عرض كتاب: “الأرض والحكم والصراع ونوبة السودان” لجمعة كندا كومي. ترجمة: بدر الدين الهاشمي

 


 

 



عرض كتاب: "الأرض والحكم والصراع ونوبة السودان" لجمعة كندا كومي
Land, Governance, Conflict and the Nuba of Sudan by Guma Kunda Komey
ويندي جيمس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشر هذا العرض لكتاب "الأرض والحكم والصراع ونوبة السودان" في المجلة البريطانية "دراسات السودان" في يونيو 2011م. تم نشر الكتاب بواسطة جيمس كيري (وود بريدج وروشستر)  بنيويورك في الولايات المتحدة.   في ديسمبر من عام 2010م
تخرج مؤلف الكتاب د/ جمعة كومي (بحسب ما جاء في أحد المواقع الإسفيرية الألمانية) في جامعة الخرطوم ببكالوريوس في الآداب (تخصص الجغرافيا) عام 1987م، وحصل على درجة الماجستير من الجامعة العالمية باليابان عام 1991م، ثم نال درجة الدكتوراه من جامعة الخرطوم عام 2005م، وقضى أعواما في جامعة مارتن لوثر بألمانيا لدراسات ما فوق الدكتوراه.
يعمل المؤلف أستاذا مساعدا للجغرافيا في جامعة جوبا.
قد يرى البعض أن بعض ما جاء في الكتاب قد "تجاوزه الزمن" باعتبار أن الجنوب (بقيادة "الحركة الشعبية") قد آثر الانفصال عن بقية السودان، وأدار ظهره لما كان ينادي به من إصلاحات سياسية واجتماعية في كل أرجاء البلاد (خاصة في مناطق حلفائه مثل أرض النوبة)، بيد أن الكتاب – لقلة وتفرق ما كتب عن  نوبة السودان بقلم واحد من أبنائهم- يظل محتفظا بأهميته رغم تبدل الأحوال السياسية، بل وتزداد أهميته مع تعاقب تلك الأحوال، مهما اختلفت النظرة حول بعض أو كل ما جاء فيه من آراء. المترجم  
أبادر بالقول بأن هذا الكتاب ربما يكون أكثر الكتب الحديثة التي نشرت عن منطقة جبال النوبة شمولا، فهي "كشكول" حافل يحكي عن تاريخ وحياة أناس يتحدثون عشرات اللغات المختلفة، وعن جذور التهميش الذي أصابهم جميعا في دولة السودان. على الجانب النظري يرفض المؤلف أن يعد التنوع اللغوي أو الثقافي أو الدين أو العرق من العوامل الرئيسة في تاريخ المنطقة، وبدلا عن هذه العوامل يركز المؤلف على مسائل الأرض، وتحديدا المطالبات المتنافسة على الأرض واستعمالاتها المتعددة بواسطة الأفراد والمجموعات كالعامل الأساس المحدد للعلاقات بين مجموعات النوبة المستقرين فيما بينهم، وكذلك بينهم وبين النوبة الرحل من الرعاة المتحدثين باللغة العربية الذين يتنقلون عبر السهول المنخفضة بين الجبال، وبين كل تلك المجتمعات المحلية وبين الدولة. وأخيرا، فإن الكتاب يمكن أن يعد كمنفستو (بيان) سياسي يهدف للحديث باسم كل شعب النوبة في مأزقهم الراهن وهم يرون إخوتهم السابقين في حركة التحرير العامة (في الحركة الشعبية) يصوتون لصالح انفصال الجنوب، ويهجرون النوبة "محصورين" مع شمال غير متسامح.
قدم المؤلف في الجزء الثالث من الكتاب سردا مفصلا عن جهود إحلال السلام المختلفة التي بذلت خلال أعوام سابقة، والتي أثمرت في عام 1994م وبتعاون مع جماعة "الإيقاد" عن بدء مفاوضات توجت في عام 2005م باتفاقية السلام الشامل. تم التأكيد خلال مسيرة تلك المفاوضات على أن أي تسوية سلمية يتم التوصل لها يجب أن تضع في الاعتبار أن هدف الحركة الشعبية الأول هو قيام إصلاحات سياسية واجتماعية في كل السودان (وليس الجنوب فقط). ولهذا السبب فقد تمددت الحرب إلى الولايات "الشمالية" بعون من النوبة، وتم تضمين الاتفاقية بنودا تؤكد ضرورة الاستجابة لمطالب المناطق الثلاث: أبيي، وجبال النوبة في جنوب كردفان، والجزء الجنوبي من مناطق النيل الأزرق. كانت أصوات المنظمات والهيئات النوبية عالية مسموعة في كل المفاوضات التي جرت بين الجنوبيين والشماليين، وفي النهاية تمخضت المفاوضات عن الاعتراف بالأوضاع "الخاصة" في المناطق المذكورة. عند كتابة هذه السطور (بداية شهر يونيو 2011م) لم تترك نتائج الانتخابات المؤجلة والمختلف عليها في جنوب كردفان أي وقت أو مساحة سياسية ل"المشورة الشعبية" الموعودة قبل نيل الجنوب لاستقلاله في التاسع من يوليو 2011م (علما بأن ولاية النيل الأزرق قد سبقت بالتقدم في هذا الاتجاه). لابد من القول بأن الأحداث التي جرت على الأرض في أبيي قد قضت على أي آمال حقيقية في أن ينال شعب النوبة معاملة عادلة في مثل هذه الظروف. لم يتم الاستفتاء المقرر لسكان أبيي، بل وغضت القوات الحكومية النظر حتى عن حدود أبيي التي قررتها محكمة العدل الدولية في لاهاي في عام 2009م، ودخلت تلك المنطقة في مايو 2011م، وفرت جموع السكان منها. لا شك أن سكان منطقة جبال النوبة (مع شعب النيل الأزرق) يقفون على شفا كارثة محدقة، ويقف ما وصفه كومي في كتابه كشهادة على الطبيعة الوحشية للسياسة الواقعية (ريل بوليتيك) لدى النظام الحاكم  الحالي في السودان على أعلى مستوياته، وعن طرق تعامله مع يعدهم من خصومه.
وعلى جانب أكثر محلية، أوضح كومي في عدد من فصول كتابه أن تداخل وتفاعل المجتمعات الرعوية من الرحل في جبال النوبة على الأرض أتى بنتائج إيجابية. عادة ما تقوم المناطق والقرى الغنية نسبيا باستضافة غيرها في ساعات الضيق والحاجة. أتاح ذلك التداخل أيضا فرصا عديدة للتبادل التجاري والمصاهرة والتبادل الثقافي. أدى كل ذلك لخلق "عوالم اجتماعية" متشابكة ومتداخلة تستعصي على الصب في قالب ضيق من حدود مرسومة وتعريفات مسبقة وتصنيفات قبلية أو أثنية محددة. يذكر كومي في الجزء الثاني من كتابه أنه رغم ما عاناه شعب النوبة - حتى في أقسى أيام الحرب الأهلية الأخيرة- من تهجير قسري ومصائب أخرى من جهات بعينها (مثل بعض مليشيات البقارة) إلا أن نمطا من أنماط النظام التعاوني والتجاري التقليدي القديم ظهر من جديد في بعض الأماكن. أقيمت أسواق غير رسمية وأحيانا سرية في خطوط التماس بين قوات الحكومة والجيش الشعبي. قدم المؤلف في بعض فصول كتابة أمثلة حقيقية لمثل ما قال به من واقع زياراته القريبة لبعض القرى في جبال النوبة. يؤكد الكاتب مرارا أن جذور المعارك التي دارت محليا بين السكان أو بين السكان وقوات الحكومة كانت هي دوما الصراع حول ملكية الأرض واستخداماتها. كانت خيبة الأمل من سياسات الحكومة المركزية حول الأرض، واستخدامها لقوى شبه عسكرية متحالفة معها هو – في نظر المؤلف- السبب الرئيس الذي حدا بساسة النوبة الرئيسيين للانضمام إلى قوات الجيش الشعبي في المقام الأول.
تقدم الأبواب الأولى في الكتاب عرضا متكاملا عن الخلفية التاريخية لجبال النوبة وشعوبها عبر القرون، وعن المراحل المتعاقبة لدخولها في "الدولة السودانية" من بداية القرن العشرين إلى الآن، وعن التهميش الذي أصابها، وعمليات "نزع الأراضي" التي تمت فيها بواسطة مؤسسات الدولة ورجال الأعمال والمستثمرين، وكانت كلها أمور لعبت فيها الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال دورا رئيسا. لعبت مشاريع الزراعة الآلية الضخمة في هذا "الحزام الساحلي" المتميز بوفرة نسبية في المياه دورا سلبيا أفسد طبيعة وبيئة المنطقة لدرجة أثرت على السكان جميعا، الرحل منهم والمستقرين.  إضافة إلى ذلك أتى البترول (ومعظم حقوله تقع في جنوب كردفان) فزاد الطين بلة على شعب النوبة، والذي وصف بأنه "يواجه الإبادة الجماعية" (لا أدرى هل قال مؤلف الكتاب بذلك أم أنها من الكاتب. المترجم)
إن كتاب "الأرض والحكم والصراع ونوبة السودان" هو بحق أحد الدراسات المطولة القليلة التي صدرت في السنوات الماضية النابعة من معرفة لصيقة بالواقع المحلي، وبناء على دراسة حقلية في كثير من مناطق السودان الشمالية. يمكن القول – على سبيل الاستطراد- بأن هذه الدراسة تلقي بالضوء على أحداث كثيرة جرت في مناطق مهمشة أخرى في شمال السودان كدارفور مثلا، حيث تمت التضحية برغبات المواطنين في الاحتفاظ والاستفادة من أراضيهم من أجل رغبات الحكومة المركزية وحلفائهم. ومن جهة أخرى يقف الكتاب كشاهد موثوق على تاريخ شعب النوبة السياسي وعلى سلامة واستقامة وكلية الإنسان النوبي الأساسية في أرضه، وكذلك عن مأزقه الحالي، وهو يوشك أن يجد نفسه على جرف أزمة أخرى.
نقلا عن "الأحداث"                     
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء