عبدالله علي ابراهيم ضد عبدالله علي ابراهيم!!

 


 

عبدالله مكاوي
25 September, 2023

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
في حلقة قناة الجزيرة التي استضافت بروف عبدالله علي ابراهيم ومولانا التاج اسماعيل والباشا طبيق. كان الاختيار يلمح لوضع عبدالله ابراهيم في خانة الدفاع عن الجيش ومواقف قائده البرهان وخطابه داخل اروقة الامم المتحدة، وهو ما اكده النقاش!
وهذا الاختيار من جانب طاقم قناة الجزيرة لم ياتِ مصادفة او عتباطا، ولكن سبقه تتبع لمسيرة عبدالله ومنهجه في نقد المعارضة (معارضة المعارضة) وكيل التهم لها علي الدوام، لدرجة تحميلها وزر الفشل والاخطاء والكوارث! لتصبح هي المتن والانظمة التسلطية وخصوصا الاسلامويين هم الهامش في تحليلاته ونقده ومواقفه المشهرة دون تحرج! وما يحير ان بروف عبدالله الذي استنكر علي دكتور الباقر تحميل الاسلامويين جل المصائب وعلي راسهم الترابي، منذ ولوجه الساحة السياسية كالخراب المستعجل. ووصف مقالته في شأنهم، بالتفسير الكيزاني للتاريخ، وسرد ادلة ووقائع لا حصر لها، هو نفسه ظل يستمرئ تفسير الاخطاء والفشل الذي وسم تاريخنا السياسي والمرحلة الانتقالية، وخاصة عصر الانقاذ المظلم المحتشد بالفساد والانتهاكات، بتقصير المعارضة! الشي الذي جعل حتي النقد الخجول الذي يوجهه عبدالله للاسلامويين ونظامهم الاجرامي يمر عبر توجيه اللوم للمعارضة، ونستثني من ذلك دفاعه المستميت عن لجنة التمكين.
ومؤكد نقد المعارضة عمل مطلوب، وهي تستحق النقد علي الاداء الضعيف والتركة المخيب للآمال، ولكن القسط والموضوعية تتطلب تحميل كل شق بقدر ما يرتكبه من اخطاء ويقترفه من جرائم. مع العلم ان الانظمة التسلطية وفي مقدمتها نظام الانقاذ، تُحدث تدهور شامل، ويطال بصورة ممنهجة الحياة السياسية باحزابها وفاعليها. بل وصل نظام الانقاذ في حربه علي الحياة السياسية وحقده علي الاحزاب و(الحركات المسلحة التي انتج معظمها طريقته في التعامل مع السلطة) شاوا بعيدا. باستدخال وسائل الاعتقال والتعذيب والقتل وقطع الارزاق والتضييق علي السياسيين ورإهاب المعارضين كعمل ممنهج، لم تعهده هذه البلاد او يخطر ببال اشد المتشائمين (نموذج بيوت الاشباح)! اي الضعف الذي اصاب المعارضة وتشرذمها وتهافتها علي السلطة بصورة طفولية، جزء اساس منه يرجع لاسباب موضوعية، لعب فيها الشمولعسكريون (الذين احتكروا معظم حياتنا السياسية) النصيب الاوفر، كاحد آليات البقاء في السلطة.
المهم هذا المركب الصعب الذي درج عبدالله ابراهيم علي ركوبه، يحمله علي ارتكاب زلات تصعب المخارجة منها (الحديث عكس الكتابة، يخرجها بصورة عفوية سناتي علي اسبابها لاحقا)، ويزيد الاصرار عليها ومحاولة تبرييرها الطين بلة! ومن ضمن تبرير استمرار الحرب، يرد دكتور عبدالله ذلك للعقل البارد، وما يستتبعه من حسابات عسكرية واهداف استراتيجية تخدم الدولة علي المدي الطويل. اما العقل البارد الذي حُرمت من نعمته الحياة السياسية والاحزاب سهلت الاثارة، فيبدو انه شبيه بالعقلانية المفرطة، التي لا تضع اعتبار للمسائل الاخلاقية والانسانية والمجتمعية في المدي القصير. وامثال هذه العقلانية تعرضت للكثير من النقد، والبعض حملها كالعلموية والانظمة الشمولية والاطماع الراسمالية جزء من كارثة الحرب العالمية والمنازع الاستعمارية، او اقلاه لم تمنعها، وهو ما انتج البعديات كنقد لمنجزات التنوير! وفي هذه الجزئية تحديدا، يظهر ماضي عبدالله ابراهيم وتشبعه بالعقائد الخلاصية بحتميتها التاريخية التي تبرر كل شئ، من اجل سمو ورفعة النتائج النهائية المرجوة! والتي اثبتت التجارب انها لا تاتي ابدا رغم كم الخسائر والكوارث، واذا صدف ونجحت وسائلها في بلوغها السلطة، تنتج نماذج في غاية التسلط! وهو ما يفرض سؤال، من اين اتي بروف عبدالله بثقة انتصار المؤسسة العسكرية في هذه الحرب، بما يبرر كل خسائرها! مع ان كل المؤشرات واستمرار الحرب لنصف سنة دون حسم لا يوحي بذلك، ان لم يكن العكس هو الصحيح من خلال سير المعارك اقلاه ظاهريا (مهاجمة ما تبقي من مقرات الجيش في معركة العاصمة الاكثر اهمية)؟! كما ان هنالك احتمال استمرار الحرب وانتقالها لمناطق آمنة (ودمدني او شندي مثالا) تعيد فيها ميلشيا الدعم السريع سيناريو استباحة الخرطوم! او احتمال استمرار الحرب حتي ضياع الدولة (الحالة الصومالية بطريقة اكثر دموية). اي ايقاف الحرب هو السيناريو الانسب لبقاء الدولة دون الانهيار الدموي، وليس الرهان علي انتصار للجيش مشكوك فيه، ناهيك عن احتمال نجاح سيناريو الدعم السريع، وما يستتبعه من تطهير عرقي ودولة فاشلة بكل المقاييس. وفي ذات السياق من اين له اليقين في قدرة المؤسسة العسكرية بحالتها الراهنة في الحفاظ علي الدولة، وهي نفسها بهؤلاء القيادات واشباههم وادلجتها المعلومة، من اسهمت في انقسام الجنوب؟!
اما ما لا يعقل لصاحب العقل البارد، بل ولا يُحتمل في حديثه، هو قبوله مرواغة رجل الدولة وفي احوال الحرب كشئ عادي! وبالوصول لهذا المنطق الغريب لمنتهاها، وجد نفسه يبرر خطاب البرهان شبه العسكري داخل اروقة الامم المتحدة، وكذلك حشده بفظائع الدعم السريع التي يعلمها الجميع (علي طريقة حلو الكلام في خشم سيدو). ولم ينتبه عبدالله ابراهيم في اندفاعه للدفاع عن البرهان وخطابه، ان البرهان نفسه اضاع فرصة الظهور بمظهر رجل الدولة الباحث عن السلام والاستقرار، متوسلا لغة دبلومسية راقية، وليس عنترية فالصو كالبشير. لدرجة ان اي مقارنة بين الخطاب المسجل لحميدتي وخطاب البرهان الارعن، يفوز فيها خطاب حميدتي بالضربة القاضية من وجهة نظر سياسية ودبلوماسية، رغم ان كلاهما كاذبان ويسعيان للسلطة بدعم جهات خارجية في حالة حميدتي والفلول في حالة البرهان. اي البرهان عكس حميدتي، يجيد الكذب لكنه لا يجيد التجمُّل.
اما حجة قبول تناقضات وتلونات البرهان بان حالة الحرب انتقلت بالصراع لمحطة جديدة (احدثت قطيعة مع ما قبلها)، اذا ما صح فهمنا لهكذا حجة، فهي اقرب للذرائعية المتهافتة منها للعقلانية الباردة التي يبشرنا بها لاصلاح حالنا المايل. لانه من ناحية، لدينا معرفة كافية بالبرهان واساليبه وطموحاته السلطوية، بما يغنينا عن اعادة تقييمه او معرفة مخططاته ودوافعه من هذه الحرب! اي هو ليس في وارد البحث عن انتصار الجيش للحفاظ علي الدولة، ولكن للبقاءه في السلطة منفردا، وهذا سبب مرواغاته وتلونه. وما ذكرناه وذكره غيرنا من اخطاء البرهان الكارثية وعدم تاهيله، وخطورة وجوده في هذا المكان الذي يشغله، يغني عن السؤال! ومن ضمنها هذه الحرب التي يعجز عن حسمها بعد ان اضعف الجيش وقوي مليشيا الدعم السريع لدرجة الطمع في السلطة! والحال كذلك، لديه استعداد لفعل كل شئ من اجل القبض علي السلطة والهروب من المحاسبة، وبما في ذلك الركوع مرة اخري للمخططات الخارجية الصانعة للدعم السريع، والتي هو نفسه كان جزءً منها، ولكن تم لُفظه لعدم موثوقيته! اي بصراحة يصعب تسويق نموذج هذا البرهان الجاهل الفاشل الغادر، حتي بذريعة لا صوت يعلو فوق صوت هذه الحرب الوجودية!
اما حديث البروف عن عدم حشر السياسيين انوفهم في شئون عسكرية وحربية لا يفقهون فيها شيئا، فهو يثير الحيرة من عدة اوجه، منها!
اولا، منع السياسيين من التدخل هو نفسه تدخل او موقف سياسي، وان تلبس قناع الدعوة للكل في التركيز علي تخصصاتهم! بدليل ان الحرب كما يقال عن حكمة، من التعقيد والخطورة بمكان بحيث لا تترك للعساكر وحدهم، وذلك لان آثارها لاتطال العسكر وحدهم، ولكنها تطال الابرياء والبنية التحتية وكل انشطة الحياة. واذا كان كل ذلك لا يشغل السياسيون، فما هو الشئ الي يشغلهم ويستنفد طاقتهم وجهدهم؟ والسؤال والحال كذلك، اين يمارسون السياسية نفسها؟
والاهم ان الشعب الذي يتضرر منها لم يختارها، او يُسمح له بتوصيل رايه فيها، ولكن كلها حكم امر واقع. ولو كنا امام جيش احترافي، اقلاه لكان له متحدث يومي ينور المواطنين سواء بسير المعارك او ملامح استراتيجية عامة يسعي لانجازها من هذه الحرب، او جهود يقوم بها من اجل حمايتهم في مناطق النزاع، او يوضح كيفية الاحتراز من الرصاص الطائش والقذائف المنفلتة؟ او كيفية التعامل مع هذه المليشيا البربرية التي تستبيح العاصمة؟ ولكن كل ما يحدث هو غموض واكاذيب او حرب اعلامية بين الجيش ومليشيا الدعم السريع. اي ما يغيب عن هذه الحرب هو حقيقتها، واذا قبلنا ذلك من المليشيا كيف نقبله من الجيش؟ وعلي المستوي الشخصي، رغم متابعتي لهذه الحرب واغلب ما يكتب عنها، لم اصادف تحليل عسكري مُحكَّم، لحقيقة وطبيعة هذه الحرب ومخططاتها وسيناريوهاتها، سواء من ناحية عسكرية او استراتيجية، وهذا ليس من جانب ما يسمي خبراء استراتيجيون نعلم خواءهم، ولكن حتي ممن يُشهد لهم بالكفاءة والمعرفة العسكرية من المتقاعدين! وغالبا السبب ان الجيش يقاتل من غير خطة ولا تكتيك ولا استراتيجية ولا يحزنون، فكل ما يشغله حماية مقراته، والاعتماد علي سلاح الجو كتفوق نوعي. ولكن يحسب للجيش محافظته علي الامن والاستقرار في الولايات التي لم تصلها نيران الحرب. وشجاعة مقاتليه علي خط النار. وكذلك يجد الجيش السند الشعبي في المناطق الآمنة، ليس حبا فيه، ولكن خوفا من عدوان مليشيا الدعم السريع الهمجية.
ثانيا، اذا تحدثنا عن حشر الانوف، فلا يوجد من حشر انفه كالعسكر في الشئون السياسية والسلطوية، منذ الاستقلال الذي اسهم فيه السياسيون بنصيب الاسد، وما ترتب علي ذلك من مصادرة لكافة انشطة الحياة واحتكار الامتيازات. والمفارقة ان هذا الحشر القسري، بقدر ما دمر الحياة المدنية، اضر بالمؤسسة العسكرية، لتنحرف عن مهامها الاحترافية، لتقع في فخ ضعف المهنية. حتي وصل بها الحال للسماح بتكوين مليشيا مسلحة، موازية لها في القوة وتفوقها في المهام! وهو ما ادي للحرب الدائرة الآن بعد ان وصل التناقض وتضارب المصالح بينهما لطريق مسدود.
ثالثا، بروف عبدالله ابراهيم الآخر، هو نفسه من شدد علي ان الطمع في السلطة خصيصة عسكرية محضة، لا تحتاج لمحفزات سياسية، ووثق ذلك بالرجوع لعهد عبود واصراره علي الكنكشة في السلطة لآخر رمق، للتاكيد علي ان مسالة تركه للسلطة بعد الثورة طوعا، مجرد خرافة. وهذا ناهيك عن عدد لا يستهان به من الانقلابات المجهضة سواء بدوافع سياسية او غير سياسية. وعموما السودان من الدول التي تَحكَّم في مصيرها بعد الاستقلال العسكر. ويرجع لهم السبب الاساس في التدهور المطرد الذي اصاب الدولة، حتي وصلت مرحلة تغييبها بانقلاب عسكر الانقاذ الاسلامويين. وهو ما يعني احسان النية بالعسكر، لمجرد ان الحرب الحالية وجودية، هو محو للذاكرة واهدار لفرصة التعلم من التجارب، واللتان من دونهما سيستمر مسلسل انتاج ذات الاخطاء علي ذات النمط، وهذا اذا ما تبقت دولة بعد كل هذا الانهاك العسكري؟
رابعا، نجد الخبرة الانسانية التي استفادة من تجاربها وانتجت الدولة الحديثة، وآليات الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة، انتبهت بدورها لعدم ترك الامر علي عواهنه للعسكر، سواء للقيام بالحروب او ادارتها او ايقافها او تجاوز حدود سلطاتهم، وبما في ذلك خضوعهم للمؤسسية في ادراة كافة شئونهم. عكس حالة مؤسستنا العسكرية وخصوصا بعد الانقاذ التي نزلت عليها تخريبا وتخبطا وادلجة، شأن بقية المؤسسات، لتنتج ثغرات نفذت منها قوات الدعم السريع وكذلك زيادة نفوذها. اي ما يتحدث عنه بروف عبدالله ليس مؤسسة عسكرية بالمعني الاحترافي للكلمة، حتي تنتج عنه مهام ودور احترافي، بما في ذلك ادارة الحرب الراهنة احترافيا! بدليل ان البرهان المتسبب الاول فيما آلت اليه الاوضاع ، هو نفسه من يبشرنا بالخلاص منها، ولكن من غير رؤية وقدرة واضحة. اي ببساطة مستقبل الدولة ومصير شعبها اصبح حقل تجارب لجاهل متبلد الاحساس، لا يُحسن فعل شئ حسُن، مع استعداد تام لفعل كل الاشاء السيئة.
خامسا، كيف لا يكون للسياسيون دور في الحرب؟ ونحن نعلم من التجارب الانسانية، ان هنالك حروب كان للضغوط السياسية والمدنية دور مؤثر ليس في ايقافها فحسب، وانما المساهمة الايجابية في ترتيبات ما بعد الحرب بما يمنع عودتها! وللاستاذ حمور زيادة مقال مبدع في هذه النوعية من المبادرات المدنية وحجم تاثيرها علي الحروب كما حدث في ليبريا (عودة الشيطان الي الجحيم)، وكذلك اشارة لدور الصورة في الحروب، مقال فيصل صالح المؤثر (الوطن محمولا علي كارو).
سادسا، هنالك ضباط كثر ضد الحرب ومع ايقافها، فاين يوضع هؤلاء ضمن تصنيفات البروف؟ كما ان البروف نفسه حريص علي بقاء الجيش من الانكسار لسلامة كيان الدولة، وكاحد مكونات الدولة الحديثة. وهو محق في ذلك، ولكن ليس هنالك ضمان لبقاء الجيش ضد احتمال الانكسار اكثر من ايقاف الحرب.
سابعا، الحروب نفسها غير عقلانية بل اقرب للحيوانية، وتاليا لا تشتعل بسبب العقل او التفكير، ولكن بسبب الاطماع والمخاوف، اي مصدرها العاطفة، ولكن العقل يتدخل في ادارتها او ايقافها. وعليه المطالبة بايقاف الحرب، هو نشاط عقلي، بل عقل فعِّال، يوازن بين خسائر الحرب وارباحها، قبل ان يتساءل هل هنالك مشكلة مجتمعية لا يمكن حلها إلا عبر الحروب؟ ام الحرب هي الجنون بعينه؟
اما حديثه العجيب عن اجادة العسكر المعرفة التكتيكية والاستراتيجية عكس السياسيين، بدلالة دراستها داخل مناهجهم العسكرية! فهو قول من شدة غرابته ادهش مقدم الحلقة احمد طه، وعلق عليه بالسخرية من واقع الحال الذي يتحكم فيه العسكر! اللهم إلا اذا كان معيار بروف عبدالله ابراهيم للتكتيك والاستراتيجية هي نجاحهم في الانقلابات، وتآمرهم علي الحكم المدني، وخلقهم للتناقضات بين المدنيين والاستثمار فيها (نموذج تحالف الموز واتفاقية جوبا)، وقناعتهم بتصورات فاسدة كالعنجهية الفارغة والوصاية السيادية وحيازة الامتيازات. وعموما هذا كلام غير صحيح، ولا يعني ان دراسة شئ تعني مباشرة امتلاكه، غض النظر عن قيمة الدراسة! بدلالة الكم الهائل بما يسمي خبراء استراتيجيون من صلب المؤسسة العسكرية ويحملون ارفع رتبها، ولكنهم ضباط علي درجة من السطحية والسذاجة والفقر المعرفي تثير الشفقة والسخرية! وكذلك تعاني المؤسسة العسكرية الفقر في القيادة، بدلالة وصول قادة مثل البشير والنميري والبرهان الي قمة هذه المؤسسة، وهم يفتقرون لابسط مهارات القيادة.
والسؤال الذي يفرض نفسه والحال كذلك، اين تكتيكات او استراتيجية هذه المؤسسة في الحرب الدائرة الآن، وهي بكل هذه الرتب الكبيرة التي لا توجد في مؤسسة مثلها في الكون؟ وعموما من الناحية العسكرية، فلم تتمكن هذه المؤسسة التي خاضت حروبها جميعا ضد حركات مسلحة داخلية، من الانتصار الحاسم في الحرب، لكي تفرض شروطها عليها. فهي بعد كم هائل من الخسائر علي كافة المستويات، تلجأ لاقتسام السلطة والثروة معها. وبمجرد تدبر هذه البديهة التي لا تحتاج لا لعقل بارد ولا لعقل ساخن، بل مجرد فطرة سليمة، يصبح السعي لايقاف هذه الحرب الدائرة الآن فرض عين واولوية، ولو باي ثمن، لان حسمها وكسبها عاجلا في حكم المستحيل، خاصة اذا ما قارنا قدرات الدعم السريع، واماكن تواجده داخل المدن، وما يجده من دعم خارجي، مع حركات مسلحة اقل قوة وتسليح وشراسة وهمجية وقدرة علي تدمير البلاد، ورغم ذلك لم تقدر المؤسسة العسكرية علي حسم الحرب ضدها بصورة منفردة. كما ان مجرد ايقاف الحرب، لا يعني انتهاء اسبابها او عدم تجددها او انتهاء كل تعقيداتها ضربة لازب، ولكنه يعني توافر الشروط النفسية والعقلية والعملية والمصلحية لمعالجة جذورها، اذا ما توافرت الكفاءات والجدية وصدقت النوايا.
وبالطبع يصعب تصديق عدم معرفة عبدالله علي ابراهيم، بان من يسعي لحسم المعركة ولو باي ثمن، هم الاسلامويون. ومؤكد دافعهم في ذلك ليس بقاء الدولة التي يتهددها وجود الدعم السريع، ولكن العودة مجددا للسلطة، للحفاظ علي امتيازتهم السابقة وتصفية حسابهم مع المعارضين ومشروع الثورة للتغيير.
وما يهم ويشكل ايحاء يمكن القبض عليه، لتعليل مواقف بروف عبدالله علي ابراهيم من الحرية والتغيير، والتي غالبا تتطابق مع مواقف الحزب الشيوعي الذي غادره لرحاب فكرية ومهنية اوسع. هو النظرة للسياسة والمعارضة والنقابات والنضال، كحق اصيل للحزب الشيوعي، يتطفل عليه السياسيون والمعارضون والمناضلون والنقابيون الآخرون! وهذا بدوره ما يجعل هذا الحزب وقياداته ومناصروه، اما يتصدرون العمل الجبهوي ويؤثرون فيه بفاعلية، وبما يراعي توجهاتهم، او يرفضونه (يحردونه مرة واحدة)، ويضخمون عيوبه، وصولا لارسال قذائف التخوين علي انصاره. اما ما يثير الحيرة ان الايديولوجية الشيوعية الخلاصية التي تاسسوا عليها فكريا ونفسيا، بقدر ما تطرح من شعارات انسانية واجتماعية وتزايد عليها، بقدر ما تدفع بالانسان والمجتمع الي مذابح التضحية الثورية، من اجل انجاز تصورات نظرية هلامية، تسكن في ابراج عقولهم العاجية (نموذج التغيير الجذري). والمفارقة ان ذات الوهم يشاركهم فيه العسكريون والاسلامويون، وهو ما يفسر التقاطعات التي تجمع بينهم في المنعطفات الحرجة، وهم يتشامخون كعقلاء وابطال ونزهاء.
واخيرا
اجد عدم ارتياح في تبرئة بروف عبدالله علي ابراهيم للاسلامويين بقيادة الترابي، من جريمة دم الشهيد محمود، ومؤامرة حل الحزب الشيوعي، او اقلاه عدم تحميلهم ما يليهم من مسؤولية تكافئ جرمهم. وذلك ليس ببينة تاريخية يملكها بروف عبدالله بوصفه باحث في هذا الشأن، ولكن من فهمي المحدود لشخصية الترابي ومسيرته السياسية، والذي يجيد نسج المؤامرات سواء بعدم ظهوره في مشهد الجريمة (خدعة اذهب للقصر الانقلابية)، او فهمه لنوعية من يتعامل معهم ومن ثمَّ كيفية استغلالهم (الازهري الصادق النميري). من هذه الوجهة لم تكن استغلال حادثة هامشية (سب السيدة عائشة غير المؤكدة) وتضخيمها وتوظيفها لاغراض سياسية، كحل الحزب الشيوعي كاخطر منافسيه، بعيدة عن نوعية مخططاته، ولا كذلك تاثيره علي القُضاة الشرعيين، وفهمه لحماقة نميري وطيشه واستعداده لارتكاب افظع الجرائم من اجل بقائه في السلطة. وكما يقال في التحري عن الجرائم، اسأل من المستفيد من مقتل الشهيد محمود؟ ومن الاقدر من الشهيد محمود علي كشف زيف الترابي واتباعه، وتاليا تعرية مشروعهم السياسي وتهديد اطماعهم السلطوية؟! ودمتم في رعاية الله.

 

آراء