عن الترابيل والبراتيل: سياحة فيلولوجية
د. خالد محمد فرح
9 May, 2022
9 May, 2022
khaldoon90@hotmail.com
أطلقت الصحافية الشابة الأستاذة نجاة إدريس إسماعيل مؤخرا ، صحيفة إلكترونية شاملة ونشطة: اخبارية وثقافية واجتماعية وترويجية ، أطلقت عليها اسم " التّرابيل ". استوقفني هذا الاسم الجاذب ، وذو الدلالة الخاصة في سياق الموروث الثقافي ، وخصوصاً الآثاري في السودان.
وقد ذهب وهلي بالفعل الى ان الاستاذة نجاة صاحبة صحيفة " الترابيل " الالكترونية ، انما أرادت بهذا الاسم " الطّرابيل " بالطاء المشددة كما تنطق على نطاق أكثر شيوعاً ، وهي الآثار الهيكلية والاطلال الشاخصة التي خلفها الاقدمون ، وخصوصاً الأهرامات.
وما يزال هذا الاسم يدور على الالسن بذات المدلول في مناطق الاثار بالسودان سواء كانت اثار حضارة نبتة بمنطقة كريمة والبركل ونوري والكُرو وغيرها ، او الآثار المروية بالبجراوية وود بانقا والمصورات الصفراء وغيرها.
وقول السودانيين للاهرامات والمباني الاثرية العالية " طرابيل " في عاميتهم ، له أصل أصيل في اللغة العربية الفصحى التي تفيدنا معاجمها وقواميسها بأن " الطِربال " بطاء مشددة مكسورة: هو كلٌ بناء عالٍ كالمنارة ونحوها. وكل قطعة من جبل أو حائط مستطيل في السماء.
أما " البَرتال " وجمعها " بَراتيل " ، فهو كما قال العلامة عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية بالسودان: طبق من الخوص تغطى به صينية الطعام. وبالطبع فان التاء من الممكن ان تتعاقب مع الطاء للقرب والمشاكلة فيصير نطقها " برطال وبراطيل " على التوالي ، مثلما آثرت الاستاذة نجاة تسمية صحيفتها " الترابيل " بدلا عن الطرابيل بالطاء الاكثر شيوعاً وبدات المعنى.
والبرتال ، وهذه الكلمة هي حالياً مستعملة على نحو اكثر في غرب السودان وما وراءه ، أعني بالتحديد:غرب كردفان ، ودارفور عموماً وتشاد ، اكثر من باقي انحاء السودان ، ولكن شرح عون الشريف لها يدل على انها كانت معروفة ومستخدمة في سائر انحاء السودان. ذلك بانه لم ينص على نسبتها الى صقع بعينه او مجموعة عرقية محددة داخل البلاد. ولكن يبدو ان استعمالها قد انحسر وصار الناس يقولون " طبق " فحسب.
فالبرتال هو في عربية المناطق التي ما يزال يذكر فيها بكثرة، هو غطاء لسُفَر وأواني الطعام ، مصنوع من الخوص والسعف وغيره من صنوف القش الناعم والمرن مثل " البِنُو " بكسر الباء وضم النون ، ويكون عادة ملونا ومزركشاً ومصنوعاً بفن وعناية ظاهرة ، مما يجعله في حد ذاته تحفة تشكيلية بديعة. والبرتال ذو شكل اقرب للمخروطي ، لانه يجىء متدرجاً في الارتفاع صعوداً من قطره او اطرافه نحو الوسط . فهو يشبه الهرم او التربال / الطربال الى حد كبير من حيث الشكل ، وربما لهذا السبب نفسه اطلقوا عليه اسم طربال / تربال مجازاً ، ثم احلوا الباء محل التاء في اوله ، وهذا لعمري جائز بحسب ممارسات القلب والإبدال اللغوية المعروفة.
ثمة مفردة توراتية يشيع في الاعتقاد أنها عبرية الأصل ، ليست ببعيدة في ظننا عن هذا الحقل الدلالي ، هي كلمة " ترافيم " Teraphim ، وهي ايقونات او تماثيل صغيرة تقوم مقام الالهة الشخصية او الاسرية ، التي يسهل حملها والتنقل بها من مكان الى آخر بغرض العبادة والتبرك والتفاؤل ، وطلب العون والمساعدة. وقد جاء ذكر تلك الترافيم في سفر التكوين من الكتاب المقدس ( الاصحاح ٣١ الآيات ١٩ و٣٤ ) ، في سياق رواية مفادها أن السيدة راحيل ابنة لابان ، وزوج نبي الله يعقوب عليه السلام، ووالدة كل من ابنيه يوسف وبنيامين ، قد سرقتها من أبيها ، وحملتها معها الى بلاد الكنعانيين ، عندما ارتحلت مع زوجها يعقوب من أرض حاران بشمال غربي العراق الى تلك الديار بأرض الشام. فالفاء هي بديلة الباء نظرا لقرب مخرجيهما ، والميم هي صنو اللام ايضا وكثيرا ما يحدث بينهما التعاقب. وتاسيسا على ذلك ، فإن ترافيم يمكن ان تنطق ترابيم بالباء بدلا عن الفاء ، ومن ثم يسهل الانتقال منها الى ترابيل باللام عوضا عن الميم.
وكنا في الواقع قد حاججنا في مقال سابق لنا ، بان يكون " الفوم " المذكور في القرءان الكريم على انه الطعام الذي طالب به بنو اسرائيل عقب خروجهم من مصر بعد ان سئموا من المن والسلوى ، هو هذا " الفول " نفسه ، والذي ينطق في العبرية " بُول " بالباء المهموسة مثل نطق الكلمة الانجليزية Pool . والشاهد هو ان هنالك صلة معنوية ودلالية تجمع ما بين الطرابيل السودانية بمعنى الاهرامات ، والترافيم العبرانية بمعني التماثيل الصغيرة التي تُستخدم كآلهة شخصية ، وذلك بجامع القداسة في كل. ولا شك في ان الهرم في ثقافة وادي النيل القديم ، قد ظل دوما بناءً مقدسا. وقد كان هذا المعنى نفسه موجودا في ثقافة العرب القدماء ، اي ربط الطرابيل بالقداسة. فقد نقل عون الشريف عن ابن قتيبة في كتابه " الشعر والشعراء " قوله مثلاً: " الغَريّان طِربالان كان النعمان يلطخهما بدماء القتلى يوم بؤسه "، فتأمّل !!.
خالد محمد فرح
أطلقت الصحافية الشابة الأستاذة نجاة إدريس إسماعيل مؤخرا ، صحيفة إلكترونية شاملة ونشطة: اخبارية وثقافية واجتماعية وترويجية ، أطلقت عليها اسم " التّرابيل ". استوقفني هذا الاسم الجاذب ، وذو الدلالة الخاصة في سياق الموروث الثقافي ، وخصوصاً الآثاري في السودان.
وقد ذهب وهلي بالفعل الى ان الاستاذة نجاة صاحبة صحيفة " الترابيل " الالكترونية ، انما أرادت بهذا الاسم " الطّرابيل " بالطاء المشددة كما تنطق على نطاق أكثر شيوعاً ، وهي الآثار الهيكلية والاطلال الشاخصة التي خلفها الاقدمون ، وخصوصاً الأهرامات.
وما يزال هذا الاسم يدور على الالسن بذات المدلول في مناطق الاثار بالسودان سواء كانت اثار حضارة نبتة بمنطقة كريمة والبركل ونوري والكُرو وغيرها ، او الآثار المروية بالبجراوية وود بانقا والمصورات الصفراء وغيرها.
وقول السودانيين للاهرامات والمباني الاثرية العالية " طرابيل " في عاميتهم ، له أصل أصيل في اللغة العربية الفصحى التي تفيدنا معاجمها وقواميسها بأن " الطِربال " بطاء مشددة مكسورة: هو كلٌ بناء عالٍ كالمنارة ونحوها. وكل قطعة من جبل أو حائط مستطيل في السماء.
أما " البَرتال " وجمعها " بَراتيل " ، فهو كما قال العلامة عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية بالسودان: طبق من الخوص تغطى به صينية الطعام. وبالطبع فان التاء من الممكن ان تتعاقب مع الطاء للقرب والمشاكلة فيصير نطقها " برطال وبراطيل " على التوالي ، مثلما آثرت الاستاذة نجاة تسمية صحيفتها " الترابيل " بدلا عن الطرابيل بالطاء الاكثر شيوعاً وبدات المعنى.
والبرتال ، وهذه الكلمة هي حالياً مستعملة على نحو اكثر في غرب السودان وما وراءه ، أعني بالتحديد:غرب كردفان ، ودارفور عموماً وتشاد ، اكثر من باقي انحاء السودان ، ولكن شرح عون الشريف لها يدل على انها كانت معروفة ومستخدمة في سائر انحاء السودان. ذلك بانه لم ينص على نسبتها الى صقع بعينه او مجموعة عرقية محددة داخل البلاد. ولكن يبدو ان استعمالها قد انحسر وصار الناس يقولون " طبق " فحسب.
فالبرتال هو في عربية المناطق التي ما يزال يذكر فيها بكثرة، هو غطاء لسُفَر وأواني الطعام ، مصنوع من الخوص والسعف وغيره من صنوف القش الناعم والمرن مثل " البِنُو " بكسر الباء وضم النون ، ويكون عادة ملونا ومزركشاً ومصنوعاً بفن وعناية ظاهرة ، مما يجعله في حد ذاته تحفة تشكيلية بديعة. والبرتال ذو شكل اقرب للمخروطي ، لانه يجىء متدرجاً في الارتفاع صعوداً من قطره او اطرافه نحو الوسط . فهو يشبه الهرم او التربال / الطربال الى حد كبير من حيث الشكل ، وربما لهذا السبب نفسه اطلقوا عليه اسم طربال / تربال مجازاً ، ثم احلوا الباء محل التاء في اوله ، وهذا لعمري جائز بحسب ممارسات القلب والإبدال اللغوية المعروفة.
ثمة مفردة توراتية يشيع في الاعتقاد أنها عبرية الأصل ، ليست ببعيدة في ظننا عن هذا الحقل الدلالي ، هي كلمة " ترافيم " Teraphim ، وهي ايقونات او تماثيل صغيرة تقوم مقام الالهة الشخصية او الاسرية ، التي يسهل حملها والتنقل بها من مكان الى آخر بغرض العبادة والتبرك والتفاؤل ، وطلب العون والمساعدة. وقد جاء ذكر تلك الترافيم في سفر التكوين من الكتاب المقدس ( الاصحاح ٣١ الآيات ١٩ و٣٤ ) ، في سياق رواية مفادها أن السيدة راحيل ابنة لابان ، وزوج نبي الله يعقوب عليه السلام، ووالدة كل من ابنيه يوسف وبنيامين ، قد سرقتها من أبيها ، وحملتها معها الى بلاد الكنعانيين ، عندما ارتحلت مع زوجها يعقوب من أرض حاران بشمال غربي العراق الى تلك الديار بأرض الشام. فالفاء هي بديلة الباء نظرا لقرب مخرجيهما ، والميم هي صنو اللام ايضا وكثيرا ما يحدث بينهما التعاقب. وتاسيسا على ذلك ، فإن ترافيم يمكن ان تنطق ترابيم بالباء بدلا عن الفاء ، ومن ثم يسهل الانتقال منها الى ترابيل باللام عوضا عن الميم.
وكنا في الواقع قد حاججنا في مقال سابق لنا ، بان يكون " الفوم " المذكور في القرءان الكريم على انه الطعام الذي طالب به بنو اسرائيل عقب خروجهم من مصر بعد ان سئموا من المن والسلوى ، هو هذا " الفول " نفسه ، والذي ينطق في العبرية " بُول " بالباء المهموسة مثل نطق الكلمة الانجليزية Pool . والشاهد هو ان هنالك صلة معنوية ودلالية تجمع ما بين الطرابيل السودانية بمعنى الاهرامات ، والترافيم العبرانية بمعني التماثيل الصغيرة التي تُستخدم كآلهة شخصية ، وذلك بجامع القداسة في كل. ولا شك في ان الهرم في ثقافة وادي النيل القديم ، قد ظل دوما بناءً مقدسا. وقد كان هذا المعنى نفسه موجودا في ثقافة العرب القدماء ، اي ربط الطرابيل بالقداسة. فقد نقل عون الشريف عن ابن قتيبة في كتابه " الشعر والشعراء " قوله مثلاً: " الغَريّان طِربالان كان النعمان يلطخهما بدماء القتلى يوم بؤسه "، فتأمّل !!.
خالد محمد فرح