ضد العقوبات الاقتصادية على الشعب السوداني
المعارضة التي تدعو الِي وتؤيد فرض عقوبات اقتصادية علي السودان تنطلق من فرضية ان تفاقم الازمة الاقتصادية الناتج عن العقوبات يعجل بسقوط النظام . ولكن هذا هراء, فليس هناك أي دليل امبريقي أو تحليلي أو تاريخي أو معرفي اخر يؤيد صحة هذه الفرضية . وربما كان هناك دليل يشير في عكس اتجاه هذا الافتراض الجزافي بوجود علاقة سببية بين استحكام الأزمات الاقتصادية وامكانيات التحول الديمقراطي . ان زيادة حدة الفقر والعطالة وسوء التعليم وكل ما يترتب علي تفاقم الحرمان الاقتصادي يضعف المواطن قبل النظام ويحد من هامش الحركة السياسية والابداعية المتوفر لهذا المواطن/ة وبالتالي يفاقم في اختلال ميزان القوة بين النظام والفرد المعارض الشي الذي يصب في مصلحة النظام . من الحمق الاعتقاد بان انتشار الفقر والجهل يفيد قضايا التحول الديمقراطي والتطور السياسي, فالفقر والجهل لا يخدما الِا مصالح طغم وقيادات في الحكم والمعارضة في أمس الحاجة لشعب منهك وجائع ليسهل تضليله وقياده وحشده ليتم استعماله لتحقيق اهداف زعامية ثروية لاعلاقة لها بمصلحة هذا المواطن . المغلوب علي امره.
كانت آثار فرض العقوبات التي كانت تهدف إلى الضغط على الحكومة السودانية للإصلاح سلبية بشكل كبير بالنسبة للشعب السوداني بوضعها عقبات هائلة في سبيل الحصول الشعب السوداني على الأدوية المنقذة للحياة والمعدات الطبية والآلات الصناعية الهامة وقطع الغيار والمواد والفرص والتمويلية المرتبطة بقطاع التعليم. كما ان هذه العقوبات شوهت صورة المواطن ولطخت سمعته وحدت من مقدرته علي السفر حول العالم لتحقيق أغراضه العلاجية والتعليمية والاقتصادية والترفيهية وحولته الِي شخص غير مرغوب فيه يتم التعامل معه في موانئ العالم ومطاراته كمجرم الِي ان يثبت العكس . في حين لم يكن لهذه العقوبات أي اثر سلبي يذكر على المسؤولين أو على النخب الحاكمة والمتنفذة ، ولكنها عاقبت المواطنين الأبرياء، وعمقت الفجوة في توزيع الدخل والثروة والمقدرات داخل المجتمع السوداني وبين أقاليمه المختلفة.
فعلي سبيل المثال كان للعقوبات الاقتصادية المفروضة تأثير بالغ علي الخدمات الصحية والتعليمية المتوفرة . فقد كان من ضمن تداعيات هذه العقوبات استحالة أو صعوبة الحصول علي أجهزة طبية تستخدم في تشخيص وعلاج السرطان , وبالذات سرطان الثدي المنتشر في السودان. كما صار من العسير الحصول علي قطع الغيار وامكانيات الصيانة اللازمة لأجهزة طبية في غاية الأهمية والحساسية .
أما فيما يختص بالتعليم العالي فان العقوبات حرمت جيوشا من الطلاب من إجراء اختبارات الدراسات العليا، والامتحانات المهنية في السودان وفرضت عليهم ان يسافروا بعيدا وغاليا لأداء هذه الامتحانات في دول اخري. كما حرمت العقوبات الجامعات من توفير فرص التدريب المهني والتعلم على الإنترنت وحالت دون حصولهم علي الدورات الالكترونية والمجلات العلمية وصعبت الحصول على برمجيات مهمة لمجموعات مهنية متعددة . وفي مجال التعليم , كما في المجال الصحي , فانه حتى لو توفرت خيارات بديلة للحصول علي المواد المحظورة فأن هذه البدائل عادة ما تكون بتكلفة اعلي وجودة ادني مقارنة مع الخيار الاول والمثل ولكنه ممنوع.
ولكن حتى لو افترضنا جدلا ان ازدياد حدة الازمة الاقتصادية يعجل برحيل النظام فان هذا لا يعني بالضرورة مشروعية الدعوة الِي والتأييد والتواطؤ مع عقوبات اجنبية تستهدف كل البلد ولا تفرق بين استهداف الشعب في معاشه واستهداف جلاديه . ان الدعوة لإفقار الشعب لخدمة اهداف المعارضة في اسقاط النظام موقف غير اخلاقي حتى لو سلمنا جدلا ان الانهيار الاقتصادي يقصر من عمر النظام . فبغض النظر عن مألات الحكم , فان الدعوة الِي مزيد من الافقار لشعب اصلا محروم و معدم ومنهك عبارة عن موقف ميكا فيللي من باب ان الغاية تبرر الوسيلة , بالذات حينما تصدر هذه الدعوة من جهات لا تتحمل تكلفة العوز الاضافي نسبة لموقعها الطبقي أو لاعتمادها في المعاش علي مصادر دخل اجنبية تقع داخل أو خارجه أو علي مصادر دخل سودانية لا تتأثر بنتائج العقوبات بصورة مباشرة.
ان العمل السياسي الوطني يجب ان يبدا من ادراك ان راحة الشعب ورفاهيته غاية وليست وسيلة من وسائل التنازع علي السلطة, عليه فانه بغض النظر عن من يعتلي سدة الحكم في اللحظة , يظل الازدهار والرخاء الاقتصادي للشعب هدفا ذو اولوية يجب الدفاع عنه ثم التنافس علي السلطة بأساليب اخري .
اضف الي ذلك ان القوي الاجنبية التي اعطت نفسها حق الهي استعلائي في فرض العقوبات علي الشعوب التي تعتبرها قاصرة لا تنطلق عقوباتها من حبها للسودان ولا من حرصها علي مصلحة مواطنه ولا تهمها قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان , بل تبني موقفها من السودان علي حسابات ومصالح خاصة واستراتيجيات كونية لا تري في المواطن السوداني اكثر من صرصور يمكن سرقة جثته وارتداءهـا احيانا لتوفير غطاء اخلاقي غير مستحق لمشاريع هيمنة واستغلال أو لصرف انظار الرأي العام العالمي عن جرائم تحدث في اماكن اخري من العالم ليس من المناسب فيها تسمية الجلاد والضحية. كما يمكن داخل دينامية هذه المشاريع اهمال هذا المواطن السوداني أو حتى ابادته , حسب احتياجات اللحظة الامبريالية سواء ان كانت امبريالية علمية ام اقليمية .
انطلاقا من وعي الظرف السياسي العالمي ولعبة المصالح , تصبح الدعوة للأجنبي في ان ينصب نفسه حكما علينا بالعقوبات اهدار للسيادة الوطنية وتضييع لميراث التحرر الوطني وسن سنن وسوابق سوف تعود مجددا مرارا وتكرارا بإضفاء مشروعية اخلاقية وسياسية تبيح لكل من هبـ ودب في مستقبل الساحة السياسية توجيه الدعوة للمستعمر ان يعود بدعوى كريمة من ممثلي الشعب مرتديا جثث سودانية ومتخفيا خلف شعارات المعارضة البراقة الداعية لديمقراطية وحقوق انسان وحقوق مرأة وحقوق هامش
.ان التاريخ القريب الحي يثبت ان التدخل الخارجي الغليظ لم يهبـ السودان شيئا ايجابيا أو يحقق شعار واحد من شعارات المعارضة التي تدعو اليها . التدخل الخارجي لم يهدي السودان اكثر من انفصال دامي لجنوبه ودولتين كارثيتين يعتليهما اكلة لحوم البشر في جوبا والخرطوم.
قال اينشتين ان الجنون هو ان تعيد محاولة نفس الشيء مرارا وتكرارا وتتوقع نتيجة مختلفة. فلماذا نطالب بالمزيد من التدخلات الاجنبية من نفس الجهات التي قسمت الوطن ولم تطعم جنوبيا ولم تدقرط نوباويا ولا شماليا ولا فوراويا ولا ادروبيا ؟
ختاما يجب التأكيد علي ان معظم مؤيدي فرض العقوبات الاقتصادية علي السودان أفرادا كانوا ام مجموعات واحزاب , ينطلقون من درجة عالية من الوطنية وحب الخير والكثير من النوايا الحسنة , والعديد منهم قدم تضحيات كبيرة وابدي بسالة نادرة في مقارعة نظام اجرامي, اغتصابي شرس. تأييد هذه القوي الحية والنبيلة للعقوبات الاقتصادية لا يعبر عن نقص في وطنيتها ولكنه ربما يظهر ان هذه القوي, التي اتفق معها , في وطنيتها الملتهبة وشوقها العارم لتغيير النظام الاجرامي لم تفكر في أمر العقوبات الاجنبية كما يجب وبالعمق اللازم ومن جميع جوانبه . عليه فن هذا المقال لا يقلل ولا يقدح ولا يشكك في وطنية أي صوت , ولكنه يدعو المعارضة للتعمق في التحليل كمقدمة للفعل والموقف السياسي ويدعوها الِي ان تراهن في التغيير علي الشعب السوداني وان تتجه اليه ليل نهار بدلا عن الحج المذل صوب مصادر هيمنة الاجنبي .
elagraa@gmail.com