. فقد كان يمنعون الأفارقة من كل الأعمار، والأطفال (البيض) في عمر أقل من 16 سنة، من دخول دور السينما عند عرضها لأنواع معينة من الأفلام. وذكر أيضاً أن الأوربيين كانوا يظهرون أنفسهم للأفارقة كرجال خارقين (supermen)، إلى أن جاءت الحرب التي شاركهم فيها الأفارقة في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والملايو وغيرها من المناطق، فشاهدوا بأعينهم الرجل الأبيض وهو يرتعد خوفاً والقذائف النارية تنطلق من حوله، بعد أن كان الأفريقي يراه من قبل وهو يصدر الأوامر بتعالٍ وغرور، بحسبانه أحد أفراد النخبة الكلولونيالية الحاكمة.
أنماط الهوية Patterns of Identity
أفريقيا ليست أصغر قارات العالم، ولكنها ربما تكون الأكثر انقساماً. ويعيق هذا التشرذم نضال أفريقيا من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية فيها. كما أنه ينطوي على مخاطر أمنية. ينبغي على إفريقيا أن تختار، من ناحية، نظاماً من أجل تنفيذ الاقتصاص/ العدالة الدولية، مثل ما حدث عندما غزت تنزانيا أوغندا عقاباً لها (حدثت تلك الحرب بين عامي 1978 و1979م وأفضت لخلع الرئيس الأوغندي عيدي أمين. المترجم)؛ أو أن تختار، من ناحية أخرى، نظاما قارياً جديداً للأمن الجماعي، ربما في ظل منظمة الوحدة الأفريقية.
بحثاً عن باكس* أفريكانا In search of Pax Africana
أفريقيا هي الأكثر مركزية من بين جميع القارات من حيث الموقع الجغرافي، ولكنها قد تكون الأكثر هامشية سياسياً، وإلى حد ما، عسكرياً. فأفريقيا هي القارة التي يقطعها خط الاستواء إلى نصفين تقريباً، وهي القارة الوحيدة التي يمر عبرها مدار السرطان شمالاً، ومدار الجدي جنوباً. ومن الناحية الاقتصادية، تتميز القارة أيضاً بوضع استراتيجي فيما يتعلق بطرق النفط والمعادن الهامة للاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن النفوذ السياسي لأفريقيا في الشؤون العالمية جد متواضع. ما هي الآثار المترتبة على هذا التناقض المتمثل في كونها مركزية مادياً، وهامشية سياسياً؟ إن الضعف العسكري هو ما أدى إلى استعمار أفريقيا في المقام الأول. دخل قادة الجيوش الأجنبية إلى أفريقيا من أجل السيطرة عليها و"تهدئتها". السؤال بالنسبة للمستقبل هو ما إذا كان ينبغي على أفريقيا "تهدئة" أمراء الحرب، وبالتالي تشكيل انتقال من أيام باكس بريتنيكا ** Pax Britannica الخوالي إلى باكس أفريكانا (Pax Africana) في مقبل السنوات. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ هل يجب على أفريقيا أن تدخل في سياسة الطاقة النووية والانتشار النووي؟
*********** ******** **********
*كلمة Pax تعرف في كثير من القواميس بأنها "فترة من الاستقرار العام في الشؤون الدولية تحت تأثير القوة العسكرية المهيمنة - تُستخدم عادةً مع الاسم اللاتيني".
** Pax Britannica هي فترة السلام النسبي بين القوى العظمى التي أصبحت خلالها الإمبراطورية البريطانية هي القوة العالمية المهيمنة وتبنت دور "الشرطي العالمي".
alibadreldin@hotmail.com
////////////////////////////
The African Condition – Ali A. Mazrui
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: جمع كتاب البروفيسور الكيني – الأمريكي علي الأمين المزروعي (فبراير 1933 - أكتوبر 2014م) ست محاضرات كان قد ألقاها في أماكن وأزمان مختلفة، تدور كلها حول أحوال أفريقيا في فترة الاستعمار الأوروبي وما بعدها. صدر الكتاب عن دار نشر جامعة كمبردج عام 1980م. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب صدر منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، إلا أن كثيرا مما جاء فيه لا يزال يصدق على الحال في إفريقيا.
ولد المزروعي في ممبسا بكينيا (لعائلة ثرية ومهمة وعمانية الأصل)، وتلقى تعليمه الجامعي والعالي (بين عامي 1960 و1966م) في إنجلترا وأمريكا، حيث حصل على درجة البكالوريوس من جامعة مانشستر، والماجستير من جامعة كولومبيا، والدكتوراه من جامعة أكسفورد. ثم عمل في مجال التدريس الجامعي والبحث الأكاديمي في مجال العلوم السياسية والدراسات الأفريقية في جامعة ماكيرري بأوغندا، وجامعة ميتشغان الأمريكية، ثم جامعة ولاية نيويورك في بينغامتون، وجامعات عديدة أخرى. وللمزروعي العديد من الكتب والأوراق الأكاديمية والبرامج التلفزيونية الوثائقية (انظر مقال البروفيسور عبد الله على إبراهيم المعنون: "بروفسير على مزروعي (1933-2014): كالفراشات، كالنحل" https://tinyurl.com/yc2aru8y ).
وكان بروفسير على مزروعي قد ألقى قبل عام أو عامين من وفاته محاضرة عامة بجامعة السلطان قابوس شهدها عدد كبير من المهتمين بالشؤون الأفريقية، لعلها كانت محاضرته العامة الأخيرة. وعقدت بمسقط ندوة فكرية في عام 2015م عن والد بروفسير على مزروعي (المفكر الإسلامي الدكتور علي بن الأمين بن علي المزروعي) شارك فيها البروفيسور إبراهيم الزين صغيرون مع مؤرخين آخرين.
المترجم
******* ******** **********
"جنة عدن" في حالة اضمحلال Garden of Eden in Decay
1. تتناول هذه المحاضرة مفارقة مفادها أن إفريقيا هي موطن أول بشر في العالم، ولكنها آخر موطن صار صالحاً حقاً للسكنى. وتتراوح أزمة القابلية للسكن في التاريخ الحديث بين مشاكل الأمراض المدارية إلى صعوبات في الاتصالات المادية والنقل، ومن افتقار أفريقيا السوداء للاستقرار السياسي، وتعقيدات جنوب أفريقيا التي يهيمن عليها البيض. إن الهجرة الجماعية التي سببتها العنصرية البيضاء وكذلك الطغيان الأسود، هي جزء من أزمة "الظروف المعيشية" بالمعنى السياسي. إن كانت أفريقيا هي مسقط رأس آدم، فإن "جنة عدن" اليوم في حالة يرثى لها. ما الخطأ؟
2. قام المزروعي في هذه المحاضرة بدراسة حالة أفريقيا، جزيئاً بحسبانها وسيلة لقياس حالة العالم. وذكر أن "أفريقيا عندي هي جزء من مرآة لحالة البشرية جمعاء". غير أن اليد اليمني في المرآة تظهر في اليسار، والعكس صحيح بالطبع. فالمرآة هي انعكاس للحقيقة، وهي أيضاً تشويه لها. ففي المرآة مفارقة وتناقض (paradox). والمفارقة التي تناولها في هذه المحاضرة هي مفارقة "جنة عدن" وهي في حالة اضمحلال. وأستخدم الكاتب في هذه المحاضرة، وفي بقية المحاضرات، مفهوم "المفارقة" باعتباره طريقة للتحليل. فأتباع أفلاطون وهيجل وماركس يستخدمونه أيضا بحسبانه أداةً لدراسة الواقع، غير أنهم يسمون طريقتهم "الديالكتيك". وفيه يتم التوفيق بين الصفات التي تُرى متناقضة. فالواقع دائماً ما يكون وحدةً من الأضداد.
إذلال الصليب The Cross of Humiliation
1. لم يكن الأفارقة أكثر الشعوب تعرضاً للاضطهاد والوحشية، لكنهم كانوا، على الأرجح، هم الأكثر تعرضاً للإذلال في التاريخ الحديث. ففيما يتعلق بالاضطهاد والوحشية الجسدية، كانت المحرقة التي عانى منها اليهود تحت حكم النازيين، والإبادة الجماعية التي حاقت بالأمريكيين الأصليين، وبالسكان الأصليين الأستراليين على أيادي الشعوب البيضاء أمثلة مروعة، وتماثل كل ما عانت منه الشعوب السوداء. غير أن الأفارقة تعرضوا كذلك للإذلال في التاريخ بطرق متعددة شملت تجارة الرقيق والفصل العنصري ومعاملتهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة في أجزاء من قارتهم حتى يومنا هذا (أي عام نشر الكتاب في 1980م. المترجم) على الرغم من كونهم يشكلون الأغلبية العددية في البلاد. إلا أن العنصرية، باعتبارها ظاهرة اجتماعية، في طريقها للزوال. وماتت القبلية، أولاً في أوروبا، وستموت يوما ما في أفريقيا. وماتت العنصرية أولاً في أفريقيا، وستختفي كذلك في أوروبا يوماً ما. لن يخلو المجتمع الإنساني أبداً من وجود طبقات، غير أنه سيخلو يوماً ما من القبيلة وسيشفى من (داء) العنصرية.
2. حكى المؤلف في هذه المحاضرة عن زيارته للولايات المتحدة في بداية عام 1965م وهو في رفقة زوجه البريطانية (مولي) وطفله الهجين (جمال). وكانت تدور حينها جدالات كثيرة في أوساط الأمريكيين حول الزواج (والعلاقات الأخرى) بين الأفراد من ذوي عرقيات مختلفة (miscegenation). وكانت أكثر من نصف ولايات أمريكا حتى نهاية الستينيات تجرم مثل تلك العلاقات المختلطة الأعراق. بل إن المحكمة الأميركية العليا تحاشت إصدار حكم مباشر على دستورية القوانين التي تمنع الزيجات المختلطة. وكان المؤلف في حيرة من أمره وهو يقود سيارته من شيكاغو عبر عدد من الولايات إلى لوس انجلس في غرب البلاد في أمر سريان ذلك القانون فيها. ورغم أنه لم يصادف أي عداء أو مشكلة في المبيت في أي فندق صغير بكل الولايات التي مر بها، إلا أنه كان يحس وهو يقف أمام موظف الفندق بالقلق الشديد والريبة والشك والخوف من الاحراج. وذكر الكاتب أيضا أن كل الأزواج من أعراق مختلطة كانوا يحملون معهم في سفرهم صليب عدم اليقين cross of uncertainty. ولما عاد المؤلف لأمريكا في السبعينيات، وجد أن ذلك القانون الذي يجرم الزيجات المختلطة قد بدأ في الزوال، إلا أنه وجد كذلك أن هنالك بقية من عنصرية ما زالت تمارس ضد الأزواج من أعراق مختلطة. وحكى عن تجربة شخصية له في عام 1973 أكدت له ذلك تماماً عندما رفض مدير أحد الفنادق أن يعطيه غرفة له ولعائلته بحجة عدم وجود غرفة مناسبة تسعهم جميعا (على الرغم من وجود عبارة "أماكن شاغرة Vacancy"في لافتة الفندق). وبعد إصرار من الكاتب وزوجه أراهم صاحب الفندق غرفة ضيقة وسيئة التأثيث، فقبلوا بها مضطرين. وبعد دقائق لاحظ المزروعي أن عبارة "أماكن شاغرة" لا زالت موجودة، ثم لاحظ دخول رجل وامرأة من البيض للفندق، وتم على الفور منحهما غرفة دون تردد. وبعد احتجاج منه على تلك المعاملة سارعت إدارة الفندق بالاعتذار (خوفا بالطبع من فقدان رخصة العمل) ووفرت له ولعائلته غرفة واسعة، بل وأحضرت لهم جهاز تلفزيون وعدداً من المخدات الإضافية! وبررت الإدارة ما قامت به في البداية بأن تلك الغرفة الواسعة كانت محجوزة بالفعل، ولكن من حجزها اتصل بهم وألغى حجزه!! وخلص الكاتب من الحكايتين إلى أنهما لا تشكلان حالة (فردية) لوقوعه ضحيةً لعنصرية مباشرة، بل تعبران أكثر عن إحساس خفي وخبيث بالشك والريبة عندما يكون لدى المجتمع تقليد من العنصرية والتمييز. وبدا أن عائلة الكاتب ظلت بصورة دورية تتعرض لحالات مختلفة مثل التي ذكرها، كان قليل منها واضحا جليا، بينما كان معظمها في الغالب خفياً أو مستتراً بطريقة لا تخلو من خبث ودهاء.
صراع حضارات A Clash of Cultures
المجتمعات الأفريقية ليست قريبة من الغرب ثقافياً، بيد أنها كانت قد شهدت أسرع وتيرة من التغريب في هذا القرن. وتتم السيطرة والتحكم في القارة بشكل غير متناسب مِنْ قِبَل الأفريقيين المُسْتَغْرِبين. وانتشرت الديانة المسيحية في إفريقيا بشكل أسرع من أي قارة أخرى. وفاق قبول اللغات الأوروبية في إدارة الأعمال الوطنية في أفريقيا قبوله في آسيا. وبقي الأفارقة عالقين بين: إما التمرد ضد الغرب، أو تقليده. لقد غدت القارة الإفريقية "بوتقة انصهار" لمختلف الأنظمة الأخلاقية والثقافية والفكرية. هل أفريقيا بحاجة إلى أن تعود "أفريقية الطابع" مرة أخرى؟
عبء التخلف The Burden of Under development
1. لا شك في أن أفريقيا ليست هي أفقر المناطق في هذا العالم من ناحية الموارد، لكنها أقل قارات العالم المأهولة بالسكان تنميةً. ففي أفريقيا ثروات معدنية هائلة وإمكانات زراعية ضخمة، توجد جنبا إلى جنب أقل مستويات للمعيشة في العالم. ويكمن جزء من هذه المشكلة في طبيعة التغيير الاقتصادي الذي تبنته وشجعت عليه الكلولونيالية الغربية في أفريقيا، التي شوهت وأفسدت الاقتصادات الإفريقية خدمةً لاحتياجات الغرب الخاصة. ويتضمن الصراع الاقتصادي القادم في إفريقيا البحث عن طرق لتصحيح هذا التشوه والإفساد والتغلب على التبعية. يجب محاولة تجريب سبع استراتيجيات لتخطي تلك التبعية، بدءًا من الاعتماد المحلي على الذات، إلى استخدام "حصان طروادة" الاقتصادي للتسلل إلى قلاع القوة الصناعية في الشمال.
2. أورد الكاتب في هذا الفصل بعض ذكرياته الشخصية عن حياته بمدينة ممبسا في غضون سنوات الأربعينيات، وتطرق لنظرة الكولونياليين البريطانيين التي تضطهد الأفارقة، ولا تعد الواحد منهم إلا نصف شيطان ونصف قرد. وذكر أن أولئك الكولونياليين كانوا يعتبرون أن عقول الأفارقة تماثل عقول الأطفال. فقد كان يمنعون الأفارقة من كل الأعمار، والأطفال (البيض) في عمر أقل من 16 سنة، من دخول دور السينما عند عرضها لأنواع معينة من الأفلام. وذكر أيضاً أن الأوربيين كانوا يظهرون أنفسهم للأفارقة كرجال خارقين (supermen)، إلى أن جاءت الحرب التي شاركهم فيها الأفارقة في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والملايو وغيرها من المناطق، فشاهدوا بأعينهم الرجل الأبيض وهو يرتعد خوفاً والقذائف النارية تنطلق من حوله، بعد أن كان الأفريقي يراه من قبل وهو يصدر الأوامر بتعالٍ وغرور، بحسبانه أحد أفراد النخبة الكلولونيالية الحاكمة.
أنماط الهوية Patterns of Identity
أفريقيا ليست أصغر قارات العالم، ولكنها ربما تكون الأكثر انقساماً. ويعيق هذا التشرذم نضال أفريقيا من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية فيها. كما أنه ينطوي على مخاطر أمنية. ينبغي على إفريقيا أن تختار، من ناحية، نظاماً من أجل تنفيذ الاقتصاص/ العدالة الدولية، مثل ما حدث عندما غزت تنزانيا أوغندا عقاباً لها (حدثت تلك الحرب بين عامي 1978 و1979م وأفضت لخلع الرئيس الأوغندي عيدي أمين. المترجم)؛ أو أن تختار، من ناحية أخرى، نظاما قارياً جديداً للأمن الجماعي، ربما في ظل منظمة الوحدة الأفريقية.
بحثاً عن باكس* أفريكانا In search of Pax Africana
أفريقيا هي الأكثر مركزية من بين جميع القارات من حيث الموقع الجغرافي، ولكنها قد تكون الأكثر هامشية سياسياً، وإلى حد ما، عسكرياً. فأفريقيا هي القارة التي يقطعها خط الاستواء إلى نصفين تقريباً، وهي القارة الوحيدة التي يمر عبرها مدار السرطان شمالاً، ومدار الجدي جنوباً. ومن الناحية الاقتصادية، تتميز القارة أيضاً بوضع استراتيجي فيما يتعلق بطرق النفط والمعادن الهامة للاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن النفوذ السياسي لأفريقيا في الشؤون العالمية جد متواضع. ما هي الآثار المترتبة على هذا التناقض المتمثل في كونها مركزية مادياً، وهامشية سياسياً؟ إن الضعف العسكري هو ما أدى إلى استعمار أفريقيا في المقام الأول. دخل قادة الجيوش الأجنبية إلى أفريقيا من أجل السيطرة عليها و"تهدئتها". السؤال بالنسبة للمستقبل هو ما إذا كان ينبغي على أفريقيا "تهدئة" أمراء الحرب، وبالتالي تشكيل انتقال من أيام باكس بريتنيكا ** Pax Britannica الخوالي إلى باكس أفريكانا (Pax Africana) في مقبل السنوات. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ هل يجب على أفريقيا أن تدخل في سياسة الطاقة النووية والانتشار النووي؟
*********** ******** **********
*كلمة Pax تعرف في كثير من القواميس بأنها "فترة من الاستقرار العام في الشؤون الدولية تحت تأثير القوة العسكرية المهيمنة - تُستخدم عادةً مع الاسم اللاتيني".
** Pax Britannica هي فترة السلام النسبي بين القوى العظمى التي أصبحت خلالها الإمبراطورية البريطانية هي القوة العالمية المهيمنة وتبنت دور "الشرطي العالمي".
alibadreldin@hotmail.com
////////////////////////////