عبدالله سليمان العوض.. رجل ضد النسيان
جمال عنقرة
21 November, 2011
21 November, 2011
الترابي بارك ابعاده ومع ذلك نصره ووالاه عند المفاصلة
اعترض على تقديم علي عثمان لكنه ظل يتحدث عنه بخير ويشيد بمقدراته
جمال عنقرة
gamalangara@hotmail.com
عندما سألتني المذيعة الحاضرة إسراء عادل بعروس القنوات السودانية «قناة النيل الأزرق» في الحلقة التي استضافتني فيها القناة من برنامج «مساء جديد» الذي يعده صديقنا المخرج الفنان محمد عكاشة عن فكرة مستقبل وادينا للأنشطة المتعددة، قلت لها بدون تفكير إن فكرة المشروع استلهمناها من فلسفة الدكتور عبدالله سليمان العوض في العمل، ذلك رغم أني لم أفكر في هذا الربط مطلقاً قبل ذلك، ولكن لم أجد شبيهاً للفكرة غير منهج دكتور عبدالله، ويبدو أنني تأثرت بفكر الرجل دون أن أدري وأنا أرسم خارطة المشروع.
وتأثري بالدكتور عبدالله سليمان العوض أمر طبيعي، وهو رجل مدرسة ولقد تخرج في مدرسته هذه آلاف الطلاب هم اليوم ملء السمع والبصر، وأكثر الذين يحكمون الآن ويقودون العمل العام والطوعي هم خريجي هذه المدرسة. والدكتور عبدالله سليمان لا يعرف الأفكار ولا المشروعات الصغيرة، فالفكرة عنده تبدأ دائماً كبيرة، برغم أن الإمكانات التي يبدأ بها تكون في الغالب صغيرة جداً، وغالباً ما تكون من ممتلكاته وأمواله الخاصة.
وقصة أكبر صرح بناه للعمل الطوعي الانساني الإسلامي يجسد هذه الفكرة، وهو الوكالة الإسلامية للإغاثة.
فلما خرج بالوكالة الإسلامية للإغاثة من منظمة الدعوة الإسلامية، وسجلها كياناً خاصاً، لم يجد لها مقراً سوى عيادته الخاصة التي حولها بأثاثها كله وزاد عليه من بيته، لتكون مقراً للوكالة التي كان يخطط منذ ذاك اليوم الأول، لأن تصير صرحاً عظيماً، ثم أخذ سيارة زوجته الحاجة «الثريا» ابنة الشيخ محمد العبيد العالم المعروف، وخصصها للوكالة الإسلامية، وحاجة «الثريا» تجسد القول المشهور «وراء كل عظيم امرأة» وأم هاني امرأة عظيمة وهي شريكة أصيلة في كل إنجازات «عبدالله النمر».
والوكالة الإسلامية التي تأسست بهذه الطريقة البسيطة، وبهذه الإمكانات المتواضعة،. استطاعت بفضل أفكار ومشروعات عبدالله سليمان العوض من بعد فضل الله تعالى أن تشمخ وتتمدد حتى بلغ عدد مكاتبها (34) مكتباً موزعة على مثلها من الدول المنتشرة في قارات العالم كلها، ولقد تخرج في هذه الوكالة الآلاف الذين رفدت بهم الحياة العامة في السودان، ولقد ظهر حجم هؤلاء الخريجين وثقلهم يوم وفاة أخينا وصهرنا الدكتور أحمد العاص وهو من خريجي مدرسة عبدالله سليمان العوض، فتداعوا لوداع أخيهم يتقدمهم شيخهم، شيخنا الحبيب محمد عبدالله التربي، ومثلما بكينا في ذاك اليوم حزناً على فراق أخينا العاص، بكينا على «الشتات» وبكينا لافتقاد شيخنا وحادي مسيرتنا وصاحب الفضل علينا الدكتور عبدالله سليمان العوض، رغم انه لم يزل حياً يرزق، وأبكاني الحزن على الوفاء الذي كان يجسده شيخنا «النمر» ولم نعامله بمثله.
وبمناسبة الوفاء هذه لابد أن أذكر قصة مهمة في هذا المقام، وهي أنه لما قامت الانقاذ ونجحت الثورة التي خططت لها الحركة الإسلامية وقادتها، كان رأي الدكتور عبدالله سليمان أن تحافظ الوكالة الإسلامية على استقلالها وتواصل مسيرتها في العطاء بلا تحيز ولا إنحياز، ولما كانت الحركة تفتقد البعد الخارجي، ولا تجد وجوداً مقدراً ومنتشراً يماثل وجود الوكالة الإسلامية أو يقاربه، ولما كان القائمون على أمر التنظيم يعلمون أن في وجود الدكتور عبدالله سليمان يستحيل الخروج بالوكالة عن المسار الذي رسمه لها مؤسسها، أبعدوه عنها، وحفظوا له فقط موقعاً شرفياً فيها، ولما اكتمل الابعاد يوم أن جمع الدكتور الترابي أنداده وأهدى كل واحد منهم مصحفاً ومصلاة، اشارة إلى التفرغ بقية العمر والإنقطاع للذكر والصلاة، قال الدكتور عبدالله لدكتور الترابي «قبلنا الهدية» وكأنه يقول له «كتاب الله ما بتأبى» وزاد على قوله «لكنني لست موظفاً في الحركة الإسلامية لاحال إلى التقاعد والمعاش» فخرج الدكتور عبدالله من السودان وعاد والتحق بالامم المتحدة في منظمة الصحة العالمية، حيث كان يعمل هناك منذ الستينيات ولم يعد إلى السودان إلا بعد المصالحة الوطنية بين نظام مايو والجبهة الوطنية، وأسس في تلك العودة الوكالة الإسلامية للإغاثة، ومؤسساتها العظيمة التي منها شركة الرواسي الخيرية ومنظمة الحكمة للعلاج، وكلها تأسست بذات فلسفة «النمر»، ولما وقعت المفاصلة والانشقاق في صفوف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، كان كثيرون يتوقعون أن يقف عبد الله حيث لا يقف الترابي، ذلك أنه كان يقول دائماً إن ابعاده تم برعاية ومباركة الترابي، وكان الأخير يقول إنه ذلك فعله علي عثمان، ومعلوم أن الدكتور عبدالله سليمان كان أكثر الأخوان اعتراضاً على تقديم الأخ علي عثمان نائباً للأمين العام للجبهة الإسلامية عام 1986م ولكن دكتور عبدالله كان يقول إن علي عثمان لا يفعل شيئاً إذا لم يكن الترابي راض عنه، وبالمناسبة، فإنه رغم قوة اعتراض عبدالله سليمان على تقديم علي عثمان، لكنه لم يكن بذكره إلا بخير، وكان يقول إنه لا يشك في مقدرات وامكانات علي عثمان، وهو يراه متميزاً على «الكبار والقدرو»، لكنه كان يريد له أن يتطور تطوراً طبيعياً حتى يصل إلى ما وصل إليه، وكان عبدالله سليمان يرى أن الدكتور الترابي أراد بتقديم علي عثمان ابعاد أقرانه وأنداده الذين يقولون له «حسن» بدون «شيخ».. وأشهد أن عبدالله سليمان كان يتحدث عن امكانات ومقدرات علي عثمان باعزاز شديد.
ومع ذلك لما انشق المؤتمر الوطني كان الدكتور عبدالله سليمان من أوائل الذين أعلنوا مناصرتهم للدكتور الترابي وموالاتهم له، وكان هذا الموقف غير مستوعب لكثيرين من الأخوان الذين يعلمون ما أصاب الدكتور عبدالله بمباركة الدكتور الترابي، وأذكر أنه قال لي في تلك الايام إن الأستاذ أحمد عبدالرحمن محمد جاءه، وقال له إنك من المفروض أن تكون في مقدمة الذين يبتعدون عن الدكتور الترابي ولا يوالونه، لما أصابه منه، فقال له عبدالله، أنا عارف ده كله لكن «رجالة ساكت» ما بتخلى عن رفيق العمر.
وأذكر لما هدأت الأحوال بعد «حمى الانشقاق» وخرج الخلاف عن مساره الطبيعي، لم يكن عبدالله سليمان راضياً عن ذلك، فلما تم توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة الشعبية في التاسع من يناير عام 2005م بالعاصمة الكينية نيروبي، قلت للدكتور عبدالله، إن هذا السلام سيفرز تحديات جسام، وأن العائدين من الحرب يحتاجون إلى جهد كبير لتجاوز مراراتها، وهنا يأتي دور المنظمات التطوعية والخيرية، وهو الأكثر خبرة من أهل السودان كلهم في هذا المجال، واقترحت عليه أن يترك العمل السياسي ويعود لعمله التطوعي الذي عرفه وعرف به ويعرفه أكثر مما يعرفه غيره، ويبسط يده للتعاون مع الجميع حاكمين ومعارضين، فوافقني الرأي، واقترحت عليه لقاء مع الأخ البروفيسور ابراهيم أحمد عمر الذي كان وقتها أميناً عاماً للمؤتمر الوطني الحاكم بعد المفاصلة، فوافق ايضاً، فذهبت مباشرة، وفي ذات اليوم إلى البروفيسور ابراهيم في منزله بحي القلعة الأمدرماني، وحدثته عما توصلنا إليه مع الدكتور عبدالله، فرحب ابراهيم بذلك ترحيباً شديداً، واتفقنا أن يلتقي الرجلان ظهر اليوم التالي في مكتب البروفيسور ابراهيم بالمؤتمر الوطني، واتفقنا أن هذه الزيارة لتنسيق العمل الطوعي الذي تحتاجه المرحلة بدون أية أبعاد سياسية، وإن الدكتور عبدالله لن يعلن انسلاخاً من الشعبي، ولا انضماماً للوطني، ولكنه فقط سيركز على التعاون في مجال العمل التطوعي القومي.
فذهبنا مع الدكتور عبدالله في اليوم التالي للمؤتمر الوطني، واستقبلنا البروفيسور ابراهيم في مكتبه استقبالاً حاراً، وتحدثنا حديثاً ايجابياً حسبما هو متفق عليه، ونقل تلفزيون السودان خبر اللقاء رئيسياً في نشرته الرئيسة ولم يجر أي تحريف ولا تأويل للخبر.
وبعد يومين جاءنا الأخ العميد يوسف عبدالفتاح ومعه مجموعة أسسوا منظمة لاطفال السلام، وطلبوا من الدكتور عبدالله رعايتها، فوافق على ذلك، وبدأنا التخطيط والترتيب، ولكن فجاة انقطع الاتصال، ولم تتصل بنا أية جهة حكومية أو موالية للمؤتمر الوطني لتنسيق العمل الطوعي حسبما اتفقنا عليه مع البروفيسور ابراهيم، وانتهى هذا المشروع.
وللدكتور عبدالله سليمان العوض مساهمات ومبادرات ضخمة في العمل الوطني، فلما تباعدت المسافات بين الرئيس الأسبق المشير الراحل جعفر نميري والانقاذ بعد أن كان هناك توافق تام جاء حصاداً للموافقة التي قادها الأستاذ أحمد سليمان المحامي من الخرطوم والأستاذ محجوب عروة في القاهرة قبل الانقاذ، والتي انقطعت بعد فترة وحاول الاخ محجوب عروة الاصلاح، لكنه لم يوفق لما أوهم به بعض المايويين الرئيس نميري انهم صنعوا الانقلاب وأن الجبهة الاسلامية سرقته منهم، فبعد هذا تدخل الدكتور عبدالله وجمعته بالرئيس نميري في القاهرة، وأفلح في إعادة المياه إلى مجاريها، وعادت مساعي عودة نميري للسودان في الشهور الأولى للانقاذ، ووصلنا مرحلة إعداد مسكن له وكل احتياجاته ومخصصاته، ولكن تدخل بعض الجهات الداخلية والخارجية أفسد المشروع، وتأخرت عودة الرئيس نميري للسودان إلى أكثر من عشر سنوات من وقتها الأول، الذي كانت ستكون لها فيه دلالات عظيمة، ولكن قدر الله، وما شاء الله فعل.
ولقد كان للدكتور عبدالله سليمان العوض دور عظيم في نجاح مبادرة الهندي للحوار الشعبي الشامل، ولئن كان للحاج التيجاني محمد ابراهيم الدور الأعظم في الجمع بين الرئيس البشير والشريف زين العابدين في القاهرة، وهذا موضوع تحدثنا عنه كثيراً، فإن الدكتور عبدالله كانت عظمة أدواره في تحريك مفاتيح المبادرة، ومفاصلها، فلما وصل حوارنا مع الشريف زين العابدين في القاهرة من أجل المبادرة مرحلة متقدمة، ونشرناه في الصحف، وصار متداولاً بين الناس، وتباينت مواقف الاتحاديين، ولما كثرت تحفظات الأخ الشريف صديق الهندي، ترافقنا معه وزرنا الدكتور عبدالله سليمان في الاسكندرية، حيث كان يعمل في مكتب منظمة الصحة العالمية، وأدرنا حواراً طويلاً، اطمأن به قلب الأخ صديق فأقبل على الحوار بصدر رحب.
وكان الدكتور عبدالله أول من رحب بمبادرة الهندي من الإسلاميين رغم أن كثيرين غيره قالوا قولاً سالباً في المبادرة والشريف معاً.
ولما جئت برسالة الهندي للسودان الثانية والتي تزامنت مع وصول وفد المقدمة الذي كان فيه الدكتور أحمد بلال والبروفسيور علي عثمان محمد صالح طلب الدكتور عبدالله من البروفيسور ابراهيم أحمد عمر ترتيب لقاء للوفد مع بعض الإسلاميين الذين يمكن أن يشكلوا مفاتيحاً لتمرير المبادرة، فأقام البروفيسور حفل عشاء في منزله جاء إليه وفد المقدمة في معية راعي المبادرة من جانب الاتحاديين الحاج التجاني محمد ابراهيم، وحضرت مجموعة من الإسلاميين منهم، الشيخ محمد محمد صادق الكاروري، الدكتور عثمان عبدالوهاب، المرحوم عبدالله بدري، البروفيسور حسن مكي، الأستاذ فتحي خليل، الدكتور احمد ابراهيم الترابي، الأستاذ محجوب عروة.
ولما أردنا أن نعطي المبادرة بعداً شعبياً، يتمدد به الحوار ليشمل قطاعات أخرى، اتفقنا على تنظيم ندوه سياسية كبرى حول السلام والوفاق، واتفقت مع الأخ الأستاذ أحمد البلال الطيب على إقامتها باسم صحيفة أخبار اليوم، واستضفنا فيها الأخ الدكتور محمد الأمين خليفة بصفته أميناً عاماً للمجلس الأعلى للسلام، ودعونا لها كل القوى السياسية بلا استثناء، وجاءوا جميعاً دون أن يتخلف أحد، وحضر الأخوة الجنوبيون الذين جاءوا باتفاقية الخرطوم للسلام، وجاء أبناء النوبة الذين عادوا ايضاً باتفاقية سلام جبال النوبة، وتحدث ممثلون لكل هؤلاء، وأمنوا جميعاً على الحوار والحل السلمي القومي لمشكلات السودان، وجاء الدكتور عبدالله سليمان من الاسكندرية خصيصاً للمشاركة في هذه الندوة، التي أوصت بتكوين هيئة شعبية للحوار، وتكونت الهيئة برئاسة الدكتور حسين أبوصالح والدكتور عبدالله سليمان أميناً عاماً، واخترت مقرراً لهذه الهيئة التي حاربتها بعض الأجهزة الحكومية، فاستضافها أولاً اتحاد أصحاب العمل، ثم رعاها وتبناها بعد ذلك الإتحاد العام لنقابات عمال السودان ، وكانت هذه هي بدايات الحوار الجاد من أجل الوفاق والسلام في السودان، والتي لعب فيها الدكتور عبدالله سليمان العوض دوراً محورياً،
ولما تم إقرار التوالي السياسي في البلاد ليكون مدخلاً للتعدد السياسي والحزبي الذي كان الدكتور عبدالله أحد دعاته، عاد إلى السودان، وعاد إلى المشاركة في العمل السياسي، وعدت معه، وصار أميناً لدائرة العلاقات الخارجية في المؤتمر الوطني، وصرت مقرراً لهذه الدائرة ومسؤولاً عن ملف العلاقات مع مصر وليبيا.
لقد أعطى الدكتور عبدالله العمل السياسي في المؤتمر الوطني ابعاداً لم يكن يألفها، وبث فيه روحاً جديدة، فاستقطب للدائرة كفاءات عالية ومتنوعة، وأذكر من أعضاء الدائرة والفاعلين في مناشطها، البروفيسور عبدالله أحمد عبدالله، المرحوم أحمد عبدالحليم، البروفيسور علي شمو، الدكتور علي قاقرين، الراحلة المقيمة الأستاذة ليلى المغربي، الشاعر محمد يوسف موسى، وكثيرون غيرهم.
ولقد قامت الدائرة بمناشط كبيرة داخلية وخارجية، وكانت كلها تتم بتمويل ذاتي وشعبي، منها القيام بقيادة وفد شعبي لتقديم واجب العزاء في العاهل الأردني الراحل الملك حسين، ثم الذهاب إلى العاصمة العراقية بغداد لمناصرة الرئيس الشهيد صدام حسين، وقمنا بزيارتين لليبيا كسرنا فيهما الحصار عربياً وافريقياً، وفتحنا أبواباً للحوار السياسي بين البلدين، لكنه لم يتقدم لضيق أفق الحاكمين في ليبيا آنذاك على عهد القذافي.
إن عطاء ومساهمات الدكتور عبدالله سليمان العوض في الحياة السودانية سياسياً وفكرياً واجتماعياً أكبر من أن يحصيها مقال ولا كتاب، وهي أعمال خلدته في ذاكرة الوطن..
ونحن إذ نقود مبادرة لتكريم هذا الرجل الشامخ، نتوقع أن يهتبل كثيرون الفرصة من الذين كانت تراودهم الفكرة، ونفتح أبوابنا في صحيفة الوطن لتلقي استجابات المبادرين والمستجيبين لنداء الوفاء عبر جوالي الخاص أو هواتف الصحيفة 10059738 - 83795077 - 00059738 أو على بريدي الالكتروني