عمر بونغو ونهاية عهد الرؤساء مدى الحياة
7 July, 2009
إن رحيل الرئيس الغابوني في الشهر الماضي بعد أن حكم بلاده لما يقارب 42 عاما يمثل نهاية عهد هو عهد سلالة من الحكام الأفارقة ممن كانت لهم علاقات خاصة مع الدولة الاستعمارية جسدها عمر بونغو في أوضح صورها حيث لم يبق من الحكام الذي تولوا أمور بلادهم بعيد الاستقلال ولا يزالون في الحكم إلا القليل. وقد فتح بالطبع ملف بقاء الحاكم لسنين عددا وتركة هؤلاء الحكام بعد أن يذهبوا في نهاية الأمر قسرا عن طريق الفناء الطبيعي ولقد فتح أيضا ملف توريث الأبناء والأقارب مع استعدادات أسرة بونغو للبقاء لتستمر السلالة التي لم تنجب الأمة خيرا منها لتكفلها برعايتها وتفيض عليها من فيئها!
عمر بونغو كان تجسيدا لتلك العلاقة الخاصة لفرنسا مع مستعمراتها القديمة في القارة الأفريقية والتي تعرف بالفرانس أفريكانية. وهي آلية معقدة تتداخل فيها مصلحة الدولة مع المصالح التجارية، والتواطؤات السياسية، وجماعات المصالح والأغراض من كل الأصناف. كانت حكومة بونغو هي النموذج المتبقي للسياسة الاستعمارية الفرنسية في شكلها الجديد الذي هو استمرار للاستعمار القديم. استغل الجنرال ديغول اليورانيوم المستخرج من الغابون في التجارب النووية الفرنسية في الجزائر في خمسينات القرن الماضي، وواصل بونغو تقديم اليورانيوم لمشروعات فرنسا لتوليد الكهرباء عن طريق الطاقة النووية في صفقات مشبوهة كانت من المصادر الرئيسية لثرواته التي جمعها وجعلته واحدا من أثرى الأثرياء في العالم. كما أن فرنسا ظلت تدعم الميزانية بقروض ميسرة وتدفع في بعض الأحيان رواتب 170 خبيرا فرنسيا يعملون في مختلف الوزارات إلى جانب رواتب المعلمين الفرنسيين والطلاب الغابونيين المبعوثين في فرنسا. وفي مقابل ذلك أطلقت فرنسا يده وأسرته في الغابون وثرواتها يغترفون منها ما يشاؤون. وفي إطار هذه الخصوصية في العلاقة بفرنسا لم يكن قريبا أن هب الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي والرئيس السابق جاك شيراك ليكونا في طليعة المشيعين للفقيد الكبير وقالا عنه كلمات طيبات وانقضى العزاء الضخم بعد أن قاد المراسم كبير قساوسة ليبر فيل ولم يعبأ أحد بضرورة دفن الفقيد في مقابر المسلمين أو غير المسلمين حيث نقل الحاج عمر بونغو إلى مسقط رأسه التي صار اسمها بونغوفيل بدلا عن فرانسفيل وقد ترك اسمه أيضا في جامعة عمر بونغو ومطار عمر بونغو واستاد عمر بونغو وصالة ألالعاب الرياضية عمر بونغو وأكبر شوارع العاصمة بالطبع هو شارع عمر بونغو.
وبالنظر إلى ما ترك غير ذلك للغابون وشعب الغابون تلك الدولة التي تبلغ مساحتها نصف مساحة فرنسا ذات السبعين مليونا ويبلغ عدد سكانها أقل من مليون ونصف المليون نجد لم يترك إرثا جديرا بالذكر. كان يتوقع للغابون التي منحها الجنرال ديغول الاستقلال ضمن ثمانية بلدان أفريقية أخرى في عام 1960 أن تصير "كويت إفريقيا"، بسبب ثروتها النفطية إضافة إلى وجود ثروات باطنية أخرى في أرضها مثل الحديد والمانغنيز واليورانيوم وثروة خشبية هائلة نظرا لكثافة غاباتها. على الرغم من كل ذلك فإن الأرقام تبين الوضع المتدني لشعب هذه البلاد في سلم النمو والرفاهية فبينما يساوي دخل الفرد في الغابون مستوى دخل الفرد في البرتغال (حوالى 12000 دولار في العام).فإن ترتيبها في مؤشر التنمية البشرية هو 144 من أصل 178، ويبلغ متوسط العمر المتوقع للفرد 53 سنة، وهناك إمرأة من أصل اثنتين لا تذهب إلى المدرسة، وخمس السكان الذين هم في سن العمل يعانون البطالة. ومعدلات وفيات الأطفال من أعلى المعدلات في القارة. وإذا ما قسمنا طول الطرق التي شيدت في سنوات حكم الرئيس بونغو الأربعين على عدد تلك السنوات نجد أن متوسط ما أنشى من طرق لا يتجاوز خمسة كيلومترات في العام.
ولد عمر بونغو واسمه القديم (ألبير برناربونغو ) في 31 ديسمبر 1935 في عائلة فلاحية متكونة من اثني عشر طفلا، و انضم إلى السلاح الجوي الفرنسي عام 1958، وعمل في الاستخبارات العسكرية الفرنسية. وعندما توفي الرئيس الغابوني السابق ليون أمبا في عام 1967، قدم جاك فوكارت الملقب بسيد إفريقيا في الخارجية الفرنسية، عمر بونغو إلى الجنرال ديغول الذي أيد صعوده إلى السلطة في بلده الغابون، بعد أن أجريت انتخابات رئاسية شكلية حصل فيها بونغو على نسبة 99.9% من الأصوات، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز 31 سنة. وظل ينتخب بنفس النسبة حتى عام 1990 حيث بدأت فكرة الحزب الواحد في الأفول وكان لا مفر من الدخول لعالم التعددية الحزبية خصوصا وأن فرنسا قد بدأت تربط مساعداتها بإجراء نوع من التحول الديمقراطي في المستعمرات السابقة.
وفاز بأول انتخابات تعددية مرة وثانية ثم عدل الدستور، كالكثيرين غيره، ليتمكن من الترشح إلا ما شاء الله من المرات وكانت ولايته الحالية ستنتهي في عام 2012 لأنه قد عدل مدة الولاية لتكون سباعية بدلا عن خمس سنوات حرصا منه على عدم تبديد موارد الدولة في الانتخابات كل خمسة أعوام كما كان يقول! ولقد مضى ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان وميتران وشيراك ثم جاء عهد ساركوزي وعمر بونغو لم يتزحزح عن عرشه إلا بعد أن نقل إلى القبر. لعمر بونغو عبارة تلخص علاقته بفرنسا ودور التابع الذي رضي به حيث كان يقول "إن إفريقيا من دون فرنسا، هي مثل سيارة من دون سائق، وفرنسا من دون إفريقيا، هي مثل سيارة من دون وقود".
كان النفط هو القيمة الحاضرة في العلاقات الغابونية- الفرنسية من خلال شركة "ألفا كيتان" التي أنشئت عام 1967، وحظيت بوضع ضريبي مميز، وأسهمت في إثراء الرئيس وعائلته وحلفائه..وبفضل الريع النفطي استطاع بونغو أن يشكل علاقات زبائنية سياسية على الصعيد الداخلي من خلال شراء معارضيه السياسيين، وخلق بطانة منتفعة حول حكمه. وقد يتسآل المرء لماذا اختار الرئيس بونغو أن يتعالج في مستشفى أسباني بدلا عن متسشفى فرنسي وله في فرنسا مرابط فرس. والسبب هو أن تحقيقات قضائية قد فتحت في فرنسا بضغط من مجموعات المجتمع المدني قادت إلى احتمال توقيفه بسبب خلطه بين المال العام وماله الخاص حيث تبين أن له 39 مسكنا فاخرا في باريس ونيس و70 حسابا مصرفيا يغذي بعضها بأموال من وزارة المالية في ليبرفيل كما أن بعض الفلل قد تم شراؤها بشيكات محررة من وزارة المالية.
ولقد تولت رئيسة مجلس الشيوخ بموجب الدستور السلطة مؤقتا على أن تجرى انتخابات رئاسية خلال 45 يوما. وفي غياب مرشح معين ومعارضين يتمتعون بصدقية، فضلا عن رغبة عائلة بونغو الاحتفاظ بالحكم ومراعاة التوازنات الإثنية، تبدو خلافة عميد الأفارقة عملية معقدة. ويتوقع أن يحصل تنافس بين تيارات داخل الحزب الحاكم من أجل وصول أحد ممثليها إلى سدة الحكم، في وقت يشير كثيرون إلى أن نائب رئيس الحزب الغابوني الديمقراطي ووزير الدفاع علي بن بونغو (50عاما) يتوفر على حظوظ كبيرة لخلافة والده. وكان والده قد عينه وزيرا للخارجية لثلاثة أعوام في مطلع التسعينات ثم عاد في نهايتها ليعينه وزيرا للدفاع لتجنب وقوع انقلاب عسكري، ولوضعه في موقع يهيئه لخلافته. إلا أن صراع الأسرة قد يكون شديدا لبقاء السلالة حيث تسعى ابنته باسكالين، وزيرة ديوان الرئاسة وقد كانت وزيرة للخارجية ليس للترشح ولكن لترشيح زوجها بول تونغي الذي هو وزير الخارجية الحالي للسعي لنيل المنصب كما أن لها مرشحا آخر في حالة تلاشي حظوظ زوجها الحالي وهو زوجها السابق ووالد أبناءها السيد جان بينغ الأمين العام للاتحاد الأفريقي وذو الأصول الصينية التي ساعدته في جلب الاستثمارات الصينية التي صارت تسيطر على مجالات الأخشاب والمنجنيز في الغابون. ولقد تزوج عمر بونغو كزوجة ثانية لوسي بنت صديقه رئيس الكنغو برازافيل دنيس ساسونغيسو التي توفيت في مارس الماضي بعد أن خلفت له 9 من الأبناء ويقال أن لعمر بونغو حوالى ثلاثين من البنين والبنات وهو عدد مفيد في الحفاظ على سلالة الحكم لأجيال قادمة!
يحمد لعمر بونغو أن بلاده لم تشهد اضرابات أو حربا أهلية كسائر البلدان الأفريقية وربما كان لوجود قاعدة فرنسية في البلاد منذ استقلالها وقوة مظلات خفيفة في داخل العاصمة دور في ذلك الاستقرار. ولم يعرف عن بونغو استخدام العنف والفظاعة ضد معارضية ولكنه برع في استقطاب خصومه بالإغراء بالمال والجاه ولقد ساعده المال السائب بين يديه في تحقيق ذلك الهدف. كما أنه قد عرف في سنواته الأخيرة كوسيط لصنع السلام وقد نجح في الوساطة بين الأطراف المتصارعة في جمهورية أفريقيا الوسطى حتى انتهوا بعقد الحوار الوطني الجامع الذي مهد الطريق لاستقرار السلطة في المستقبل. ولقد كانت وساطة بونغو مثالا في إحدى الدورات التي حضرت عن حل النزاعات ولقد كان من أسباب نجاحه معرفته بجميع الأطراف ومعرفته باللغة المحلية في إفريقيا الوسطى حيث كان قد عمل بها في صباه ثم وضعه لإمكانات بلاده لإنجاح الحوار وقد ساعد استخدامه للطائرات لنقل قادة الفصائل من الأماكن النائية في توفير الدعم اللوجستي اللازم للمفاوضات.
قلت لصديق غابوني يعمل موظفا دوليا على هامش تلك الدورة لماذا لا تطلب من رئيس بلادك التدخل للمساهمة لحل النزاع في دارفور راقته الفكرة فكتب للحاج عمر بونغو فجاء رده سريعا. أنه سيكون سعيدا بالمساعدة إذا طلب منه ولكن حتى الآن لم يطلب مه أحد ذلك. كما أن صديقه ألقذافي يقوم بوساطة ولا يريد أن يفسد عليه جهده وأورد سببا آخر وهو عدم معرفته بأي لغة من لغات أطراف الصراع كما أنه لا يتكلم الانكليزية. وقد كان صديقي سعيدا برد الرئيس على رسالته التي كان يحملها دائما معه، وكنت أنوي أن أناقش مع صديقي "يوسف" وهذا هو اسمه يوم الجمعة عندما يأتي للصلاة في مسجد الأمم المتحدة وفي غير ذلك من أيام فهو جوزيف هكذا يسمون أنفسهم اسما مسلما إن كانوا مسلمين واسما مسيحيا حتى وإن كانوا مسملين لزوم المدرسة وجهاز الدولة وفقا للتقليد الاستعماري الفرنسي. عدت من رحلة خارج البلاد سمعت خلالها برحيل عمر بونغو وكنت على شوق لأسمع تعليق صديقي يوسف عن فترة ما بعد بونغو وكان صديقي يستعد للسفر إلى هولندا لتولي منصب قانوني رفيع في محكمة العدل الدولية. ولكن تشاء إرادة الله أن يكون "يوسف" ضمن ركاب طائرة أير فرانس التي اختفت في المحيط بعد إقلاعها من ريودي جانيرو في البرازيل ولم يعثر له على جثمان، رحمه الله.
أقام العقيد القذافي بوصفه عميد الرؤساء الأفارقة وملك ملوك أفريقيا لهذا العام مجلس عزاء وتلقى التعازي من أعضاء السلك الدبلوماسي الأفريقي في طرابلس في صديقه الحميم الذي يقال أنه قد دخل الإسلام على يديه. والقذافي هو عميد الروساء الأفارقة بلا منازع حاليا حيث أنه سيكمل أعوامه الأربعين في الحكم بحلول الفاتح من سبتمبر القادم. بفارق عشر سنوات من الرئيس الذي يليه في قائمة أكثر عشرة رؤساء أفارقة بقاء في الحكم وهو ثيودورأنغوما رئيس غينيا الاستوائية وهي الدولة الأفريقية الوحيدة الناطقة بالأسبانية، الذي وصل إلى الحكم في أغسطس 1979.(30 عاما) ثم وصل الحكم بعده بشهر واحد الرئيس الانغولي جوزيه دو سانتوس، (30 عاما)، ويجئ روبرت موجابي رئيس زيمبابوي (29 عاماً) في المركز الرابع، ثم الرئيس المصري حسنى مبارك (28 عاما) في المركز الخامس ويليه الرئيس الكمروني بول بيا في المركز السادس (26 عاماً) ثم الرئيس الاوغندي يوري موسيفيني في المركز السابع (23 عاماً) ثم يأتي الملك مسواتي الثالث ملك سوازيلاند في المرتبة الثامنة (23 عاماً) ويحتل بليز كومباوري رئيس بوركينا فاسو (21 عاما) المركز التاسع ثم يجئ الرئيس التونسي زين العابدين بن على في المرتبة العاشرة (21 عاما) لقائمة الرؤساء الذين ظلوا في الحكم لأكثر من عشرين عاما ولقد انضم لهذه القائمة مؤخرا الرئيس عمر البشير الذي بلغ عشرين عاما في الحكم منذ أسبوع وهي أطول مدة حكم لحاكم سوداني منذ عهد الملك ترهاقا الذي كانت فترة حكمه ستا وعشرين سنة (690 -664 ق م) في أرجح الروايات وإن كان البعض قد أورد أنه قد حكم مدة خمسين عاما كانت 21 عاما على عرش نبتة وطيبة معا أو عرش مصر والسودان إن شئت. وربما اصيب الرئيس عمر البشير بالأرق إذا تذكّر بأنه قد يصير حاكم السودان الذي سيغادر كرسي الحكم وقد اقتطع من السودان مثلث في شماله الشرقي وثلثه الجنوبي وتنتظر بقية الأجزاء مصيرها. فالعبرة ليست بطول المدة ولكن بما انحز خلال مدة الحكم طالت أم قصرت.