عرض لكتاب كينيث بيركنز: “نشوء وتطور مدينة استعمارية” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



Book Review: “The Evolution of a Colonial City” by Kenneth J. Perkins
بروفيسور ليف مانقر Prof. Leif Manger
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لعرض نشر في العدد الثاني من مجلة Northeast African studies والصادر في عام 1995، بقلم ليف مانقر عن كتاب كينيث بيركيز المَوْسوم: "نشوء وتطور مدينة استعمارية"، والذي صدر عام 1993م من دار نشر في بولدر بكولورادو بالولايات المتحدة. ويعمل مؤلف الكتاب أستاذا للتاريخ بجامعة كارولينا الجنوبية. أما ليف مانقر فهو بروفسيور الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة بيرجن بالنرويج، والذي زار السودان عديد المرات، وقام بدراسة مجتمعات النوبة في غرب السودان والهدندوة في شرقه، وله كتب ومقالات عديدة تدور معظمها عن الاسلام و"الشأن السوداني" والعربي (مثل الاغتراب عند الحضارمة) وغير ذلك. وبحسب ما جاء في سيرته الذاتية المبذولة في موقعه بجامعة بيرجن فهو يقوم حاليا بدراسة ميدانية عن "المجتمعات التجارية السودانية على الشاطئ الصيني.
وقد سبق لنا أن ترجمنا عرضا لذات الكتاب بقلم الدكتورة الأمريكية هيزر شاركي تم نشره في مجلة "دراسات السودان" البريطانية عام 1994م، وترجمنا أيضا مقالا لكاتب بريطاني هو كولن ر. باتريسون بعنوان "قصة إنشاء ميناء بورتسودان".
المترجم
*****       **********       ***********      ************

لا ريب أن كتاب كينيث بيركنز عن تاريخ بورتسودان يعد مساهمة مقدرة، أتت في موعدها تماما، وإضافة مهمة للأدبيات المكتوبة عن منطقة البحر الأحمر في شرق السودان. وينطبق هذا الأمر أيضا على مجتمعات البجا التي تقطن المناطق الريفية في تلال البحر الأحمر، وعلى سكان مدن الشرق الصغيرة من مختلف الأعراق والمهن.
ولمعرفة المزيد عن بورتسودان أهمية خاصة، إذ أنها مدينة تجارية بالغة التأثير، وتلعب دورا مهما في عملية الاختراق الرأسمالي لمناطق البلاد الداخلية. وبما أنها الميناء الرئيس بالبلاد، فقد ظلت ذات أهمية كبرى للعاصمة (الخرطوم) وللسودان على وجه العموم. وبقيت بورتسودان بوابة للشرق، وممرا للبحر الأحمر ومنطقة خليج عدن، وبالتالي للمحيط الهندي.
ويضع كتاب بيركنز بورتسودان ضمن كل تلك السياقات المختلفة. إلا أن تركيز المؤلف اِنْصَبَّ على المدينة نفسها، وعلى نشأتها وتطورها.
بدأت القصة بإنشاء المستعمر البريطاني لهذه المدينة في عام 1904م في موقع ما كان يسمى مرسى "الشيخ برغوث"، وهو المكان الذي كان ذلك الفكي مدفونا فيه، وانتهت في الخمسينيات، عندما بدأ أمر إدارة المدينة يؤول شيئا فشيئا للسودانيين. واختير موقع المدينة (الجديدة) لمناسبته لإنشاء ميناء. غير أن الكتاب يتناول بنظرة أوسع عملية نشوء وتطور المدينة. فقد قسم المؤلف تطورها إلى ثلاث مراحل زمنية (1904 – 1918، 1919 – 1942، 1943 – 1953م). وتناول المؤلف أيضا موضوعات شملت خلق مجتمع حضري منظم، وتوفير الخدمات الأساس بالمدينة، وكيفية إدارتها وحكمها، وكيف تم التحكم في نموها.
وقرر البريطانيون بعد نظر وتمحيص لوضع سواكن كميناء للسودان أنها لم تعد تصلح لأداء هذا الدور في القرن العشرين. وهداهم التفكير إلى اختيار "بورتسودان" بديلا مناسبا لذلك الميناء والمركز الحضري القديم. وظلت خطط إنشاء الميناء الجديد متداولة في مختلف أروقة الحكومة لزمن طويل نسبيا. وكان البريطانيون يعتقدون بأنه من حسن الحظ أن المدينة قد أنشئت في مكان "جديد" ليس به سكان، وبذا تم تحاشي التصادم مع أي مجتمعات سكانية قائمة، وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يحدث شرخا في المجتمع. لذا يمكن أن تعد بورتسودان مدينة "مثالية" جديدة من صنع الاستعمار. غير أن ذلك التصور الاستعماري اصطدم – كما هو متوقع - بالحقائق على الأرض، فقام الرعاة البجا بالاحتجاج بأنهم كانوا في منطقة "بورتسودان" قبل البريطانيين، وأنهم أحق بأرضها. غير أن أحدا من المسئولين لم يلق بالا لاحتجاجاتهم تلك. وظهر البجا مجددا في مشهد تخصيص الأراضي للسكان في المدينة. وبدا أنهم قد "همشوا" في ذلك الجانب أيضا.
وفور إنشاء المدينة توافد عليها السودانيون والأجانب من كل أرجاء البلاد، فازدادت أعداد السكان فيها، وتنوعت العرقيات التي تقطن بها. وشملت الجنسيات التي جاءت إلى بورتسودان بغرض الاستيطان الرجال والنساء من السودانيين والأثيوبيين والسوريين والفارسيين والصوماليين والإرتيريين والهنود والإيطاليين والإغريق، بالإضافة بالطبع إلى البريطانيين أنفسهم. وهنا قرر الحكام البريطانيون مراعاة العرق والطبقة الاجتماعية عند توزيع السكان على مختلف مناطق المدينة. فخصصوا قطع "الدرجة الأولي" للصفوة من التجار الأوربيين الأثرياء، وتدرجوا (إلى الأسفل) حتى بلغوا مناطق "الديوم" التي كانت من نصيب السكان المحليين من البجا! وظلت مجموعات البجا السكانية المتزايدة تشكل هاجسا مستمرا، وعبر عقود طويلة، لمخططي المدينة. وظلت كذلك المشاكل المتعلقة بأمور الصحة العامة والنظافة والتعليم والأمن تراوح مكانها في كثير من المناطق بالمدينة.
وأوضح المؤلف في كتابه كيف أن تطور بورتسودان غدا عبر السنوات مصدرا مستمرا ومتزايدا لاستنزاف مصادر الإقليم الشحيحة أصلا. وبقيت كثير من المشاكل المتعلقة بتطور ونمو المدينة، والتي بدأ النقاش حولها في بداية القرن العشرين، قيد النظر وحتى التسعينيات منه (صدر الكتاب في عام 1993م). وذكر المؤلف أن مشاكل المدينة "قديمة كل القدم، جديدة كل الجدة"، وأخطرها هو توفير المياه للمدينة من "خور أربعات"، وتوفير حطب الوقود، وما تبعه من إزالة للغطاء الشجري، وما سبب ذلك من تصحر. وضرب المؤلف مثالا آخر بما أقيم من مشروعات زراعية مروية في المناطق التي تتمتع بقدر معقول من المياه وذلك لتوفير بعض احتياجات سكان المدينة من الخضر والفاكهة. وكذلك لعب الاحتياج لقوى عاملة بالمدينة (خاصة في الميناء) دورا مهما في تاريخ بورتسودان. فعلى سبيل المثال ذكر المؤلف في كتابه قصة علي يحى اليماني، والذي هاجر لبورتسودان عام 1906م، وظل مهيمنا في سنوات الثلاثينيات على سوق العمالة بها (خاصة في الميناء). وقام بعض السودانيين في العشرينيات بمحاولة التصدي لهيمنة ذلك الرجل اليمني واقناع البريطانيين بإدخال السودانيين (البجا) في سوق العمل لمنافسة اليمنيين الذين دأب علي يحى اليماني على جلبهم للعمل معه في بورتسودان. وتردد البريطانيون في الاستجابة لمطلب السودانيين بحجة أن رجال البجا من الرعاة يأتون ويذهبون من المدينة، ولا يستقرون بها نهائيا، بحسب أحوال المناخ في مناطقهم الأصلية، فلا يأتون لبورتسودان إلا في مواسم الجفاف، ويغادرونها بأعجل ما تيسر حين تهطل الأمطار وتتحسن المراعي في مناطقهم الأصلية. وهنا أتت مبادرة لجلب عمال من غرب السودان للمدينة، لما ذلك من فوائد تتعدى العمل إلى التمازج الاجتماعي بين الأعراق المختلفة. غير أن حقيقة أن السكان في شرق وغرب البلاد (كانوا) ينتمون لطائفتين دينيتين متصارعتين، ولحزبين سياسيين مختلفين تماما، جعلت المستعمرين البريطانيين يتخوفون من احتمال حدوث صراعات بين المجموعتين قد تؤدي لانفراط عقد الأمن بالمدينة. وقرر البريطانيون أخيرا محاولة حل مشكلة العمالة بالمدينة (خاصة في الميناء) باللجوء إلى جلب العمالة المصرية ومن وراء البحر الأحمر وغيرها من المناطق (في عرض الدكتورة هـ. شاركلي مناقشة أفضل لجانب العمالة الأجنبية بالمدينة. وتجد ذلك العرض في هذا الرابط: http://www.sudaress.com/sudanile/33884
 المترجم).
وتناول المؤلف في كتابه الصراعات التي دارت بين البريطانيين أنفسهم عند إنشاء المدينة، وكيف أن تلك الصراعات قد أحدثت كثيرا من التأثيرات على مجريات الأمور بها. ومن أهم الأمثلة في هذا الجانب هو الصراع (المزمن) بين إدارة السكة حديد ومعتمد بورتسودان. فقد كان أمر إدارة الميناء قد أؤكل للسكة حديد، بينما ترك للمعتمد إدارة شؤون المدينة نفسها. وكشف ذلك الصراع والنزاع الظاهر (والمستتر) عن وجهتي نظر متباينتين حول كيفية تطوير المدينة. فقد كان هنالك من يرى في بورتسودان تجمعا سكانيا حضريا يقوم حول الميناء، بينما كان هنالك أيضا من يرى بورتسودان كميناء أضيفت له باقي المدينة.
وعند النظر إلى ما سجل في الأدبيات العالمية حول المدن ونشأتها نجد أن المدن الأفريقية تقسم عادة إلى مدن لها أساس وقاعدة ((core  تقليدية، ومدن استعمارية خالصة أنشأها المستعمر نَشَأَ جديدا. ويضع المؤلف مدينة بورتسودان، ودون تردد، في الفئة الثانية. وقارنها المؤلف بما بناه المستعمرون الفرنسيون في شمال أفريقيا (مثل مدينة " فيري فيل" في تونس. المترجم). غير أن الفرق هو أن مدن شمال أفريقيا "الجديدة" كانت قد أقيمت حول مدن "قديمة" مثل تونس وفاس والجزائر. وهنالك أمثلة أخرى كعدن وكازابلانكا، وهي مدينة كانت صغيرة وقليلة الأهمية في بداية أمرها، ثم تحولت لمدن وموانئ مهمة جدا، وغدا بعضها "مدن تؤام Twin cities " وفي أفريقيا جنوب الصحراء نجد أمثلة أخرى منها مدينتي مومبسا ولاغوس.
لقد أعتمد بيركنز في كتابه عن تاريخ بورتسودان على مصادر بريطانية. غير أنه ضمن كتابه أيضا آراء كثير من المجموعات الناقدة للسياسات البريطانية. وكان المؤلف يدرك جيدا أن البريطانيين لم يقوموا بما قاموا به في تلك المدينة بمعزل عن الآخرين.
ويأمل المرء أن يقوم كتاب آخرون بتناول بعض النقاط الخلافية التي وردت في ثنايا هذا العرض بالبحث والتحليل، وأن يشمل ذلك التطورات اللاحقة التي حدثت بالمدينة بعد خمسينيات القرن الماضي. وسيظل كتاب بيركنز هذا على أية حال مصدرا مفيدا ومرجعا لا غنى عنه لكل من يكتب عن بورتسودان.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء