عثمان ميرغني (الحكاية شنو)!!
عبدالله مكاوي
25 January, 2023
25 January, 2023
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ عثمان ميرغني من القلة الاسلامية، التي انتقدت مبكرا الحكومة الانقاذية. وان تم ذلك من موقع النقد المُلطف، الذي يحاول المحافظة علي الانقاذ دون الاضرار بالبلاد. وهي بالطبع معادلة في حكم المستحيل، الشئ الذي جعل نقده، والاصح نصحه لاصحابه، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
ومع استمرار الاخطاء والجرائم الانقاذية وتعاظم آثارها، اتخذ نصحه طابع النقد الشديد الذي تصاعد حتي قيام الثورة، ومن بعدها تواصل دعمه للتغيير ولكن علي طريقته الخاصة. اي تصوير التغيير وكأنه مجرد ذهاب الثوار للقصر واستلام السلطة، او إلتقاء الشركاء المتشاكسين علي كلمة سواء! اي التغيير يكفيه مجرد جلسة كباية شاي تحت ظلال اشجار صحيفة التيار.
بل من شدة براءته، كم مدح حكومة الجنرال عبود الانقلابية، وتصويرها وكانها الحسنة الوحيدة طوال تاريخنا السياسي (المُحبط حقا)، دون ان يضع في اعتباره، تاسيس انقلاب عبود لاكبر ابتلاء اعاق تطور الدولة السودانية، وهو لعنة الانقلابات العسكرية.
وبما انني ليس لدي ادني معرفة بظروف نشأته وصعوده السريع علي قمة العمل الصحفي، وصولا لامتلاكه صحيفة. ولكن يمكنني تصور ان مسيرته الحياتية والتعليمية والمهنية توافرت لها كل العوامل المساعدة والمريحة، ولم تختبر المعاناة والكدح والشقاء. وهو ما يبيح وصف شخصيته بانها اقرب للارستقراطية. اي شئ شبيه بما يتوافر في شخصية المرحوم الصادق المهدي وما رشح عن سيرة ماري انطوانيت.
ويبدو ان هذه الخلفية الارستقراطية هي ما تحكم تفكيره وخياراته وردود افعاله تجاه الاحداث. وغالبا هي سبب اختلافه عن بقية الاسلاميين، الذين هم اقرب لتربية الشوارع. الشئ الذي انعكس علي طريقة حكمهم الباطشة، ونهبهم النهم، وصلفهم وقسوتهم. اي طريقة حكمهم اقرب للانتقام والتشفي منها لحب السيطرة والتفوق.
والحال كذلك، نجد تناوله للقضايا وطرحه للحلول اقرب للنزعة الرومنسية، وطريقة المحبين في تصور مستقبلهم المشرق. ولذلك يبدو ان لعثمان ميرغني تصوره الخاص لحكم الاسلاميين ومن بعدهم للثورة والمرحلة الانتقالية وما اعقبها من انقلاب الجنرالات الجهلاء. وكأن كل هذه الدراما تجري في بلاد الغرب ومجتمعات اكتملت فيها مقومات الحياة المدنية والممارسة الديمقراطية ودولة المؤسسات وفصل السلطات، وليس في بلاد هي نموذج للفوضي والانحلال والفساد والاستبداد وكل متلازمة الانقلابات! وتاليا تحتاج لمعالجات من نوع مختلف يراعي كل هذه التحديات. والحالة هذه، ليس مصادفة ان تحيل صعوبة جسر هذه المسافة، الي وسم الحياة السياسية بالقدرية، وهي الخانة من المراوحة اليائسة التي يتحرك فيها عثمان ميرغني.
وصحيح ان اسلوب التناول وزاوية النظر تتعلق بخياراته ككاتب، ولكن مقالته الاخيرة (قدرية السياسة في السودان) تتخطي مسألة حرية الراي، الي تبني موقف ينحاز للمساعي المصرية في تدخلاتها السافرة في الشأن السوداني. اي هي ترقي للانحراف من سجال الراي الي ساحة التضليل الصريح! ولا نعلم هل الدوافع موقف مسبق ضد الاتفاق الاطاري، ام مظهر من مظاهر استلاب (عقد نقص) تعاني منها نخب مشدودة للدور المصري والمركزية العربية؟
فحديث عثمان ميرغني عن احجام مصر عن التدخل طوال الفترة الماضية مراعاة لحساسية موقفها (الاصح حساسية السودانيين لمواقفها وتدخلاتها) يثير الحيرة! فهل صحيح ان مصر لم تتدخل في الشأن السوداني، ام الصحيح انها لم تتوقف عن التدخل! وان تدخلاتها جميعها من النوعية التآمرية، ولذلك تتم في الظلام وبعيدا عن القنوات الدبلوماسية، ويتم حصرها في الشق الاستخباراتي، وعلي الاخص جانبه القذر.
ورغم ان حسن النية يفترض، ان عثمان ميرغني ينطلق في تصوره من رؤية المثالية، عن اهمية قبول الدعوة المصرية لورشة تستهدف جمع مركزيتي الحرية والتغيير علي صعيد واحد يسمح بتجاوز الازمة الراهنة! إلا ان حسن النية مهما بلغت غفلته، ليس في وسعه تصديق، ان كاتب بحجم عثمان ميرغني، سلخ عمره في مهنة الصحافة ومتابعة الشان السوداني عن قرب، ودعمه المعلن للثورة. عدم علمه بخبايا ودوافع الدعوة المصرية في هذا التوقيت بالذات! وهو ما يدعو للحيرة في امر هذا العثمان! بل وتصديق ان جزء من هذه التصورات المفارقة التي يعتنقها، يتعلق بان وعيه بالازمة الوطنية ينحصر في افتقاد رجل دولة او قائد يتمتع بكل المؤهلات التي تمكنه بالخروج بالبلاد من ازمتها، وهو بالطبع السيد عثمان ميرغني! وهذا هو سبب موقفه السلبي من حمدوك كما سبق واشار الكاتب محمد عبدالماجد. والحال كذلك، اذا صح ان هنالك شخص واحد لا يصلح لقيادة الدولة السودانية، لكان هذا الشخص هو عثمان ميرغني بموقفه الاخير من الدعوة المصرية! وإلا لتنازلنا عن بلادنا طوعا وسلمناها هدية مجانية للدولة المصرية الطامعة (واستحقينا دور البوابين علي مدخلها).
ولحسن الحظ ان الجميع (ما عدا عثمان ميرغني بالطبع) وبما فيهم تحالف الموز ومصر الرسمية، يعلمون مغزي الدعوة المصرية! فتحالف الموز يرفض الاتفاق الاطاري مبدئيا، ناهيك عن اصلاحه او تقويمه، إلا اذا كان المقصود بذلك افراغه من محتواه. والسبب ببساطة ان قادة تحالف الموز وعلي الاخص حركات جبريل ومناوي وعقار، يستفيدون من فوضي الانقلاب ورعاية المكون العسكري، في تحقيق مآربهم السلطوية والمالية من دون رقابة او مساءلة. ومؤكد ان اي تحجيم لهذا النفوذ يضر بمصالحهم الخاصة، وهنا مربط الفرس، وليس المصلحة العامة ومشاركة الجميع ونبذ الاقصاء، وغيرها من المبررات التي لا تتطابق مع سلوكهم السياسي وقيمهم الاخلاقية. وعليه، كل مواقف وردات فعل تحالف الموز من كل مقترحات الحلول، تصب في خانة تخريب اي معالجات مهما كانت موضوعية، طالما لا تخدم استمرار اتفاقية جوبا بعلاتها وتوازنات القوي التي صنعها الانقلاب الارعن، والتي تمكنهم من مصادرة خيارات وحقوق الآخرين، ولو كان الثمن ابقاء البلاد في حالة عدم استقرار وبؤس علي الدوام. وخصوصا ان اي اعتماد لمعايير الكفاءة والخبرات والمؤسسية في ادارة الدولة وفرض الرقابة علي مواردها، سيقذف بها خارج المشهد. وبالطبع السبب يعود لان طريقة تكوين واسلوب ادارة ودوافع كل مكونات تحالف الموز وعلي الاخص الحركات المسلحة، هو خليط من الثقافة القبلية ونهج الرباطة ومنازع تصفية حسابات تاريخية (فش غبينة) لا يصدف انها متوهمة (ولكنها فعَّالة كعدة شغل لكسب البسطاء، واستخدامهم وقود لحروباتها وقرابين لمشاريعها الخاصة). ومؤكد مصر الرسمية بخبرتها السياسية وعلمها بخفايا السياسة الداخلية (كجزء اصيل مكون لها)، تعلم كل شئ عن تحالف الموز ورغباته، والاهم كيفية استغلاله؟ وهذا هو المدخل الاساس للدعوة المصرية، التي يقدم لها عثمان ميرغني كل الدعم وفروض الطاعة، بل ويدعو الآخرين لمشاركته الحماس! وهو يعتقد في ذلك قمة العقلانية التي تسمو علي العاطفية السودانية (تجهل مصلحتها) المعرقلة للدعوة، وتاليا عدم الاستقرار الذي يجهض الاتفاق الاطاري!!
اما عن الدور المصري، اذا صدقنا ان عثمان ميرغني يجهل تاريخ العلاقة المصرية السودانية، التي حكمها الاستغلال المصري لموارد الدولة السودانية والاستعلاء علي شعبها والابتزاز لجنرلاتها الانقلابيين غير الشرعيين. اي باختصار استباحة البلاد عبر اساليب التخريب السلطوي (دعم الانقلابات) وشراء النخب الرخوة، وعمل المستحيل لاجهاض اي تطورات سياسية او نهضة اقتصادية او تنمية اجتماعية. وبما في ذلك غمر الاراضي السودانية بمياه السد العالي (اكبر مشروع تنموي مصري)، من دون تقديم ادني مساهمة تنموية، ولو بناء روضة اطفال او شفخانة او مزرعة حيوان او حوض برسيم او انارة لمبة، في اقرب المناطق لها (الولاية الشمالية كاكثر الولايات بؤسا وصمتا علي بؤسها)، وهذا ناهيك ان اتفاقية المياه الجائرة! فهل في وسعنا تصديق عدم علم عثمان ميرغني باحتلال مصر لاراضٍ سودانية عنوة وحمرة عين؟! ولا كذلك علمه باكبر جريمتين معاصرتين في حق الشعب والدولة السودانية (مجزرة الاعتصام وانقلاب البرهان حميدتي)، تتفق كل الشبهات علي الدور الاساس للمخابرات والحكومة المصرية في ارتكابها، رغم اساليب الاستهبال التي تصدر عن الدبلوماسية المصرية علي طريقة (يقتل القتيل ويمشي في جنازته)؟! ولا كذلك دعمه للبشير قبل اسقاطه، ومحاربته الثورة بكل الوسائل منذ اندلاعها ولحين اجهاضها بواسطة رجل مصر الاول في السودان الجنرال البرهان؟!
والسؤال المهم، هل مصر الرسمية بحالتها الراهنة قادرة علي حل مشاكلها، حتي تصبح مؤهلة لحل مشاكل غيرها؟
فمصر منذ اجهاض ثورتها العظيمة، بواسطة الجنرال الدموي عبدالفتاح السيسي، دخلت نفق مظلم من التسلط والارهاب السياسي والتردي الاقتصادي. خاصة بعد استعادة السلطوية الاستبدادية بشقيها العسكري والاستخباراتي/الامني كامل فضاء الدولة المصرية مجددا، لتصادر ليس ممكنات اصلاح الحالة المصرية المتدهورة الراهنة، ولكن حتي احتمالات الاصلاح المستقبلية، بعد قمع الاصوات الناقدة، واعتقال كل المعارضين. لدرجة وصل فيها الارهاب في مصر، ان الوزراء يقفون انتباه امام الجنرال السيسي كالمجندين، وهو يسعد باذلالاهم واحراجهم وتحميلهم كل اوجه القصور! وكذلك مخاطبة الحشود من المسؤولين وهم خلف ظهره كسائق الحافلة، وهو يسرد عليهم مجموعة من الخطب والاحاديث اقل ما توصف به انها درجة متدنية من الجهل والسخافات. وهذا ناهيك عن حكمه علي الاعلام بالتطبيل المثير للاشمئزاز! كما انه بكل سهولة يلقي مسئولية فشله علي الشعب، وتصوير انينه وشكواه من وطـأة حكمه وتجويعه (بالهري).
كما ان انجاز الجنرال السيسي الوحيد، اذا صح انه انجاز، هو العمران، وبما فيه كثرة انشاء السجون، والمشاريع الدعائية عديمة الجدوي الاقتصادية (نموذج العاصمة الادارية)، ولكنها تلبي من جهة مصالح شركات الجيش، ومن جهة منازع العظمة التي تتضخم لدي الجنرالات البلهاء. وكأن عظمة المشروع دلالة علي عظمة جنابه، غض النظر عن الجدوي الاقتصادية والاولويات الحياتية للشعب المصري. وكانت النتيجة تصاعد معدل الديون ونسبة فوائدها لارقام فلكية، عجزت عن الوفاء بالتزاماتها حكومة السيسي الموقرة، وهو ما انعكس علي زيادة حجم التضخم وتردي الحالة المعيشية للاسرة المصرية البسيطة. رغم انها الشريحة الغالبة التي لم تفارق درجة الكفاف يوما في ظل الاستبداد الذي حكمها كقدرها. والشاهد ان اخطاء وكوارث وتضخم امتيازات الجنرال السيسي ورهطه العساكر، جردتها حتي من آليات التكيُّف مع حالة الكفاف التي رزحت فيها طوال تاريخها.
ويبدو ان الاطماع وجنون العظمة، هي ما دفعت الجنرال السيسي بقلة وعيه وتدني كفاءته، لاجهاض الثورة المصرية، وتحطيم آمال المصريين في الخلاص من حالة الرق السلطوعسكرية، والانفتاح علي عالم من الحرية وحقوق الانسان والتنمية المستدامة. وهي ذاتها ما جعلته مجرد بيدق وراس رمح لقوي الشر والثورة المضادة، لاجهاض احلام الشعوب في كل من السودان وليبيا، في التحرر والانعتاق والاستمتاع بثرواتها. وذلك بالتآمر وبذل الجهد والسهر علي إغراق ثوراتها في الفشل والدماء بتوظيف عنف العسكر والمليشيات. عبر التلاعب بمخيلات وقلة وعي كبار الجنرالات، واللعب علي نقطة ضعفهم، اي تحريك اطماعهم وإثارة مخاوفهم، ودفعهم لإقتفاء اثر حكمتهم العسكرية المعطوبة، وهي تعظيم الدوافع الامنية علي حساب الحقوق المدنية.
وما يحير في العلاقة السودانية المصرية، ان السودان اصلا لا يحتاج لمصر وليس لديه مصالح فيها، او حتي لو وجدت فهي لا تذكر. بل المصلحة اليتمية للسودان لدي مصر هي كف شرها وتدخلاتها. عكس مصر التي تحتاج للسودان وما يستمتع به من موارد تثير الحسد والطمع. وبدل ان يستفيد السودان من هذه الميزات التفضلية، في فرض شروطه ومصالحه علي مصر من موقع القوة والسيادة. نجد ما حدث هو العكس تماما، بعد ان ابتلي الله السودان بنخب سياسية هشة تقدم مصالحها الخاصة، ومؤسسة عسكرية تحتشد بالجنرالات المزيفين، الذين تسهل السيطرة عليهم واستغلالهم، عقب دفعهم للتورط في صراعات السلطة واحتكار الامتيازات، ومن بعدها عمل كل شئ من اجل المحافظة عليها، وعلي راس ذلك ارضاء مصر الرسمية.
وما يثير الغيظ ان التجربة السياسية لاثيوبيا الجارة، رغم كل ما يكتنفها من صعوبات، والتي لا تملك عشر ما نمتلكه من مصادر القوة. قدمت نموذج صارخ لاهمية انتخاب القيادة واجتماع الامة علي المصلحة العامة، في فرض شروطها واجبار مصر الرسمية ليس علي الخضوع فقط، وانما البحث عن الوسطاء لمجرد اقناع اثيوبيا بقبول التفاوض علي الخلافات بشأن سد النهضة. والحال كذلك، صعب جدا نجد في اثيوبيا بتعدد اعراقها وعدد سكانها الذي يفوق مائة مليوين نسمة، نماذج صحفية من عينة عثمان ميرغني او محمد محمد خير او الهندي عزالدين!
وبناء علي ما سلف، مؤكد ان الدولة السودانية بحالتها الراهنة، ليست في وارد تحدي مصر ناهيك عن فرض مصالحها. ولكن الاكثر تاكيد ان الطريق لامتلاك السودان مصيره، رهين بامتلاك الشعب لهذا المصير، عبر بناء دولة المواطنة بدستورها الدائم وإحداث تنمية شاملة واعتماد الديمقراطية كوسيلة لتبادل السلطة والتزام المؤسسة العسكرية بدورها الاحترافي. اي باختصار ارتقاء الجميع لمستوي مسؤولية بناء الدولة والنهوض بالمجتمع، بدل عن هذا الصراع الفوضوي والاطماع الصبيانية.
والحال كذلك، طريق الخلاص في ظرفنا الراهن يستحيل عليه المرور بورشة مصر، او الرهان علي تحالف الموز، او الركون لوعود العسكر، او اعطاء الامان للكيزان. ولكنه يعتمد علي طرحين يستحقان الالتفاف حولهما، والافضل الجمع بينهما. وهما طريق الاتفاق الاطاري كحل سياسي وهو الانسب (ممكن)، والشارع كحل ثوري وهو الامثل (شبه مستحيل). وبما ان هذين الطرحان يجدان مقاومة من قبل العسكر وتحالف الموز، فتصبح نقطة الالتقاء لتكثيف الجهود من جانب قوي التغيير، هي الاتفاق علي دعم طرفا الثورة والعمل علي ازالة التناقضات بينهما، او اقلاها الابتعاد عن توسيع شقة الخلاف. بدل تشتيت الجهود في الانسياق وراء الاعيب اعداء الثورة والتغيير سواء كانوا جنرالات او تحالف موز او قوي اقليمية. وهذا لا يمنع تنوير قواعد تحالف الموز وصغار العساكر، بحقيقة مصالحهم ومن يدافع عنها، بدل الانكفاء الاعمي لخدمة مصالح القادة وعائلاتهم واقربائهم واصدقائهم. اي مصالحهم تعبر عنها سلطة يختارونها، ودولة يحكمها دستور يحفظ حقوقهم. كما ان ذات الظرف الراهن لا يسمح بمعاداة مصر او فتح جبهة تحدي تجاهها، ولكن اقصي ما يمكن عمله في هذا الشان هو تحييد الدور المصري، رغم صعوبة ذلك في ظل توازن القوي المختل.
وهذان الجهدان في الداخل والخارج، هما مدار الجهد والتعريف والتبصير (دور صحافة الثورة اذا جاز التعبير)، وهو ما يحتاج بدوره من عثمان ميرغني نزع رداءه الارستقراطي، والخوض مع الجميع في قلب الوحل والطين والفوضي، حتي يملك ادوات البناء، اذا صح ان الهمَّ العام هو بناء دولة من العدم.
واخيرا
واحدة من مظاهر الانحطاط، اللغة السوقية علي افواه ما يسمي قادة الامر الواقع! فمن يصدق قائد عام للقوات المسلحة ورئيس مجلس سيادة (راس الدولة بكل رمزيته) يصف القوات المسلحة بالكلبة الوالدة في معرض دفاعه عن امتيازات جنرالاتها وعدم مساءلتهم، او مساءلة اداء وتاريخ هذه القوات التي ادمنت الانقلابات! والحالة هذه، من الظلم قصر الوصف علي القوات المسلحة، لانه اليق بقادة الحركات المسلحة، الذين يدافعون عن امتيازات اتفاقية جوبا بذات الطريقة، بل اسوأ من ذلك بكثير. رغما عن، ان الاتفاقية المعيبة لم تصنع سلاما في دارفور، ولكنها خلقت فتن في كل ولايات السودان، وبما في ذلك المركز، الذي اصبح بقدرة قادر، مقر وسكن لهؤلاء القادة وعائلاتهم وقواتهم واستثماراتهم.
وبعيدا عن هذه الاحباطات كم اسعدتني قائمة الصحفيين الذين يدعمون الاتفاق الاطاري، ويكفي ان مجرد إكتحال عينك باي اسم منهم، يترك في نفسك اثر طيب واحترام مستحق، فمعظمهم بني تاريخه واحترقت انامله وهي يمسك علي جمر القضية الوطنية. ودمتم في رعاية الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ عثمان ميرغني من القلة الاسلامية، التي انتقدت مبكرا الحكومة الانقاذية. وان تم ذلك من موقع النقد المُلطف، الذي يحاول المحافظة علي الانقاذ دون الاضرار بالبلاد. وهي بالطبع معادلة في حكم المستحيل، الشئ الذي جعل نقده، والاصح نصحه لاصحابه، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
ومع استمرار الاخطاء والجرائم الانقاذية وتعاظم آثارها، اتخذ نصحه طابع النقد الشديد الذي تصاعد حتي قيام الثورة، ومن بعدها تواصل دعمه للتغيير ولكن علي طريقته الخاصة. اي تصوير التغيير وكأنه مجرد ذهاب الثوار للقصر واستلام السلطة، او إلتقاء الشركاء المتشاكسين علي كلمة سواء! اي التغيير يكفيه مجرد جلسة كباية شاي تحت ظلال اشجار صحيفة التيار.
بل من شدة براءته، كم مدح حكومة الجنرال عبود الانقلابية، وتصويرها وكانها الحسنة الوحيدة طوال تاريخنا السياسي (المُحبط حقا)، دون ان يضع في اعتباره، تاسيس انقلاب عبود لاكبر ابتلاء اعاق تطور الدولة السودانية، وهو لعنة الانقلابات العسكرية.
وبما انني ليس لدي ادني معرفة بظروف نشأته وصعوده السريع علي قمة العمل الصحفي، وصولا لامتلاكه صحيفة. ولكن يمكنني تصور ان مسيرته الحياتية والتعليمية والمهنية توافرت لها كل العوامل المساعدة والمريحة، ولم تختبر المعاناة والكدح والشقاء. وهو ما يبيح وصف شخصيته بانها اقرب للارستقراطية. اي شئ شبيه بما يتوافر في شخصية المرحوم الصادق المهدي وما رشح عن سيرة ماري انطوانيت.
ويبدو ان هذه الخلفية الارستقراطية هي ما تحكم تفكيره وخياراته وردود افعاله تجاه الاحداث. وغالبا هي سبب اختلافه عن بقية الاسلاميين، الذين هم اقرب لتربية الشوارع. الشئ الذي انعكس علي طريقة حكمهم الباطشة، ونهبهم النهم، وصلفهم وقسوتهم. اي طريقة حكمهم اقرب للانتقام والتشفي منها لحب السيطرة والتفوق.
والحال كذلك، نجد تناوله للقضايا وطرحه للحلول اقرب للنزعة الرومنسية، وطريقة المحبين في تصور مستقبلهم المشرق. ولذلك يبدو ان لعثمان ميرغني تصوره الخاص لحكم الاسلاميين ومن بعدهم للثورة والمرحلة الانتقالية وما اعقبها من انقلاب الجنرالات الجهلاء. وكأن كل هذه الدراما تجري في بلاد الغرب ومجتمعات اكتملت فيها مقومات الحياة المدنية والممارسة الديمقراطية ودولة المؤسسات وفصل السلطات، وليس في بلاد هي نموذج للفوضي والانحلال والفساد والاستبداد وكل متلازمة الانقلابات! وتاليا تحتاج لمعالجات من نوع مختلف يراعي كل هذه التحديات. والحالة هذه، ليس مصادفة ان تحيل صعوبة جسر هذه المسافة، الي وسم الحياة السياسية بالقدرية، وهي الخانة من المراوحة اليائسة التي يتحرك فيها عثمان ميرغني.
وصحيح ان اسلوب التناول وزاوية النظر تتعلق بخياراته ككاتب، ولكن مقالته الاخيرة (قدرية السياسة في السودان) تتخطي مسألة حرية الراي، الي تبني موقف ينحاز للمساعي المصرية في تدخلاتها السافرة في الشأن السوداني. اي هي ترقي للانحراف من سجال الراي الي ساحة التضليل الصريح! ولا نعلم هل الدوافع موقف مسبق ضد الاتفاق الاطاري، ام مظهر من مظاهر استلاب (عقد نقص) تعاني منها نخب مشدودة للدور المصري والمركزية العربية؟
فحديث عثمان ميرغني عن احجام مصر عن التدخل طوال الفترة الماضية مراعاة لحساسية موقفها (الاصح حساسية السودانيين لمواقفها وتدخلاتها) يثير الحيرة! فهل صحيح ان مصر لم تتدخل في الشأن السوداني، ام الصحيح انها لم تتوقف عن التدخل! وان تدخلاتها جميعها من النوعية التآمرية، ولذلك تتم في الظلام وبعيدا عن القنوات الدبلوماسية، ويتم حصرها في الشق الاستخباراتي، وعلي الاخص جانبه القذر.
ورغم ان حسن النية يفترض، ان عثمان ميرغني ينطلق في تصوره من رؤية المثالية، عن اهمية قبول الدعوة المصرية لورشة تستهدف جمع مركزيتي الحرية والتغيير علي صعيد واحد يسمح بتجاوز الازمة الراهنة! إلا ان حسن النية مهما بلغت غفلته، ليس في وسعه تصديق، ان كاتب بحجم عثمان ميرغني، سلخ عمره في مهنة الصحافة ومتابعة الشان السوداني عن قرب، ودعمه المعلن للثورة. عدم علمه بخبايا ودوافع الدعوة المصرية في هذا التوقيت بالذات! وهو ما يدعو للحيرة في امر هذا العثمان! بل وتصديق ان جزء من هذه التصورات المفارقة التي يعتنقها، يتعلق بان وعيه بالازمة الوطنية ينحصر في افتقاد رجل دولة او قائد يتمتع بكل المؤهلات التي تمكنه بالخروج بالبلاد من ازمتها، وهو بالطبع السيد عثمان ميرغني! وهذا هو سبب موقفه السلبي من حمدوك كما سبق واشار الكاتب محمد عبدالماجد. والحال كذلك، اذا صح ان هنالك شخص واحد لا يصلح لقيادة الدولة السودانية، لكان هذا الشخص هو عثمان ميرغني بموقفه الاخير من الدعوة المصرية! وإلا لتنازلنا عن بلادنا طوعا وسلمناها هدية مجانية للدولة المصرية الطامعة (واستحقينا دور البوابين علي مدخلها).
ولحسن الحظ ان الجميع (ما عدا عثمان ميرغني بالطبع) وبما فيهم تحالف الموز ومصر الرسمية، يعلمون مغزي الدعوة المصرية! فتحالف الموز يرفض الاتفاق الاطاري مبدئيا، ناهيك عن اصلاحه او تقويمه، إلا اذا كان المقصود بذلك افراغه من محتواه. والسبب ببساطة ان قادة تحالف الموز وعلي الاخص حركات جبريل ومناوي وعقار، يستفيدون من فوضي الانقلاب ورعاية المكون العسكري، في تحقيق مآربهم السلطوية والمالية من دون رقابة او مساءلة. ومؤكد ان اي تحجيم لهذا النفوذ يضر بمصالحهم الخاصة، وهنا مربط الفرس، وليس المصلحة العامة ومشاركة الجميع ونبذ الاقصاء، وغيرها من المبررات التي لا تتطابق مع سلوكهم السياسي وقيمهم الاخلاقية. وعليه، كل مواقف وردات فعل تحالف الموز من كل مقترحات الحلول، تصب في خانة تخريب اي معالجات مهما كانت موضوعية، طالما لا تخدم استمرار اتفاقية جوبا بعلاتها وتوازنات القوي التي صنعها الانقلاب الارعن، والتي تمكنهم من مصادرة خيارات وحقوق الآخرين، ولو كان الثمن ابقاء البلاد في حالة عدم استقرار وبؤس علي الدوام. وخصوصا ان اي اعتماد لمعايير الكفاءة والخبرات والمؤسسية في ادارة الدولة وفرض الرقابة علي مواردها، سيقذف بها خارج المشهد. وبالطبع السبب يعود لان طريقة تكوين واسلوب ادارة ودوافع كل مكونات تحالف الموز وعلي الاخص الحركات المسلحة، هو خليط من الثقافة القبلية ونهج الرباطة ومنازع تصفية حسابات تاريخية (فش غبينة) لا يصدف انها متوهمة (ولكنها فعَّالة كعدة شغل لكسب البسطاء، واستخدامهم وقود لحروباتها وقرابين لمشاريعها الخاصة). ومؤكد مصر الرسمية بخبرتها السياسية وعلمها بخفايا السياسة الداخلية (كجزء اصيل مكون لها)، تعلم كل شئ عن تحالف الموز ورغباته، والاهم كيفية استغلاله؟ وهذا هو المدخل الاساس للدعوة المصرية، التي يقدم لها عثمان ميرغني كل الدعم وفروض الطاعة، بل ويدعو الآخرين لمشاركته الحماس! وهو يعتقد في ذلك قمة العقلانية التي تسمو علي العاطفية السودانية (تجهل مصلحتها) المعرقلة للدعوة، وتاليا عدم الاستقرار الذي يجهض الاتفاق الاطاري!!
اما عن الدور المصري، اذا صدقنا ان عثمان ميرغني يجهل تاريخ العلاقة المصرية السودانية، التي حكمها الاستغلال المصري لموارد الدولة السودانية والاستعلاء علي شعبها والابتزاز لجنرلاتها الانقلابيين غير الشرعيين. اي باختصار استباحة البلاد عبر اساليب التخريب السلطوي (دعم الانقلابات) وشراء النخب الرخوة، وعمل المستحيل لاجهاض اي تطورات سياسية او نهضة اقتصادية او تنمية اجتماعية. وبما في ذلك غمر الاراضي السودانية بمياه السد العالي (اكبر مشروع تنموي مصري)، من دون تقديم ادني مساهمة تنموية، ولو بناء روضة اطفال او شفخانة او مزرعة حيوان او حوض برسيم او انارة لمبة، في اقرب المناطق لها (الولاية الشمالية كاكثر الولايات بؤسا وصمتا علي بؤسها)، وهذا ناهيك ان اتفاقية المياه الجائرة! فهل في وسعنا تصديق عدم علم عثمان ميرغني باحتلال مصر لاراضٍ سودانية عنوة وحمرة عين؟! ولا كذلك علمه باكبر جريمتين معاصرتين في حق الشعب والدولة السودانية (مجزرة الاعتصام وانقلاب البرهان حميدتي)، تتفق كل الشبهات علي الدور الاساس للمخابرات والحكومة المصرية في ارتكابها، رغم اساليب الاستهبال التي تصدر عن الدبلوماسية المصرية علي طريقة (يقتل القتيل ويمشي في جنازته)؟! ولا كذلك دعمه للبشير قبل اسقاطه، ومحاربته الثورة بكل الوسائل منذ اندلاعها ولحين اجهاضها بواسطة رجل مصر الاول في السودان الجنرال البرهان؟!
والسؤال المهم، هل مصر الرسمية بحالتها الراهنة قادرة علي حل مشاكلها، حتي تصبح مؤهلة لحل مشاكل غيرها؟
فمصر منذ اجهاض ثورتها العظيمة، بواسطة الجنرال الدموي عبدالفتاح السيسي، دخلت نفق مظلم من التسلط والارهاب السياسي والتردي الاقتصادي. خاصة بعد استعادة السلطوية الاستبدادية بشقيها العسكري والاستخباراتي/الامني كامل فضاء الدولة المصرية مجددا، لتصادر ليس ممكنات اصلاح الحالة المصرية المتدهورة الراهنة، ولكن حتي احتمالات الاصلاح المستقبلية، بعد قمع الاصوات الناقدة، واعتقال كل المعارضين. لدرجة وصل فيها الارهاب في مصر، ان الوزراء يقفون انتباه امام الجنرال السيسي كالمجندين، وهو يسعد باذلالاهم واحراجهم وتحميلهم كل اوجه القصور! وكذلك مخاطبة الحشود من المسؤولين وهم خلف ظهره كسائق الحافلة، وهو يسرد عليهم مجموعة من الخطب والاحاديث اقل ما توصف به انها درجة متدنية من الجهل والسخافات. وهذا ناهيك عن حكمه علي الاعلام بالتطبيل المثير للاشمئزاز! كما انه بكل سهولة يلقي مسئولية فشله علي الشعب، وتصوير انينه وشكواه من وطـأة حكمه وتجويعه (بالهري).
كما ان انجاز الجنرال السيسي الوحيد، اذا صح انه انجاز، هو العمران، وبما فيه كثرة انشاء السجون، والمشاريع الدعائية عديمة الجدوي الاقتصادية (نموذج العاصمة الادارية)، ولكنها تلبي من جهة مصالح شركات الجيش، ومن جهة منازع العظمة التي تتضخم لدي الجنرالات البلهاء. وكأن عظمة المشروع دلالة علي عظمة جنابه، غض النظر عن الجدوي الاقتصادية والاولويات الحياتية للشعب المصري. وكانت النتيجة تصاعد معدل الديون ونسبة فوائدها لارقام فلكية، عجزت عن الوفاء بالتزاماتها حكومة السيسي الموقرة، وهو ما انعكس علي زيادة حجم التضخم وتردي الحالة المعيشية للاسرة المصرية البسيطة. رغم انها الشريحة الغالبة التي لم تفارق درجة الكفاف يوما في ظل الاستبداد الذي حكمها كقدرها. والشاهد ان اخطاء وكوارث وتضخم امتيازات الجنرال السيسي ورهطه العساكر، جردتها حتي من آليات التكيُّف مع حالة الكفاف التي رزحت فيها طوال تاريخها.
ويبدو ان الاطماع وجنون العظمة، هي ما دفعت الجنرال السيسي بقلة وعيه وتدني كفاءته، لاجهاض الثورة المصرية، وتحطيم آمال المصريين في الخلاص من حالة الرق السلطوعسكرية، والانفتاح علي عالم من الحرية وحقوق الانسان والتنمية المستدامة. وهي ذاتها ما جعلته مجرد بيدق وراس رمح لقوي الشر والثورة المضادة، لاجهاض احلام الشعوب في كل من السودان وليبيا، في التحرر والانعتاق والاستمتاع بثرواتها. وذلك بالتآمر وبذل الجهد والسهر علي إغراق ثوراتها في الفشل والدماء بتوظيف عنف العسكر والمليشيات. عبر التلاعب بمخيلات وقلة وعي كبار الجنرالات، واللعب علي نقطة ضعفهم، اي تحريك اطماعهم وإثارة مخاوفهم، ودفعهم لإقتفاء اثر حكمتهم العسكرية المعطوبة، وهي تعظيم الدوافع الامنية علي حساب الحقوق المدنية.
وما يحير في العلاقة السودانية المصرية، ان السودان اصلا لا يحتاج لمصر وليس لديه مصالح فيها، او حتي لو وجدت فهي لا تذكر. بل المصلحة اليتمية للسودان لدي مصر هي كف شرها وتدخلاتها. عكس مصر التي تحتاج للسودان وما يستمتع به من موارد تثير الحسد والطمع. وبدل ان يستفيد السودان من هذه الميزات التفضلية، في فرض شروطه ومصالحه علي مصر من موقع القوة والسيادة. نجد ما حدث هو العكس تماما، بعد ان ابتلي الله السودان بنخب سياسية هشة تقدم مصالحها الخاصة، ومؤسسة عسكرية تحتشد بالجنرالات المزيفين، الذين تسهل السيطرة عليهم واستغلالهم، عقب دفعهم للتورط في صراعات السلطة واحتكار الامتيازات، ومن بعدها عمل كل شئ من اجل المحافظة عليها، وعلي راس ذلك ارضاء مصر الرسمية.
وما يثير الغيظ ان التجربة السياسية لاثيوبيا الجارة، رغم كل ما يكتنفها من صعوبات، والتي لا تملك عشر ما نمتلكه من مصادر القوة. قدمت نموذج صارخ لاهمية انتخاب القيادة واجتماع الامة علي المصلحة العامة، في فرض شروطها واجبار مصر الرسمية ليس علي الخضوع فقط، وانما البحث عن الوسطاء لمجرد اقناع اثيوبيا بقبول التفاوض علي الخلافات بشأن سد النهضة. والحال كذلك، صعب جدا نجد في اثيوبيا بتعدد اعراقها وعدد سكانها الذي يفوق مائة مليوين نسمة، نماذج صحفية من عينة عثمان ميرغني او محمد محمد خير او الهندي عزالدين!
وبناء علي ما سلف، مؤكد ان الدولة السودانية بحالتها الراهنة، ليست في وارد تحدي مصر ناهيك عن فرض مصالحها. ولكن الاكثر تاكيد ان الطريق لامتلاك السودان مصيره، رهين بامتلاك الشعب لهذا المصير، عبر بناء دولة المواطنة بدستورها الدائم وإحداث تنمية شاملة واعتماد الديمقراطية كوسيلة لتبادل السلطة والتزام المؤسسة العسكرية بدورها الاحترافي. اي باختصار ارتقاء الجميع لمستوي مسؤولية بناء الدولة والنهوض بالمجتمع، بدل عن هذا الصراع الفوضوي والاطماع الصبيانية.
والحال كذلك، طريق الخلاص في ظرفنا الراهن يستحيل عليه المرور بورشة مصر، او الرهان علي تحالف الموز، او الركون لوعود العسكر، او اعطاء الامان للكيزان. ولكنه يعتمد علي طرحين يستحقان الالتفاف حولهما، والافضل الجمع بينهما. وهما طريق الاتفاق الاطاري كحل سياسي وهو الانسب (ممكن)، والشارع كحل ثوري وهو الامثل (شبه مستحيل). وبما ان هذين الطرحان يجدان مقاومة من قبل العسكر وتحالف الموز، فتصبح نقطة الالتقاء لتكثيف الجهود من جانب قوي التغيير، هي الاتفاق علي دعم طرفا الثورة والعمل علي ازالة التناقضات بينهما، او اقلاها الابتعاد عن توسيع شقة الخلاف. بدل تشتيت الجهود في الانسياق وراء الاعيب اعداء الثورة والتغيير سواء كانوا جنرالات او تحالف موز او قوي اقليمية. وهذا لا يمنع تنوير قواعد تحالف الموز وصغار العساكر، بحقيقة مصالحهم ومن يدافع عنها، بدل الانكفاء الاعمي لخدمة مصالح القادة وعائلاتهم واقربائهم واصدقائهم. اي مصالحهم تعبر عنها سلطة يختارونها، ودولة يحكمها دستور يحفظ حقوقهم. كما ان ذات الظرف الراهن لا يسمح بمعاداة مصر او فتح جبهة تحدي تجاهها، ولكن اقصي ما يمكن عمله في هذا الشان هو تحييد الدور المصري، رغم صعوبة ذلك في ظل توازن القوي المختل.
وهذان الجهدان في الداخل والخارج، هما مدار الجهد والتعريف والتبصير (دور صحافة الثورة اذا جاز التعبير)، وهو ما يحتاج بدوره من عثمان ميرغني نزع رداءه الارستقراطي، والخوض مع الجميع في قلب الوحل والطين والفوضي، حتي يملك ادوات البناء، اذا صح ان الهمَّ العام هو بناء دولة من العدم.
واخيرا
واحدة من مظاهر الانحطاط، اللغة السوقية علي افواه ما يسمي قادة الامر الواقع! فمن يصدق قائد عام للقوات المسلحة ورئيس مجلس سيادة (راس الدولة بكل رمزيته) يصف القوات المسلحة بالكلبة الوالدة في معرض دفاعه عن امتيازات جنرالاتها وعدم مساءلتهم، او مساءلة اداء وتاريخ هذه القوات التي ادمنت الانقلابات! والحالة هذه، من الظلم قصر الوصف علي القوات المسلحة، لانه اليق بقادة الحركات المسلحة، الذين يدافعون عن امتيازات اتفاقية جوبا بذات الطريقة، بل اسوأ من ذلك بكثير. رغما عن، ان الاتفاقية المعيبة لم تصنع سلاما في دارفور، ولكنها خلقت فتن في كل ولايات السودان، وبما في ذلك المركز، الذي اصبح بقدرة قادر، مقر وسكن لهؤلاء القادة وعائلاتهم وقواتهم واستثماراتهم.
وبعيدا عن هذه الاحباطات كم اسعدتني قائمة الصحفيين الذين يدعمون الاتفاق الاطاري، ويكفي ان مجرد إكتحال عينك باي اسم منهم، يترك في نفسك اثر طيب واحترام مستحق، فمعظمهم بني تاريخه واحترقت انامله وهي يمسك علي جمر القضية الوطنية. ودمتم في رعاية الله.