غَسْل عائدات الفساد والشركات
تتعدد الهياكل القانونية والتنظيمية التي تنظم عمليات ممارسة النشاطات التجارية. وهناك العديد من مختلف أنواع الكيانات التجارية التي تؤثر على طريقة إدارة الأعمال، فأساس نجاح أي عمل هو معرفة الهيكل الذي يمنح الأعمال المزايا المناسبة لتحقيق الأهداف المالية والتنظيمية وفق الغرض الذي أقيم من أجله الكيان القانوني المعين. ومن أكثر أنواع الشركات شيوعاً، الشركة الخاصة محدودة المسئولية التي تُستخدم في المشاريع التجارية. وتُعرف مثل تلك الشركة أمام القانون على إنها كيان منفصل عن مالكيها، ولها حقوقها القانونية الخاصة، حيث يُمكنها رفع دعاوى قضائية وامتلاك وبيع الممتلكات وبيع حقوق الملكية في شكل أسهم.
ويعتبر الكيان القانوني للشركات والنشاط التجاري الذي يمارس فيه أحد الوسائل الحديثة والمبتكرة لممارسة الجرائم المالية والجريمة المنظمة،والتي تتأتى منها عائدات مالية. فظهر ما يُسمى بـ "الشركة الوهمية"، التي تعرف بأنها شركة موجودة فقط على الورق وليس لديها وجود فعلي (أي لا تمتلك مقرا معلوما وليس بها موظفين) ولكن قد يكون لها حساب مصرفي، أو قد تكون لها استثمارات سلبية1 ، وتكون المالك المسجل لبعض الأصول. قد تكون الشركة الوهمية مسجلة على عنوان شركة تقدم من خلالها خدمات شركات وهمية أخرى، تعمل هي الأخرى كوكيل لتلقي المراسلات القانونية. كذلك قد تعمل الشركة بحسبانها مجرد وسيلة للمعاملات التجارية دون أن يكون لديها أي معاملات حقيقية. وقد يتم استخدام الشركات الوهمية في عمليات التهرب الضريبي أو غسل الأموال أو لتحقيق هدف معين مثل إخفاء هوية المستفيد الحقيقي.
وتُعد جرائم الفساد أحد الجرائم المالية التي يمكن أن توجد في القطاعين العام أو الخاص على حدٍ سواء. وعُرفت حديثا جريمة الفساد2 على أنها إحدى الجرائم الاصلية لغسل الأموال التي يمكن أن تُمارس عن طريق التهريب عبر الحدودأو بالفساد المالي والإداري أو الاحتيال الالكتروني والتزوير والتزييف والنصب والسرقة والاختلاس والاتجار في الأسلحة وغيرها. وكما هو معلوم تتشابه جرائم غسل الاموال وجرائم الفساد في أن كليهما يسعيان لإخفاء هوياتهما ومصادر أموالهما الأصلية والعمل على دمجها داخل النظام الرسمي القانوني. كما أن بعض أصحاب الشركات قد يستخدمون وكلاءً أو شركات أخرى كواجهة لأغراض قد تكون مشروعة، ويمكنها أيضا أن تفرض ستارا لإخفاء أنواع عديدة من الجرائم المختلفة.
وتستخدم الشركات(الوهمية) في الجرائم المالية من خلال عدة صور، مثل أن توجد كشركة حقيقية وتعمل في نشاط معلن وفق أغراض الحقيقية للشركة. غير أن هذا الكيان يمكن أيضا أن يُستخدم في أنشطة أخرى من أنواع الجرائم المالية كنشاط غير قانوني ليذوب– سراً - داخل النشاط القانوني الرسمي للشركة. وهنالك نوع آخر ينشئ شركات "واجهة" ليس لها وجود مادي، بل هي مجرد اسماء تجارية مسجل قانونا ولكنها لا تقوم بممارسة أي نشاط وفق أغراض الشركة، وعادة ما تستخدم تلك الشركات (الواجهة) كأحد طرق الفعالة لطمس هوية الأشخاص الذين يتحكمون بالأموال والنشاط المشبوه. وعند ذلك تصبح متطلبات الابلاغ عن النشاط الاجرامي محدودةً نسبيا.
وتتعدد الاستخدامات للأنشطة غير القانونية عبر (الشركات الوهمية)، مثل استخدام حسابات الشركات في "حسابات عبور" (أي حسابات خفية غير مفصح عنها)، حيث تقتصر حركة الحسابات على عمليات تحويلات متفرقة وإصدار تحويلات لصالح شركات أخرى أو شركات أجنبية. وقد تستخدم حساب الشركة كمحطة ايداع مؤقت لتحويل الأموال من حساب الشركة إلى حسابات الشخصية مثلاً، بقصد تسهيل تحويل الأموال بين أطراف مختلفة، أو عبر شبكات غير قانونية لتفادي المرور عبر المؤسسات المالية الرسمية مثل المصارف (التي تفرض اجراءات أكثر صرامة بخصوص المعلومات ذات الصلة بهوية مرسل الاموال والمستفيد منها والخلفية الاقتصادية للعمليات المتعلقة بها).
وهناك أيضا بعض الشركات الوهمية التي "تعمل" في مجالي التجارة العامة والمقاولات، وهي شركات قد تحصل على مبالغ من إحدى الجهات الحكومية دون وجود غرض حقيقي أو عدم وجود نشاط تشغيلي فعلي. هذا بالإضافة الى حالات استغلال للمناصب السيادية لإصدار شيكات من الجهة الحكومية لمؤسسة وهمية بغرض الاستيلاء على الأموال العامة. وهنالك أمثلة لظواهر (الشركات الوهمية) التي من أحد أغراضها العمل في المناطق الحدودية، دون وجود فعلي للشركة بالمقر المصرح به. وقد يظهر لاحقا أن تلك الشركات الوهمية تنشط في الإتجار بالعملة أو الإتجار بالأسلحة وتجارة المخدرات، أو الاتجار بالبشر.
كل تلك الأمثلة وغيرها تدل على إساءة استخدام الكيانات الرسمية مثل الشركات لأغراض غير قانونية تحت غطاء المستندات الرسمية وإخفاء بما يسمى بـ “المستفيد الحقيقي" من النشاط للشركة، أي استخدام الشخصيات الاعتبارية أو الترتيب القانوني المعني للولوج للنظام المالي مع ضمان إخفاء هوية المستفيد الحقيقي. كذلك يمكن أن يلجأ الشخص المكشوف سياسياPolitically exposed person, PEP (وهو الشخص الذي عُهد إليه بوظيفة عامة بارزة، وأقرباءه من الدرجة الأولى) إلى إخفاء ونقل عائدات الفساد عبر استخدام شركات "واجهة" أو شركات أسرية موثوق بها، في إطار تفاهمات وتسويات فيما بينهم. ويعتبر الشخص المكشوف سياسيا (PEP) عميلا مرتفع المخاطر وفق تصنيف منظمة العمل المالي، ويلزم للتعامل معه في المؤسسات المالية (خاصة المصارف) الالتزام بعدد من الضوابط أهما موافقة الادارة العليا للمصرف على فتح الحساب وفق عدد من اجراءات العناية المشددة.
وتسعى الدول، على وجه العموم، لاتخاذ عدد من التدابير الوقائية لمواجهة اختراق الجرائم المالية بمختلف أنواعها للكيانات القانونية والرسمية، وذلك وفقا للمتطلبات الدولية، كما ورد في نص اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد . وتمنع وتكشف التدابير التي تضمن قيام الدول بوضع نظم قانونية وإدارية لمكافحة عمليات غسل الأموال. وتُطبق هذه الاحكام في سياق النظام التنظيمي والاشرافي لكل دولة فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال، وذلك بتحديد هوية العملاء وحفظ السجلات والابلاغ عن العمليات المشبوهة.
كذلك يتعاظم دور المؤسسة المبلغة والمطالبة بتحديد هوية الشخص الطبيعي، الذي يسيطر على الشخص الاعتباري أو الترتيب القانوني وفهم الغرض الحقيقي من علاقة العمل، ومن العمليات التي يقوم بها كجزء من نشاطه الرسمي المصرح به وفق أغراض الشركة. وهذا يعني أن المؤسسات المالية أصبحت مطالبةً وفق الاحكام الدولية بمعرفة صاحب الحساب المصرفي، والغرض الذي من أجله فتح الحساب وطبيعة العمل الذي سيمارس. وهل فعلاً يتناسب فعلا مع مصادر دخله. كذلك غدا الأمر الأكثر أهمية ضرورة التقصي عما إذا كان هنالك شخص خفي يدير ذلك الحساب ويتصرف فيه والشخص الظاهر للمصرف ما هو الا أداة لتنفيذ للتنفيذ العمل في الحساب. وهذا الأمر قد يبدو صعبا للكثيرين، ويطرح سؤالا عن الكيفية التي يمكن بها للمؤسسة المالية أن تعرف أن هناك مستفيدا حقيقيا من الحساب في الخفاء. لقد دفع التطور الذي حدث في إخفاء عائدات الجريمة المالية دفع بالنظم الدولية لوضع العديد من التدابير والمؤسسات التي بدورها تقوم بتقديم خدمات للمصارف من شأنها معرفة العميل فيما يسمى بمبدأ (اعرف عميلك)، هذا بالإضافة لارتباط ذلك بمستندات السجل المدني، و وكالة التصنيف الائتماني التي توفر معلومات عن كل عميل، وغير ذلك.
كذلك تسعى الدول لاعتماد تدابير لمكافحة الفساد من خلال اشتراطات الإفصاح المالي أو التصريح عن الممتلكات من طرف الموظفين العموميين، مما يسهل الكشف عن أي ثروة غير مبررة أو ثراء غير مشروع. كذلك تعمل مختلف الدول للكشف عن العقود العامة والتعاقدات السرية بين الشركات والجهات الحكومية. وتنص المادة (52) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 على التزام المؤسسات المالية المتعلقة بحفظ السجلات.
وأدخلت العديد من التعديلات الاقتصادية والقانونية فيقانون الشركات السوداني (من عامي1925 إلى2015م). وأحدثت تلك التعديلات أثرا كبيرا فيما يسمى بحوكمة الشركات، وفي الافصاح المالي، وذلك بإيداع ميزانياتها السنوية لدى المسجل التجاري. وجميع مثل تلك الاجراءات تصب في مصلحة آليات مكافحة الفساد.
نختم القول بأنه بالرغم من أن نسبة استغلال الشركات الوهمية في غسل متحصلات الفساد لا تحتل المرتبة الاولى على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ، إلا أنه لا يزال هنالك بعض القصور في تدابير بعض الدول في هذه المنطقة من العالم، حيث يتم فيها تركيز جل الجهود على الجريمة الأصلية (أي جريمة الفساد) دون الاهتمام بجريمة غسل عائدات الفساد.
كذلك من المهم أيضاً رفع قدرات الجهات العدلية بالتدريب المتخصص في أساليب التحقيق المالي. وينبغي على السلطات أيضا بذل المزيد من الجهود لرفع القدرات في مجال التعرف على أكثر الانماط استخداماً في غسل عائدات الفساد، والتشديد على قدرة المؤسسات المالية في تحديد هوية الشخص "الطبيعي" الذي يسيطر على الشخص "الاعتباري"، أو الترتيب القانوني وفهم الغرض الحقيقي من علاقة العمل، وعدم الاكتفاء بالفحص القانوني النافي للجهالة لحساب عملائه (بمعنى معرفة الشخص الذي يسيطر على الشركة، وإن لم يكن مدرجا في سجلاتها )،وتفعيل عدد من التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد وتنظيم مجالات العمل وآليات التنفيذ، مثل قوانين مكافحة الثراء الحرام وتنظيم المنافسة ومنع الاحتكار، وقانون حماية المبلغين والشهود.
1. يشير مصطلح الاستثمار السلبي إلى استراتيجية استثمارية تهدف لتعظيم العوائد وذلك عبر تقليل الشراء والبيع.
(تضافر استخدام المقاطعة الاقتصادية للضغط على الحكومة أو الهيئات الصناعية أو الشركات من أجل تغيير سياسة ما،)
2. نصت الاتفاقيات الدولية على إدراج الفساد ضمن الجرائم الاصلية لغسل الأموال ومن بينها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة(باليرمو-2000) هذا بالإضافة الى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد _2003) والتي خصصت جزءاً من مقتضياتها لجريمة غسل الأموال.
3. المادة (14، 53) اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد- مذكرة تفسيرية
4. 2017 تقرير مجوعة العمل المالي (مينافاتف)
feedback@sudanile.com