صنعوا المحنة ويرتعبون من غلوائها!! … بقلم: د. على حمد إبراهيم
27 December, 2009
يتبارى شركاء الحكم المتشاكسون فى السودان هذه الايام ، يتبارون فى تحذير الشعب السودانى من مغبة القادم الخطير فى الاشهر القليلة القادمة والمتمثل فى انفصال جنوب السودان الاكيد فى الاستفتاء المقرر له ان يتم فى عام 2011.
مع ما يرشح من دلائل ، فان الانفصال اذا وقع لن يتم بصورة سلسة. فشمال السودان لن يستسيغ طعم الانفصال المر ، وربما تكون ردة فعله اكبر واقوى من كل التوقعات. ونفس الشئ سوف يحدث فى الجنوب ، الذى تتطلع محموعات كبيرة فيه الى الانفصال، اذا جاءت نتيجة الاستفتاء لصالح استمرار الوحدة . فربما انتفض هؤلاء وعادوا مجددا الى حمل السلاح مجددا ، خصوصا انهم لم يلقوا هذا السلاح بصورة جدية حتى بعد توقيعهم على اتفاقية السلام التى تم التوصل اليها بعد مفاوضات شاقة ومعقدة. فقد ظلوا دائما قريبين من سلاحهم ، يلتمسونه كلما حزبهم الخلاف مع شريكهم الصديق والعدو اللدود فى آن. هل نذكر حرب أبيى ، المدينة الوادعة التى كان لقوات الشريكين نصيب مشترك فى تدميرها ، رغم وجود النصوص الممهورة التى تتحدث عن انتهاء الحرب!
نعم ، صنعوا المحنة ويرتعبون الآن مما قد يترتب على ما صنعوا. فقد كانت الحرب بين شقى الوطن عند بدايتها نوعا من الاحتجاج على مظالم سياسية ظلت ظاهرة وباقية على مدى طويل. تمثلت تلك المظالم فى التنمية غير المتوازنة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافة والدينية. وقد وجدت الدعوة الاحتجاجية الجنوبية ذخيرتها الحية فى التنفيذ القاصر لمشروع سودنة الوظائف عقب جلاء المستعمر الاجنبى الانجليزى والمصرى . ان الدارس والمحقق والمدقق لما حدث فى تنفيذ مشروع سودنة الوظائف الذى نفذته حكومة السيد الازهرى لا يمكنه الا ان يثبت بقدر كبير من الأسى والاسف السياسى المكين كيف غرست الذهنية السياسية الساذجة والمجوفة لقادة ذلك الزمان ،كيف غرست بذور المحنة التى يعيشها شعبهم المغلوب على امره اليوم.
لقد أسس القادة السياسيون الشماليون فى ذلك الزمن مواقفهم تجاه الجنوب كشعب وتجاه قادته السياسيين ، اسسوها على الفهلوة السياسية قصيرة النظر التى يمكن ان تخدع المواطن الجنوبى الى حين فيساند هذا الفريق الشمالى ، او ذاك الفريق لقاء وعود براقة يعلمون انها لن تنفذ ليس لأنها مستحيلة التنفيذ ، ولكن لعدم وجود القناعة او الاستعداد لدى مانحى تلك الوعود. فالمسألة لم تكن اكثر من سياسة رزق اليوم باليوم لدى ساسة ذلك الزمن الذين كانوا يفتقرون الى التفكير السياسى الاستراتيجى او التفكير على المدى السياسى الطويل . لقد كانوا على عجالة من امرهم ، يسابقون بعضهم بعضا نحو المغنم الظرفى . اما ما يحدث بعد ذلك ، فذلك كان بحث مؤجل. تلك النظرة الضيقة جعلت للجنوب نصيبا مفروضا فى القسمة الوزارية فى كل الحقب المتوالية لا يتعدى وزارة واحدة هى دائما وزارة الثروة الحيوانية ! الغريب ان موقع ى الثروة الحيوانية والثروة الزراعية كان يجب ان يكون الاعلى فى النظرة الاقتصادية الاستراتيجية فى كل الاوقات باعتبار ان الثروتين هما عماد ثروة السودان الحقيقية فى كل الاوقات . ولكن التفكير الاستراتيجى الاقتصادى لدى قادة ذلك الزمن ظل مفقودا . وفاقد الشئ لا يعطيه بطبيعة الحال.
ذلك ما كان من محن اما محن اليوم فهى تترى ، وتزداد ، ولا تنقص . وليس فى الافق ضؤ يتبدى فى نهاية النفق الطويل.ففى العقدين الماضيين ، وفى لحظة من لحظات التجلى السياسى الجنونى، اختارت حكومة السودان الاسلامية الهوى ان تعلن الجهاد ضد شعبها فى الجنوب . لقد جيشت الجيوش ، وكدست الاسلحة ، ووجهتها الى صدور شعبها على انغام الاهازيج والتواشيح الدينية! ذلك مبلغ من الغباء السياسى لم يبلغه الذين صنعوا محنة السودنة فى فجر الاستقلال.ولكن جنوب الزمن الحالى هو غير جنوب الزمن القديم . لم يقبل الجنوب الجديد هذه المرة الانحناء تحت ازيز السلاح وصخب النداءات الجهادية المتشنجة. حمل هو الآخر ما تيسر له من سلاح . وقد تيسر له منه شئ كثير . ودفع عن نفسه غوائل الحرب الجهادية وبادل مهاجميه فتكا بفتك ، حتى كثرت اعراس الحور العين على يد الشيخ الفقيه ، نحرير زمانه ، آية الله المبتدع!
وكانت النتيجة ان ضاع الجنوب بكامله على يد الجهاديين (الاشاوس!) وضاعت معه اجزاء عديدة فى جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق بعد ان كان اكبر ما حصلت عليه حركة قرنق قبل بزوغ فجر الجهاديين هو احتلال مدينة الكرمك لمدة اسبوع! اين هى مدينة الكرمك اليوم !واين شال الفيل . واين خور القنا وأين أبيى!
ان النتيجة الحتمية البادية للعيان للحرب الجهادية هى انفصال الجنوب عن الشمال كأقوى رد فعل على تلك الحرب الخاطئة الاهداف والوسائل. فهاهم الفلاسفة الذين صنعوا و عمقوا المحنة ، هاهم يستشعرون خطر ما صنعوا فى الجنوب.وهاهم يرتعبون من نتائج ما صنعوا.فالدكتور غازى صلاح الدين ، احد مستشارى الرئيس عمر البشير ، يتهتك حزنا من اجازة قانون الاستفتاء على استقلال جنوب السودان. ويصف القانون بأنه اخطر قانون يمر على السودان منذ استقلاله . وقال ان ما يحدثه قانون الاستفتاء لا يمكن تداركه . وطالب الدكتور غازى القوى السياسية السودانية ان تستشعر الامر . واعتبر الموقف من قانون الاستفتاء المحك بين اصحاب الهمم الضعيفة والهمم العالية . وقال ان القانون يؤسس لسابقة على مستوى القارة الافريقية. مؤكدا التزام حكومته بالوحدة. و مبديا وجهه نظر تحمل اكثر من دلالة بقوله ان الاستفتاء ليس شانا جنوبيا كما أن الانفصال تترتب عليه مسئوليات.
لماذا طغت نبرة الحزن و الاسى والحسرة الآن على تعابير المستشار الذى يحمل درجة الدكتوراة فى الطب وسبق له ان عمل محاضرا فى كلية الطب فى جامعة الخرطوم .هل لأن مبضع الطبيب لم يسعفه فى تدميل جراحات الوطن الذى استلمه مع بقية رهطه وطنا - حدادى مدادى – على لفظ المثل الشعبى السودانى الشائع - فاذا بهذا الوطن اليوم يصبح وطنا على الشيوع الدولى ، تمرح فيه القوات والشرطة الاجنبية المدججة بالاسلحة ، والهيئات والمنظمات . ويتكفف شعبه المعونات الاجنبية ، رغم انه كان البلد المرشح لأن يصبح احدى سلال غذاء العالم!
ان حديث الدكتور غازى هو مزيج من التحريض المبطن ضد الاستفتاء والتخويف من نتائجه المستقبلية. ولكنه حديث لا يصمد امام الفحص والتمحيص . فالدكتور الذى يدعو القوى السياسية لكى (تتحزم وتتلزم وتستشعر الأمر) لمواجهة الخطر الذى يجسده قانون الاستفتاء ، يعلم قبل غيره ان حكومته دخلت فى الماضى القريب فى حوارات مع الامريكيين ناقشت فيها أدق التفاصيل و الاجراءات والقضايا الدالة على الانفصال. حدث ذلك فى واشنطن اثناء زيارة وفد الشريكين الكبير المشترك . وصرح به وزير الخارجية الور دينق فى تنوير قدمه لبعض الشخصيات السودانية بمنزل السفير السودانى. بل ان حكومة الدكتور غازى اشتركت فى ندوة مغلقة فى مدينة جوهانسبرج فى جنوب افريقيا ناقشت قضايا ما بعد الانفصال. مثل كيفية تحديد نصيب كل دولة من الدولتين المحتملتين من ديون السودان القديمة!
لقد كان الامل كبيرا ان تكون اتفاقية السلام السودانية التى بذل فيها جهد دولى واقليمى كبير ، ان تكون بلسما لاوجاع السودان المزمنة، وأن تشيع جوا من المحبة والتوادد بين طرفى الوطن الواحد. ولكن النظرة الحزبية الضيقة طغت على ما عداها من النظرات . ليلفى السودانيون انفسهم وهم يدورون فى نفس الحلقات المفرغةالقديمة. الا ان الامانة تقتضى ان لا يوزع اللوم بالتساوى بين الشريكين. لقد كان اصرار الحزب الذى دبر الانقلاب العسكرى على النظام الديمقراطى الذى كان مشاركا فيه حاكما ومعارضا ، اصراره على بقاء واستمرار قوانين الامن القمعية ، واصراره على تمرير ما ير يد من قوانين باستغلال اغلبيته الميكانيكية التى لم يحصل عليها عن طريق صندوق الانتخابات انما حصل عليها من اولياء نعمته- الوسطاء الدوليين ، واصراره على تكميم افواه الصحفيين وقمع الحراك السياسى من تظاهر شعبى واحتجاجات سلمية – كل ذلك ، جعل دعوة الانفصال هى الجاذبة . وجعل اى توقع غير هذا ضربا من الاوهام .
طبعا هناك دائما بعض الحالمين ، الذين يدسون رؤوسهم فى الرمال على نحو ما يفعل النعام عندما يتملكه الخطر ، فيدس رأسه فى الرمال لاقناع نفسه بأن الخطر غير موجود طالما انه لا يراه. فقد كثرت احاديث بعض قادة الانقاذ عن بقاء السودان موحدا رغم كل ما يحدث . اذ يقول قائلهم انهم استلموا هذا البلد موحدا وسوف يبقونه موحدا . كيف؟ ربما بالعودة الى القوة الحربية مجددا .او ربما بانتظار معجزة من نوع ما فى زمن انقطعت فيه اخبار المعجزات.
ان المعارضة السودانية من حقها الرد على دعوة دكتور غازى لها باستشعار خطر قانون الاستفتاء وتقول له انها استشعرت مخاطر جمة قبل بروز قانون الاستفتاء ، وظلت تدق نواقيس الخطر كل مرة ولكن الدكتور ورهطه اصموا الأذان عن السمع ، حتى جاءت لحظة الحقيقة التى اخذ يخشى منها أهل الانقاذ. ان حكم التاريخ على الانقاذ سيكون اكثر قسوة مما يتصور الانقاذيون اذا خرج الجنوب ولم يعد . وربما خرج مع الجنوب الانقاذيون مرة واحدة والى الابد .
Ali Hamad [alihamad45@hotmail.com]