غسل عائدات الفساد في السودان

 


 

 

 

تتعدد وسائل غسل العائدات الناتجة من ممارسة الفساد بصورة عامة، والهادفة لإخفاء مصادره وإبعاد الشبهة عنه وكسر دائرة الافلات من العقاب. وتُعد العقارات في السودان أحد أهم المَلاذات الآمنة لحفظ الأموال المكتسبة من المعاملات الفاسدة بكافة أنواعها، سواء أكانت مالية أم استغلالا للنفوذ، أم غيرها من أدوات ممارسة الفساد. وغدا دعم ذلك التوجه باستغلال القطاع العقاري في غسل عائدات الفساد، هو من ثقافة المجتمع الموروثة، ابتداءً من امتلاك الأراضي الزراعية في مجتمع البادية، ووصولا لامتلاك العقارات السكنية، ومِنْ ثَمَّ شراء العقارات لحفظ الأموال والاستثمار فيها.

لقد تطور الاستثمار في القطاع العقاري وغدا من أهم القطاعات الاقتصادية في العالم، وصار يحتل مرتبة متقدمة في مدخولات كثير من الدول. ويتأثر ازدهار ذلك القطاع وكساده وفقا لتذبذبات الأسواق العقارية العالمية. وتتمثل أهمية القطاع العقاري كذلك في ارتباطه بأنشطة إقتصادية أخرى كثيرة، مثل صناعة الحديد والأسمنت وأخرى متعلقة بالصناعات التي تدخل في البناء من الأخشاب وغيرها. ويرتبط أيضاً بقطاع السياحة من خلال رفع مستويات المجتمعات العمرانية في بعض المناطق بخطط تنموية تتبناها العديد من الدول في إطار التوسع في إنشاء منتجعات سياحية لجذب المزيد من السُيّاح، والتي قد تكون مصدرا هاما من مصادر الدخل القومي. كذلك أصبح سوق العقار مساهما بنسبة كبيرة في تشغيل العمالة وتقليل نسب البطالة، وبالتالي يسهم في تحسين الاستقرار الاقتصادي وإعطاء دفعة للنمو والتنمية. وبالمقابل تساهم ممارسة الفساد في هذا القطاع في إضعاف النمو والتنمية الاقتصادية، مما ينعكس أثره سلباً على التكاليف الاقتصادية والاجتماعية للدول.
وتعود أسباب استغلال القطاع العقاري كمظلة لغسل الأموال المتحصلة عن جرائم الفساد في استثماره، لأسباب مرتبطة بعدة عوامل منها أنه أقل القطاعات تنظيما، وقد يمارس بالطرق التقليدية للمعاملات المالية سواءً أكانت نقدية أم غير نقدية ، وبمبالغ كبيرة في كثير من الدول التي تعاني من القصور في النواحي القانونية والإجرائية للمعاملات العقارية، وبالتالي يسهل استغلالها في عمليات الفساد.
وبصورة نسبية، دفع تطبيق النهج القائم على المخاطر و"اعرف عميلك" في المؤسسات السودانية المالية (التي تتمتع أيضا بمستوى معقول من الرقابة والاشراف من جهات تنظيمية أخرى) غاسلي الأموال إلى الاتجاه الى القطاع العقاري بإعتباره الأسهل اختراقا، حيث لا توجد تشريعات تنظم طرق سداد قيمة المعاملات العقارية، إذ أنه يمكن فيها استخدام الشيكات المصرفية، أو النقد والشيكات الشخصية، مباشرة بين الأفراد (البائع والمشتري) وفق الاتفاق بين أطراف المعاملة.

يعمل القطاع العقاري في السودان وفق القوانين العقارية السارية وهي قانون تسوية الأراضي وتسجيلها لسنة 1994م، وقانون التصرف في الأراضي لسنة 2015 م، وقانون الشركات لسنة 2015 م، وكذلك قانون تشجيع الاستثمار - بولاية الخرطوم لعام 2015 م، الذي سمح بموجبه لأجانب بتملك الأراضي كميزة استثمارية (حق الانتفاع). ويقوم بتنفيذ معاملات العقارات وسطاء عقاريين (سماسرة)، يتم تسجيلهم لدى جهات مختصة في الدولة. كذلك ظهرت شركات التطوير العقاري، وهي شركات ذات مسئولية محدودة تعمل في مجال الاستثمار العقاري، وفقا لقانون التخطيط العمراني 1994م.
ويزداد حجم المخاطر المتعلقة بالقطاع العقاري في السودان وذلك لضعف الأطر التنظيمية فيه، وضعف الرقابة من قبل السلطات الرقابية للقطاع، إضافة لضعف الاجراءات والنظم الموضوعة لمكافحة غسل الأموال فيه. لذلك ينبغي على السودان الالتزام بالموجهات الاسترشادية الصادرة من منظمة العمل المالي (الفاتف) المتعلقة بمنع إستغلال قطاع العقار في الجرائم المالية، التي أصبحت ملاذاً (آمنا) لمتحصلات الجرائم المالية والفساد ، وذلك من من خلال تقليل المخاطر والحد منها من خلال عدد من الاجراءات الاحترازية، ومن خلال تقوية الأطر القانونية، وتفعيل دور الجهات الرقابية في تثقيف العاملين في القطاع العقاري بالتعليمات والإرشادات والدورات المتخصصة لتمكينهم من معرفة الأنماط والأساليب والمؤشرات التي يمكن أن تدل على معاملات مشتبه في أمرها، وكيفية تجنبها والتبليغ عنها للجهات الرسمية.
لقد جاءت التوصية الأولى من توصيات مجموعة العمل المالي (الفاتف) التي تلزم الدول فيها بإجراء تحديد وتقييم وفهم للمخاطر المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب وتطبيق المنهج القائم على المخاطر لضمان خفض المخاطر في القطاعات والمهن غير المالية. ويتم ذلك بإيجاد تنظيم وإشراف متخصص على القطاع العقاري وإلزامهم بتطبيق متطلبات مكافحة غسل الأموال وتطبيق القطاع للمنهج القائم على المخاطر بإخضاع القطاع العقاري لتقييم مخاطر غسل الأموال والعناية الواجبة. كذلك ينبغي توفير تنسيق تام مع جهات الابلاغ لتحديد المستفيد الحقيقي لكافة أشكال التملك والمتاجرة وسداد القيمة الحقيقية.
وتواجه مكافحة غسل عائدات الفساد في القطاع العقاري في السودان عددا من التحديات، أهمها أن الاستثمار أو الإتجار في العقار قد أصبح الآن بمثابة مخزن لقيمة المدخرات، حيث لا تتوفر مشاريع أو نشاطات اقتصادية أو أسواق مالية منظمة وآمنة يمكن للمواطنين الاستثمار فيها. كذلك يرتبط ارتفاع أسعار العقارات بتذبذب سعر صرف الجنيه أمام العملات الاجنبية الأخرى، حيث أن جميع مدخلات البناء يتم استيرادها من الخارج.
وتعد هجرة السكان من الريف الى المدن أحد أسباب ارتفاع الطلب على الاستثمار في القطاع العقاري والعائد المجزي منه. وصاحب ذلك توجه الدولة نفسها إلى توسيع رقعة الأراضي السكنية على حساب الأراضي الزراعية ، وهذه تُعد أحد منافذ الفساد وإستغلال النفوذ. وكان يمكن أن تساهم الدولة في مشاريع الإسكان الريفي للحد من الهجرة الى المدن من خلال تخطيط اقتصادي استراتيجي، حيث أعلن في فترة سابقة عن إنشاء بورصة عقارية لتنظيم السوق وضبط علمليات البيع والشراء (لم يظهر أثرها بعد). ويعتبر قيام بورصة عقارية مؤشرا جيدا لأنها توفر وتتيح كل المعلومات والمستندات للاراضي وملفات تاريخية لتداولها، وتمنع التزوير في المستندات والخرائط والعقود. وحالياً يعتمد كل ذلك على مكاتب المحامين في تأكيد سلامة المعاملات. هذا بالإضافة لدور بورصة العقارات في ضبط أسعارها وتوفير درجة من الشفافية والمعلومات عنها، والتي تحقق مساهمة مقدرة لهذا القطاع في إيرادات الدولة من رسوم، وتمنع التهرب الضريبي عند إخفاء الأسعار الحقيقية للمعاملات عند نقل الملكية.
كذلك يعتبر بعض منفذي معاملات العقارات (الوسطاء العقاريين - السماسرة) من أحد أكبر التحديات في القطاع العقاري ، وذلك لعدم تسجيل العديد منهم كممارسين رسميين لهذه المهنة، إلى جانب عمل البعض منهم بشكل متقطع وغير منتظم ودون أن يكون ذلك العمل هو نشاطهم الأساس أو المعلن. كذلك هنالك مسألة عدم اشتراط ترخيص العمل عند توثيق معاملات البيع والشراء، وعدم ربطها مع مستحقاتهم من المعاملة. لذلك يجب عدم تمكين أي شخص من ممارسة النشاط العقاري إلا بعد الحصول على التراخيص اللازمة بذلك، وضمان معرفته والتزامه بمتطلبات مكافحة غسل الأموال وآلية الإبلاغ عن العمليات المشبوهة، وذلك بعد تنظيم عمل الوسطاء العقاريين عن طريق غرفة/ اتحاد أصحاب المكاتب العقارية، باعتبارها جهةً لها حق الاشراف والرقابة على هذا القطاع.
كذلك يجب عدم قبول تنفيذ وتسوية المعاملات العقارية نقداً، حتى لا يجعلها معاملات مالية خارجة عن رقابة المؤسسات المالية، ومن شأنها التشجيع على تداول النقد خارج المؤسات المالية الرسمية، فتصبح بيئة مناسبة أمام غسل العائدات المالية الناتجة عن جرائم مالية أو جرائم فساد. ويحمد للسودان إستخدام التطبيقيات الالكترونية في التسلسل الخلفي لدى مصلحة الاراضي عند نقل الملكية، والذي أوجد درجة كبيرة من التنظيم في عمليات البيع والشراء عند إثبات نقل الملكية.
وأخيرا، يعتبر وجود استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد أحد أهم وسائل التخفيف منه، من خلال تدابير قصيرة المدى ولها آثار فورية تستكمل لاحقاً بتدابير حازمة الإنفاذ. وينبغي إنشاء تدابير قصيرة في قطاع العقارات تكسبه المزيد من الشفافية وتؤدي إلى تصميم إصلاحات جوهرية في هذا القطاع ليعود ويسهم في الناتج القومي للدولة التي تمتلك مساحات واسعة من الأراضي السكنية والزراعية المتهيئة للاستثمار.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء