عرض كتاب: التركية في كردفان جبال النوبة وأهوال الاسترقاق للدكتور عمر مصطفى شركيان (3/3)

 


 

 

وقفنا في الحلقة الثانية في ذكر الاحتجاجات التي انطلقت ترفض قرار الباب العالي القاضي بإلغاء الرق، ومنادات بعضهم بالجهاد ضد هذا القرار، واجتماع طلبة العلم الشرعي في بيت رئيس العلماء ومفتي الأحناف بمكة الشيخ جمال شيخ وطلبهم إليه ألا يرضخ للأمر، ويستمر شركيان ليحكي لنا عن حالات تم فيها استرقاق الحجيج النيجيريين الذين كانوا في طريقهم من المدينة إلى جدة سيرًا على الأقدام، فأغارت عليهم جماعة من البدو وخطفتهم واسترقتهم، وتكلم أيضًا عن الأغوات وهم العبيد المخصيين الذين يستخدمون كخدام للكعبة الشريفة، وكان يؤتى بهم من إفريقيا.
ثم التفت إلى البرتغاليين الذين استصدروا من الكرسي الرسولي البابا نقولا الخامس إذنًا يمنحهم الحق في استكشاف الأراضي والجزر في ساحل إفريقيا الغربي والاستيلاء على كل ما تطأه أقدامهم من أراضٍ جديدة، فأطلق هذا المرسوم البابوي أيديهم استعمارًا واسترقاقًا للأمم وارتكاب الفظائع وذلك في سنة 1455، فبات الأفارقة من ذلك التاريخ يرسلون إلى أوربا لسد الحاجة من العمالة في الزراعة، ثم دخل الهولنديون والفرنسيون والبريطانيون في القرن السابع عشر، ثم أورد شركيان سيرًا لطائفة من الأرقاء خدمتهم حظوظهم فاعتلوا مواقع عظيمة في أوربا.
تناول شركيان اتفاقية البقط وقام بالحديث عن أهم الدراسات التي كتبت فيها، ثم أنشأ يتتبع الأمر منذ دخول العرب مصر، وما أثار انتباهي أن الجزية التي دفعها البيزنطيون في مصر لأول دخول العرب لها ولمدة ثلاث سنوات كانت تسمى البقط أيضًا، فهذا أول استخدام للمصطلح، لذا أرجع شركيان الكلمة لمصدرها الإغريقي والتي تعني عهد أو اتفاقية، مما يعني أن تفسيراتنا استنادًا على اللغة النوبية غير موفقة، ثم تناول اتفاقية البقط بتوسع وتناول تطوراتها وتفسيراتها، وفي نهاية بحثه وضع بحثًا عن كافور الإخشيدي والمتنبي، ثم ختمه ببحث عن الداعية محمد الأمين القرشي الذي نشر الإسلام في الجبال، لكن ما ذكره عنه هنا كان جانبًا سلبيًا غائبًا.
سمى فصله السابع ب"الاسترقاق في جبال النوبة" أكد فيه بدء استرقاق النوبة في كردفان قبل التركية، ويرى أن رق كردفان هذا كان هو الامتداد الاسترقاقي الذي بدأ في أقاصي شمال السودان منذ اتفاقية البقط سنة 652، بالتالي فإن استرقاق النوبة قد بدأ منذ القرن السابع حتى القرن التاسع عشر، وقد أدى هذا إلى انقراض النوبة في شمال كردفان، وأن القلة التي تعلقت بأهداب الحياة قد تم تذويبها، ويرفض شركيان أن يقرأ تلك الأحداث في سياقها الزمني ووفق ضوابطه ومعاييره السائدة آنذاك، لأنه يعتقد أن آثارها ما تزال شاخصة، وعواقبها النفسية الوخيمة ما تزال متجسدة في الحياة السياسية والاجتماعية للأجيال، ولعل الدكتور منصور خالد كان له رأي قريب من هذا، وقد كتب الأستاذ محمد إبراهيم نقد كتابًا مهمًا عن علاقات الرق، فكأنه أراد أن يكشف للناس بشاعة تلك التجارة، وضرورة اعتراف الناس بقماءتها، والآثار الاجتماعية والنفسية لها على أحفاد المسترقين مشاهدة ومحسوسة، لذا طفق شركيان ينكأ الجرح، ويقول في وجه المعترضين القائلين إن الكتابة في موضوع الرق نكءٌ لجراح الماضي، وجدل نظري في غير طائل وفتح لباب فتنة، يقول: إن السودان لن يخرج من أزمته التاريخية إلا إذا أدركت نخبته كيف أدخلوا الوطن فيها، فلا أحد يطرب بالحديث عن ذلكم العهد الظليم، ولا أحد يستمتع بنكء جرح الماضي ، لكن الطبيب قد يوصي بالداء المر، ويستخدم مبضعه وهو كاره، وتلك أحيانًا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء وبخاصة العضال.
الفصل الثامن جاء اسمه "الاسترقاق في جبال النوبة" تحدث عن حملات الرق أبان عهد محمد علي باشا في جبال النوبة، فقد كان يطلب الرقيق سنويًا مرة أو مرتين، وذلك لسداد متأخرات الجند بدلًا عن النقود أو لزيادة دخله عن طريق بيع الأرقاء في أسواق النخاسة، وقد قدر في عام 1825 عدد الرقيق الذين تم استياقهم من السودان 40000، وفي عام 1839 بلغوا 200000 ، وتقول التقارير أن ثلثي المسترقين يموتون قبل أن يصلوا القاهرة، بسبب الإهمال، ويصف شركيان غزوات الرق بتفاصيلها المروعة وهجوم الغزاة ومقاومة النوبة.
وصف شركيان قوافل الرقيق من تحركها من الجبال حتى بلوغها الأبيض حيث يتم استيعاب اللائقين في الجندية، والآخرين يدفعون كرواتب من الرجال البالغين فيبيعهم العسكر إلى التجار، ومن المآسي الكثيرة التي حكاها وصفه لجبل من جبال النوبة أتى إليه الجند فوجدوا فيه 196 شخصًا فقط هم كل من تبقى وكانوا قبل 18 عامًا يقدرون ب 3 آلاف ، كلهم سيقوا وتبقى هؤلاء فسيقوا أيضًا، وأبقوا على شيخهم فقط، ذلك حدث في نوفمبر 1838 ، وحكى لنا معارك انتصر فيها النوبة على غزوات الرقيق. وقد كان وصفه لحملات الرق وصفًا دقيقًا وموجعًا، ولا يستسهل ابتساره هنا، لكن في الكتاب غنىً مؤلم، فلريجع إليه الطالب.
وقد تناول أيضًا أحوال الرقيق في الأبيض، فصور حياة الرقيق، وكيف يقضون يومهم، وماذا يصنعون، وكيف يعاملهم أسيادهم.
وخصص بابًا أورد فيه طائفة من الصحابة السود ومن التابعين الذين رفعهم الإسلام منهم بلال وأسامة ووحشي وسالم مولى أبي حذيفة وعبادة بن الصامت، وعطاء بن رباح، وممن أتى بعدهم من العلماء والفقهاء نحو الجاحظ ، وفي العصر الحديث نحو عمر بن سعيد الذي استرق سنة 1800 وصمويل أدجاي الذي كرس كأسقف سنة 1864 ، ثم ذكر طائفة من المسترقين النوبة الذين نجحوا وصاروا أرقامًا في أوربا
ثم خصص الباب الذي يليه عن محاولات إلغاء الرق في السودان، وتحدث عن معارضة الأسياد الثلاثة (المهدي والميرغني والهندي) لتحرير الرقيق في السودان، وتحدث عن مذكرة ال 86 من أعيان أمدرمان التي طالبت بسماح الحكومة لهم بالاحتفاظ برقيقهم، وذكر أن الحكومة استطاعت سنة 1924 وضع حدٍ للرق المنزلي، فاستقر بعض الرقيق الذين كانوا في يد المسيرية في لقاوة وأبو زبد، وولى آخرون وجهتهم إلى تلودي
وفي الختام نقول إن كاتبنا أديب قبل أن يكون باحثًا، فقراءة سفره تحتاج إلمامًا بأساليب العربية العالية، وقدرة على تذوق أدبية النص، وكتابه ينحو إلى الاستطراد والتوسع، شأن كل كتبه، فإن أتى بخبر لا يتركه حتى يستقصيه ويفرعه، ثم ينشب في تتبع تفاريعه فيستقصيها أيضًا، ثم ربما تفرعت هي أيضًا حتى إذا ما انتهى من ذلك كله عاد إلى أصل خبره فتجد نفسك قد نسيته، لذا تستلزم قراءة كتابه انتباهة، وقد يرهق قارئيه لتباصره بالغريب مرة بعد مرة، ولتوعر تراكيبه لشبهها بالقديم، لكن لذة النص، ولطافة المعنى تسليك إعناتها

--
قاسم نسيم حماد حربة

gasim1969@gmail.com

 

آراء