عرض كتاب "سم بكمية قليلة: دكتور كريستوفيرسون وعلاج البلهارسيا"
Poison in Small Measure: Dr. Christopherson and the Cure for Bilharzia جبرائيل واربورج Gabriel Warburg ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض جبرائيل واربورج لكتاب آن كريشتون – هاريس المعنون "سم بكمية قليلة: دكتور كريستوفيرسون وعلاج البلهارسيا"، الذي صدر عن دار بريل في عام 2009م. نُشر العرض في العدد السادس والأربعين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط MES" الصادرة عام 2010م. ومؤلفة الكتاب كندية، تعمل في مدينة تورنتو، وقد اشتهرت في كندا باهتماماتها البيئة والتراثية في بلادها منذ الستينات والسبعينات. ولها كتاب آخر عن قريبها دكتور جون براين كريستوفيرسون، ذلك الطبيب البريطاني (1868 – 1955م) الذي عمل بالسودان بين عامي 1902 و1919م، وأنشأ أول مستشفى مدني بالخرطوم في 1909م، وأدخل لأول مرة في العالم دواء الدُّرْدِيُّ (الطرطير) المُقَيِّء tartar emetic كعلاج يعطى بالوريد ضد داءُ البِلْهارْسِيَّات (البلهارسيا). وجبرائيل واربورج أستاذ تاريخ إسرائيلي حصل من جامعة لندن عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م"، وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى. للمزيد عن كريستوفيرسون وعلاج البلهارسيا يمكن الاطلاع على مقال في مجلة طب الأطفال السودانية لعوض أحمد عديل تجده هنا: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4958668/ وبهذا المقال بعض الصور التاريخية للرجل والمستشفى الذي أقامه. المترجم ********** ********** ********* لم يكن لقبولي كتابة عرض لهذا المؤلف أدنى سبب أو علاقة بعنوانه أو محتوياته. فأنا لا أعلم إلا القليل عن السموم، وأجهل تماما هذا الداء المسمى بداء البِلْهارْسِيَّات. غير أني وجدت نفسي منجذبا للكتاب إذ أنني كنت قد أخترت لبحثي لنيل درجة الدكتوراه ذات الفترة التي يتناولها الكتاب، واِستَلَّيت منها كتابي الصادر عام 1971م المعنون "The Sudan under Wingate السودان تحت إدارة ونجت"، الذي يدور حول الإدارة البريطانية – المصرية للسودان في تلك الأعوام الباكرة للحكم الثنائي. وعندما عرض علي كتابة استعراض لهذا الكتاب الذي نشر بعد نحو أربعين عاما من ذلك التاريخ، كنت أؤمل في أن أجد فيه بعضا من "معارفي" مثل النمساوي رودلف فون سلاطين باشا، أحد سجناء المهدي السوداني، الذي شغل منصب "المفتش العام" في سنوات الحكم الثنائي الباكر. وقد وقع اختيار سير وينجت (الحاكم العام) على سلاطين لشغل ذلك المنصب بسبب سابق معرفته بالبلاد وأهلها، وعلمه التام بقبائل السودان وزعمائه منذ أن كان يعمل مديرا عاما لدارفور في سنوات إدارة غردون باشا للبلاد. وقابل سلاطين معظم أولئك الزعماء لاحقا إبان أسره وأسرهم بإمدرمان في سنوات حكم المهدي وخليفته. وكان سلاطين وكريستوفيرسون قد عملا مع الصليب الأحمر في سنوات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)، إذ أنهما عدا من "الأجانب الأعداء enemy aliens"، ولم يعد وجودهما في البلاد مرغوبا كما هو الحال في السابق. وعمل كريستوفيرسون في صربيا أثناء عطلته السنوية عندما كان موظفا بحكومة السودان، بينما قدم سلاطين استقالته من منصبه الرفيع (مفتش عام السودان) وعرض خدماته على الصليب الأحمر النمساوي. ويخبرنا المؤلف في الفصل التاسع من هذا الكتاب أن كريستوفيرسون عمل مع الصليب الأحمر الصربي، بينما عمل سلاطين كـ "أب روحي ومُنْقِذ" له. وفي يوم 12 ديسمبر 1915م قابل سلاطين كريستوفيرسون في صربيا، وسطر خطابا لزوجة الأخير في الخرطوم جاء فيه: " عزيزتي السيدة كريستو – ليس هنالك من سبب للقلق على زوجك الصغير – هو الآن يعمل في فرنياتشكا بانيا (مدينة في راشكا بمقاطعة وسط صربيا. المترجم). طلبت من صديق لي هو الأمير ف. لوبوفيتز، قائد المنطقة، أن يقوم على رعايته". وفي تلك الرسالة حذر سلاطين زوجة كريستوفيرسون من أن بيرنارد باشا، السكرتير المالي لحكومة السودان، سوف يقوم بتخفيض راتب زوجها إلى النصف في حالة تأخره عن الأوبة للسودان فور انتهاء عطلته. وهذا يعني أنه برغم نشوب الحرب العالمية الأولى، واعتبار سلاطين وكريستوفيرسون من "الأجانب الأعداء"، إلا أنهما ظلا على علاقة طيبة بالسودان وحكامه البريطانيين. وكان كريستوفيرسون من ضمن الذين شاركوا في إنشاء مدرسة كتشنر الطبية بالخرطوم، بل كان هو أول من أقترح قيامها لوينجت في عام 1905م، غير أن جيمس كري مدير مصلحة المعارف حينها رفض الاقتراح بدعوى أن الوقت لم يحن بعد لإقامة مثل تلك المدرسة. وعندما أقترح فرانسيس بالفور (من القسم السياسي لحكومة السودان) لاحقا قيام تلك المدرسة على أن تكون تحت إدارة معامل ويلكم، عد كريستوفيرسون ذلك خطأ كبيراً، وكتب لزوجته أن ذلك "سيعرض المدرسة لخطر الوقوع تحت هيمنة معمل ويلكم" (صفحة 151في الكتاب). وكان كريستوفيرسون قد واجه عددا من المواقف إبان عمله كمدير للمصلحة الطبية، خاصة بين عامي 1908 و1911م. وكانت إحدى تلك الحوادث تتعلق بصيدلي لبناني مسيحي في الخرطوم أتهم ببيع أدوية أخذها من صيدلية مستشفى الخرطوم بصورة غير قانونية. وتبعت تلك الحادثة فضائح أخرى ورد فيها اسم كريستوفيرسون. غير أن موقف ووجهة نظر الرجل من تلك الحوادث ظلت سرا مبهما، بسبب أن كل الوثائق المتعلقة بها ضاعت (أو أُضِيعَتْ) أو اختفت بصورة غامضة عصية على التفسير. وكانت مؤلفة الكتاب (السيدة آن كريشتون – هاريس) قد جدت في البحث في المئات، بل الآلاف، من رسائل وأوراق قريبها (عمها أو خالها) الخاصة، ووثائق غيره من السودانيين والأجانب، حتى تتمكن من إعادة ترتيب وفحص وصياغة الأحداث، بناءً على ما توفر عندها من رسائل ووثائق، حتى تصل إلى "حقيقة تاريخية" يمكن الركون إليها. وتلك عينة واحدة فقط من أعمال السيدة آن كريشتون – هاريس في دراستها هذه. وقد لا تعد لتلك الحادثة أهمية كبيرة ضمن سياق مجمل الدراسات السودانية. غير أني أعدها مثالا ممتازا لـ "المنهجية التاريخية" المثلى التي ينبغي لكل مؤرخ أن يلتزم بها. وكنت قد حاولت فعل ذات الشيء في عامي 1966 و1967م حين كنت أجمع الوثائق والأوراق ذات العلاقة برسالتي للدكتوراه (مثل الأوراق والرسائل الخاصة بونجت وسلاطين وغيرهما في أرشف مكتب السجلات العامة (PRO) ومجموعة الوثائق في أرشيف السودان بجامعة درم. وكتبت السيدة آن كريشتون – هاريس أنه كان لزاما عليها فَرْزُما كان متاحا لها من وثائق وقصص وأخبار ورسائل خاصة وقبول أقربها للحقيقة، واستبعاد ما عداها من كم هائل من الأعذار والتلميحات والاشارات وتبادل الاتهامات (صفحة 171 في الكتاب). وكمؤرخة جيدة، اٌقرت الكاتبة بأن نزعة الخير والكرم والاحسان عند البريطانيين في مستعمراتهم لم تكن أحادية الجانب. فمع إدخال كريستوفيرسون ومن معه من الأطباء للأدوية الحديثة للسودان، أدخل البريطانيون أيضا أمراضا جديدة. فعند إدخال زراعة القطن بالجزيرة في العشرينيات، وباسم التقدم، أُدخل أيضا داء البِلْهارْسِيَّات، كنتيجة سالبة للزراعة والري عبر القنوات، حيث تعيش القواقع المصابة. وهذا مثال جيد لنوايا طيبة أفضت لنتائج لم تكن منتظرة (صفحة 385 في الكتاب). وذكرت المؤلفة أيضا أن كريستوفيرسون كان ذات ليلة من ليالي 1908م ضيفا على العشاء في بيت ديكنسون بيه، حاكم مديرية النيل الأزرق، في واد مدني. قال ليلتها أحد ضيوف الحاكم ببعض السخرية: "ألا ترون أن الأمر كله نفاق في نفاق عندما نزعم أننا جئنا هنا لمجرد خدمة الأهالي؟ إن كسب هؤلاء شيئا من استعمارنا للبلاد، فـ "خير وبركة" لهم، غير أننا هنا – مبلغ علمي – من أجل مصلحة إمبراطوريتنا (صفحتي 387 – 388 في الكتاب). قضت السيدة آن كريشتون – هاريس ثمان سنوات تعمل في بحثها بهذه الدراسة التي اختتمتها بسؤال مهم ووثيق الصلة بتاريخ السودان: "ما هي مكانة كريستوفيرسون في تاريخ السودان؟ وكررت الكاتبة ما كنا نعرفه من قبل عن إنجازات الرجل العديدة كمؤسس للخدمات الطبية بالسودان، وتشييد أول مستشفى مدني بالخرطوم. غير أن أعظم إنجازاته بلا ريب هي اكتشاف علاج لداء البِلْهارْسِيَّات. وكتبت المؤلفة ما نصه: "غير أن ما يميز كريستوفيرسون هو رفضه السير خلف التراتيبية الجامدة، وتجاهله لتكتيكات الإدارة التي من شأنها استبعاد بعض الناس. ولم يلق موقفه الصارم هذا الرضا، غير أنه ثبت على موقفه ودفع نظير ذلك ثمنا باهظا. وعلى الرغم من ذلك صمد كريستوفيرسون وبقي يعيش ويعمل بالسودان لنحو عقدين من الزمان ملتزما بمبادئه" (صفحة 388 في الكتاب). لقد أفلحت الكاتبة في رسم صورة ممتازة لبدايات الحكم الإنجليزي – المصري في السودان، وللقسم السياسي بحكومته. وقدمت للقراء دراسة مفصلة عن عمها (أو خالها) العظيم، الذي يعد رائدا للخدمات الطبية بالسودان. وعقب ما يقارب من ستين عاما من الاستعمار المصري، وعشرين عاما من حكم دولة المهدية، تم تحرير (أو غزو/ قهر؟) السودان بجيش مستعمريه الجدد (البريطانيين والمصريين) وذلك بغرض تمدين أولئك البرابرة! غير أن السيدة آن كريشتون – هاريس تختم كتابها بأن بريطانيا العظمى لم تدخل السودان لتنقله من ظلام البربرية إلى نور المدنية، بل كانت لها أسبابا أنانية (egocentric)، شملت رغبتها في منع السودان من الانضمام لمصر وتهديد المصالح البريطانية في وادي النيل، خاصة قناة السويس البالغة الأهمية. أرشح بقوة هذا الكتاب للقراء، وأشيد بالمؤلفة لقيامها بهذا البحث المُضْنِي بصورة بالغة الموضوعية.