في مقدمة كتابه «صراع الرؤى ونزاع الهويات في السودان»، ترجمه الدكتور عوض حسن ونشره مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1999، يقول الدكتور فرانسيس دينق «….، ومهما تكن العوامل الدالة على الهوية، فانها تعكس مفاهيم نفسية واجتماعية عميقة الجذور لدى الفرد في اطار تعامله مع مجموعته. وبما أن الجماعات تسعى نحو السلطة ومصادر الثروة ومكتسبات أخرى، فان هذه المعاملات يمكن أن تعبر عن تعاون أو تنافس أو نزاع.
ونزاع الهوية يحدث في إطار الدولة عندما تتمرد مجموعات، أو بمعنى أدق، عندما يتمرد مثقفوها ضد ما يرونه إضطهادا غير محتمل تمارسه المجموعة المهيمنة، ويتم التعبير عنه بعدم الأعتراف وبالتهميش، وربما أيضا بالتهديد بالتدمير الثقافي أو حتى التصفية الجسدية….. والمشاكل الاثنية والدينية التي ظلت مكبوتة لفترة طويلة، تبرز لتعبر عن نفسها بالعنف الذي يهدد هذه الدول بالتجزئة والتفتت، وربما بالانهيار التام.
هذا هو الخطر الماثل في صراع الرؤى، الذي ظل مستعرا لعشرات السنين في السودان. ومن سخرية القدر أن يكون جل هذا الشقاء المرتبط بالحرب الاهلية في السودان نتاجا للحلم العظيم في ان يصبح السودان نموذجا مصغرا للقارة الافريقية وجسرا يربط بين القارة والشرق الاوسط».
وفي مقال ممتع، نشر في عدة مواقع إسفيرية، 2003، يقدم الدكتور هشام عمر النور نقدا لأطروحة فرانسيس حول صراع الرؤى ونزاع الهويات، يبتدره بما أجمعت عليه النظريات السياسية المعاصرة على أن الأمم هى «مصنوعات ثقافية» تشكل إدعاءاتها بالأشكال الجوهرية للهوية الجماعية، كتجانس عرقي أو إثني، وكلغة وتاريخ ومصير مشترك، أو حتى كمعنى عام للخير، تشكل بناءات مصطنعة للناس الذين يحتاجونها للتأقلم والتوافق مع الشروط الثقافية والسياسية المتغيرة ويحتاجونها لتوليد افضل الأشكال وأقواها من التضامن الإجتماعي.
ويؤكد الدكتور هشام، أن حديثه لا يعني انكار الهويات التى يستشعرها الناس كأمر جوهري، أو انكار ما قد يترتب عليها من مظالم وقهر، وانما المقصود أن نقتنع بالأصل المصطنع لهذه الهويات والأصل المصطنع للاعتقاد بالانتماء إلى إثنية مشتركة، دون أن يقلل ذلك من قناعتنا بفاعلية الاعتقاد بالهوية الذى يقوم على ترابط منطقي يمكن ان يتحول إلى علاقات شخصية أو وعي جماعي. هذه الهويات ليست عوامل مفسرة وانما تحتاج للتفسير. فالنزاع الراهن في السودان لايفسره النزاع بين الهويات، بل إن تبدّى الصراع كنزاع بين هويات ورؤى هو الذي يحتاج إلى تفسير. إن مجرد وجود هويات متنوعة لايصلح مطلقاً أن يكون أساساً للنزاع بينها. وهذا يعني أن نفهم الظروف التي تدفع جماعة من الناس إلى إدراك الهوية كنواة مغلقة وصلدة ومن ثم تدفعهم للانسياق وراء الذين يستغلون هذا الوهم لصالحهم.
وكنت قد أشرت في كتابات سابقة إلى أن مصادر التاريخ السوداني تؤكد أن الهوية الحضارية السودانية تبلورت عبر مخاض أسهمت فيه عدة عوامل، وممتد لقرون وحقب منذ الحضارة المروية قبل الميلاد مرورا بالحضارات المسيحية والإسلامية ونتاج الكيانات الإفريقية القبلية والعرقية وبصمات المعتقدات الإفريقية والنيلية، وحتى النضال الوطني ضد المستعمر. لذلك فالهوية السودانية، منبثقة من رحم التعدد والتنوع والتباين، وهذا مصدر ثراء حضاري جم، إذا ساد مبدأ الاعتراف بالتنوع والتعدد في كل مكونات صياغة وتنظيم المجتمع. ومع سيادة هذا المبدأ، وإذا حسنت إدارته، فإن عوامل الوحدة والنماء كفيلة بتجاوز دوافع الفرقة والتمزق. وفي ذات السياق، تتعدد لغات الثقافات السودانية، ولا مجال لأي منحى آخر سوى إعطاء كل اللغات السودانية الفرصة الأقصى للتطور ولتصبح أدوات متقدمة للتعبير والتعليم.
هذا يفتح المجال للمثاقفة الحرة التي تؤدي إلى التفاعل بين هذه اللغات مما ينتج عنه واقع ثقافي جديد أكثر ثراء. هناك قوميات سودانية تتخذ اللغة العربية بمحض إرادتها أداة للتخاطب، وبالطبع هذا يستوجب الترحيب به. لكن لابد من الوقوف بحزم ضد أي محاولة لفرض اللغة العربية على من لا يرغب، وفي نفس الوقت لا بد من هزيمة المفاهيم اللغوية الضيقة والتي تؤمن بنظرية النقاء اللغوي فتحول بين اللغة العربية وبين تمثل واستيعاب كل الألفاظ ذات القدرة التعبيرية العالية في لغات القوميات غير العربية.
إن أي جهاز دولة لا يستوعب هذا الواقع ولا يتعامل معه وفق تدابير ملموسة، سيكرس من مفاهيم الاستعلاء العرقي. لذلك من الخطأ انتزاع مكون واحد من مكونات الهوية السودانية، المكون الإسلامي أو العربي أو الإفريقي مثلا، ورفعه لمستوى المطلق ونفي ما سواه، إذ أن النتيجة الحتمية لممارسة هذا النفي هي إنتشار الحرب الأهلية، على النحو الذي شهده السودان تحت ظل حكم الإنقاذ. ومن هنا، جاء إتفاقنا التام مع ما ذهب إليه الدكتور هشام، بأن صراع الهويات ليس صراعاً ميتافيزيقياً بين هويات مغلقة خارج التاريخ ذات طبائع وخصائص جوهرية، وانما هو صراع تاريخي، بمعنى أنه صراع اجتماعي وسياسي، أى صراع حول السلطة والثروة، ولظروف بعينها أصبح هذا الصراع يدار على أسس من استراتيجيات الهوية.
وعلى هذا الأساس، تظل قناعتنا الراسخة بأن المدخل الرئيسي، والذي لا يمكن تجاوزه، لحل الأزمة الخانقة الممسكة بتلابيب السودان، يبدأ بتصحيح العلاقة بين المركز والأطراف، بما يزيل عنها كل تلك المفارقات والتناقضات. وهذا لن يتأتى إلا في ظل إدارة للبلاد تحقق مشاركة عادلة في الحكم بين مختلف مكونات البلاد السياسية والقومية، وتنجز مشروعا وطنيا مجمع عليه لإعادة بناء السودان، على أساس التجسيد الدستوري والقانوني لمعنى التنوع والتعدد الاثني والديني والثقافي، وبسط أسس النظام الديمقراطي التعددي المدني، وتحقيق التنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد وتكويناتها القومية.
أما إنجاح هذا المشروع والإنتصار له، فيبدأ بتمتين وإنضاج التحالف بين نشطاء التغيير في المركز ونشطاء التغيير في الأطراف، إذ عند نضوج هذا التحالف، يتفعّل فتيل تفجر التغيير الجذري.
٭ نقلا عن القدس العربي
////////////////