مقاربات السياسة الخارجية المتوقعة في عهد بايدن تجاه تحولات السودان وتقاطعات القرن الأفريقي
كانت القاعة الرئيسية في فندق بايريشا هوف العريق في ميونخ تغلى عقب الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس الحالى مايك بينس امام مؤتمر ميونخ للامن فى فبراير من العام ٢٠١٧ ، وهو يعيد علي اسماع قادة اوروبا سياسة ترامب التى تطلب منهم دفع نفقات حماية الولايات المتحدة للدول الاوروبية، وان عهد الخدمات المجانية أو ما أطلق عليه free riders قد انتهي إلي غير رجعة.
كانت التعابير التى تلوح في وجه المستشارة الألمانية ميركل مزيجا من الصدمة و الشعور بالإهانة، وكانت ملامح الامتعاض في وجهها كافية لفهم تركيبة المشهد، إذ قالت للمؤتمر عقب كلمة مايك بنس المتهم بالتشدد: يجب علي أوروبا من الآن فصاعدا أن تعتمد علي حماية نفسها.
كنت أشاهد مداولات المؤتمر ضمن وفد السودان في قاعة جانبية، عندما صعد جو بايدن نائب الرئيس السابق والرئيس المنتخب الآن المنصة و قال كلمة حاسمة مفادها: "لا تحكموا علي أمريكا وقيمها الراسخة من خلال السلوك الشعبوي لإدارة الرئيس ترامب. فى الانتخابات القادمة ستعود أمريكا كما عهدتموها صديقا دائما وقويا لأوروبا ومواصلة علاقات التعاون كما كانت سائدة من قبل". بعثت كلمة بايدن الارتياح في أرجاء المؤتمر لكن لم يكن هناك ثمة تفاؤل بفوز المرشح الديمقراطى امام رئيس يتصف بالتهور والشراسة والقدرة علي خلط الاوراق.
ذلك المشهد اختزل روح التشكيك فى علاقة الرابطة الأطلنطية بين ضفتي المحيط التي اتسمت بالجفوة والاضطراب أثناء فترة ترامب.
مع إعلان جون بايدن فوزه بالانتخابات الرئاسية الأمريكية بأغلبية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الامريكية ، أصبح يتحمل تركة مثقلة من ارث الرئيس دونالد ترامب في السياسة الخارجية.لعل ابرز ملامح هذه التركة تضعضع صورة الولايات المتحدة في العالم، اذا اهتزت مكانتها الرمزية كزعيمة للعالم الحر ، وحامية للنظام الليبرالي العالمي، وتحولت صورتها تحت ادارة ترامب الى دولة مساومة برغماتية تهتم بإبرام صفقات محدودة الاثر لمن يدفع اكثر دون مراعاة لمنظومة القيم الامريكية المتوارثة في السياسة الخارجية.
ومع انسحاب إدارة ترامب التدريجي من تعهدات الولايات المتحدة العالمية ومنظومة المؤسسات الدولية تحت ضجيج و لوثة الشعبوية وتكريس العزلة تحت شعار ( أمريكا اولا) ، خاصة اتفاقية باريس للمناخ و مجلس حقوق الإنسان واليونسكو وبدء اجراءات الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ازدادت نزعة تشكك الحلفاء في التزمات واشنطون تجاه مصالح وحماية أصدقائها فى العالم، خاصة من قبل أعضاء الرابطة الأطلنطية في أوروبا بعد تشدد ترامب فى إلزام عضوية حلف الناتو بتخصيص ٢% من الدخل القومى للدفاع. مما جعل قادة هذه الدول يعلنون ضرورة نهوض أوروبا بمسئولية حماية نفسها ضد المهددات، و الإقرار بنهاية مبدأ الحماية الأمريكية التى ظلت احد اهم مرتكزات سياسة الأمن الجماعى منذ الحرب العالمية الثانية. تزامن مع ذلك تمدد نفوذ الصين الاقتصادي في العالم، و اتساع نشاط روسيا العسكري لملء الفراغ الامنى والاستراتيجى الذى تركه انسحاب واشنطون خاصة في الشرق الاوسط.
مع فوز بايدن الذي رحبت به العديد من دول العالم، تبرز ثمة تساؤلات عن التوقعات بشأن خيارات سياسته الخارجية. وهل ستكون أمتدادا لمباديء الحزب الديمقراطى المتوارثة بكفكفة التوسع في استخدام الأدوات العسكرية والإستثمار فى أدوات القوة الناعمة، كما كان الامر تحت إدارة أوباما آخر رئيس ديمقراطي ام البناء علي التحولات الموضوعية والجيوسياسية التي أحدثتها إدارة ترامب؟
لعل مشهد ومحتوى خطاب بايدن امام مؤتمر ميونخ للأمن عام ٢٠١٧ قد أكد علي أبرز ملامح توجهات سياسته الخارجية وهى إعادة بوصلة أمريكا إلي زعامة العالم الحر، والحفاظ علي علاقات الرابطة الأطلنطية transatlantic والإيمان مبدأ المؤسسات الدولية multilateralism تحت مظلة النظام الليبرالي العالمي.
وهى تقريبا ذات المباديء الكلية التى ظلت تحكم توجهات السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي طوال تاريخه خاصة الحفاظ علي النظام الليبرالي العولمى، وترسيخ التعاون مع المنظمات الدولية متعددة الاطراف، إلا ان النقاش الذى ظل متداولا بين نخب الحزب الديمقراطي المختصة حول ما يجب ان تكون عليه السياسة الخارجية، عظّم من بروز تيار ينادي بتجاوز إرث ترامب و إعادة إحياء الروح التقدمية في أجندة السياسة الخارجية، وقد عبر عن ذلك السيناتور الديمقراطى كريس كون في مقال نشرته في دورية (فورن افريز) في ٧ أكتوبر ٢٠٢٠ تحت عنوان سياسة خارجية يتفق عليها الحزبان ما تزال ممكنة.
A bipartisan foreign policy is still possible
الذى نادى بضرورة بناء سياسة خارجية تقوم علي توحيد الجبهة الداخلية للحزبين لان سياسة امريكا الخارجية ستكون اكثر قوة وتأثيرا اذا حازت علي دعم واجماع الحزبين.
اثارت الوعود التى أطلقها بايدن أثناء المناظرات فى قضايا السياسة الخارجية تساؤلات عميقة. وهل تعبر فقط عن مزاج المناظرات الانتخابية والوعود الفضفاضة كمرشح رئاسي ام ستكون موجهات جدية لسياسته الخارجية مثل وعده بقطع المعونات عن مصر التي تبلغ أكثر من اثنين مليار دولار سنويا، أو وعده بتحميل قيادات في المملكة العربية السعودية مسئولية مقتل الصحفى جمال خاشقجى.
لكن يرجح البعض حسب التجارب السابقة أن الواقعية السياسية ستنتصر علي وعوده الانتخابية المثالية والبراقة.
فى المقابل يؤيد السيناتور كريس ميرفى احد أبرز المرشحين لمنصب وزير الخارجية تبنى أجندة تقدمية تعيد للولايات المتحدة مكانتها العالمية في قيادة العالم الحر، والعودة للاهتمام بقضايا الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وعودة أمريكا إلي المنظمات الدولية، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ ، ويقرر ميرفى في فى ورقته التى وجدت ترحيبا وصدى طيبا من خبراء السياسة الخارجية ومنهم وزيرة الخارجية مادلين البرايت تحت عنوان
" إعادة التفكير في أرض المعركة"
Rethinking the battlefield
أن الاجندة التقدمية ليست مجرد وسيلة لمسح وإزالة إرث ترامب لكنها أداة فاعلة لإعادة بناء السياسة الخارجية علي قيم وقواعد جديدة، هي كبح جماح استخدام القوة العسكرية وتفعيل ادوات القوة الناعمة و الاستثمار أكثر في الوسائل الدبلوماسية، واستمرار المواجهة التجارية مع الصين واعادة الثقة في حلف الناتو، والإلتزامات الدفاعية تجاه أوروبا واحتواء نفوذ موسكو المتصاعد، مع استمرار التزمات أمريكا الثابتة للدفاع عن امن إسرائيل وإعادة تشكيل تحالفات الشرق الأوسط بما يخدم هذا الهدف المركزي.
يخالف بعض منظري السياسة الخارجية من الديمقراطيين النزعة المثالية في تقييد استخدام ادوات القوة العسكرية والاعتماد علي الدبلوماسية ووسائل القوة الناعمة، إذ يؤكد توماس رايت احد الباحثين في مركز بروكنز بواشنطن في ورقته المنشورة التى ناقش فيها أزمة الأجندة التقدمية في السياسة الخارجية بعنوان " المشكلة فى قلب السياسة الخارجية التقدمية"
The problem at the core of progressive foreign policy
حيث انتقد النزعة المثالية لمقاربات السياسة الخارجية التقدمية في اضعاف خيارات استخدام القوة العسكرية في اطار تحقيق المصلحة العليا للامن القومى الأمريكى.
فى ذات السياق يعتبر السيناتور ميرفى فى مقال نشره فى مجلة اتلانتك في اكتوبر ٢٠١٩ بعنوان: " كيف يمكن تفعيل سياسة خارجية خارجية تقدمية "
How to Make a Progressive Foreign Policy Work
ان السياسة الخارجية التقدمية يجب الا تخشى السير على خطى سياسة أوباما التى وصفها بأنها برغماتية التوجه ترتكز علي قاعدة قيمية
Obama’s values-based pragmatism
ووضع ميرفى ثلاثة شروط لاستخدام القوة العسكرية في مقاربات نظرية لكيفية تطبيق الاجندة التقدمية. وهى ان تتم بموافقة الكونقرس، ووقف الحروب السرية التى كانت سمة الحرب الباردة. وركز الشرط الثالث علي عدم الدخول في حرب او غزو خارجى اذا كانت الدبلوماسية يمكن ان تحقق الهدف.
ويرى ميرفي اهمية عدم عزل الاعداء وضرورة التحدث اليهم مثل ايران و نادي للاهتمام بتداعيات وآثار حرب اليمن واستثمار مزيد من الجهود الدبلوماسية لوقف الحرب والنزيف الإنسانى هناك.
ستتركز اولويات بايدن في بداية فترته الرئاسية علي الداخل لتوحيد الشعب الأمريكي، كما أعلن في خطاب الفوز، وتجاوز الانقسام الحاد الذي كرسته فترة ترمب ومعالجة الاقتصاد وجائحة كورونا (كوفيد ١٩)
رسم المعهد الملكى البريطانى للشئون الدولية (شتام هاوس) في تقرير أصدره في أكتوبر ٢٠٢٠ عن (اولويات السياسة الخارجية الامريكية بعد الانتخابات الرئاسية)، جملة التحديات للإدارة الجديدة، لعل أبرزها إعادة ترتيب البيت من الداخل بمحاربة الجائحة الصحية وتوحيد الحزبين علي سياسة متفق عليها ومعالجة التحديات الاقتصادية. ويرجح المعهد الملكى البريطانى للشئون الخارجية اهمية اعادة الثقة فى النظام الليبرالي العولمي تحت القيادة الامريكية من جديد، مع اهمية إصلاح علاقة الرابطة الاطلنطية وإحياء التعاون مع اوروبا، خاصة مع بريطانيا والمانيا وفرنسا، واحتواء نزعة المغامرة فى سياسات موسكو عبر الاحتواء والتطويق بالتعاون مع أوروبا واتباع سياسة ردع فعالة والاستمرار في اتفاقيات نزع التسلح.، واعادة التعاطى مع الشرق الأوسط من جديد لتأسيس استراتيجية طويلة المدى حول إيران ربما تستصحب جزءً من عناصر الاتفاق النووي تحت رئاسة اوباما، إضافة لقضايا المناخ، والتعاون في مجال الصحة العالمية لاحتواء الجائحة وإعادة التعاون مع منظمة الصحة العالمية. وأوصى المعهد الملكي بأحياء التعاون مع أمريكا اللاتينية مع اتباع سياسة هجرية أكثر انسانية. وأبرز التقرير أن اهم أولويات واشنطون هى إدارة التنافس الاستراتيجى مع الصين وكبح جماح نفوذها الاقتصادي والسياسي وخفض عجز الميزان التجاري عبر انشاء تحالفات قوية تضم أوروبا والهند واستراليا واليابان . واصلاح نظام التجارة العالمية عبر منظمة التجارة الدولية. ويقرر المعهد الملكي ان العودة لتبني توجهات قيمية في السياسة الخارجية يعتبر خيارا ضروريا لابد منه خاصة حماية حقوق الانسان وتعزيز الديمقراطية علي ان يطبق ذلك بشمول دون انتقائية كما فعل ترامب مع الصين.
وحسب المؤشرات الراهنة وجملة التحديات الخارجية التى ستواجه الادارة الجديدة فإن افريقيا ستكون في ادنى سلم اولويات سياسة بايدن الخارجية. إذ سيتركز اهتمامه علي توحيد الداخل أولا ومواجهة الجائحة الصحية، اضافة للاهمية الاستثنائية لادارة صراع التنافس الاستراتيجى مع الصين وكبح جماح روسيا واعادة التوازن للعلاقة مع اوروبا و العودة إلي تفعيل المؤسسات الدولية وصون النظام الليبرالي العولمى. والي حين صياغة استراتيجية جديدة للامن القومى لن تهتم ادارة بايدن بأفريقيا في بداية فترته الرئاسية الا في اطار معالجة الأزمات الطارئة خاصة الانسانية منها أو محاربة الارهاب خاصة في غرب افريقيا والقرن الافريقي، و كفكفة تغلغل النفوذ الصيني الاقتصادي والسياسى في افريقيا، وتجفيف النزاعات خاصة تلك التي يخشي منها في تهديد الاستقرار الإقليمي مثل تطورات الأوضاع في ليبيا و اثيوبيا وغيرها، و تعزيز أمن البحر الأحمر كممر عالمى للتجارة الدولية.
رغم تراجع أهمية افريقيا في سلم أولوياته الخارجية الا ان الوفاء للناخبين الأمريكيين من أصول افريقية الذين صوتوا له بقوة ربما يدفع بايدن لتعزيز علاقته بأفريقيا بما يتجاوز الدعم الإنسانى إلي بحث ملامح شراكة اقتصادية لكبح نفوذ الصين، لكن مع تطبيق صارم لمعايير احترام حقوق الإنسان والالتزام بالديمقراطية. ومع تراجع أهمية النفط لأمريكا الا بالقدر الذي يحفظ استقرار الأسعار وسوق الطلب بعد تحولها لدولة مصدرة تتجه أنظار الشركات الامريكية للإستثمار في المواد الخام خاصة المعادن بعد توسع الصين وروسيا في الاستحواذ علي استثمارات هذا القطاع المنتج والهام في افريقيا.
مع تراجع أهمية افريقيا في سلم أولويات بايدن الخارجية سيكون السودان فى هامش اهتمامات الإدارة الجديدة ايضا، إلا فى إطار العون الانساني ودعم التحول الديمقراطى وتعزيز فرص التطبيع مع إسرائيل.
تتولد شكوك وترتفع آمال عن مدى التزام جو بايدن بسياسة سلفه ترمب تجاه السودان، خاصة الصفقة التي ابرمها مع القيادة السودانية برفع السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب مقابل دفع تعويضات اسر ضحايا الهجمات الارهابية البالغة ٣٣٥ مليون دولار وتطبيع العلاقات مع اسرائيل.
رغم أن هذه الصفقة مع السودان حظيت بدعم الحزبين في الكونغرس الا ان انقساما حادا بين بعض أعضاء مجلس الشيوخ بشأن تمرير قانون منح الحصانة السيادية ربما يؤخر جزئيا اجراءات إزالة السودان من القائمة لاصرار بعض النواب علي منح ضحايا تفجيرات ١١ سبتمبر الحق القانونى في مقاضاة السودان امام المحاكم الأمريكية. واذا نجح أسر ضحايا هجمات سبتمبر البالغ عددهم حوالى ٣ الف في انتزاع حكم قضائي من المحاكم الأمريكية سيدخل السودان فى دورة تسويات جديدة لتعويض الضحايا بمبالغ تفوق بكثير التعويضات السابقة. لكن تأخر إصدار قانون السيادة الوطنية لا يوقف اجراءات إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
من المؤمل ان تنتهي فى عهد بايدن السياسة المزدوجة التى وسمت تعامل ترامب مع السودان، إذ ظل البيت الأبيض يدعم المكون العسكري في مجلس السيادة خاصة في موضوع التطبيع مع تل أبيب، فى الوقت التى حافظت فيه وزارة الخارجية الامريكية على دعم الحكومة المدنية برئاسة حمدوك.
من المرجح أن ينهى بايدن هذه الازدواجية ويعمل علي توحيد سياسة إدارته تجاه السودان بالانحياز والتعاون مع الحكومة المدنية أكثر من الرئاسة العسكرية لمجلس السيادة الذي يقوم عليه الفريق عبدالفتاح البرهان، مع تعميق سياسة سلفه ترامب لاستكمال خطوات التطبيع مع إسرائيل. سيكون بايدن اقل اهتماما بقضايا الحريات الدينية التى جعلها ترمب في صدارة أولوياته لإرضاء قاعده الشعبية من الايفانجلكيين واليمين الديني.
في المقابل ستهتم سياسة بايدن بدعم عملية السلام في السودان، و احترام حقوق الإنسان والتحول الديمقراطى وقيام الانتخابات في موعدها، و انخراط السودان مجددا في محاربة الإرهاب خاصة ضد تمدد الشباب وداعش في المنطقة ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وان يكون اكثر ارتباطا باستراتيجية القيادة الإفريقية ،( افريكوم) في المنطقة.
تضغط واشنطون لحجز موقع متقدم في موضوع إصلاح القطاع الأمنى، كما تتابع بقوة إعادة ارتباط السودان بمحاربة الإرهاب في المحيط الإقليمي مع توفير وجود لوجستى وربما فنى عملياتى مقدر للقيادة الإفريقية الامريكية (افريكوم) فى السودان.
ستحث واشنطون السودان لمواصلة جهوده لدعم السلام والاستقرار الإقليمي خاصة في جنوب السودان و ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى.
ستكون اهم مرتكزات ادارة بايدن تجاه السودان هو الحفاظ علي قاعدة النفوذ والتأثير علي متخذ القرار السودانى التي انتجها الاثر التراكمى لمنظومة العقوبات المتطاولة علي السودان، فبدلا من العقوبات وقائمة رعاية الارهاب ستواصل واشنطون استثمار نفوذها واستمرار ضغوطها عبر المؤسسات المالية الدولية خاصة البنك الدولى وصندوق النقد في موضوعات اعفاء ديون السودان البالغة ٦٠ مليار دولار عبر مبادرة الدول المثقلة بالديون (هيبك). وكذلك تخصيص قروض ميسرة لانتشال الاقتصاد السودانى من ازماته الراهنة، والتحكم في تسهيل تحويلات المصارف العالمية مع نوافذ الاقتصاد الوطنى.
هذا يعنى أن واشنطون ستحتفظ بقاعدة النفوذ والتأثير المستمدة من تراكم اثر العقوبات مع استبدال الأدوات من وسائل الإكراه والاجبار عن طريق العقوبات إلي ضغوط ناعمة لكنها قوية عن طريق التحكم في العون الاقتصادى وإعفاء الديون وتسهيل القروض وإعادة إدماج الاقتصاد السودانى في المنظومة المالية والاقتصادية العولمية والتحكم في تحويلات المصارف الدولية. وكذلك تاثيرها الكبير على عملية السلام.
هناك شكوك في مواصلة بايدن لإنفاذ تعهدات إدارة ترامب فيما يتعلق بحزمة المحفزات المرتبطة بالتطبيع مع إسرائيل وهي تقديم معونات تنموية ودعم عاجل للسلع الاساسية خاصة الوقود والقمح وحث الشركات الامريكية للإستثمار في السودان. إذ يرتبط دخول الشركات الامريكية فى سوق الاستثمار السودانى بحزمة القوانين اللازمة لحماية الاستثمار واستقلال القضاء والبنية التحتية والاستقرار الاقتصادى و امتثال بنك السودان للتعهدات والاتفاقيات الدولية خاصة محاربة الفساد وغسيل الأموال وغيرها.
من المتوقع الا تمضي إدارة بايدن حرفيا في مشروع صفقة القرن والاتفاق الإبراهيمي الذي أدى لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وثلاث دول عربية هى الإمارات والبحرين والسودان، لكن ستحافظ علي روح الاتفاق لدعم و تطوير صيغ التطبيع والتعاون بين اسرائيل والدول العربية، والانفتاح علي الجانب الفلسطينى واعادة التعاطى معه مجددا دون اتخاذ سياسات متطرفة كالتى أقرها ترامب خاصة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والجولان . لأن ارث سياسات الديمقراطيين هو رعاية مبدأ حل الدولتين مع الحفاظ علي أمن اسرائيل و أستدامة تفوقها النوعى و الاستراتيجى وتشجيع التطبيع مع الدول العربية. ربما يمنح هذا التحول المترددين في الحكومة السودانية بعض الوقت والمناورة التكتيكية في إبطاء اجراءات التطبيع مع تل أبيب.
وربما تتخذ الإدارة مقاربة سياسية جديدة بشأن التعاطى مع إيران لإحياء صيغ الاتفاق الدبلوماسي عبر التفاوض للتحكم في مشروع إيران النووي بدعم ومشاركة الشركاء الأوروبيين والدوليين.
ان التحولات الجيوسياسية في المنطقة خاصة مع تزايد الخلافات حول اجراءات ملء سد النهضة في اثيوبيا وتشغيله بين الدول الثلاثة مصر و اثيوبيا والسودان، ستدفع بايدن إلى مواصلة سياسة سلفه ترمب في الاهتمام بنزع فتيل الانفجار والمواجهة بين أكبر دولتين من حيث الكثافة السكانية والأهمية الاستراتيجية. حسب توجهات الديمقراطيين الدبلوماسية فإنهم أكثر ميلا لمعالجة أزمة سد النهضة عن طريق المنظمات الإقليمية والدولية عبر نهج الدبلوماسية الجماعية بدلا من التصدى لمهمة نزع فتيل الأزمة علي المستوى الثنائى باستخدام العقوبات او ثقل واشنطون السياسي والاقتصادي والعسكري مع هذه الدول، لذا فإن دعم واشنطون في عهد بايدن لجهود الاتحاد الأفريقي ستكون هي الخيار الأنسب لتوجهات سياسة واشنطون الجديدة.
ستزداد الأهمية السياسية والاستراتيجية للقرن الأفريقي في عهد بايدن من حيث تقوية جهوده لمنع تغلغل وبسط نفوذ الصين فى افريقيا عن طريق مشروع طريق الحرير. اذ بلغ التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا ١٨٤ بليون دولار عام ٢٠١٧، مقابل حوالي ٦٥ بليون بين الولايات المتحدة وأفريقيا لنفس العام . هذا إضافة إلي مشروع امن البحر الأحمر في ظل تصاعد حرب اليمن و زيادة عدد القواعد العسكرية للدول الكبري فى ظل تنافس محموم بين الدول الاقليمية للحصول علي قواعد عسكرية ومنافذ مطلة علي البحر الاحمر خاصة فى الصومال و إريتريا وجيبوتي.
تفتح التوترات التى اندلعت داخل اثيوبيا مؤخرا بين الحكومة الفيدرالية وحكومة جبهة التقراى الحاكمة للاقليم بابا واسعا للتكهنات حول مستقبل هذا الصراع الداخلي وإمكانية تحوله إلى حرب أهلية تهدد الاستقرار السياسي ، وهز أركان الدولة الإثيوبية التى تبنت نموذج الاثنية الفيدرالية أساسا للحكم، مع إعطاء الأقاليم حق تقرير المصير.
لا يتوقع تدخل واشنطون المباشر في الصراع السياسى الداخلى رغم الانشغال الذي عبر عنه وزير الخارجية بومبيو في تغريدة علي ضرورة حل النزاع سلميا وتعهد واشنطون الوقوف إلى جانب الشعب الأثيوبي،وكذلك تعبير أكثر من سيناتور في مجلس الشيوخ عن قلقهم البالغ لهذه التطورات وضرورة حل الخلاف القائم سلميا، آخذين في الاعتبار نقد الرئيس ترامب لإخلال حكومة أبى أحمد في أديس بتعهداتها تجاه الحلول التى اقترحها الوساطة الأمريكية لحل ازمة سد النهضة مما أدى إلي وقف المساعدات الأمريكية. وستتصاعد نذر الازمة الانسانية والنزوح في اثيوبيا جراء المعارك ، حيث تقدر الامم المتحدة حاجة أكثر من ٩ مليون مواطن لمساعدات إنسانية عاجلة الان داخل اثيوبيا.
ستكون خيارات إدارة بايدن اقل حدة تجاه اثيوبيا، وأقل انحيازا لمصر علي عكس سلفه ترامب، بل من المرجح استئناف برنامج المساعدات الأمريكية لاثيوبيا مع رجحان التوقعات أن تتخذ واشنطون حزمة ضغوط واجراءات ناقدة لسياسات نظام الرئيس السيسى في مصر خاصة تجاه قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أشار بايدن نفسه لذلك فى سياق مناظرات التنافس الانتخابي، وفى عدة تغريدات بعدها. ولكن ربما تتبخر الوعود الانتخابية في أتون الواقعية السياسية.
ستركز سياسة واشنطون في عهد الإدارة الجديدة على ضرورة الحفاظ على استقرار القرن الأفريقى وتجفيفه من النزعات إلي الحد الادنى الممكن، مع تقوية دور الاتحاد الأفريقي والمنظمات شبه الإقليمية خاصة منظمة ( الايقاد) لحل الصراعات الداخلية وكذلك النزاعات بين دول الاقليم.
ومع ذلك تظل هناك تحديات أخري تواجه السياسة الأمريكية خاصة محاربة الارهاب في المنطقة و لا سيما فى الصومال، وكذلك دعم اتفاقية السلام والتحول الديمقراطى في جنوب السودان.
ستظل قضية التحول الديمقراطى في إريتريا احد اهم تحديات سياسة الولايات المتحدة في القرن الأفريقي، مع استمرار سيطرة الرئيس أسياس افورقى علي مقاليد السلطة والحكم لما يقارب الثلاث عقود دون إبداء أي تنازلات تجاه الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطى وتخفيف القبضة الحديدية علي الشباب وأكراهات تطاول امد الخدمة الوطنية واحترام حقوق الإنسان.
لعله من المبكر التنبؤ بخيارات الرئيس بايدن لمنصب وزير الخارجية رغم بروز توقعات جدية في الصحافة الأمريكية و اتساع قاعدة الترشيحات وفقا لذلك ، لكن يتوقع عودة بعض رموز ادارة اوباما مجددا. واذا وقع الاختيار علي سوزان رايس مجددا ضمن طاقم الامن القومى او وزارة الخارجية فأنها ستسهم بلاشك
فى بلورة سياسة داعمة لتوجهات الحكم المدنى فى السودان والتحول الديمقراطى من خلال خبرتها السابقة وتعاطيها المستمر مع الملف السودانى خاصة في مناصبها المتعددة كمندوب دائم للولايات المتحدة في نيويورك ومستشار للامن القومى وقبلها مساعدة لمادلين اولبريت وزيرة الخارجية للشئون الافريقية، حيث ربطتها علاقات قوية بالحركة الشعبية حينها.
ان اعلان سياسة جديدة علي وجه الخصوص سيكون مرتبطا بشكل اساسي بأختيار مساعد لوزير الخارجية للشئون الإفريقية. وهو إجراء يستغرق عدة أشهر من أداء الرئيس بايدن القسم في يناير القادم.
لكن بوصلة سياسة الولايات المتحدة الخارجية تجاه القرن الأفريقي في ظل ادارة الرئيس المنتخب جو بايدن حسب تراكم المؤشرات السابقة والمعطيات الراهنة و توقعات السياسة الخارجية ستكون موجهة للحفاظ علي التوازن الجيواستراتيجي و الاستقرار الاقليمي ونزع فتيل التوترات خاصة الصراع علي موارد المياه بعد تشييد سد النهضة بين مصر واثيوبيا والسودان، ومنع انزلاق الاوضاع الداخلية في دول المنطقة خاصة اثيوبيا والسودان نحو الفوضي وتجدد الحرب الاهلية. وان يظل البحر الاحمر ممرا دوليا للتجارة العالمية مع تكثيف التعاون لمحاربة الارهاب والحد من الهجرة غير الشرعية. والدفع بمكانزمات التحول الديمقراطي واحترام حقوق الانسان في المنطقة.
اما السودان فستتواصل إرث سياسة اتفاق الحزبين مع الحفاظ قاعدة النفوذ والتأثير التي انتجتها منظومة العقوبات بادوات اكثر نعومة واقل خشونة، والاهتمام بدعم مشروع الانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان عبر الحكومة المدنية وتحالف كتلة القوى الليبرالية الحاكمة مع تخفيف قبضة اليساريين علي مقاليد الحكم ، وتحقيق تمثيل اكثر شمولا لقوى التغيير و اصحاب التوجهات المعتدلة لمراعاة التنوع وتوسيع قاعدة المشاركة في مؤسسات الحكم .
khaliddafalla@gmail.com
///////////////////////