غصص يوم رحيل المشير … بقلم: رباح الصادق

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

rabahassadig@hotmail.com

 

بالأسبوع قبل الماضي، وفي مايو نفسه وبعد خمسة أيام من يوم انقلابه المشئوم غادر المشير دنيانا إلى حيث حكم عدل لا نقدم بين يديه شهاداتنا فهو بكل شيء خبير، ولكننا، بعد إرسال تحيتنا لقارئ الأحداث الكريم وتمني أن يكون التواصل بيننا ممتدا ومثمرا، نود أن نذكر كلمات ونفض عبرات وقفت في الحلق حينما جاء الخبر الذي لم نكن نظنه يعني كثيرا لأن المشير غادر حياتنا بالفعل قبل نحو ربع قرن، ولكن التاريخ له قوة لا تقل عن قوة الحاضر المعاش.  

 أول ما نبتدئ به حديثنا وقد ثار لغط كبير حول الأمر، هو نقاش الدارج في مجتمعنا السوداني من تحول المجتمع وأجهزة الإعلام إلى خيمة عزاء كبيرة لكل راحل، هل في هذا اتباع لقول رسول الله (ص): أذكروا حسنات موتاكم؟ ونحن لا نود بالطبع مغالطة هذه الروح الإسلامية- السودانية السمحة التي لا تحب تجريح الموتى، ولكننا نود التأكيد على أن قيم الإسلام كل متسق ولا يمكن أن تكون بالشكل المفهوم. والرسول (ص) الذي قال أذكروا الحسنات هو نفسه الذي قال: من استن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من تبعها إلى يوم القيامة. مما يعني أن من ضمن الموقف الديني الإشارة للسيئات المتبعة جهارا نهارا بحق المجتمع لتكوين رأي عام ضد السنن التي اتبعوها حتى بعد رحيلهم وإلى يوم القيامة.

 وفي الحقيقة فقد وقفنا من قبل موقفا مماثلا من المطلوب دينيا في مسألة ذات علاقة وهي حديث الستر (من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) فهذا الحديث يتسق مع الأخلاق الإسلامية التي لا تحب إشاعة الفاحشة بين الناس وتريد تطهير المجتمع بتقليل الحديث عن المفاسد الشخصية لأن شيوع الحديث عنها نوع من التطبيع معها، ولهذا قال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا مؤدوة) فيما روى أبو داؤد. ولكن سحب هذا الحديث أو جرجرته من النطاق الخاص الذي يرتكب من وراء الأستار إلى النطاق العام سبب لمفاسد اجتماعية لا حصر لها، فاستراتيجيات النزاهة المعروفة عالميا تؤكد أن (إطلاق الصافرة) بوجود الفساد في محيط الشخص المعني مسألة هامة لمحاصرة بؤر الفساد. وهذا يؤكد أن ديننا فيه تفرقة عظيمة بين المحيطين الشخصي والعام. فحينما تحكم مسائل الدوائر الفردية ذهنية الستر والصمت عما يرتكبه المسلم بدءا بأم الكبائر مرورا ببقيتها، فإن الدوائر العامة تحكمها ذهنية الجهر بالحق: وأفضل الجهاد كلمة حق لدى سلطان جائر. أدل شيء على ذلك هو المعروف في الشرع في الحقوق، ففي الديون والرهون يتم الحث بالمكاتبة والإشهاد، قال تعالى: { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}. فكتمان الشهادة في حقوق الآخرين إثم، قال ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: (فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضِي به، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طُرُوِّ نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده). وهذا برأينا ينسحب على كل ما فيه حقوق الناس وما يمس المجتمعات، بخلاف الستر الواجب في ظلم  الإنسان لنفسه!

 

وكل ما يرتكبه المسلم من معاص شخصية هي ظلم لنفسه ومن منا لا يظلمها، وواجب علينا الصمت عنها والدعاء له حيا  بالتوبة وميتا بالمغفرة.. وإن كان مجاهرا ففي المجاهرة ظلم للمجتمع لذلك قال رسول الله غفر لأمته إلا المجاهرين.. أما ما يرتكبه الواحد منا والواحدة من ظلم للآخرين وللمجتمع وتعد على حقوق الناس فهو واجب علينا استنكاره وعدم الصمت لئلا نكون شياطين: والساكت عن الحق شيطان أخرس! فنجاهر بالحق للأحياء وإن مات من قام بهذا فهو صاحب سنة سيئة واجب علينا استهجانها وإلا ركم الحق مع الباطل وصار الناس يقبلون التعدي والظلم ويطبّعون معه ويسترونه ويصمتون عنه إلى أبد الآبدين.

 

ليس في الموت شماتة، فيظن من يستهجن أفعال الظالمين إن ماتوا شامتا كما يرى البعض، وهو سبيل الأولين والآخرين وكلنا يوما على ذاك البرش محمولين. ولا فيه فرح لعدو إلا لو كان غافلا يظن نفسه غير ذائقه، ولكنه لحظة للعبرة. وكل من يرتحل يفتح للأحياء ملفات حياته فتتلى في قلوبهم وعقولهم يذكرونها ويعتبرون أو يتعبرون.

 

ومنذ جاءني خبر رحيل المشير- رحمه الله في ظلمه نفسه ومن منا لا يظلمها- وشريط أيامه قد سوّد حياتي مرة ثانية.. لم أكن أظن أني أودع المشير بتلك الدموع الهاطلة، ولكنها لم تكن دموع حزن ولا فرح، كانت دموع الفاجعات التي مضت.. ذكرت حينها قصيدة الأستاذ عبد الكريم الكابلي الرائعة: ليس في الأمر عجب.. في جمادى أو رجب! سألته مرة عن قصة مذكورة في تلك القصيدة عن طفلة كانت تنظر وجه أبيها في ارتياب ولم تكن راته إلا صورة في إطار، وحكى عن تلك القصة الحقيقية لبنت أحد المنفيين، وكنت أظنها أختي طاهرة بل كلنا ولكنها كانت تظهر دهشتها البالغة وتنظره بارتياب وتعلق: إنه يضحك، إنه يتحدث، إنه يمشي متعجبة أنه نزل عن جواده الذي كان يمتطيه (في الصورة) وصار شيئا حيا يتحرك بيننا!

 

تذكرت أول مرة نلتقي والدنا بعد طول غياب في المغرب عام 1979م، وكيف حينما وضع يده على كتفي تصبرت مثل لوح خشب، وأن الحرمان من طعم الأبوة كان له طعم الحنظل.. وتذكرت أمي التي غيبت فترات في سجن أم درمان للنساء وكيف كنت انحبس مع ثيابها التي يجاء بها للغسيل كل خميس.. وتذكرت أيام ذهابنا للسجن بكوبر، وتذكرت محاكمة أمي في القيادة العامة وكانت برجلها جلطة وهي مرفوعة ونحن أطفال صغار لا أدري لماذا تركونا نشهد ذلك المشهد المؤلم (وكل عللها اللاحقة كانت بسبب تلك الأيام كما قالت أحسن الله نزلها ومثواها),تذكرت الأورطة التي قدمت لاعتقال أبي إثر معارضته قوانين سبتمبر فأرهبتنا وأشهرت في وجوهنا الصغيرة السلاح, تذكرت وجوه العائدين من عذابات أيام يوليو 76م وقد تسموا بالشهداء وهم أحياء، تذكرت أحاديث أمي وقد افتقدتها في هذا اليوم بالذات، مر شريط طفولتي مرا مريرا، فالمشير، رحمه الله فيما ظلم نفسه ومن منا لا يظلمها، أطاح بحياتنا وحولها مرارات وسجون وغصص هطلت علي كلها يوم رحيله فبكيت.. وبكيت كمن شاهد – بل عاش- فيلما محزنا مأساويا!

 

كم من أطفال السودان تيتموا في عهد المشير، في أبا وودنوباوي وفي أحداث هاشم العطا وفي كل الانقلابات والانتفاضات حتى اغتيال الأستاذ محمود محمد طه؟ وكم منهم حرموا من ذويهم مثلنا؟

 

كم عانوا الغصص وصودرت أموالهم وشردوا من العمل ونكل بهم لأنهم عارضوا النظام المايوي ولم يرضوا بغير الديمقراطية نظاما للحكم؟ أو فقط قالوا لا للسياسات الخاطئة؟

 

ما مبلغ الفرص المهدرة للسودان منذ فكرة (سلة العالم الغذائية) وحتى اتفاقية السلام بأديس أبابا وقد استفاد نظامه من تحضيرات الديمقراطية وأبرم الاتفاقية ثم أطاح بها بسبب التسلط ونقض العهود؟ ونفس الأسباب كذلك للمصالحة الوطنية؟

 إلى أي مدى أساء لدين الله بقوانين سبتمبر التي سماها إسلامية والدين منها براء فخلق جرحا وطنيا ووضع للتطبيق الإسلامي عراقل لا أول لها ولا آخر؟ كم تحدث وأسمع وكتم أصوات الآخرين، كم ضرب وأوجع الشرفاء والمناضلين، كم مضى وأسرع في غير الطريق المبين؟

ثم إنه أفلت من يد العدالة فلم يتطهر في هذه الدنيا، والعقوبة طهرة للمؤمن من ذنوبه، ورحب به نظام الإنقاذ وغفر له ذنبه فهو ذات ذنبه، بل عده بطلا واندمج حزبه في المؤتمر الوطني لأن الطيور على أشكالها تقع!

 

رحم الله المشير في ظلمه لنفسه ومن منا لا يظلمها.. أما ظلمه للناس وتقتيره عليهم وقهره لهم وتقتيله وكذلك ظلمه للمعاني والشعارات التي رفعها فنحن لا نسكت عنها اليوم بل نشجبها ونذكر  كل من تسول له نفسه باقتراف هذه الأفعال أن التاريخ لن يرحمه والشعب لن يرحمه  وألسنة الخلق أقلام الحق، ونقول إننا صبرنا على مظالم كثيرة لأننا نعلم أن هناك حكم عدل سنقف كلنا أمامه، وسنقدم ظلاماتنا.. وسنرضى بحكمه لنا أو علينا.. للطغاة أو عليهم فلن تضيع الحقوق هناك ولو أهدرت هنا!

 

إن رحيل المشير هي لحظة هامة للعبرة.. وعلينا أن نحكي آلامنا وندوّن ذاكرة تلك الأيام العجفاء لأننا بالذاكرة وحدها نهزم بؤس تلك الأيام ونردع أي اتجاه للتكرار! ولأنها شهاداتنا التي نأثم إن كتمناها، والله ولي التوفيق.

 نشرت بصحيفة الأحداث يوم السبت الموافق 6 يونيو 2009م    

 

آراء