عثرات السودان … للعنقاء أحلام

 


 

 

 

(1)

ليس ما شاعَ عند محللين سياسيين كثيرين، قبل أكثر من عقد، عن خرائط جديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مردّه رغبة دولٍ بعينها، أو زعامات في دولٍ كبرى، في أن يحلّ السلام محلّ الحرب في هذه المنطقة الملتهبة. ليست هي أجندات صاغها مفكرون، أو طرحتها مراكز دراسات، أو صاغتها مخابرات ذكية، تقرأ المستقبل وتتنبأ بتطور أحواله. لكنها، وهذا هو المهم، ليست تحولات عشوائية تتحكّم فيها أقدار غير مرئية، سقطت عليها من السماء. لا، ليس ذلك هو واقع الحال.
كانت ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018 في السودان حراكاً أسقط النظام الأطول عمراً والأكثر طغيانا وفسادا على المستوىين، الأفريقي والعربي، وهي ليست إلا جزءاً من حزمة تلك التطورات المتصلة بالخرائط الجديدة التي كان من المتوقع حدوثها في أكثر المناطق الموبوءة بالنزاعات والحروب الطاحنة والأزمات الإنسانية التي استعصتْ على الحل عقودا طويلة، على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية. ميّزت ثورة السودانيين نفسها بأكثر مما ميزت السمرة بشراتهم، فهي رسمت موسم ثورة متفردة، لا علاقة لها بمواسم الربيع العربي، إذ الربيع موسم لا يعرفه السودانيون في طقوسهم الطبيعية.

(2)
شكلتْ انتفاضة السودان صورة كاملة الإيجابيات، نظر إليها المجتمع الدولي بعيونٍ تجاوزت تلك الصورة الشائهة التي رأوا عليها السودان ثلاثة عقود مضت، بلداً يتحكم في أحواله نظامٌ منبوذ فاسد وفاشل. فيما ابتدر السودانيون، بعد ثورتهم المميزة، مرحلة إعادة بناء وطن مُنهك ومحطّم، وعلى شفا الانهيار التام، فقد كان من المقدّر أن تسهم البيئة الإقليمية والدولية في إسناد مساعي السودان لاستنهاض اقتصادي، يعيد إليه دوريه، الرّيادي والتاريخي، على مستوى إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إنْ لم نقل على المستوى الدولي، بحكم الثروات والموارد الطبيعية التي حبا الله بها بلاد السودانيين. ذلك الإسناد الذي صدر عن تعاطفٍ، لكنه بدا خجولا في نظر كثيرين.

ثورة ديسمبر في السودان جزء من حزمة التطورات المتصلة بالخرائط الجديدة المتوقع حدوثها في أكثر المناطق الموبوءة بالنزاعات والحروب الطاحنة

لكأنّ انتفاضة السودانيين التي أنهتْ نظام الطاغية الإسلاموي، عمر البشير، وبعد كلّ تجليات نجاحاتها، تركت حال السودان أشبه بحالِ بعض بلدان المنطقة التي هدّتها الحروب وجولات القتال شبه المجاني. في محيطه الحالي، تُحاصر السودان بلدان فاشلة ومنهارة، مثل اليمن إلى الشرق وليبيا إلى الغرب، تلقي بظلال أزماتها الإنسانية على السودان. لربما تتحمّل إدارة السودان الانتقالية، بمجلسيها السيادي والتنفيذي، تلك الأوزار والأخطاء والخطايا الثقيلة التي ارتكبها نظام "الإنقاذ" في تورطاته في كلٍّ من ليبيا واليمن، ويبقى ذلك من أقدار السودان السوداء.

(3)
إن كانت الظروف الإقليمية حول السودان بمثل كلّ هذا التعقيد، فإنّ الزيت ينصب على نيرانه ليزيدها التهابا، عبر أزمات وتحدّيات برزتْ على المستوى المحلي في الداخل، تكاد أن تقعد بحراك قيادة السودان الجديدة نحو الانطلاق الحقيقي إلى إعادة البناء. تضافرتْ أزمات المعيشة في الداخل من كلّ جانب، وبدأت مظاهر انهياراتها بما هو أسوأ مما قيل عن أحوال المجاعة في لبنان. ثم تتزايد عثرات تنفيذ ما أوكل للحكومة الانتقالية التي يقودها عبد الله حمدوك من مهام صاغتها مواثيق الثورة التي توافق عليها السودانيون، فلا نرى منجزاً ملموسا في ملف السلام الشامل في السودان، كما لا تتهيأ الظروف لإنشاء مجلس تشريعي يعين الحكومة الانتقالية ويتابع الأداء الحكومى.

الحراك المدني هدف إلى بناء نظام جديد في السودان، له صبغة مدنية واضحة ومسؤولة، تُبقى للجيش دوره الطبيعي في حماية البلاد

ولأن السودان الأشبه بالقارة الصغيرة ليس محصوراً في العاصمة الخرطوم، فإنّ الإسراع بترقية الأذرع الإدارية على مستوى ولايات السودان، والتي قد تخضع لخرائط جديدة لولايات البلاد، هي من الأولويات المهمة لتعزّز عبرها مدنية الحراك الذي هدف إلى بناء نظام جديد في السودان، له صبغة مدنية واضحة ومسؤولة، تُبقى للجيش دوره الطبيعي في حماية البلاد، وتبعده عن التوغل والتغول لحكم البلاد. المشاكسات الخفية بين مكوني ثورة السودانيين، المدني والعسكري، أطلت برأسها، فتشكل عثرة خطيرة من بين عثرات المرحلة.

(4)
على المستوى الإقليمي، ورثت الحكومة الانتقالية في السودان ملفاً من أعقد الملفات التي تركها النظام المُباد بين يديها، ملف سد النهضة الإثيوبي الذي صار تحدّياً يتصل بعلاقات البلاد مع جيرانها. لم يدُر في أفهام الثوار السودانيين الذين أنهوا نظام البشير أنه سيكون الزيت الذي ينصب من حيث لم يحتسب أحد، فيزيد النار التهابا. أسهمت إثيوبيا جارة السودان، وعن أخوة صادقة، إسهاما بيّناً في إنجاح انتفاضة السودانيين واستقرارها في الأشهر الأخيرة من عام 2019، ولم يفت على السودانيين تقدير هذا.

ورثت الحكومة الانتقالية ملفاً من أعقد الملفات التي تركها النظام المُباد بين يديها، سد النهضة

وقد كانت لتلك المساعي الإثيوبية المقدّرة في التقييم الذي أهّل رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، فنال جائزة نوبل للسلام. وساقت الأقدار السياسية لإثيوبيا أن تكون في حالة شدٍّ وجذب مع الخرطوم والقاهرة، حول سد النهضة الذي احتدم الخلاف بشأن جوانبه الفنية والسياسية، والذي يُخشى أن يصل إلى حوافّ المواجهات العسكرية التي لن تسلم من تبعاتها وآثارها كل مصر وإثيوبيا والسودان.

(5)
صار من أقدار السودان أن تتعثر مصائره، فما أن يتأهب للوقوف، إلا وتقعد به تحدّيات محبطة، وما أنْ يتأهّب لتحقيق سلام يحلّ بربوعه، إلا وتتضافر أيادي التحريض الخارجية لإفشاله، ثم ما أن يتأهّب للانطلاق الحقيقي إلى الرفعة والنماء، إلا وينتفض الظلاميون من أتباع النظام المباد يتصورون أنهم الفينيق الذي سينهض من ركام رماده، كما تقول الأساطير الإغريقية. أما الأمثال العربية القديمة فتتحدث عن عنقاء مغرب، والعنقاء طائر خرافي تبدّد أثره، ولم يبقَ عند الناس غير اسمه.
ما ينبغي أن يقال لرئيس الحكومة الانتقالية في السودان: إنّ التحديات تزدك مضاءً وقوة، ولا تضعف همتك.

Jamalim1@hotmail.com

 

 

آراء