عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني اجتماعاً في النصف الأول من يوليو 1972م, ونظرت بحسب السكرتارية المركزية في جدول أعمالها الذي حوى تقارير الوضع السياسي والتنظيمي وقضايا أخرى. ونهتم في هذا العرض بوقائع وملاحظات اجتماع اللجنة المركزية فيما يتعلق بموضوعنا, أي عملية يوليو الكبرى والتي كان هدفها الأول "الدولة السودانية" ونأخذ من هذه الدورة: 1-تجسيد نظام الحكم بعد 22 يوليو لمصالح الاستعمار الحديث. 2-استكمال النظام للتشريعات والسياسيات لفرض طريق التنمية الرأسمالية وما جنته المؤسسات المالية والنقدية الدولية والشركات والاحتكارات الغربية من ثمار عملية يوليو. 3-تحركات القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التنمية الرأسمالية. وجاء في مقدمة الاجتماع ان النظام الحالي, نظام ردة 22 يوليو 1971م هو تجسيد للانتصار الكامل لمصالح وأهداف وإرادة قوى اليمين والثورة المضادة في السودان والمنطقة المحيطة به في صراعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري ضد قوى الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية. انتصار لمنهج وبرامج طريق التنمية الرأسمالية وخضوعها لسيطرة وتمويل ودفع الاستعمار الحديث, مصادرة الديمقراطية وسياسة العداء للشيوعية واستغلال الدين واستعمال العنف, بشقيه عنف القانون والعنف الدموي, لقهر وتصفية الحركة الثورية وتوثيق التحالف مع الأنظمة والدوائر الرجعية في المنطقة وعلى النطاق العالمي والسير في طريق العداء للاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية وحركة التحرير الوطني.
أين وصلت السلطة في تحقيق أهدافها؟ أصدرت الدولة واستكملت كل التشريعات وصاغت كل السياسات لفرض طريق التنمية الرأسمالية وسيطرة دوائر الاستعمار الحديث, وبرزت في كل مجالات النشاط الاقتصادي والانتاج السمات المزمنة لازمة هذا الطريق. على الرغم من أعباء القروض الأجنبية المتبقية والبالغة (120) مليوناً من الجنيهات في الربع الأول من هذا العام, وتراكم الأقساط والفوائد لأغلبها للتسديد خلال السنوات الأربعة القادمة دخلت السلطة في اتفاقيات جديدة للقروض من دوائر الاستعمار الحديث, ومن دوائر الرجعية في دول الجزيرة العربية المنتجة للبترول.
أهم تلك الاتفاقيات 40 مليون دولار من صندوق النقد الدولي 18 مليون دولار من حكومة الولايات المتحدة 11 مليون دولار من البنك الدولي 18 مليون جنيه استرليني من بريطانيا 5 ملايين جنيه استرليني من المانيا الغربية 8,5 مليون جنيه استرليني من ايطاليا 6 ملايين جنيه استرليني من الكويت من جهة أخرى حصلت شركات واحتكارات غربية على امتيازات للاستثمار مثل مجموعة شركات لونرو البريطانية الروديسية أو شركات أمريكية لاستغلال خام النحاس.. الخ. واكتسبت الدول المنتجة للبترول في الخليج والسعودية مساحة أكبر للحركة الاقتصادية والاستثمار في الثروة الحيوانية والصناعات الاستهلاكية الخفيفة وخطوط الطيران والسياحة, وتلعب شركة الخليج في هذه المجموعة دوراً قائداً ومؤثراً في أجهزة السلطة, وتقوم السعودية بدور كبير اقتصادي وسياسي فتقدم ضمانات لحكومة السودان لدى البنوك الأجنبية للاقتراض, وتعد بتقديم قروض ومساعدات مقابل انضمام السودان للمؤتمر الاسلامي والتوقيع على ميثاقه, وتشرف على المصالحة بين سلطة الردة ودوائر الثورة المضادة التقليدية. وعلى طريق العداء للاتحاد السوفييتي وضرب الحزب الشيوعي السوداني تقدمت الصين بقرض 80 مليون دولار. يشرف على هذه السياسة الاقتصادية ويوجهها البنك الدولي وملحقاته. وقد عادت هذه المؤسسة لتواصل نشاطها في السودان من حيث أوقفته الحركة الثورية بعد اكتوبر وعرقلت جهود حكومات الأحزاب التقليدية لإعادته وتكثيف طبيعة البرنامج الاقتصادي لسياسة التنمية الرأسمالية التي تتحد فيها جهود السلطة والبنك الدولي, في التصريح الذي نشرته صحيفة الأيام في 31 مارس 1972م. "أشاد صندوق النقد الدولي بالبرنامج الذي وضعته الدولة للتركيز الاقتصادي والذي تم التوصل بموجبه الى اتفاقية الدعم التي سيحصل السودان على ضوئها على قرض 23 مليون دولار لدعم ميزان المدفوعات".
وضع القطاع العام الجديد في اطار هذه السياسة الاقتصادية والمالية المتكاملة ننظر في وضع القطاع العام الجديد الذي تكون من المؤسسات المؤممة والمصادرة. ان رأي الحزب الشيوعي حول هذه القضية بايجابياتها وسلبياتها أمر معروف وأثبتت الأيام صحته, ولكن تسرب نفوذ الاستعمار الحديث والسير في طريق التنمية الرأسمالية وعجز السلطة قد أدخلت هذا القطاع في امتحان عسير. أفلس بعضه وتوقف البعض الآخر والمؤسسات التي تسير بقوة دفعها الذاتية تجلس على قمتها عناصر غير مؤهلة وغير مؤتمنة فأصبح بؤرة للاختلاسات والثراء السريع وتفرعت من مناصبه القيادية علاقات مالية بمؤسسات القطاع الخاص والسوق بصفة عامة. ونشأت مصلحة ومنفعة متبادلة أزهقت مقدرات هذا القطاع, التعويضات غير المعلنة للعديد من الأجانب مقابل تهريب أموال لمصلحة كبار المسؤولين في مجلس الثورة والدولة. وعاث جهاز الرقابة المركزي فساداً بموارد المؤسسات المصادرة التي كانت تحت اشرافه وممتلكاتها. أصبح هذا القطاع ميداناً جديداً للتراكم الرأسمالي بصورة سريعة لفئة جديدة من الرأسمالية وأداة من أدوات الدفع الرأسمالي في البلاد.
تحركات القوى الاجتماعية من فوق هذه السياسات لا سواها ننظر في تحركات القوى الاجتماعية والطبقات والدوائر السياسية ذات المصلحة في التنمية الرأسمالية.. وقد وضح لنا منذ المؤتمر الرابع والدراسات التي تمت في المؤتمر وما صاغه عبدالخالق من وثائق أن دفع التنمية الرأسمالية خلال سنوات الديكتاتورية العسكرية وبعد اكتوبر 1964م قد اخترقت كل الهياكل والتكوينات القديمة القبلية والطائفية, ثورة اكتوبر (64) لتهتز ساكن الحياة في القطاع التقليدي. كان علينا أن نتابع ونبحث وضع المجموعات ذات المصلحة في التنمية الرأسمالية وعلاقاتها بدوائر الاستعمار الحديث في كل الأحزاب التقليدية وخارجها أيضاً. وفي داخل تلك الأحزاب وخارجها نتابع ونبحث عن مجموعات الرأسمالية الوطنية التي لا تتمركز في حزب واحد, وليس بين الأحزاب التقليدية من يمثلها كحزب منفرد كما كان الحال على أيام الاستقلال. ان برنامج الاصلاح اليميني للتنمية الرأسمالية الذي تبلور في حزب الأمة, فتبعه الحزب الوطني الاتحادي وانضم اليه فيما بعد حزب الشعب الديمقراطي وفي اطاره كانت تتحرك مجموعات الساسة الجنوبيين.. لا يختلف في جوهره عن برنامج السلطة. ان برنامج هذه السلطة لا يختلف عن برنامج مؤتمر القوى الحديثة الذي تجمع من داخل الأحزاب التقليدية قبل 25 مايو وتأكيد هذه الحقيقة مهم للوقوف حول تطور الثورة وقواها الاجتماعية لمواجهة تعليقات جماعة 25 مايو ومن يخدم أفكارهم بأنه من المصلحة المحافظة على السلطة الحالية واصلاحها من الداخل لكيلا تنتصر الأحزاب التقليدية. ان مهام الثورة الوطنية الديمقراطية تنتظر الانجاز ولا سبيل لانقاذ الوطن دون انجازها, وما من قوى خارج قواها الاجتماعية المعروفة تستطيع أن تنجزها نيابة عنها وان أدعت انها حملت رؤوسها على أيديها كذباً, كما قال القوميون العرب والمصريون بعد انقلاب 25 مايو (69). ان المفاوضات التي يجريها نميري و"جماعة القوميين العرب" منذ مايو 1969م مع هذه المجموعة أو تلك من الدوائر السياسية وارتفعت الى مستوى سياسة رسمية معلنة في 10/4/1971م بعد ان كانت تدور في الخفاء وتظهر في الشعارات التي كان يطلقها نميري وخالد حسن عبس عن "الوحدة الوطنية" و"الثورة للجميع" وكلا الشعاران كانا نسخة جديدة من شعار "المصلحة الوطنية" قبل 25 مايو مهما تفنن الانقساميون المرتدون في تذويقه وتزيينه بتفسيرات والفاظ ماركسية. ولكن مقاومة الحزب الشيوعي ونهوض الحركة الشعبية الثورية قد حال دون تطبيقها ولم تنجح الآن أيضاً الأشكال المستوحاة من التجربة المصرية الناصرية من ميثاق واتحاد اشتراكي وتحالف قوى الشعب العامل في اخفاء المضمون الرجعي لهذا الشعار في ظروف الثورة السودانية الديمقراطية حقاً والجماهيرية حقاً في محتواها واساليب نضالها وممارستها للتحالف. ان الدوائر اليمينية بوصفها وصورتها وكياناتها القديمة قد ضعفت كثيراً والجماهير التي كانت تنساق خلفها تعلمت تجارب كثيرة جديدة تشكل طاقماً جديداً لعملاء الاستعمار الحديث وتتصدى لقيادة منهج التنمية الرأسمالية متحررة من قيود الهياكل القديمة الطائفية والقبلية وغيرها من مؤسسات ما قبل الرأسمالية. وظلت هذه الدوئر الجديدة تصارع منذ 25 مايو 69 لفرض قيادتها بديلاً للقيادات التقليدية وضماناً ضد تزايد نفوذ الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية الثورية. وأسهمت هذه العناصر الجديدة في تجريح القيادات التقليدية وفضحها على أساس عجزها في بناء الدولة الرأسمالية الحديثة أو ما يسمى "تحديث المجتمع" وعملت أيضاً من مواقع السلطة التي تحتلها على استخدام الفاظ العلم والتقدم وشعارات الثورة الديمقراطية. وتتدرج هذه الدوائر اليمينية الجديدة من العسكريين والمرتدين والمجموعات الرأسمالية المستنيرة التي انتقلت من المناصب البيروقراطية في جهاز الدولة الى صفوف الرأسمالية السودانية وتصدرت صفوفها لقيادتها وخاصة ان القاعدة الواسعة لهذه الطبقة تتميز بالجهل وانعدام الثقافة والروح المحافظة.
تمزق قناع القوميين العرب في هذا الحيز من التناقضات ننظر في تساقط القوميين العرب والناصريين من مناصب جهاز الدولة وانهيار كل ادعاءاتهم في تمثيل مصالح الشعب السوداني أو أقسام منه والنهاية البائسة لصلفهم وصلف الدوائر المصرية – الليبية التي تحركهم لفرض التجربة المصرية على الثورة السودانية وتمزق القناع عن خداعهم للعالم العربي باستخدام العناصر التصفوية والمرتدة كشارات للزينة في صدر الديكتاتورية العسكرية.
تنظيمات السلطة ان القوى الديمقراطية والتقدمية وأقسام من الجماهير تعبر عن رفضها في حدود العزوف عن تنظيمات السلطة وتتمسك ولو شكلياً بحقوقها وتنظيماتها المستقلة. ولكن السلطة لا يهمها نجاح تنظيماتها بالمقاييس التي تستخدمها الحركة الديمقراطية, بقدر ما يهمها في المقام الأول ألا تقوم تنظيمات ديمقراطية وسياسية للجماهير مستقلة عنها في أي مستوى. هذا النمط من الأنظمة السياسية يستخدم التنظيمات كواجهة لا أكثر ولا أقل ويحتفظ بكل السلطات بما في ذلك سلطة حل تنظيماته نفسها عندما تفقد فعاليتها في حشد الجماهير وتبرير السياسة الرسمية. فالسلطة يكفيها ان النقابات مجمدة ولا يهمها في كثير أو قليل نجاح السكرتارية التمهيدية الحكومية أو فشلها طالما انها تؤدي دورها في تجميد النقابات ويكفيها ان الاتحاد النسائي لا يمارس نشاطه أكثر مما يهمها عدد الندوات التي تقيمها قيادة اتحاد نساء السودان التابعة لها, وهكذا فهي تمتلك في نهاية الأمر حق التدخل ورفض نتائج انتخابات النقابات وحق تسجيلها..
السياسة الخارجية -وأصبح الشعار الموجه للسياسة الخارجية هو الحديث المبهم عن الطبيعة العربية الافريقية الاسلامية للسودان كما كانت تردد قوى الثورة المضادة قبل 25 مايو 69 وما صاغته في مشروع الدستور الاسلامي. -حولت السلطة السودان الى مخلب قط في يد الدوائر الامبريالية والاسرائيلية على وجه التحديد ومركزاً للعداء للشيوعية والاتحاد السوفييتي في المنطقة. -اتخذت مواقف اجرامية من ثوار ارتيريا وتشاد. -اتخذت من علاقاتها بالصين وقادة يوغسلافيا واجهة شفافة تستر بها موقفها المعادي للمعسكر الاشتراكي. -الصمت المريب الذي تمارسه السلطة تجاه ميثاق طرابلس واتحاد الجمهوريات العربية لا يعبر عن اقتناعها السليم لعلاقة شعب السودان بحركة الثورة والوحدة العربية بقدر ماهو امتداد لتراجعها عن الموقف المعادي للاستعمار في المنطقة العربية. ونواصل عرض رسالة عبدالخالق محجوب "في المنفى" للتواصل والمشاركة في هذا التوثيق الجماعي: موبايل : 0126667742 واتساب : 0117333006 بريد إلكتروني : khogali17@yahoo.com